الباحث القرآني

المُحافَظَةُ عَلى الشَّيْءِ: المُداوَمَةُ والمُواظَبَةُ عَلَيْهِ، والوُسْطى: تَأْنِيثُ الأوْسَطِ، وأوْسَطُ الشَّيْءِ ووَسَطُهُ: خِيارُهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، ومِنهُ قَوْلُ بَعْضِ العَرَبِ: يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ؎يا أوْسَطَ النّاسِ طُرًّا في مَفاخِرِهِمْ وأكْرَمَ النّاسِ أُمًّا بَرَّةً وأبا ووَسَطَ فُلانٌ القَوْمَ يَسِطُهم: أيْ صارَ في وسَطِهِمْ، وأفْرَدَ الصَّلاةَ الوُسْطى بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِها في عُمُومِ الصَّلَواتِ تَشْرِيفًا لَها. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ " والصَّلاةَ الوُسْطى " بِالنَّصْبِ عَلى الإغْراءِ، وكَذَلِكَ قَرَأ الحُلْوانِيُّ، وقَرَأ قالُونُ عَنْ نافِعٍ " الوُصْطى " بِالصّادِّ لِمُجاوَرَةِ الطّاءِ وهُما لُغَتانِ: كالسِّراطِ والصِّراطِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في تَعْيِينِها عَلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا أوْرَدْتُها في شَرْحِي لِلْمُنْتَقى، وذَكَرْتُ ما تَمَسَّكَتْ بِهِ كُلُّ طائِفَةٍ، وأرْجَحُ الأقْوالِ وأصَحُّها ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ مِن أنَّها العَصْرُ، لِما ثَبَتَ عِنْدَ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ وأهْلِ السُّنَنِ وغَيْرِهِمْ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ قالَ: «كُنّا نَراها الفَجْرَ حَتّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الأحْزابِ: شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصْرِ، مَلَأ اللَّهُ قُبُورَهم وأجْوافَهم نارًا» . وأخْرَجَ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ وغَيْرُهم مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وأخْرَجَهُ أيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَهُ البَزّارُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ مِن حَدِيثِ جابِرٍ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَهُ أيْضًا البَزّارُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا. ووَرَدَ في تَعْيِينِ أنَّها العَصْرُ مِن غَيْرِ ذِكْرِ يَوْمِ الأحْزابِ أحادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: مِنها عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَندَهْ، ومِنها عَنْ سَمُرَةَ عِنْدَ أحْمَدَ وابْنِ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيِّ، ومِنها عَنْهُ أيْضًا عِنْدَ ابْنِ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدَ وعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيِّ وصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيِّ والطَّحاوِيِّ. وأخْرَجَهُ عَنْهُ أيْضًا ابْنُ سَعِيدٍ والبَزّارُ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ البَزّارِ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ، وعَنْ أبِي مالِكٍ الأشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيِّ، فَهَذِهِ أحادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مُصَرِّحَةٌ بِأنَّها العَصْرُ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحابَةِ في تَعْيِينِ أنَّها العَصْرُ آثارٌ كَبِيرَةٌ، وفي الثّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ما لا يُحْتاجُ مَعَهُ إلى غَيْرِهِ. وأمّا ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُما قالا: إنَّها صَلاةُ الصُّبْحِ. كَما أخْرَجَهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ عَنْهُما، وأخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جابِرٍ، وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي أُمامَةَ، وكُلُّ ذَلِكَ مِن أقْوالِهِمْ ولَيْسَ فِيها شَيْءٌ مِنَ المَرْفُوعِ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ولا تَقُومُ بِمِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةٌ لا سِيَّما إذا عارَضَ ما قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثُبُوتًا (p-١٦٥)يُمْكِنُ أنْ يُدَّعى فِيهِ التَّواتُرُ، وإذا لَمْ تَقُمِ الحُجَّةُ بِأقْوالِ الصَّحابَةِ لَمْ تَقُمْ بِأقْوالِ مَن بَعْدَهم مِنَ التّابِعِينَ وتابِعِهِمْ بِالأوْلى، وهَكَذا لا تَقُومُ الحُجَّةُ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ بِإسْنادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: صَلاةُ الوُسْطى المَغْرِبُ، وهَكَذا لا اعْتِبارَ بِما ورَدَ مِن قَوْلِ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّها الظَّهْرُ أوْ غَيْرُها مِنَ الصَّلَواتِ، ولَكِنَّ المُحْتاجَ إلى إمْعانِ نَظَرٍ وفِكْرٍ ما ورَدَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِمّا فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّها الظَّهْرُ، كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ مَرْفُوعًا: «أنَّ الصَّلاةَ الوُسْطى صَلاةُ الظُّهْرِ» . ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ بَلِ المَرْوِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِأنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي بِالهاجِرَةِ، وكانَتْ أثْقَلَ الصَّلاةِ عَلى أصْحابِهِ، وأيْنَ يَقَعُ هَذا الِاسْتِدْلالُ مِن تِلْكَ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وهَكَذا الِاعْتِبارُ بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن قَوْلِهِ: إنَّها الظَّهْرُ. وكَذَلِكَ ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وغَيْرِهِمْ، فَلا حُجَّةَ في قَوْلِ أحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأمّا ما رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُما أنَّ حَفْصَةَ قالَتْ لِأبِي رافِعٍ مَوْلاها وقَدْ أمَرَتْهُ أنْ يَكْتُبَ لَها مُصْحَفًا: إذا أتَيْتَ عَلى هَذِهِ الآيَةِ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ فَتَعالَ حَتّى أُمْلِيها عَلَيْكَ، فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ أمَرَتْهُ أنْ يَكْتُبَ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وصَلاةِ العَصْرِ " . وأخْرَجَهُ أيْضًا عَنْها مالِكٌ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ وزادُوا: وقالَتْ: أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُها مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ مالِكٌ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم عَنْ أبِي يُونُسَ مَوْلى «عائِشَةَ أنَّها أمَرَتْهُ أنْ يَكْتُبَ لَها مُصْحَفًا وقالَتْ: إذا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ قالَ: فَلَمّا بَلَغْتُها آذَنْتُها فَأمْلَتْ عَلَيَّ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وصَلاةِ العَصْرِ " قالَتْ عائِشَةُ: سَمِعْتُها مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ» . وأخْرَجَ وكِيعٌ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها أمَرَتْ مَن يَكْتُبُ لَها مُصْحَفًا، وقالَتْ لَهُ كَما قالَتْ حَفْصَةُ وعائِشَةُ. فَغايَةُ ما في هَذِهِ الرِّواياتِ عَنْ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ الثَّلاثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أنَّهُنَّ يَرْوِينَ هَذا الحَرْفَ هَكَذا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ولَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ الصَّلاةِ الوُسْطى أنَّها الظَّهْرُ أوْ غَيْرُها، بَلْ غايَةُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ صَلاةِ العَصْرِ عَلى صَلاةِ الوُسْطى أنَّها غَيْرُها؛ لِأنَّ المَعْطُوفَ غَيْرُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وهَذا الِاسْتِدْلالُ لا يُعارِضُ ما ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثُبُوتًا لا يَدْفَعُ أنَّها العَصْرُ كَما قَدَّمْنا بَيانَهُ. فالحاصِلُ أنَّ هَذِهِ القِراءَةَ الَّتِي نَقَلَتْها أُمَّهاتُ المُؤْمِنِينَ الثَّلاثُ بِإثْباتِ قَوْلِهِ: " وصَلاةُ العَصْرِ " مُعارَضَةٌ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ قالَ: كانَ في مُصْحَفِ عائِشَةَ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وهي صَلاةُ العَصْرِ " . وأخْرَجَ وكِيعٌ عَنْ حُمَيْدَةَ قالَتْ: قَرَأْتُ في مُصْحَفِ عائِشَةَ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصْرِ " . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي داوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وأبُو عُبَيْدٍ عَنْ زِيادِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ أنَّ عائِشَةَ أمَرَتْ بِمُصْحَفٍ لَها أنْ يُكْتَبَ وقالَتْ: إذا بَلَغْتُمْ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ﴾ فَلا تَكْتُبُوها حَتّى تُؤْذِنُونِي، فَلَمّا أخْبَرُوها أنَّهم قَدْ بَلَغُوا قالَتِ: اكْتُبُوها صَلاةَ الوُسْطى صَلاةَ العَصْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والطَّحاوِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ رافِعٍ قالَ: كانَ مَكْتُوبًا في مُصْحَفِ حَفْصَةَ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وهي صَلاةُ العَصْرِ " . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَؤُها " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصْرِ " . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّحاوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ لَيَقْرَؤُها " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصْرِ " . وأخْرَجَ المَحامِلِيُّ عَنِ السّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أنَّهُ تَلاها كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الرِّواياتُ تُعارِضُ تِلْكَ الرِّواياتِ بِاعْتِبارِ التِّلاوَةِ ونَقْلِ القِراءَةِ، ويَبْقى ما صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ التَّعْيِينِ، صافِيًا عَنْ شَوْبِ كَدَرِ المُعارَضَةِ. عَلى أنَّهُ قَدْ ورَدَ ما يَدُلُّ عَلى نَسْخِ تِلْكَ القِراءَةِ الَّتِي نَقَلَتْها حَفْصَةُ وعائِشَةُ وأُمُّ سَلَمَةَ. فَأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: «نَزَلَتْ " حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ وصَلاةِ العَصْرِ " فَقَرَأْناها عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَها اللَّهُ، فَأنْزَلَ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ فَقِيلَ لَهُ: إذَنْ صَلاةُ العَصْرِ ؟ قالَ: قَدْ حَدَّثْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وكَيْفَ نَسَخَها اللَّهُ. واللَّهُ أعْلَمُ» . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْهُ مِن وجْهٍ آخَرَ نَحْوَهُ. وإذا تَقَرَّرَ لَكَ هَذا وعَرَفْتَ ما سُقْناهُ تَبَيَّنَ لَكَ أنَّهُ لَمْ يَرِدْ ما يُعارِضُ أنَّ الصَّلاةَ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ، وأمّا حُجَجُ بَقِيَّةِ الأقْوالِ فَلَيْسَ فِيها شَيْءٌ مِمّا يَنْبَغِي الِاشْتِغالُ بِهِ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في ذَلِكَ شَيْءٌ، وبَعْضُ القائِلِينَ عَوَّلَ عَلى أمْرٍ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَقالَ: إنَّها صَلاةُ كَذا لِأنَّها وُسْطى بِالنِّسْبَةِ إلى أنَّ قَبْلَها كَذا مِنَ الصَّلَواتِ وبَعْدَها كَذا مِنَ الصَّلَواتِ، وهَذا الرَّأْيُ المَحْضُ والتَّخْمِينُ البَحْتُ لا يَنْبَغِي أنْ تَسْتَنِدَ إلَيْهِ الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلى فَرْضِ عَدَمِ وُجُودِ ما يُعارِضُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ ما هو في أعْلى دَرَجاتِ الصِّحَّةِ والقُوَّةِ والثُّبُوتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ؟ ويالِلَّهِ العَجَبُ مِن قَوْمٍ لَمْ يَكْتَفُوا بِتَقْصِيرِهِمْ في عِلْمِ السُّنَّةِ وإعْراضِهِمْ عَنْ خَيْرِ العُلُومِ وأنْفَعِها، حَتّى كَلَّفُوا أنْفُسَهُمُ التَّكَلُّمَ عَلى أحْكامِ اللَّهِ والتَّحَرِّي عَلى تَفْسِيرِ كِتابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى، فَجاءُوا بِما يُضْحَكُ مِنهُ تارَةً ويُبْكى مِنهُ أُخْرى. قَوْلُهُ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ القُنُوتُ، قِيلَ: هو الطّاعَةُ، أيْ قُومُوا لِلَّهِ في صَلاتِكم طائِعِينَ، قالَهُ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ وعَطاءٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والضَّحّاكُ والشَّعْبِيُّ، وقِيلَ: هو الخُشُوعُ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ ومُجاهِدٌ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎قانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ∗∗∗ وعَلى عَمْدٍ مِنَ النّاسِ اعْتَزَلْ وقِيلَ: هو الدُّعاءُ، وبِهِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ. وفِي الحَدِيثِ «أنَّ (p-١٦٦)رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلى رِعْلٍ وذَكْوانَ» . وقالَ قَوْمٌ: إنَّ القُنُوتَ طُولُ القِيامِ، وقِيلَ: مَعْناهُ ساكِتِينَ، قالَهُ السُّدِّيُّ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما قالَ: «كانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صاحِبَهُ في عَهْدِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في الحاجَةِ في الصَّلاةِ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ فَأُمِرْنا بِالسُّكُوتِ»، وقِيلَ: أصْلُ القُنُوتِ في اللُّغَةِ الدَّوامُ عَلى الشَّيْءِ، فَكُلُّ مَعْنًى يُناسِبُ الدَّوامَ يَصِحُّ إطْلاقُ القُنُوتِ عَلَيْهِ. وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ أنَّ القُنُوتَ ثَلاثَةَ عَشَرَ مَعْنًى وقَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ في شَرْحِ المُنْتَقى، والمُتَعَيِّنُ هاهُنا حَمْلُ القُنُوتِ عَلى السُّكُوتِ لِلْحَدِيثِ المَذْكُورِ. قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ الخَوْفُ هو الفَزَعُ، والرِّجالُ جَمْعُ رَجُلٍ أوْ راجِلٍ، مِن قَوْلِهِمْ: رَجِلَ الإنْسانُ يَرْجَلُ راجِلًا؛ إذا عَدِمَ المَرْكُوبَ ومَشى عَلى قَدَمَيْهِ فَهو رَجُلٌ وراجِلٌ. يَقُولُ أهْلُ الحِجازِ: مَشى فُلانٌ إلى بَيْتِ اللَّهِ حافِيًا رَجُلًا. حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ. لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الأمْرَ بِالمُحافَظَةِ عَلى الصَّلَواتِ، ذَكَرَ حالَةَ الخَوْفِ أنَّهم يُضِيعُونَ فِيها ما يُمْكِنُهم ويَدْخُلُ تَحْتَ طَوْقِهِمْ مِنَ المُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ بِفِعْلِها حالَ التَّرَجُّلِ وحالَ الرُّكُوبِ، وأبانَ لَهم أنَّ هَذِهِ العِبادَةَ لازِمَةٌ في كُلِّ الأحْوالِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في حَدِّ الخَوْفِ المُبِيحِ لِذَلِكَ والبَحْثُ مُسْتَوْفٍ في كُتُبِ الفُرُوعِ. قَوْلُهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ أيْ إذا زالَ خَوْفُكم فارْجِعُوا إلى ما أُمِرْتُمْ بِهِ مِن إتْمامِ الصَّلاةِ مُسْتَقْبِلِينَ القِبْلَةَ قائِمِينَ بِجَمِيعِ شُرُوطِها وأرْكانِها وهو قَوْلُهُ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ﴾ وقِيلَ مَعْنى الآيَةِ: خَرَجْتُمْ مِن دارِ السَّفَرِ إلى دارِ الإقامَةِ، وهو خِلافُ مَعْنى الآيَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿كَما عَلَّمَكُمْ﴾ أيْ مِثْلُ ما عَلَّمَكم مِنَ الشَّرائِعِ ﴿ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ والكافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ ذِكْرًا كائِنًا كَتَعْلِيمِهِ إيّاكم، أوْ مِثْلُ تَعْلِيمِهِ إيّاكم. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قالَ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مُخْتَلِفِينَ في الصَّلاةِ الوُسْطى هَكَذا، وشَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى ؟ فَقالَ: هي فِيهِنَّ، فَحافِظُوا عَلَيْهِنَّ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ سَألَهُ رَجُلٌ عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى فَقالَ: حافِظْ عَلى الصَّلَواتِ تُدْرِكْها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أنَّ سائِلًا سَألَهُ عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى، قالَ: حافِظْ عَلَيْهِنَّ فَإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ أصَبْتَها، إنَّما هي واحِدَةٌ مِنهُنَّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى، فَقالَ: حافِظُوا عَلَيْها تُصِيبُوها. وقَدْ قَدَّمْنا ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وعَنْ أصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في تَعْيِينِها. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ مِثْلَ ما قَدَّمْنا عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ قالَ: مُصَلِّينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: كُلُّ أهْلِ دِينٍ يَقُومُونَ فِيها عاصِينَ، قُومُوا أنْتُمْ مُطِيعِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ الضَّحّاكِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ قالَ: مِنَ القُنُوتِ الرُّكُوعُ والخُشُوعُ، وطُولُ الرُّكُوعِ يَعْنِي طُولَ القِيامِ وغَضَّ البَصَرِ وخَفْضَ الجَناحِ والرَّهْبَةَ لِلَّهِ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «إنَّ في الصَّلاةِ لَشُغْلًا» وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «إنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيها شَيْءٌ مِن كَلامِ النّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِراءَةُ القُرْآنِ» . وقَدِ اخْتَلَفَتِ الأحادِيثُ في القُنُوتِ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، هَلْ هو قَبْلَ الرُّكُوعِ أوْ بَعْدَهُ، وهَلْ هو في جَمِيعِ الصَّلَواتِ أوْ بَعْضِها، وهَلْ هو مُخْتَصٌّ بِالنَّوازِلِ أمْ لا ؟ والرّاجِحُ اخْتِصاصُهُ بِالنَّوازِلِ. وقَدْ أوْضَحْنا ذَلِكَ في شَرْحِنا لِلْمُنْتَقى فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ قالَ: يُصَلِّي الرّاكِبُ عَلى دابَّتِهِ، والرّاجِلُ عَلى رِجْلَيْهِ ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي كَما عَلَّمَكم أنْ يُصَلِّيَ الرّاكِبُ عَلى دابَّتِهِ، والرّاجِلُ عَلى رِجْلَيْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: إذا كانَتِ المُسايَفَةُ فَلْيُومِ بِرَأْسِهِ حَيْثُ كانَ وجْهُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ قالَ: رَكْعَةً رَكْعَةً. وأخْرَجَ وكِيعٌ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ قالَ: خَرَجْتُمْ مِن دارِ السَّفَرِ إلى دارِ الإقامَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب