الباحث القرآني
بابُ الصَّلاةِ الوُسْطى .. وذِكْرِ الكَلامِ في الصَّلاةِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ فِيهِ أمْرٌ بِفِعْلِ الصَّلاةِ؛ وتَأْكِيدُ وُجُوبِها بِذِكْرِ المُحافَظَةِ؛ وهي الصَّلَواتُ الخَمْسُ المَكْتُوباتُ؛ المَعْهُوداتُ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ؛ وذَلِكَ لِدُخُولِ الألِفِ واللّامِ عَلَيْها؛ إشارَةً بِها إلى مَعْهُودٍ؛ وقَدِ انْتَظَمَ ذَلِكَ القِيامَ بِها؛ واسْتِيفاءَ فُرُوضِها؛ وحِفْظَ حُدُودِها؛ وفِعْلَها في مَواقِيتِها؛ وتَرْكَ التَّقْصِيرِ فِيها؛ إذْ كانَ الأمْرُ بِالمُحافَظَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وأكَّدَ الصَّلاةَ الوُسْطى بِإفْرادِها بِالذِّكْرِ؛ مَعَ ذِكْرِهِ سائِرَ الصَّلَواتِ؛ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى مَعْنَيَيْنِ؛ إمّا أنْ تَكُونَ أفْضَلَ الصَّلَواتِ؛ وأوْلاها بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها؛ فَلِذَلِكَ أفْرَدَها بِالذِّكْرِ عَنِ الجُمْلَةِ؛ وإمّا أنْ تَكُونَ المُحافَظَةُ عَلَيْها أشَدَّ مِنَ المُحافَظَةِ عَلى غَيْرِها؛ وقَدْ رُوِيَ في ذَلِكَ رِواياتٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ يَدُلُّ بَعْضُها عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ؛ وبَعْضُها عَلى الوَجْهِ الثّانِي؛ فَمِنها ما رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: هي الظُّهْرُ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُصَلِّي بِالهَجِيرِ؛ ولا يَكُونُ وراءَهُ إلّا الصَّفُّ؛ أوِ الصَّفّانِ؛ والنّاسُ في قائِلَتِهِمْ؛ وتِجارَتِهِمْ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ وفي بَعْضِ ألْفاظِ الحَدِيثِ: فَكانَتْ أثْقَلَ الصَّلَواتِ عَلى الصَّحابَةِ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى) ذَلِكَ؛ قالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: وإنَّما سَمّاها "وُسْطى" لِأنَّ قَبْلَها صَلاتَيْنِ؛ وبَعْدَها صَلاتَيْنِ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ وابْنِ عَبّاسٍ؛ أنَّ الصَّلاةَ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَةٌ أُخْرى أنَّها صَلاةُ الفَجْرِ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ؛ وحَفْصَةَ؛ وأُمِّ كُلْثُومٍ؛ أنَّ في مُصْحَفِهِنَّ: "حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصْرِ"؛ ورُوِيَ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: نَزَلَتْ: "حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ وصَلاةِ العَصْرِ"؛ وقَرَأْتُها عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ ثُمَّ نَسَخَها اللَّهُ (تَعالى) فَأنْزَلَ: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ فَأخْبَرَ البَراءُ أنَّ ما في مُصْحَفِ (p-١٥٦)هَؤُلاءِ مِن ذِكْرِ صَلاةِ العَصْرِ مَنسُوخٌ.
وقَدْ رَوى عاصِمٌ عَنْ زِرٍّ؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: قاتَلْنا الأحْزابَ فَشَغَلُونا عَنْ صَلاةِ العَصْرِ؛ حَتّى كادَتِ الشَّمْسُ أنْ تَغِيبَ؛ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اَللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَ الَّذِينَ شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى نارًا» .
قالَ عَلِيٌّ: كُنّا نَرى أنَّها صَلاةُ الفَجْرِ؛ ورَوى عِكْرِمَةُ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ ومِقْسَمٌ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّها صَلاةُ العَصْرِ»؛ وكَذَلِكَ رَوى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِن قَوْلِهِ: إنَّها صَلاةُ العَصْرِ؛ وكَذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: اَلْمَغْرِبُ؛
وقِيلَ: إنَّما سُمِّيَتْ صَلاةُ العَصْرِ "اَلْوُسْطى"؛ لِأنَّها بَيْنَ صَلاتَيْنِ مِن صَلاةِ النَّهارِ؛ وصَلاتَيْنِ مِن صَلاةِ اللَّيْلِ؛ وقِيلَ: إنَّ أوَّلَ الصَّلَواتِ وُجُوبًا كانَتِ الفَجْرَ؛ وآخِرَها العِشاءُ الآخِرَةُ؛ فَكانَتِ العَصْرُ هي الوُسْطى في الوُجُوبِ؛ ومَن قالَ: إنَّ الوُسْطى الظُّهْرُ؛ يَقُولُ: لِأنَّها وُسْطى صَلاةِ النَّهارِ بَيْنَ الفَجْرِ؛ والعَصْرِ؛ ومَن قالَ: اَلصُّبْحُ؛ فَقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِأنَّها تُصَلّى في سَوادٍ مِنَ اللَّيْلِ؛ وبَياضٍ مِنَ النَّهارِ؛ فَجَعَلَها وُسْطى في الوَقْتِ؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ عَلى نَفْيِ وُجُوبِ الوِتْرِ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ واجِبَةً لَما كانَ لَها وُسْطى؛ لِأنَّها تَكُونُ حِينَئِذٍ سِتًّا؛ فَيُقالُ لَهُ: إنْ كانَتِ الوُسْطى العَصْرَ فَوَجْهُهُ ما قِيلَ: إنَّها وُسْطى في الإيجابِ؛ وإنْ كانَتِ الظُّهْرَ فَلِأنَّها بَيْنَ صَلاتَيِ النَّهارِ: اَلْفَجْرِ؛ والعَصْرِ؛ فَلا دَلالَةَ عَلى نَفْيِ وُجُوبِ الوِتْرِ؛ الَّتِي هي مِن صَلاةِ اللَّيْلِ؛ وأيْضًا فَإنَّها وُسْطى الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ؛ ولَيْسَ الوِتْرُ مِنَ المَكْتُوباتِ؛ وإنْ كانَتْ واجِبَةً؛ لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ واجِبٍ فَرْضًا؛ إذْ كانَ الفَرْضُ هو أعْلى في مَراتِبِ الوُجُوبِ؛ وأيْضًا فَإنَّ فَرْضَ الوِتْرِ زِيادَةٌ ورَدَتْ بَعْدَ فَرْضِ المَكْتُوباتِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «"إنَّ اللَّهَ زادَكم إلى صَلاتِكم صَلاةً؛ وهي الوِتْرُ"؛» وإنَّما سُمِّيَتْ وُسْطى قَبْلَ وُجُوبِ الوِتْرِ.
وأمّا قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ فَإنَّهُ قَدْ قِيلَ في مَعْنى القُنُوتِ؛ في أصْلِ اللُّغَةِ: إنَّهُ الدَّوامُ عَلى الشَّيْءِ؛ ورُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِيهِ أقاوِيلُ؛ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ والحَسَنِ؛ وعَطاءٍ؛ والشَّعْبِيِّ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾: مُطِيعِينَ؛ وقالَ نافِعٌ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: اَلْقُنُوتُ: طُولُ القِيامِ؛ وقَرَأ: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩]؛ ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"أفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنُوتِ"؛» يَعْنِي القِيامَ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: اَلْقُنُوتُ: اَلسُّكُوتُ؛ والقُنُوتُ: اَلطّاعَةُ؛ ولَمّا كانَ أصْلُ القُنُوتِ الدَّوامَ عَلى الشَّيْءِ؛ جازَ أنْ يُسَمّى مُدِيمُ الطّاعَةِ "قانِتًا"؛ وكَذَلِكَ مَن أطالَ القِيامَ؛ والقِراءَةَ؛ والدُّعاءَ في الصَّلاةِ؛ أوْ أطالَ الخُشُوعَ؛ والسُّكُوتَ؛ كُلُّ هَؤُلاءِ فاعِلُو القُنُوتِ؛ ورُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِيهِ (p-١٥٧)عَلى حَيٍّ مِن أحْياءِ العَرَبِ؛» والمُرادُ بِهِ: أطالَ قِيامَ الدُّعاءِ.
وقَدْ رَوى الحارِثُ؛ عَنْ شِبْلٍ؛ عَنْ أبِي عَمْرٍو الشَّيْبانِيِّ قالَ: «كُنّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ؛ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ – فَنَزَلَتْ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ فَأُمِرْنا بِالسُّكُوتِ»؛ فاقْتَضى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الكَلامِ في الصَّلاةِ؛ وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنّا نُسَلِّمُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وهو في الصَّلاةِ؛ فَيَرُدُّ عَلَيْنا؛ قَبْلَ أنْ نَأْتِيَ أرْضَ الحَبَشَةِ؛ فَلَمّا رَجَعْتُ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ؛ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقالَ: "إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِن أمْرِهِ ما يَشاءُ؛ وإنَّهُ قَضى ألّا تَتَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ"؛ ورَوى عَطاءُ بْنُ يَسارٍ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِالإشارَةِ؛ فَلَمّا سَلَّمَ قالَ: «كُنّا نَرُدُّ السَّلامَ في الصَّلاةِ؛ فَنُهِينا عَنْ ذَلِكَ»؛ ورَوى إبْراهِيمُ الهَجَرِيُّ؛ عَنِ ابْنِ عِياضٍ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: كانُوا يَتَكَلَّمُونَ في الصَّلاةِ؛ فَنَزَلَ: ﴿وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا﴾ [الأعراف: ٢٠٤]؛ وفي حَدِيثِ مُعاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"إنَّ صَلاتَنا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيها شَيْءٌ مِن كَلامِ النّاسِ؛ إنَّما هي التَّسْبِيحُ؛ والتَّكْبِيرُ؛ وقِراءَةُ القُرْآنِ"؛» فَفي هَذِهِ الأخْبارِ حَظْرُ الكَلامِ في الصَّلاةِ.
ولَمْ يَخْتَلِفِ الرُّواةُ عَلى أنَّ الكَلامَ كانَ مُباحًا في الصَّلاةِ؛ إلى أنْ حُظِرَ؛ واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى حَظْرِهِ؛ إلّا أنَّ مالِكًا قالَ: "يَجُوزُ فِيها؛ لِإصْلاحِ الصَّلاةِ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "كَلامُ السَّهْوِ لا يُفْسِدُها"؛ ولَمْ يُفَرِّقْ أصْحابُنا بَيْنَ شَيْءٍ مِنهُ؛ وأفْسَدُوا الصَّلاةَ بِوُجُودِهِ فِيها؛ عَلى وجْهِ السَّهْوِ وقَعَ؛ أوْ لِإصْلاحِ الصَّلاةِ؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الآيَةَ الَّتِي تَلَوْنا مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ ورِوايَةَ مَن رَوى أنَّها نَزَلَتْ في حَظْرِ الكَلامِ في الصَّلاةِ - مَعَ احْتِمالِهِ لَهُ لَوْ لَمْ تَرِدِ الرِّوايَةُ بِسَبَبِ نُزُولِها -؛ لَيْسَ فِيهِما فَرْقٌ بَيْنَ الكَلامِ الواقِعِ عَلى وجْهِ السَّهْوِ؛ والعَمْدِ؛ وبَيْنَهُ إذا قُصِدَ بِهِ إصْلاحُ الصَّلاةِ؛ أوْ لَمْ يُقْصَدْ؛ وكَذَلِكَ سائِرُ الأخْبارِ المَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في حَظْرِهِ فِيها؛ لَمْ يُفَرِّقْ فِيها بَيْنَ ما قُصِدَ بِهِ إصْلاحُ الصَّلاةِ؛ وبَيْنَ غَيْرِهِ؛ ولا بَيْنَ السَّهْوِ؛ والعَمْدِ مِنهُ؛ فَهي عامَّةٌ في الجَمِيعِ.
فَإنْ قِيلَ: اَلنَّهْيُ عَنِ الكَلامِ في الصَّلاةِ مَقْصُورٌ عَلى العامِدِ؛ دُونَ النّاسِي؛ لِاسْتِحالَةِ نَهْيِ النّاسِي؛ قِيلَ لَهُ: حُكْمُ النَّهْيِ قَدْ يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ عَلى النّاسِي؛ كَهو عَلى العامِدِ؛ وإنَّما يَخْتَلِفانِ في المَأْثَمِ؛ واسْتِحْقاقِ الوَعِيدِ؛ فَأمّا في الأحْكامِ الَّتِي هي فَسادُ الصَّلاةِ؛ وإيجابُ قَضائِها؛ فَلا يَخْتَلِفانِ؛ ألا تَرى أنَّ النّاسِيَ بِالأكْلِ؛ والحَدَثِ؛ والجِماعِ في الصَّلاةِ؛ في حُكْمِ العامِدِ؛ فِيما يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِن أحْكامِ هَذِهِ الأفْعالِ؛ مِن إيجابِ القَضاءِ؛ وإفْسادِ الصَّلاةِ؛ وإنْ كانا مُخْتَلِفَيْنِ في حُكْمِ المَأْثَمِ؛ واسْتِحْقاقِ الوَعِيدِ؟ وإذا كانَ ذَلِكَ؛ عَلى ما وصَفْنا؛ كانَ حُكْمُ النَّهْيِ فِيما يَقْتَضِيهِ مِن إيجابِ القَضاءِ؛ مُعَلَّقًا بِالنّاسِي؛ كَهو بِالعامِدِ؛ لا فارِقَ (p-١٥٨)بَيْنَهُما فِيهِ؛ وإنِ اخْتَلَفا في حُكْمِ المَأْثَمِ؛ والوَعِيدِ؛ فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الأخْبارُ عَلى فَسادِ قَوْلِ مَن فَرَّقَ بَيْنَ ما قُصِدَ بِهِ الإصْلاحُ لِلصَّلاةِ؛ وبَيْنَ ما لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إصْلاحُها؛ وعَلى فَسادِ قَوْلِ مَن فَرَّقَ بَيْنَ النّاسِي؛ والعامِدِ.
ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ مُعاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ -: «"إنَّ صَلاتَنا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيها شَيْءٌ مِن كَلامِ النّاسِ"؛» وحَقِيقَتُهُ الخَبَرُ؛ فَهو مَحْمُولٌ عَلى حَقِيقَتِهِ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ إخْبارًا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيها كَلامُ النّاسِ؛ فَلَوْ بَقِيَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الكَلامِ؛ لَكانَ قَدْ صَلُحَ الكَلامُ فِيها مِن وجْهٍ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ ما وقَعَ فِيهِ كَلامُ النّاسِ لَيْسَ بِصَلاةٍ لِيَكُونَ مُخْبَرُهُ خَبَرًا مَوْجُودًا في سائِرِ ما أخْبَرَ بِهِ؛ ومِن وجْهٍ آخَرَ؛ أنَّ ضِدَّ الصَّلاحِ هو الفَسادُ؛ وهو يَقْتَضِيهِ في مُقابَلَتِهِ؛ فَإذا لَمْ يَصْلُحْ فِيها ذَلِكَ فَهي فاسِدَةٌ؛ إذا وقَعَ الكَلامُ فِيها؛ ولَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكانَ قَدْ صَلُحَ الكَلامُ فِيها مِن غَيْرِ إفْسادٍ؛ وذَلِكَ خِلافُ مُقْتَضى الخَبَرِ.
واحْتَجَّ الفَرِيقانِ جَمِيعًا - مِن مُخالِفِينا - اللَّذَيْنِ حَكَيْنا قَوْلَهُما بِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ؛ في قِصَّةِ ذِي اليَدَيْنِ؛ ورُوِيَ مِن طُرُقٍ؛ قالَ: «صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إحْدى صَلاتَيِ العَشِيِّ؛ الظُّهْرَ؛ أوِ العَصْرَ؛ ثُمَّ قامَ إلى خَشَبَةٍ في مُقَدِّمِ المَسْجِدِ؛ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْها؛ إحْداهُما عَلى الأُخْرى؛ يُعْرَفُ في وجْهِهِ الغَضَبُ؛ قالَ: وخَرَجَ سَرَعانُ النّاسِ؛ فَقالُوا: أقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وفي النّاسِ أبُو بَكْرٍ؛ وعُمَرُ؛ فَهاباهُ أنْ يُكَلِّماهُ؛ فَقامَ رَجُلٌ طَوِيلُ اليَدَيْنِ؛ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُسَمِّيهِ ذا اليَدَيْنِ؛ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أنَسِيتَ؛ أمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ فَقالَ لَهُ: "لَمْ أنْسَ؛ ولَمْ تَقْصُرِ الصَّلاةُ"؛ فَقالَ: بَلْ نَسِيتَ؛ فَأقْبَلَ عَلى القَوْمِ؛ فَقالَ: "أصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟"؛ قالُوا: نَعَمْ؛ فَجاءَ فَصَلّى بِنا الرَّكْعَتَيْنِ الباقِيَتَيْنِ؛ وسَلَّمَ؛ وسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ؛» قالُوا: فَأخْبَرَ أبُو هُرَيْرَةَ بِما كانَ مِنهُ؛ ومِنهُمْ؛ مِنَ الكَلامِ؛ ولَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ البِناءِ؛ وقَدْ كانَ أبُو هُرَيْرَةَ مُتَأخِّرَ الإسْلامِ؛ ورَوى يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ القَطّانُ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالِدٍ؛ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبِي حازِمٍ قالَ: أتَيْنا أبا هُرَيْرَةَ فَقُلْنا: حَدِّثْنا؛ فَقالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ – "ثَلاثَ سِنِينَ» "؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قَدِمَ المَدِينَةَ والنَّبِيُّ ﷺ بِخَيْبَرَ؛ فَخَرَجَ خَلْفَهُ؛ وقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ؛ قالُوا: فَإذا كانَتْ هَذِهِ القِصَّةُ بَعْدَ إسْلامِ أبِي هُرَيْرَةَ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ نَسْخَ الكَلامِ كانَ بِمَكَّةَ؛ لِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمّا قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أرْضِ الحَبَشَةِ؛ كانَ الكَلامُ في الصَّلاةِ مَحْظُورًا؛ لِأنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ؛ وأخْبَرَهُ بِنَسْخِ الكَلامِ في الصَّلاةِ؛ ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ ما في حَدِيثِ ذِي اليَدَيْنِ كانَ بَعْدَ حَظْرِ الكَلامِ في الصَّلاةِ؛ وقالَ أصْحابُ مالِكٍ: إنَّما لَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلاةُ؛ لِأنَّهُ كانَ لِإصْلاحِها؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: لِأنَّهُ وقَعَ ناسِيًا؛ (p-١٥٩)فَيُقالُ لَهُمْ: لَوْ كانَ حَدِيثُ ذِي اليَدَيْنِ بَعْدَ نَسْخِ الكَلامِ لَكانَ مُبِيحًا لِلْكَلامِ فِيها؛ ناسِخًا لِحَظْرِهِ المُتَقَدِّمِ لَهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهم أنَّ جَوازَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِحالٍ دُونَ حالٍ.
وقَدْ رَوى سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ؛ عَنْ أبِي حازِمٍ؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"مَن نابَهُ في صَلاتِهِ شَيْءٌ فَلْيَقُلْ: (سُبْحانَ اللَّهِ)؛ إنَّما التَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ؛ والتَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ"؛» ورَوى سُفْيانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ أبِي سَلَمَةَ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «"اَلتَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ؛ والتَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ"؛» فَمَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَن نابَهُ شَيْءٌ في صَلاتِهِ مِنَ الكَلامِ؛ وأمَرَ بِالتَّسْبِيحِ؛ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ مِنَ القَوْمِ تَسْبِيحٌ في قِصَّةِ ذِي اليَدَيْنِ؛ ولا أنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ تَرْكَهُ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قِصَّةَ ذِي اليَدَيْنِ كانَتْ قَبْلَ أنْ يُعَلِّمَهُمُ التَّسْبِيحَ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ قَدْ عَلَّمَهُمُ التَّسْبِيحَ ثُمَّ يُخالِفُونَهُ إلى غَيْرِهِ؛ ولَوْ كانُوا خالَفُوا ما أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ في مِثْلِ هَذِهِ الحالِ لَظَهَرَ فِيهِ النَّكِيرُ عَلَيْهِمْ في تَرْكِهِمُ التَّسْبِيحَ المَأْمُورَ بِهِ إلى الكَلامِ المَحْظُورِ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ قِصَّةَ ذِي اليَدَيْنِ كانَتْ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ؛ إمّا قَبْلَ حَظْرِ الكَلامِ؛ ثُمَّ حُظِرَ الكَلامُ في الصَّلاةِ؛ وإمّا أنْ تَكُونَ بَعْدَ حَظْرِ الكَلامِ بَدِيًّا مِنهُ؛ ثُمَّ أُبِيحَ الكَلامُ؛ ثُمَّ حُظِرَ بِقَوْلِهِ: «"اَلتَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ؛ والتَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ"؛» وقَدْ كانَ نَسْخُ الكَلامِ بِالمَدِينَةِ؛ بَعْدَ الهِجْرَةِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رَوى مَعْمَرٌ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الظُّهْرَ؛ أوِ العَصْرَ» ..."؛ وذَكَرَ الحَدِيثَ؛ قالَ الزُّهْرِيُّ: فَكانَ هَذا قَبْلَ بَدْرٍ؛ ثُمَّ اسْتُحْكِمَتِ الأُمُورُ بَعْدَهُ؛ وقالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: " «كُنّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ؛ حَتّى نَزَلَتْ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ فَأُمِرْنا بِالسُّكُوتِ»؛ وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: «سَلَّمَ رَجُلٌ عَلى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِ إشارَةً؛ وقالَ: "كُنّا نَرُدُّ السَّلامَ في الصَّلاةِ؛ فَنُهِينا عَنْ ذَلِكَ»؛ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ مِن أصاغِرِ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ويَدُلُّ عَلى صِغَرِ سِنِّهِ ما رَوى هِشامٌ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: "وما عِلْمُ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ؛ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وإنَّما كانا غُلامَيْنِ صَغِيرَيْنِ"؛ وكانَ قُدُومُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلى النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الحَبَشَةِ إنَّما كانَ بِالمَدِينَةِ؛ ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ وأبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ؛ ومَن كانَ مَعَهُ بِالحَبَشَةِ؛ قَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ؛ وقَدْ رَوى أهْلُ السِّيَرِ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَتَلَ أبا جَهْلِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ بَعْدَما أثْخَنَهُ ابْنا عَفْراءَ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِحَظْرِ الكَلامِ في الصَّلاةِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنَ الحَبَشَةِ؛ وكانَ ذَلِكَ والنَّبِيُّ ﷺ يُرِيدُ الخُرُوجَ إلى بَدْرٍ؛ ورَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهْبٍ؛ (p-١٦٠)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العُمَرِيِّ؛ عَنْ نافِعٍ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ ذِي اليَدَيْنِ؛ فَقالَ: كانَ إسْلامُ أبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَما قُتِلَ ذُو اليَدَيْنِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ ما رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ كانَ قَبْلَ إسْلامِهِ؛ لِأنَّ إسْلامَهُ كانَ عامَ خَيْبَرَ؛ فَثَبَتَ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ لَمْ يَشْهَدْ تِلْكَ القِصَّةَ؛ وإنْ حَدَّثَ بِها؛ كَما قالَ البَراءُ: ما كُلُّ ما نُحَدِّثُكم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَمِعْناهُ؛ ولَكِنْ سَمِعْنا؛ وحَدَّثَنا أصْحابُنا.
ورَوى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ؛ عَنْ أنَسٍ قالَ: واللَّهِ ما كُلُّ ما نُحَدِّثُكم بِهِ سَمِعْناهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ ولَكِنْ كانَ يُحَدِّثُ بَعْضُنا بَعْضًا؛ ولا يَتَّهِمُ بَعْضُنا بَعْضًا؛ وقَدْ رَوى ابْنُ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَمْرٌو؛ عَنْ يَحْيى بْنِ جَعْدَةَ أنَّهُ أخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القارِيِّ «أنَّهُ سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لا ورَبِّ هَذا البَيْتِ؛ ما أنا قُلْتُ: مَن أدْرَكَ الصُّبْحَ وهو جُنُبٌ فَلْيُفْطِرْ؛ ولَكِنْ مُحَمَّدٌ قالَهُ ورَبِّ هَذا البَيْتِ»؛ ثُمَّ لَمّا أُخْبِرَ بِرِوايَةِ عائِشَةَ؛ وأُمِّ سَلَمَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِن غَيْرِ احْتِلامٍ؛ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمَهُ ذَلِكَ»؛ قالَ: لا عِلْمَ لِي بِهَذا؛ إنَّما أخْبَرَنِي بِهِ الفَضْلُ بْنُ العَبّاسِ؛ فَلَيْسَ في رِوايَتِهِ بِحَدِيثِ ذِي اليَدَيْنِ ما يَدُلُّ عَلى مُشاهَدَتِهِ؛ فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ في بَعْضِ أخْبارِهِ أنَّهُ قالَ: " صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ أنَّهُ صَلّى بِالمُسْلِمِينَ؛ وهو مِنهُمْ؛ كَما رَوى مِسْعَرُ بْنُ كِدامٍ؛ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ؛ عَنِ النَّزّالِ بْنِ سَبْرَةَ قالَ: قالَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنّا وإيّاكم كُنّا نُدْعى بَنِي عَبْدِ مَنافٍ؛ فَأنْتُمُ اليَوْمَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ؛ ونَحْنُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ»؛ إنَّما يَعْنِي أنَّهُ قالَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ حَظْرُ الكَلامِ في الصَّلاةِ مُتَقَدِّمًا لِبَدْرٍ لَما شَهِدَهُ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ؛ لِأنَّهُ كانَ صَغِيرَ السِّنِّ؛ وكانَ يَتِيمًا في حِجْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ حِينَ خَرَجَ إلى مُؤْتَةَ؛ ومِثْلُهُ لا يُدْرِكُ قِصَّةً كانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ؛ قِيلَ لَهُ: إنْ كانَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ قَدْ شَهِدَ إباحَةَ الكَلامِ في الصَّلاةِ؛ فَإنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ قَدْ أُبِيحَ بَعْدَ الحَظْرِ؛ ثُمَّ حُظِرَ؛ فَكانَ آخِرُ أمْرِهِ الحَظْرَ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ أبُو هُرَيْرَةَ أيْضًا قَدْ شَهِدَ إباحَةَ الكَلامِ في الصَّلاةِ بَعْدَ حَظْرِهِ؛ ثُمَّ حُظِرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إلّا أنَّ إخْبارَهُ عَنْ قِصَّةِ ذِي اليَدَيْنِ لا مَحالَةَ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشاهَدَةٍ؛ لِأنَّهُ أسْلَمَ بَعْدَها؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ أخْبَرَ عَنْ حالِ المُسْلِمِينَ في كَلامِهِمْ في الصَّلاةِ إلى نُزُولِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ ويَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: "كُنّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ"؛ إخْبارًا عَنِ المُسْلِمِينَ؛ وهو مِنهُمْ؛ كَما قالَ النَّزّالُ بْنُ سَبْرَةَ: "قالَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ وكَما قالَ الحَسَنُ: "خَطَبَنا ابْنُ عَبّاسٍ بِالبَصْرَةِ"؛ وهو لَمْ يَكُنْ بِها يَوْمَئِذٍ؛ إنَّما طَرَأ عَلَيْها بَعْدَهُ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ قِصَّةَ ذِي اليَدَيْنِ كانَتْ في حالِ إباحَةِ الكَلامِ؛ أنَّ فِيها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَنَدَ إلى جِذْعٍ في المَسْجِدِ؛ وأنَّ سَرَعانَ النّاسِ خَرَجُوا فَقالُوا: "أقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟"؛ وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ (p-١٦١)أقْبَلَ عَلى القَوْمِ فَسَألَهُمْ؛ فَقالُوا: صَدَقَ؛ وبَعْضُ هَذا الكَلامِ كانَ عَمْدًا؛ وبَعْضُهُ كانَ لِغَيْرِ إصْلاحِ الصَّلاةِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّها كانَتْ في حالِ إباحَةِ الكَلامِ. وجُمْلَةُ الأمْرِ في ذَلِكَ: إنْ كانَ في حالِ إباحَةِ الكَلامِ بَدِيّا قَبْلَ حَظْرِهِ فَلا حُجَّةَ لِلْمُخالِفِ فِيهِ؛ وإنْ كانَ بَعْدَ حَظْرِ الكَلامِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أُبِيحَ بَعْدَ الحَظْرِ؛ ثُمَّ حُظِرَ؛ فَكانَ آخِرُ أمْرِهِ الحَظْرَ؛ ونُسِخَ بِهِ ما في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ.
وقَدْ بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: «"اَلتَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ؛ والتَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ"؛» كانَ بَعْدَ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ؛ إذْ لَوْ كانَ مُتَقَدِّمًا لَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ المَأْمُورِ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ؛ ولَكانَ القَوْمُ لا يُخالِفُونَهُ إلى الكَلامِ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَظْرِ الكَلامِ؛ والأمْرِ بِالتَّسْبِيحِ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالتَّسْبِيحِ ناسِخٌ لِحَظْرِ الكَلامِ؛ مُتَأخِّرٌ عَنْهُ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ما في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَلِفًا في اسْتِعْمالِهِ؛ فَوَجَبَ أنْ تَقْضِيَ عَلَيْهِ الأخْبارُ الوارِدَةُ في الحَظْرِ؛ لِأنَّ مِن أصْلِنا أنَّهُ مَتى ورَدَ خَبَرانِ؛ أحَدُهُما خاصٌّ؛ والآخَرُ عامٌّ؛ واتَّفَقُوا عَلى اسْتِعْمالِ العامِّ؛ واخْتَلَفُوا في اسْتِعْمالِ الخاصِّ؛ كانَ الخَبَرُ المُتَّفَقُ عَلى اسْتِعْمالِهِ قاضِيًا عَلى المُخْتَلَفِ فِيهِ؛ فَإنْ قِيلَ: قَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ حَدَثِ السّاهِي؛ والعامِدِ؛ فَهَلّا فَرَّقْتُمْ بَيْنَ سَهْوِ الكَلامِ؛ وعَمْدِهِ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا سُؤالٌ فارِغٌ لا يَسْتَحِقُّ الجَوابَ؛ إلّا أنْ يَتَبَيَّنَ وجْهُ الدَّلالَةِ في إحْدى المَسْألَتَيْنِ عَلى الأُخْرى؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ لا فارِقَ عِنْدَنا بَيْنَ حَدَثِ السّاهِي؛ والعامِدِ؛ في إفْسادِ الصَّلاةِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ مِن فِعْلِهِ؛ وإنَّما الفارِقُ بَيْنَ ما كانَ مِن فِعْلِهِ؛ أوْ سَبْقِهِ مِن غَيْرِ فِعْلِهِ؛ فَأمّا لَوْ سَها فَحَكَّ قُرْحَةً؛ وخَرَجَ مِنها دَمٌ؛ أوْ تَقَيَّأ؛ فَسَدَتْ صَلاتُهُ؛ وإنْ كانَ ساهِيًا؛ فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ سَلامِ السّاهِي؛ والعامِدِ؛ وهو كَلامٌ في الصَّلاةِ؛ فَكَذَلِكَ سائِرُ الكَلامِ فِيها؛ قِيلَ لَهُ: إنَّما السَّلامُ ضَرْبٌ مِنَ الذِّكْرِ؛ مَسْنُونٌ بِهِ الخُرُوجُ مِنَ الصَّلاةِ؛ فَإذا قَصَدَ إلَيْهِ عامِدًا فَسَدَتْ بِهِ الصَّلاةُ؛ كَما يَخْرُجُ بِهِ مِنها في آخِرِها؛ وإذا كانَ ساهِيًا فَهو ذِكْرٌ مِنَ الأذْكارِ؛ لا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ؛ وإنَّما كانَ ذِكْرًا لِأنَّهُ سَلامٌ عَلى المَلائِكَةِ؛ وعَلى مَن حَضَرَهُ مِنَ المُصَلِّينَ؛ وهو لَوْ قالَ: "اَلسَّلامُ عَلى مَلائِكَةِ اللَّهِ؛ وجِبْرِيلَ؛ ومِيكالَ"؛ أوْ: "عَلى نَبِيِّ اللَّهِ"؛ لا تَفْسُدُ صَلاتُهُ؛ فَلَمّا كانَ ضَرْبًا مِنَ الأذْكارِ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ؛ إلّا أنْ يَكُونَ عامِدًا لَهُ؛ ويَدُلُّ عَلى هَذا أنَّهُ مَوْجُودٌ مِثْلُهُ في الصَّلاةِ؛ لا يُفْسِدُها؛ وهو قَوْلُهُ: "اَلسَّلامُ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ؛ السَّلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ"؛ وإذا كانَ مِثْلُهُ قَدْ يُوجَدُ في الصَّلاةِ ذِكْرًا مَسْنُونًا؛ لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا لَها إذا وقَعَ مِنهُ ناسِيًا؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ صَلاتَنا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيها شَيْءٌ مِن كَلامِ النّاسِ»؛ وما أُبِيحَ في الصَّلاةِ مِنَ الكَلامِ فَلَيْسَ بِداخِلٍ فِيهِ؛ (p-١٦٢)فَلا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاةُ؛ ولَمْ يَتَناوَلْهُ الخَبَرُ؛ وإنَّما أفْسَدْنا بِهِ الصَّلاةَ إذا تَعَمَّدَ؛ لا مِن حَيْثُ كانَ مِن كَلامِ النّاسِ المَحْظُورِ في الصَّلاةِ؛ ولَكِنْ مِن جِهَةِ أنَّهُ مَسْنُونٌ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاةِ؛ فَإذا عَمَدَ لَهُ فَقَدْ قَصَدَ الوَجْهَ المَسْنُونَ لَهُ؛ فَقَطَعَ صَلاتَهُ؛ وأيْضًا لَمّا كانَ مِن شَرْطِ الصَّلاةِ الشَّرْعِيَّةِ تَرْكُ الكَلامِ فِيها؛ ومَتى تَعَمَّدَ الكَلامَ؛ لَمْ تَكُنْ صَلاةً عِنْدَ الجَمِيعِ؛ إذا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلى إصْلاحِها؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ وُجُودُ الكَلامِ فِيها مُخْرِجًا لَها مِن أنْ تَكُونَ صَلاةً شَرْعِيَّةً؛ كالطَّهارَةِ؛ لَمّا كانَتْ مِن شَرْطِها لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُها في تَرْكِ الطَّهارَةِ؛ سَهْوًا؛ أوْ عَمْدًا؛ وكَذَلِكَ تَرْكُ القِراءَةِ؛ والرُّكُوعِ؛ والسُّجُودِ؛ وسائِرِ فُرُوضِها؛ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُ السَّهْوِ والعَمْدِ فِيها؛ لِأنَّ الصَّلاةَ لَمّا كانَتِ اسْمًا شَرْعِيًّا؛ وكانَتْ صِحَّةُ هَذا الِاسْمِ لَها مُتَعَلِّقَةً بِشَرائِطِهِ؛ مَتى عُدِمَتْ زالَ الِاسْمُ؛ وكانَ مِن شُرُوطِها تَرْكُ الكَلامِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِيها يَسْلُبُها اسْمَ الصَّلاةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ ولَمْ يَكُنْ فاعِلًا لِلصَّلاةِ؛ فَلَمْ نُجِزْهُ؛ فَإنْ ألْزَمُونا عَلى ذَلِكَ الصِّيامَ؛ وما شُرِطَ فِيهِ مِن تَرْكِ الأكْلِ؛ وتَعَلُّقِ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِهِ؛ ثُمَّ اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ السَّهْوِ؛ والعَمْدِ؛ فَإنّا نَقُولُ: إنَّ القِياسَ فِيهِما سَواءٌ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: لَوْلا الأثَرُ لَوَجَبَ ألّا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الأكْلِ؛ سَهْوًا أوْ عَمْدًا؛ وإذا سَلَّمُوا القِياسَ فَقَدِ اسْتَمَرَّتِ العِلَّةُ وصَحَّتْ.
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالا أوْ رُكْبانًا﴾؛ اَلْآيَةَ؛ ذَكَرَ اللَّهُ (تَعالى) في أوَّلِ الخِطابِ الأمْرَ بِالصَّلاةِ؛ والمُحافَظَةَ عَلَيْها؛ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى لُزُومِ اسْتِيفاءِ فُرُوضِها؛ والقِيامِ بِحُدُودِها؛ لِاقْتِضاءِ ذِكْرِ المُحافَظَةِ لَها؛ وأكَّدَ الصَّلاةَ الوُسْطى بِإفْرادِها بِالذِّكْرِ؛ لِما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ مِن فائِدَةِ ذِكْرِ التَّأْكِيدِ لَها؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ فاشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلى لُزُومِ السُّكُوتِ؛ والخُشُوعِ فِيها؛ وتَرْكِ المَشْيِ والعَمَلِ فِيها؛ وذَلِكَ في حالِ الأمْنِ؛ والطُّمَأْنِينَةِ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حالَ الخَوْفِ؛ وأمَرَ بِفِعْلِها عَلى الأحْوالِ كُلِّها؛ ولَمْ يُرَخِّصْ في تَرْكِها لِأجْلِ الخَوْفِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالا أوْ رُكْبانًا﴾؛ قَوْلُهُ: "فَرِجالًا"؛ جَمْعُ راجِلٍ؛ لِأنَّكَ تَقُولُ: "راجِلٌ"؛ و"رِجالٌ"؛ كَـ "تاجِرٌ"؛ و"تِجارٌ"؛ و"صاحِبٌ"؛ و"صِحابٌ"؛ و"قائِمٌ"؛ و"قِيامٌ"؛ وأمَرَ بِفِعْلِها في حالِ الخَوْفِ راجِلًا؛ ولَمْ يَعْذُرْ في تَرْكِها؛ كَما أمَرَ المَرِيضَ بِفِعْلِها عَلى الحالِ الَّتِي يُمْكِنُهُ فِيها فِعْلُها؛ مِن قِيامٍ؛ وقُعُودٍ؛ وعَلى جَنْبٍ؛ وأمَرَهُ بِفِعْلِ الصَّلاةِ راكِبًا في حالِ الخَوْفِ؛ إباحَةً لِفِعْلِها بِالإيماءِ؛ لِأنَّ الرّاكِبَ إنَّما يُصَلِّي بِالإيماءِ؛ لا يَفْعَلُ فِيها قِيامًا؛ ولا رُكُوعًا؛ ولا سُجُودًا؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في صَلاةِ الخَوْفِ قالَ: " فَإنْ كانَ خَوْفًا أشَدَّ مِن ذَلِكَ صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا عَلى أقْدامِهِمْ؛ ورُكْبانًا مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ؛ وغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها "؛ قالَ نافِعٌ: (p-١٦٣)لا أرى ابْنَ عُمَرَ قالَ ذَلِكَ إلّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
والمَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هو الخَوْفُ دُونَ القِتالِ؛ فَإذا خافَ وقَدْ حَصَرَهُ العَدُوُّ جازَ لَهُ فِعْلُها كَذَلِكَ؛ ولَمّا أباحَ لَهُ فِعْلَها راكِبًا لِأجْلِ الخَوْفِ؛ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ مِنَ الرُّكْبانِ؛ وبَيْنَ مَن تَرَكَ اسْتِقْبالَها؛ تَضَمَّنَتِ الدَّلالَةَ عَلى جَوازِ فِعْلِها مِن غَيْرِ اسْتِقْبالِها؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) أمَرَ بِفِعْلِها عَلى كُلِّ حالٍ؛ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَن أمْكَنَهُ اسْتِقْبالُها؛ وبَيْنَ مَن لَمْ يُمْكِنْهُ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ مَن لا يُمْكِنُهُ اسْتِقْبالُها جائِزٌ لَهُ فِعْلُها عَلى الحالِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْها فِيها؛ ويَدُلُّ مِن جِهَةٍ أُخْرى عَلى ذَلِكَ؛ وهي أنَّ القِيامَ؛ والرُّكُوعَ؛ والسُّجُودَ؛ مِن فُرُوضِ الصَّلاةِ؛ وقَدْ أباحَ تَرْكَها حِينَ أمَرَهُ بِفِعْلِها راكِبًا؛ فَتَرْكُ القِبْلَةِ أحْرى بِالجَوازِ؛ إذا كانَ فِعْلُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ آكَدَ مِنَ القِبْلَةِ؛ فَإذا جازَ تَرْكُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ؛ فَتَرْكُ القِبْلَةِ أحْرى بِالجَوازِ.
فَإنْ قِيلَ - عَلى ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمْ يُبِحْ تَرْكَ الصَّلاةِ في حالِ الخَوْفِ؛ وأمَرَ بِها عَلى الحالِ الَّتِي يُمْكِنُ فِعْلُها -: قَدْ «كانَ النَّبِيُّ ﷺ تَرَكَ أرْبَعَ صَلَواتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ حَتّى كانَ هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ؛ ثُمَّ قَضاهُنَّ عَلى التَّرْتِيبِ»؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ تَرْكِ الصَّلاةِ في حالِ الخَوْفِ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الأمْرُ بِالصَّلاةِ في حالِ الخَوْفِ؛ بَعْدَ تَقْدِيمِ تَأْكِيدِ فُرُوضِها؛ لِأنَّهُ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ ثُمَّ زادَها تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ فَأمَرَ فِيها بِالدَّوامِ عَلى الخُشُوعِ؛ والسُّكُونِ؛ والقِيامِ؛ وحَظَرَ فِيها التَّنَقُّلَ مِن حالٍ إلّا إلى حالٍ هي الصَّلاةُ مِنَ الرُّكُوعِ؛ والسُّجُودِ؛ ولَوِ اقْتَصَرَ عَلى ذَلِكَ لَكانَ جائِزًا أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ شَرْطَ جَوازِ الصَّلاةِ فِعْلُها عَلى هَذِهِ الأوْصافِ؛ فَبَيَّنَ حُكْمَ هَذِهِ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ؛ في حالِ الخَوْفِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالا أوْ رُكْبانًا﴾؛ فَأمَرَ بِفِعْلِها في هَذِهِ الحالِ؛ ولَمْ يَعْذُرْ أحَدًا مِنَ المُكَلَّفِينَ في تَرْكِها؛ ولَمْ يَذْكُرْ حالَ القِتالِ؛ إذْ لَيْسَ جَمِيعُ أحْوالِ الخَوْفِ هي أحْوالَ القِتالِ؛ لِأنَّ حُضُورَ العَدُوِّ يُوجِبُ الخَوْفَ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ قِتالٌ قائِمٌ؛ فَإنَّما أمَرَ بِفِعْلِها في هَذِهِ الحالِ؛ ولَمْ يَذْكُرْ حالَ القِتالِ؛ والنَّبِيُّ ﷺ إنَّما لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الخَنْدَقِ لِأنَّهُ كانَ مَشْغُولًا بِالقِتالِ؛ والِاشْتِغالُ بِالقِتالِ يَمْنَعُ الصَّلاةَ؛ ولِذَلِكَ قالَ ﷺ: «"مَلَأ اللَّهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا كَما شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى "؛» وكَذَلِكَ يَقُولُ أصْحابُنا: إنَّ الِاشْتِغالَ بِالقِتالِ يُفْسِدُها؛ فَإنْ قِيلَ: ما أنْكَرْتُ مِن أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ إنَّما لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الخَنْدَقِ؛ لِأنَّهُ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ صَلاةُ الخَوْفِ؛ قِيلَ لَهُ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ؛ والواقِدِيُّ جَمِيعًا؛ أنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ كانَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ؛ وقَدْ صَلّى النَّبِيُّ (p-١٦٤)ﷺ فِيها صَلاةَ الخَوْفِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ إنَّما كانَ لِلْقِتالِ؛ لِأنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّتَها؛ ويُنافِيها.
ويَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن يَقُولُ: إنَّ الخائِفَ تَجُوزُ لَهُ الصَّلاةُ وهو ماشٍ؛ وإنْ كانَ طالِبًا؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالا أوْ رُكْبانًا﴾؛ ولَيْسَ هَذا كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ ذِكْرُ المَشْيِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فالطّالِبُ غَيْرُ خائِفٍ؛ لِأنَّهُ إنِ انْصَرَفَ لَمْ يَخَفْ؛ واللَّهُ – سُبْحانَهُ - إنَّما أباحَ ذَلِكَ لِلْخائِفِ؛ وإذا كانَ مَطْلُوبًا فَجائِزٌ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ راكِبًا؛ وماشِيًا؛ إذا خافَ.
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛ لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ (تَعالى) حالَ الخَوْفِ؛ وأمَرَ بِالصَّلاةِ عَلى الوَجْهِ المُمْكِنِ؛ مِن راجِلٍ؛ وراكِبٍ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حالَ الأمْنِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ في حالِ الخَوْفِ؛ وهو الصَّلاةُ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ إيجابَ الذِّكْرِ في الصَّلاةِ؛ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا﴾ [النساء: ١٠٣]؛ ونَظِيرُهُ أيْضًا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى﴾ [الأعلى: ١٥]؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨]؛ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ المُخاطَبَةُ مِن عِنْدِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾؛ اَلْأمْرَ بِفِعْلِ الصَّلاةِ؛ واسْتِيفاءِ فُرُوضِها؛ وشُرُوطِها؛ وحِفْظِ حُدُودِها.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾؛ تَضَمَّنَ إيجابَ القِيامِ فِيها؛ ولَمّا كانَ القُنُوتُ اسْمًا يَقَعُ عَلى الطّاعَةِ اقْتَضى أنْ يَكُونَ جَمِيعُ أفْعالِ الصَّلاةِ طاعَةً؛ وألّا يَتَخَلَّلَها غَيْرُها؛ لِأنَّ القُنُوتَ هو الدَّوامُ عَلى الشَّيْءِ؛ فَأفادَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الكَلامِ فِيها؛ وعَنِ المَشْيِ؛ وعَنْ الِاضْطِجاعِ؛ وعَنِ الأكْلِ؛ والشُّرْبِ؛ وكُلِّ فِعْلٍ لَيْسَ بِطاعَةٍ؛ لِما تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنَ الأمْرِ بِالدَّوامِ عَلى الطّاعاتِ؛ الَّتِي هي مِن أفْعالِ الصَّلاةِ؛ والنَّهْيِ عَنْ قَطْعِها بِالِاشْتِغالِ بِغَيْرِها؛ لِما فِيهِ مِن تَرْكِ القُنُوتِ؛ الَّذِي هو الدَّوامُ عَلَيْها؛ واقْتَضى أيْضًا الدَّوامَ عَلى الخُشُوعِ؛ والسُّكُونِ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ يَنْطَوِي عَلَيْهِ؛ ويَقْتَضِيهِ؛ فانْتَظَمَ هَذا اللَّفْظُ - مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ - جَمِيعَ أفْعالِ الصَّلاةِ؛ وأذْكارِها؛ ومَفْرُوضِها؛ ومَسْنُونِها؛ واقْتَضى النَّهْيَ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ لَيْسَ بِطاعَةٍ فِيها؛ واللَّهُ المُوَفِّقُ والمُعِينُ.
{"ayahs_start":238,"ayahs":["حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُوا۟ لِلَّهِ قَـٰنِتِینَ","فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانࣰاۖ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ"],"ayah":"فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانࣰاۖ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق