الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالا أو رُكْبانًا فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أمَرَ اللهُ تَعالى بِالقِيامِ لَهُ في الصَلاةِ، بِحالَةِ قُنُوتٍ، وهو الوَقارُ والسَكِينَةُ، وهُدُوءُ الجَوارِحِ، وهَذا عَلى الحالَةِ الغالِبَةِ مِنَ الأمْنِ والطُمَأْنِينَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى حالَةَ الخَوْفِ الطارِئَةَ أحْيانًا، فَرَخَّصَ لِعَبِيدِهِ في الصَلاةِ رِجالًا مُتَصَرِّفِينَ عَلى الأقْدامِ، و"رُكْبانًا" عَلى الخَيْلِ والإبِلِ ونَحْوِهِما، إيماءً وإشارَةً بِالرَأْسِ حَيْثُ ما تَوَجَّهَ. هَذا قَوْلُ جَمِيعِ العُلَماءِ، وهَذِهِ هي صَلاةُ الفَذِّ الَّذِي قَدْ يُضايِقُهُ الخَوْفُ عَلى نَفْسِهِ في حالِ المُسايَفَةِ، أو مِن سَبْعٍ يَطْلُبُهُ، أو عَدُوٍّ يَتْبَعُهُ، أو سَيْلٍ يَحْمِلُهُ. وبِالجُمْلَةِ فَكُلُّ أمْرٍ يُخافُ مِنهُ عَلى رُوحِهِ فَهو مُبِيحٌ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ. (p-٦٠٣)وَأمّا صَلاةُ الخَوْفِ بِالإمامِ وانْقِسامِ الناسِ فَلَيْسَ حُكْمُها في هَذِهِ الآيَةِ. وفَرَّقَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ بَيْنَ خَوْفِ العَدُوِّ المُقاتِلِ، وبَيْنَ خَوْفِ السَبْعِ ونَحْوِهِ، بِأنِ اسْتَحَبَّ في غَيْرِ خَوْفِ العَدُوِّ الإعادَةَ في الوَقْتِ، إنْ وقْعَ الأمْنُ، وأكْثَرُ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّ الأمْرَ سَواءٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَرِجالا﴾ هو جَمْعُ راجِلٍ، أو رَجُلٍ مِن قَوْلِهِمْ: رَجَلَ الإنْسانُ يَرْجُلُ رَجُلًا، إذا عَدِمَ المَرْكِبَ ومَشى عَلى قَدَمَيْهِ، فَهو رَجِلٌ وراجِلٌ ورَجُلٌ- بِضَمِّ الجِيمِ وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، يَقُولُونَ: مَشى فُلانٌ إلى بَيْتِ اللهِ حافِيًا رَجْلًا، حَكاهُ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ، ورَجْلانِ ورُجَيْلٌ ورَجْلٌ. وأنْشَدَ ابْنُ الأعْرابِيِّ في رَجْلانِ: ؎ عَلَيَّ إذا لاقَيْتُ لَيْلى بِخَلْوَةٍ أنَ ازْدارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا ويُجْمَعُ عَلى رِجالٍ ورُجَيْلى ورَجالى ورُجالى ورَجّالَةٌ ورُجّالٌ ورُجّالى ورُجْلانٌ ورَجْلَةٌ ورِجَلَةٌ بِفَتْحِ الجِيمِ وأرْجِلَةٌ وأراجِلُ وأراجِيلٌ، والرَجُلِ الَّذِي هو اسْمُ الجِنْسِ يُجْمَعُ أيْضًا عَلى رِجالٍ، فَهَذِهِ الآيَةُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجالا﴾ [الحج: ٢٧] هُما مِن لَفْظِ الرَجِلَةِ أيْ عَدَمُ المَرْكُوبِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] فَهو جَمْعُ اسْمِ الجِنْسِ المَعْرُوفِ، وحَكى المَهْدَوِيُّ عن عِكْرِمَةَ، وأبِي مِجْلَزٍ أنَّهُما قَرَآ: "فَرُجّالًا" بِضَمِّ الراءِ وشَدِّ الجِيمِ المَفْتُوحَةِ. وعن عِكْرِمَةَ أيْضًا أنَّهُ قَرَأ: "فَرِجالًا" بِضَمِّ الراءِ وتَخْفِيفِ الجِيمِ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قَرَأ: "فَرُجَّلا" دُونَ ألِفٍ عَلى وزْنِ فُعَّلٍ بِضَمِّ الفاءِ وشَدِّ العَيْنِ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "أو رُكْبانًا"، وقَرَأ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ فَرِجالًا فَرُكْبانًا" بِالفاءِ. (p-٦٠٤)والرُكْبانُ جَمْعُ راكِبٍ، وهَذِهِ الرُخْصَةُ في ضِمْنِها بِإجْماعٍ مِنَ العُلَماءِ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ حَيْثُ ما تُوُجِّهَ مِنَ السَماواتِ، ويَتَقَلَّبُ ويَتَصَرَّفُ بِحَسَبَ نَظَرِهِ في نَجاةِ نَفْسِهِ. واخْتَلَفَ الناسُ كَمْ يُصَلِّي مِنَ الرَكَعاتِ؟ فَمالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ لا يَرَوْنَ أنْ يَنْقُصَ مِن عَدَدِ الرَكَعاتِ شَيْئًا، بَلْ يُصَلِّي المُسافِرُ رَكْعَتَيْنِ ولا بُدَّ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُما: يُصَلِّي رَكْعَةً إيماءً. ورَوى مُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: فَرَضَ اللهُ الصَلاةَ عَلى لِسانِ نَبِيِّكم في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفي السَفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً. وقالَ الضَحّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ: يُصَلِّي صاحِبُ خَوْفِ المَوْتِ في المُسايَفَةِ وغَيْرِها رَكْعَةً، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ. وقالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ إلّا عَلى تَكْبِيرَةٍ واحِدَةٍ أجْزَأتْ عنهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللهَ﴾ الآيَةُ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: فَإذا زالَ خَوْفُكُمُ الَّذِي أجاءَكم إلى هَذِهِ الصَلاةِ فاذْكُرُوا اللهَ بِالشُكْرِ عَلى هَذِهِ النِعْمَةِ في تَعْلِيمِكم هَذِهِ الصَلاةَ الَّتِي وقَعَ بِها الإجْزاءُ، ولَمْ تَفُتْكم صَلاةٌ مِنَ الصَلَواتِ، وهَذا هو الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: فَإذا كُنْتُمْ آمِنِينَ قَبْلُ، أو بَعْدُ، كَأنَّهُ قالَ: فَمَتى كُنْتُمْ عَلى أمْنٍ فاذْكُرُوا اللهَ، أيْ صَلَّوُا الصَلاةَ الَّتِي قَدْ عَلِمْتُمُوها، أيْ: فَصَلُّوا كَما عَلَّمَكم صَلاةً تامَّةً. حَكاهُ النَقّاشُ وغَيْرُهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: ﴿ما لَمْ تَكُونُوا﴾ بَدَلٌ مِن "ما" الَّتِي في قَوْلِهِ، "كَما"، وإلّا لَمْ يَتَّسِقْ لَفْظُ الآيَةِ، وعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ "ما" مَفْعُولَةٌ بِـ "عَلَّمَكُمْ". (p-٦٠٥)وَقالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ فَإذا خَرَجْتُمْ مِن دارِ السَفَرِ إلى دارِ الإقامَةِ. ورَدَّ الطَبَرِيُّ عَلى هَذا القَوْلِ، وذَلِكَ فِيهِ تَحْوِيمٌ عَلى المَعْنى كَثِيرٌ، والكافُ في قَوْلِهِ "كَما" لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَ ذِكْرِ الإنْسانِ لِلَّهِ ونِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ في أنَّ تُعادِلا، وكانَ الذِكْرُ شَبِيهًا بِالنِعْمَةِ في القَدْرِ وكَفاءً لَها، ومَن تَأوَّلَ "اذْكُرُوا" بِمَعْنى صَلُّوا عَلى ما ذَكَرْناهُ، فالكافُ لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَ صَلاةِ العَبْدِ والهَيْئَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب