الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عن ذِكْرِ اللهِ وإقامِ الصَلاةِ وإيتاءِ الزَكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصارُ﴾ الباءُ في "بُيُوتٍ" تَضُمْ وتُكْسَرُ، واخْتُلِفَ في الفاءِ مِن قَوْلِهِ: "فِي" فَقِيلَ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "مِصْباحٌ"، قالَ أبُو حاتِمْ: وقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "يُسَبِّحُ" المُتَأخِّرُ، فَعَلى هَذا التَأْوِيلِ يُوقِفُ عَلى "عَلِيمٌ"، قالَ الرُمّانِيُّ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "يُوقَدُ". واخْتَلَفَ الناسُ في البُيُوتِ الَّتِي أرادَها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والحُسْنُ، ومُجاهِدٌ: هي المَساجِدُ المَخْصُوصَةُ لِلَّهِ تَعالى الَّتِي مِن عادَتِها أنَّ تُنَوَّرَ بِذَلِكَ النَوْعِ مِنَ المَصابِيحِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: أرادَ / بَيْتَ المَقْدِسِ، وسَمّاهُ بُيُوتًا مِن حَيْثُ فِيهِ مَواضِعُ يَتَحَيَّزُ بَعْضُها عن بَعْضٍ، ويُؤْثَرُ أنَّ عادَةَ بَنِي إسْرائِيلَ في وقِيدِ بَيْتِ المَقْدِسِ كانَتْ غايَةً في التَهَمُّمْ بِهِ، وكانَ الزَيْتُ مُنْتَخَبًا مَخْتُومًا عَلى ظُرُوفِهِ، قَدْ صُنِعَ صَنْعَةً وقَدِّسَ حَتّى لا يَجْزِيَ الوَقِيدُ بِغَيْرِهِ، فَكانَ أضْوَأ بُيُوتِ الأرْضِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: أرادَ بُيُوتَ الإيمانِ عَلى الإطْلاقِ، مَساجِدَ ومَساكِنَ، فَهي الَّتِي يَسْتَصْبِحُ فِيها بِاللَيْلِ لِلصَّلاةِ وقِراءَةُ العِلْمِ، وقالَ مُجاهِدٌ: أرادَ بُيُوتَ النَبِيِّ ﷺ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ يُقَوِّي أنَّها المَساجِدُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أذِنَ" بِمَعْنى أمَرَ وقَضى، وحَقِيقَةُ الإذْنِ العِلْمُ والتَمْكِينُ دُونَ حَظْرٍ، فَإنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أمْرٌ وإنْفاذٌ كانَ أقْوى، و"تُرْفَعَ" قِيلَ: مَعْناهُ تُبْنى وتُعْلى، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ، فَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧]، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن بَنى مَسْجِدًا مِن مالِهِ بَنى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ»، وفي هَذا المَعْنى (p-٣٩١)أحادِيثُ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: مَعْناهُ تَعْظُمْ ويُرْفَعُ شَأْنُها. و"ذِكْرُ اسْمِهِ تَعالى" هو بِالصَلاةِ والعِبادَةِ قَوْلًا وفِعْلًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمْ: "يُسَبَّحُ" بِفَتْحِ الباءِ المُشَدَّدَةِ، وقَرَأ الباقُونَ وحَفَصٌ عن عاصِمْ: "يُسَبِّحُ" بِكَسْرِ الباءِ المُشَدَّدَةِ، فِـ "رِجالٌ" -عَلى القِراءَةِ الأولى- مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ "يُسَبِّحُ"، تَقْدِيرُهُ: يُسَبِّحُهُ رِجالٌ، فَهَذا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ نَظِيرُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ لَبَّيْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ...................... أيْ: يَبْكِيهِ ضارَعٌ، و"رِجالٌ" -عَلى القِراءَةِ الثانِيَةِ- مُرْتَفِعٌ بِـ "يُسَبِّحُ" الظاهِرُ، ورُوِيَ عن يَحْيى بْنِ وثّابٍ أنَّهُ قَرَأ: "تُسَبِّحُ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ. و"الغُدُوُّ والآصالُ" قالَ الضِحاكُ: أرادَ الصُبْحَ والظَهْرَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أرادَ رَكْعَتِي الضُحى والعَصْرَ، وإنَّ رَكْعَتِي الضُحى لَفي كِتابِ اللهِ تَعالى، وما يَغُوصُ عَلَيْها إلّا غَوّاصٌ. وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ: "والإيصالِ". ثُمْ وصَفَ اللهُ تَعالى المُسَبِّحِينَ بِأنَّهم لِمُراقَبَتِهِمْ أمْرَ اللهِ تَعالى وطَلَبِهِمْ لِرِضاهُ لا يَشْغَلُهم عَنِ الصَلاةِ وذِكْرِ اللهِ شَيْءٌ مِن أُمُورِ الدُنْيا. وقالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَحابَةِ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أهْلِ الأسْواقِ الَّذِينَ إذا سَمِعُوا النِداءَ بِالصَلاةِ تَرَكُوا كُلَّ شُغْلٍ وبادَرُوا إلَيْها، ورَأى سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أهْلَ الأسْواقِ وهم مُقْبِلُونَ إلى الصَلاةِ فَقالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ أرادَ اللهَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عن ذِكْرِ اللهِ﴾، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (p-٣٩٢)وَ "إقامِ" مُصْدَرٌ مَن أقامَ يُقِيمُ، أصْلُهُ إقْوامٌ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى القافِ فَبَقِيَتْ ساكِنَةً والألْفُ ساكِنَةٌ، فَحُذِفَتِ الواوَ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ، فَجاءَ "إقامِ"، فَقالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: هو مَصْدَرٌ بِنَفْسِهِ قَدْ لا يُضافُ، وقِيلَ: لا يَجُوزُ أقَمْتُهُ إقامًا، وإنَّما يُسْتَعْمَلُ مُضافًا، ذَكَرَهُ الرُمّانِيُّ، وقالَ بَعْضُهم مِن حَيْثُ رَأوهُ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا مُضافًا: أُلْحِقَتْ بِهِ هاءٌ عِوَضًا مِنَ المَحْذُوفِ فَجاءَ "إقامَةً"، فَهم إذا أضافُوهُ حَذَفُوا العِوَضَ لِاسْتِغْنائِهِمْ عنهُ، فَإنَّ المُضافَ والمُضافَ إلَيْهِ كاسْمٍ واحِدٍ. و"الزَكاةِ" هُنا عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الطاعَةُ لِلَّهِ، وقالَ الحَسَنُ: هي الزَكاةُ المَفْرُوضَةُ في المالِ. و"اليَوْمُ المُخَوِّفُ" الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى هو يَوْمُ القِيامَةِ. واخْتَلَفَ الناسُ في تَقَلُّبِ القُلُوبِ والأبْصارِ، كَيْفَ هُوَ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: يَرى الناسُ الحَقائِقَ عِيانًا فَتَتَقَلَّبُ قُلُوبُ الشاكِينَ ومُعْتَقِدِي الضَلالِ عن مُعْتَقَداتِها إلى اعْتِقادِ الحَقِّ عَلى وجْهِهِ، وكَذَلِكَ الأبْصارُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو تَقَلُّبٌ عَلى جَمْرِ جَهَنَّمَ، ومَقْصِدُ الآيَةِ هو وصْفُ هَوْلِ يَوْمِ القِيامَةِ. فَأمّا القَوْلُ الأوَّلُ فَلَيْسَ يَقْتَضِي هَوْلًا، وأمّا الثانِي فَلَيْسَ التَقَلُّبُ في جَمْرِ جَهَنَّمَ في يَوْمِ القِيامَةِ، وإنَّما هو بَعْدَهُ، وإنَّما مَعْنى الآيَةِ عِنْدِي أنَّ ذَلِكَ -لِشِدَّةِ هَوْلِهِ ومَطْلَعِهِ- القُلُوبُ والأبْصارُ فِيهِ مُضْطَرِبَةٌ قَلِقَةٌ مُتَقَلِّبَةٌ مِن طَمَعٍ في النَجاةِ إلى طَمَعٍ، ومِن حَذَرِ هَلاكٍ إلى حَذَرٍ، ومِن نَظَرٍ في هَوْلٍ إلى النَظَرِ في الآخَرِ. والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ هَذا المَعْنى في الحُرُوبِ ونَحْوِها، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ بَلْ كانَ قَلْبُكَ في جَناحَيْ طائِرِ ومِنهُ قَوْلٌ بِشارٍ: ؎ كَأنَّ فُؤادَهُ كُرَةٌ تَنَزّى ∗∗∗........................ وهَذا كَثِيرٌ. (p-٣٩٣)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب