الباحث القرآني
* فَصْلٌ
نَفْيُ القَطْعِ في جَمِيعِ ما ائْتُمِنَ الإنْسانُ فِيهِ وأمّا اعْتِبارُ الحِرْزِ فالأصْلُ فِيهِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا قَطْعَ عَلى خائِنٍ» رَواهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجابِرٌ. وهو مُشْتَمِلٌ عَلى نَفْيِ القَطْعِ في جَمِيعِ ما ائْتُمِنَ الإنْسانُ فِيهِ، فَمِنها أنَّ الرَّجُلَ إذا ائْتَمَنَ غَيْرَهُ عَلى دُخُولِ بَيْتِهِ ولَمْ يُحْرِزْ مِنهُ مالَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ القَطْعُ إذا خانَهُ لِعُمُومِ لَفْظِ الخَبَرِ ويَصِيرُ حِينَئِذٍ بِمَنزِلَةِ المُودَعِ والمُضارِبِ وقَدْ نَفى النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «لا قَطْعَ عَلى خائِنٍ» وُجُوبَ القَطْعِ عَلى جاحِدِ الوَدِيعَةِ والمُضارَبَةِ وسائِرِ الأماناتِ ويَدُلُّ أيْضًا عَلى نَفْيِ القَطْعِ عَنِ المُسْتَعِيرِ إذا جَحَدَ العارِيَّةَ وما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ قَطَعَ المَرْأةَ الَّتِي كانَتْ تَسْتَعِيرُ المَتاعَ وتَجْحَدُهُ» فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى وُجُوبِ القَطْعِ عَلى المُسْتَعِيرِ إذا خانَ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ أنَّهُ قَطَعَها لِأجْلِ جُحُودِها لِلْعارِيَّةِ وإنَّما ذُكِرَ جُحُودُ العارِيَّةِ تَعْرِيفًا لَها إذا كانَ ذَلِكَ مُعْتادًا مِنها حَتّى عُرِفَتْ بِهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ التَّعْرِيفِ وهَذا مِثْلُ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ لِلرَّجُلَيْنِ أحَدُهُما يُحْجِمُ الآخَرَ في رَمَضانَ: «أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ» فَذَكَرَ الحِجامَةَ تَعْرِيفًا لَهُما والإفْطارُ واقِعٌ بِغَيْرِها وقَدْ رُوِيَ في أخْبارٍ صَحِيحَةٍ أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهم شَأْنُ المَرْأةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ وهي هَذِهِ المَرْأةُ الَّتِي ذُكِرَ في الخَبَرِ أنَّها كانَتْ تَسْتَعِيرُ المَتاعَ وتَجْحَدُهُ فَبَيَّنَ في هَذِهِ الأخْبارِ أنَّهُ قَطَعَها لِسَرِقَتِها ويَدُلُّ عَلى اعْتِبارِ الحِرْزِ أيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَرِيسَةِ الجَبَلِ فَقالَ: «فِيها غَرامَةُ مِثْلِها وجَلَداتٌ نَكالٌ فَإذا أواها المُراحُ وبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ فَفِيهِ القَطْعُ» .
وقالَ: «لَيْسَ في الثَّمَرِ المُعَلَّقِ قَطْعٌ حَتّى يَأْوِيَهُ الجَرِينُ فَإذا أواهُ الجَرِينُ فَفِيهِ القَطْعُ إذا بَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ» ودَلالَةُ هَذا الخَبَرِ عَلى وُجُوبِ اعْتِبارِ الحِرْزِ أظْهَرُ مِن دَلالَةِ الخَبَرِ الأوَّلِ وإنْ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ في وُجُوبِ اعْتِبارِهِ ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ في أنَّ الحِرْزَ شَرْطٌ في القَطْعِ وأصْلُهُ في السُّنَّةِ ما وصَفْنا والحِرْزُ عِنْدَ أصْحابِنا ما بُنِيَ لِلسُّكْنى وحِفْظِ الأمْوالِ مِنَ الأمْتِعَةِ (p-٦٧)وما في مَعْناها وكَذَلِكَ الفَساطِيطُ والمَضارِبُ والخِيَمُ الَّتِي يَسْكُنُ النّاسُ فِيها ويَحْفَظُونَ أمْتِعَتَهم بِها كُلُّ ذَلِكَ حِرْزٌ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حافِظٌ ولا عِنْدَهُ وسَواءٌ سَرَقَ مِن ذَلِكَ وهو مَفْتُوحُ البابِ أوْ لا بابَ لَهُ إلّا أنَّهُ مَحْجَرٌ بِالبِناءِ وما كانَ في غَيْرِ بِناءٍ ولا خَيْمَةٍ ولا فُسْطاطٍ ولا مَضْرِبٍ فَإنَّهُ لا يَكُونُ حِرْزًا إلّا أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَن يَحْفَظُهُ وهو قَرِيبٌ مِنهُ بِحَيْثُ يَكُونُ حافِظًا لَهُ وسَواءٌ كانَ الحافِظُ نائِمًا في ذَلِكَ المَوْضِعِ أوْ مُسْتَيْقِظًا والأصْلُ في كَوْنِ الحافِظِ حِرْزًا لَهُ وإنْ كانَ في مَسْجِدٍ أوْ صَحْراءَ حَدِيثُ «صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ كانَ نائِمًا في المَسْجِدِ ورِداؤُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَرَقَهُ سارِقٌ، فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَطْعِهِ»؛ ولا خِلافَ أنَّ المَسْجِدَ لَيْسَ بِحِرْزٍ، فَثَبَتَ أنَّهُ كانَ مُحْرَزًا لِكَوْنِ صَفْوانَ عِنْدَهُ.
ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: " لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الحافِظُ لَهُ نائِمًا أوْ مُسْتَيْقِظًا " لِأنَّ صَفْوانَ كانَ نائِمًا، ولَيْسَ المَسْجِدُ عِنْدَهم في ذَلِكَ كالحَمّامِ، فَمَن سَرَقَ مِنَ الحَمّامِ لَمْ يُقْطَعْ، وكَذَلِكَ الخانُ والحَوانِيتُ المَأْذُونُ في دُخُولِها وإنْ كانَ هُناكَ حافِظٌ، مِن قِبَلِ أنَّ الإذْنَ مَوْجُودٌ في الدُّخُولِ مِن جِهَةِ مالِكِ الحَمّامِ والدّارِ فَخَرَجَ الشَّيْءُ مِن أنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مِنَ المَأْذُونِ لَهُ في الدُّخُولِ، ألا تَرى أنَّ مَن أذِنَ لِرَجُلٍ في دُخُولِ دارِهِ أنَّ الدّارَ لَمْ تَخْرُجْ مِن أنْ تَكُونَ حِرْزًا في نَفْسِها ولا يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ المَأْذُونُ لَهُ في الدُّخُولِ ؟ لِأنَّهُ حِينَ أذِنَ لَهُ في الدُّخُولِ فَقَدِ ائْتَمَنَهُ ولَمْ يُحْرِزْ مالَهُ عَنْهُ، كَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ يُسْتَباحُ دُخُولُهُ بِإذْنِ المالِكِ فَهو غَيْرُ حِرْزٍ مِنَ المَأْذُونِ لَهُ في الدُّخُولِ وأمّا المَسْجِدُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إباحَةُ دُخُولِهِ بِإذْنِ آدَمِيٍّ فَصارَ كالمَفازَةِ والصَّحْراءِ، فَإذا سَرَقَ مِنهُ وهُناكَ حافِظٌ لَهُ قُطِعَ. وحُكِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّ السّارِقَ مِنَ الحَمّامِ يُقْطَعُ إنْ كانَ هُناكَ حافِظٌ لَهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَوْ وجَبَ قَطْعُهُ لَوَجَبَ قَطْعُ السّارِقِ مِنَ الحانُوتِ المَأْذُونِ لَهُ في الدُّخُولِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ صاحِبَ الحانُوتِ حافِظٌ لَهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ إذْنَهُ لَهُ في دُخُولِهِ قَدْ أخْرَجَهُ مِن أنْ يَكُونَ مالُهُ فِيهِ مُحْرَزًا مِنهُ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ المُؤْتَمَنِ؛ ولا فَرْقَ بَيْنَ الحَمّامِ والحانُوتِ المَأْذُونِ في دُخُولِهِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: يُقْطَعُ السّارِقُ مِنَ الحانُوتِ والخانِ المَأْذُونِ لَهُ. قِيلَ لَهُ: هو كالخائِنِ لِلْوَدائِعِ والعَوارِيِّ والمُضارَباتِ وغَيْرِها؛ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ ما ذَكَرْنا وبَيْنَها، وقَدِ ائْتَمَنَهُ صاحِبُهُ بِأنْ لَمْ يُحْرِزْهُ كَما ائْتَمَنَهُ في إيداعِهِ؛ وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: " إذا سَرَقَ مِنَ الحَمّامِ قُطِعَ " . واخْتُلِفَ في قَطْعِ النَّبّاشِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ ومُحَمَّدٌ والأوْزاعِيُّ: " لا قَطْعَ عَلى النَّبّاشِ " وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومَكْحُولٍ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: " اجْتَمَعَ رَأْيُ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في زَمَنٍ كانَ مَرْوانُ أمِيرًا (p-٦٨)عَلى المَدِينَةِ أنَّ النَّبّاشَ لا يُقْطَعُ ويُعَزَّرُ، وكانَ الصَّحابَةُ مُتَوافِرِينَ يَوْمَئِذٍ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ وابْنُ أبِي لَيْلى وأبُو الزِّنادِ ورَبِيعَةُ: " يُقْطَعُ " ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ والشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ ومَسْرُوقٍ والحَسَنِ والنَّخَعِيِّ وعَطاءٍ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّ القَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ هُناكَ دَراهِمُ مَدْفُونَةٌ فَسَرَقَها لَمْ يُقْطَعْ لِعَدَمِ الحِرْزِ، والكَفَنُ كَذَلِكَ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ الأحْرازَ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنها شَرِيجَةُ البَقّالِ حِرْزٌ لِما في الحانُوتِ، والإصْطَبْلُ حِرْزٌ لِلدَّوابِّ، والدُّورُ لِلْأمْوالِ، ويَكُونُ الرَّجُلُ حِرْزًا لِما هو حافِظٌ لَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ حِرْزٌ لِما يُحْفَظُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ في العادَةِ ولا يَكُونُ حِرْزًا لِغَيْرِهِ، فَلَوْ سَرَقَ دَراهِمَ مِن إصْطَبْلٍ لَمْ يُقْطَعْ، ولَوْ سَرَقَ مِنهُ دابَّةً قُطِعَ؛ كَذَلِكَ القَبْرُ هو حِرْزٌ لِلْكَفَنِ وإنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِلدَّراهِمِ. قِيلَ لَهُ: هَذا كَلامٌ فاسِدٌ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الأحْرازَ عَلى اخْتِلافِها في أنْفُسِها لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً في كَوْنِها حِرْزًا لِجَمِيعِ ما يُجْعَلُ فِيها؛ لِأنَّ الإصْطَبْلَ لَمّا كانَ حِرْزًا لِلدَّوابِّ فَهو حِرْزٌ لِلدَّراهِمِ والثِّيابِ ويُقْطَعُ فِيما يَسْرِقُهُ مِنهُ، وكَذَلِكَ حانُوتُ البَقّالِ هو حِرْزٌ لِجَمِيعِ ما فِيهِ مِن ثِيابٍ ودَراهِمَ وغَيْرِها؛ فَقَوْلُ القائِلِ " الإصْطَبْلُ حِرْزٌ لِلدَّوابِّ ولا يُقْطَعُ مَن سَرَقَ مِنهُ دَراهِمَ غَلَطٌ.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ قَضِيَّتَكَ هَذِهِ لَوْ كانَتْ صَحِيحَةً لَكانَتْ مانِعَةً مِن إيجابِ قَطْعِ النَّبّاشِ؛ لِأنَّ القَبْرَ لَمْ يُحْفَرْ لِيَكُونَ حِرْزًا لِلْكَفَنِ فَيُحْفَظُ بِهِ، وإنَّما يُحْفَرُ لِدَفْنِ المَيِّتِ وسَتْرِهِ عَنْ عُيُونِ النّاسِ؛ وأمّا الكَفَنُ فَإنَّما هو لِلْبِلى والهَلاكِ. ودَلِيلٌ آخَرُ، وهو أنَّ الكَفَنَ لا مالِكَ لَهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ مِن جَمِيعِ المالِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ في مِلْكِ أحَدٍ ولا مَوْقُوفٌ عَلى أحَدٍ؛ فَلَمّا صَحَّ أنَّهُ مِن جَمِيعِ المالِ وجَبَ أنْ لا يَمْلِكَهُ الوارِثُ كَما لا يَمْلِكُونَ ما صُرِفَ في الدَّيْنِ الَّذِي هو مِن جَمِيعِ المالِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ الكَفَنَ يُبْدَأُ بِهِ عَلى الدُّيُونِ، فَإذا لَمْ يَمْلِكِ الوارِثُ ما يَقْضِي بِهِ الدُّيُونَ فَهو أنْ لا يَمْلِكَ الكَفَنَ أوْلى، وإذا لَمْ يَمْلِكْهُ الوارِثُ واسْتَحالَ أنْ يَكُونَ المَيِّتُ مالِكًا وجَبَ أنْ لا يُقْطَعَ سارِقُهُ كَما لا يُقْطَعُ سارِقُ بَيْتِ المالِ وآخِذُ الأشْياءِ المُباحَةِ الَّتِي لا مالِكَ لَها.
فَإنْ قالَ قائِلٌ جَوازُ خُصُومَةِ الوارِثِ في المُطالَبَةِ بِالكَفَنِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مِلْكُهُ. قِيلَ لَهُ: الإمامُ يُطالِبُ بِما يُسْرَقُ مِن بَيْتِ المالِ ولا يَمْلِكُهُ. ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ الكَفَنَ يُجْعَلُ هُناكَ لِلْبِلى والتَّلَفِ لا لِلْقِنْيَةِ والتَّبْقِيَةِ، فَصارَ بِمَنزِلَةِ الخُبْزِ واللَّحْمِ والماءِ الَّذِي هو لِلْإتْلافِ لا لِلتَّبْقِيَةِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: القَبْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، لِما رَوى عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ (p-٦٩)اللَّهِ ﷺ: «كَيْفَ أنْتَ إذا أصابَ النّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ البَيْتُ فِيهِ بِالوَصِيفِ ؟ يَعْنِي القَبْرَ. قُلْتُ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ قالَ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ» . فَسَمّى القَبْرَ بَيْتًا. وقالَ حَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ: " يُقْطَعُ النَّبّاشُ لِأنَّهُ دَخَلَ عَلى المَيِّتِ بَيْتَهُ " .
ورَوى مالِكٌ عَنْ أبِي الرِّحالِ عَنْ أُمِّ عَمْرَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَعَنَ المُخْتَفِيَ والمُخْتَفِيَةَ» . ورَوَتْ عائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَنِ اخْتَفى مَيْتًا فَكَأنَّما قَتَلَهُ» . وقالَ أهْلُ اللُّغَةِ: المُخْتَفِي النَّبّاشُ. قِيلَ لَهُ: إنَّما سَمّاهُ بَيْتًا عَلى وجْهِ المَجازِ؛ لِأنَّ البَيْتَ مَوْضُوعٌ في لُغَةِ العَرَبِ لِما كانَ مَبْنِيًّا ظاهِرًا عَلى وجْهِ الأرْضِ، وإنَّما سُمِّيَ القَبْرُ بَيْتًا تَشْبِيهًا بِالبَيْتِ المَبْنِيِّ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ قَطْعَ السّارِقِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِكَوْنِهِ سارِقًا مِن بَيْتٍ إلّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ البَيْتُ مَبْنِيًّا لِيُحْرَزَ بِهِ ما يُجْعَلُ فِيهِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ القَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ؛ ألا تَرى أنَّ المَسْجِدَ يُسَمّى بَيْتًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ ولَوْ سَرَقَ مِنَ المَسْجِدِ لَمْ يُقْطَعْ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ حافِظٌ ؟ وأيْضًا فَلا خِلافَ أنَّهُ لَوْ كانَ في القَبْرِ دَراهِمُ مَدْفُونَةٌ فَسَرَقَها لَمْ يُقْطَعْ وإنْ كانَ بَيْتًا، فَعَلِمْنا أنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِهِ بَيْتًا. وأمّا ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ المُخْتَفِيَ» وما رُوِيَ أنَّهُ قالَ: «مَنِ اخْتَفى مَيْتًا فَكَأنَّما قَتَلَهُ» فَإنَّ هَذا إنَّما هو لَعْنٌ لَهُ، واسْتِحْقاقُ اللَّعْنِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلى وُجُوبِ القَطْعِ؛ لِأنَّ الغاصِبَ والكاذِبَ والظّالِمَ، كُلُّ هَؤُلاءِ يَسْتَحِقُّونَ اللَّعْنَ ولا يَجِبُ قَطْعُهم؛ وقَوْلُهُ: «مَنِ اخْتَفى مَيْتًا فَكَأنَّما قَتَلَهُ» فَإنَّهُ لَمْ يُوجِبْ بِهِ قَطْعًا وإنَّما جَعَلَهُ كالقاتِلِ؛ وإنْ كانَ مَعْناهُ مَحْمُولًا عَلى حَقِيقَةِ لَفْظِهِ فَواجِبٌ أنْ نَقْتُلَهُ، وهَذا لا خِلافَ فِيهِ، ولا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالقَطْعِ
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها﴾ الآيَةَ. قِيلَ إنَّ مَعْناهُ أنَّ المَصابِيحَ المُقَدَّمَ ذِكْرُها في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ. وقِيلَ: ( تُوقَدُ في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ) . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ( هَذِهِ البُيُوتُ هي المَساجِدُ )، وكَذَلِكَ قالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: " أنْ تُرْفَعَ مَعْناهُ تُرْفَعُ بِالبِناءِ، كَما قالَ: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧] " وقالَ: ( أنْ تُرْفَعَ أنْ تُعَظَّمَ بِذِكْرِهِ؛ لِأنَّها مَواضِعُ الصَّلَواتِ والذِّكْرِ ) .
ورَوى ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلاةِ الضُّحى فَقالَ: ( إنَّها لَفي كِتابِ اللَّهِ وما يَغُوصُ عَلَيْها إلّا غَوّاصٌ ) ثُمَّ قَرَأ: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا مِن رَفْعِها بِالبِناءِ ومِن تَعْظِيمِها جَمِيعًا؛ لِأنَّها مَبْنِيَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ والصَّلاةِ، وهَذا (p-١٨٩)يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُها مِنَ القُعُودِ فِيها لِأُمُورِ الدُّنْيا مِثْلُ البَيْعِ والشِّراءِ وعَمَلِ الصِّناعاتِ ولَغْوِ الحَدِيثِ الَّذِي لا فائِدَةَ فِيهِ والسَّفَهِ وما جَرى مَجْرى ذَلِكَ. وقَدْ ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «جَنِّبُوا مَساجِدَكم صِبْيانَكم ومَجانِينَكم ورَفْعَ أصْواتِكم وبَيْعَكم وشِراكم وإقامَةَ حُدُودِكم وجَمِّرُوها في جُمَعِكم وضَعُوا عَلى أبْوابِها المَطاهِرَ» .
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: ( يُصَلّى لَهُ فِيها بِالغَداةِ والعَشِيِّ ) . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ( كُلُّ تَسْبِيحٍ في القُرْآنِ صَلاةٌ ) .
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
رُوِيَ عَنْ الحَسَنِ في هَذِهِ الآيَةِ: ( واللَّهِ كانُوا يَتَبايَعُونَ في الأسْواقِ، فَإذا حَضَرَ حَقٌّ مِن حُقُوقِ اللَّهِ بَدَءُوا بِحَقِّ اللَّهِ حَتّى يَقْضُوهُ ثُمَّ عادُوا إلى تِجارَتِهِمْ ) . وعَنْ عَطاءٍ قالَ: ( شُهُودُ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ ) . وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قالَ: ( عَنْ مَواقِيتِ الصَّلاةِ ) . ورَأى ابْنُ مَسْعُودٍ أقْوامًا يَتَّجِرُونَ، فَلَمّا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قامُوا إلَيْها، قالَ: " هَذا مِنَ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
{"ayahs_start":36,"ayahs":["فِی بُیُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَیُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُۥ یُسَبِّحُ لَهُۥ فِیهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ","رِجَالࣱ لَّا تُلۡهِیهِمۡ تِجَـٰرَةࣱ وَلَا بَیۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءِ ٱلزَّكَوٰةِ یَخَافُونَ یَوۡمࣰا تَتَقَلَّبُ فِیهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَـٰرُ"],"ayah":"رِجَالࣱ لَّا تُلۡهِیهِمۡ تِجَـٰرَةࣱ وَلَا بَیۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءِ ٱلزَّكَوٰةِ یَخَافُونَ یَوۡمࣰا تَتَقَلَّبُ فِیهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَـٰرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق