الباحث القرآني

﴿رِجالٌ﴾ أيْ رِجالٌ ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾ أيْ بِبَيْعٍ أوْ شِرًى أوْ غَيْرِهِما، يَظْهَرُ لَهم فِيها رِبْحٌ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ قَدْ يُضْطَرُّ إلى الخُرُوجِ بِالبَيْعِ عَنْ بَعْضِ ما يَمْلِكُ لِلِاقْتِياتِ بِثَمَنِهِ أوِ التَّبَلُّغِ بِهِ إلى بَعْضِ المُهِمّاتِ الَّتِي لا وُصُولَ لَهُ إلَيْها إلّا بِهِ، أوْ بِتَحْصِيلِ ما لا يَمْلِكُ كَذَلِكَ مَعَ أنَّ البَيْعَ في التِّجارَةِ أيْضًا هو الطِّلْبَةُ الكُلِّيَّةُ لِأنَّهُ مَوْضِعُ تَحَقُّقِ الرِّبْحِ الَّذِي لا صَبْرَ عَنْهُ، قالَ: ﴿ولا بَيْعٌ﴾ أيْ وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى وجْهِ التِّجارَةِ، والبَيْعُ يُطْلَقُ بِالِاشْتِراكِ عَلى التَّحْصِيلِ الَّذِي هو الشِّرى وعَلى الإزالَةِ ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الجَلالُ والإكْرامُ مُطْلَقًا بِصَلاةٍ وغَيْرِها، فَهم (p-٢٧٩)كُلَّ وقْتٍ في شُهُودٍ ومُراقَبَةٍ لِمَن تَعَرَّفَ إلَيْهِمْ بِصِفاتِ الكَمالِ ولا يُلْهِيهِمْ ذَلِكَ عَنْ ”إقام الصَّلاةِ“ الَّتِي هي طُهْرَةُ الأرْواحِ، أعادَها بَعْدَ ذِكْرِها بِالتَّسْبِيحِ تَصْرِيحًا بِها تَأْكِيدًا لَها وحَثًّا عَلى حِفْظِ وقْتِها لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ مُقَوِّماتِها وكَذا جَمِيعُ حُدُودِها ولَوْ بِأوْجَزِ ما يَكُونُ مِن أدْنى الكَمالِ - بِما أشارَ إلَيْهِ حَذْفُ التّاءِ إشْعارًا بِأنَّ هَذا المَدْحَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى أنْهى الكَمالِ ولا عَنْ ”إيتاء الزَّكاةِ“ الَّتِي هي زَكاءُ الأشْباحِ ونَماؤُها، وخَصَّ الرِّجالَ مَعَ أنَّ حُضُورَ النِّساءِ المَساجِدَ سَنَةٌ شَهِيرَةٌ، إشارَةً إلى أنَّ صَلاتَهُنَّ في بُيُوتِهِنَّ أفْضَلُ لِما رَوى أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ وابْنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «صَلاةُ المَرْأةِ في بَيْتِها أفْضَلُ مِن صَلاتِها في حُجْرَتِها، وصَلاتُها في مَخْدَعِها أفْضَلُ مِن صَلاتِها في بَيْتِها» والمَخْدَعُ: الخِزانَةُ. ولِلْإمامِ أحْمَدُ والطَّبَرانِيِّ وابْنِ خُزَيْمَةَ والحاكِمِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «خَيْرُ مَساجِدِ النِّساءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ» ولِأحْمَدَ وابْنِ خُزَيْمَةَ وابْنِ حِبّانَ في صَحِيحِيهِما «عَنْ أُمِّ حَمِيدَةَ امْرَأةِ أبِي حَمِيدٍ السّاعِدِيِّ (p-٢٨٠)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّها قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي أُحِبُّ الصَّلاةَ مَعَكَ، قالَ: ”قَدْ عَلِمْتُ أنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلاةَ مَعِي، وصَلاتُكِ في بَيْتِكِ خَيْرٌ مِن صَلاتِكِ في حُجْرَتِكِ، وصِلاتُكِ في حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِن صَلاتِكِ في دارِكِ، وصِلاتُكِ في دارِكِ خَيْرٌ مِن صَلاتِكِ في مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وصِلاتُكِ في مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِن صَلاتِكِ في مَسْجِدِي، قالَ: فَأمَرَتْ فَبُنِيَ لَها مَسْجِدٌ في أقْصى بَيْتٍ مِن بَيْتِها وأظْلَمِهِ، فَكانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتّى لَقِيَتِ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ» . ولَمّا وصَّفَ الرِّجالَ المَذْكُورِينَ ما وصَفَهم بِهِ، ذَكَرَ عِلَّةَ فِعْلِهِمْ لِذَلِكَ زِيادَةً في مَدْحِهِمْ فَقالَ: ﴿يَخافُونَ يَوْمًا﴾ وهو يَوْمُ القِيامَةِ، هو بِحَيْثُ ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ﴾ أيْ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، تَقَلُّبًا ظاهِرًا - بِما أشارَ إلَيْهِ إثْباتُ التّاءَيْنِ ﴿القُلُوبُ والأبْصارُ﴾ أيْ بَيْنَ طَمَعٍ في النَّجاةِ، وحَذَرٍ مِنَ الهَلاكِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: المَشاكِي - واللَّهُ أعْلَمُ - هي المَساجِدُ، والزُّجاجُ هي الرِّجالُ، والمَصابِيحُ هي القُلُوبُ، وتَلَأْلُؤُها ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ المَعانِي الحامِلَةِ عَلى الذِّكْرِ، والشَّجَرَةُ المَوْصُوفَةُ (p-٢٨١)هِيَ مِثالُ الأبْدانِ، الَّتِي صَفّاها اللَّهُ مِنَ الأدْرانِ، وطَبَعَها عَلى الِاسْتِقامَةِ، والزَّيْتُ مِثالٌ لِما وضَعَ سُبْحانَهُ فِيها مِن جَمِيلِ الأسْرارِ، وقَدْ ورَدَ في بَعْضِ الأخْبارِ أنَّ المَساجِدَ لِأهْلِ السَّماواتِ كالنُّجُومِ لِأهْلِ الأرْضِ، وفي مُعْجَمِ الطَّبَرانِيِّ في الأوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:“كَمِشْكاةٍ" قالَ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ ﷺ، والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ، والمِصْباحُ النُّورُ الَّذِي في قَلْبِهِ، والشَّجَرَةُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ﴿لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] لا يَهُودِيٍّ ولا نَصْرانِيٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب