الباحث القرآني

﴿فَإنْ خِفْتُمْ﴾ مِن عَدُوٍّ أوْ غَيْرِهِ ﴿فَرِجالا أوْ رُكْبانًا﴾ حالانِ مِنَ الضَّمِيرِ في جَوابِ الشَّرْطِ؛ أيْ: فَصَلُّوا راجِلِينَ أوْ راكِبِينَ، والأوَّلُ جَمْعُ راجِلٍ، وهو الماشِي عَلى رِجْلَيْهِ، ورَجُلٌ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ أوْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْناهُ، وقِيلَ: الرّاجِلُ الكائِنُ عَلى رِجْلَيْهِ واقِفًا أوْ ماشِيًا، واسْتَدَلَّ الشّافِعِيُّ _ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ _ بِظاهِرِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ الصَّلاةِ حالَ المُسايَفَةِ (p-158)وإنْ لَمْ يَكُنِ الوُقُوفُ، وذَهَبَ إمامُنا إلى أنَّ المَشْيَ وكَذا القِتالَ يُبْطِلُها، وإذا أدّى الأمْرُ إلى ذَلِكَ؛ أخَّرَها ثُمَّ صَلّاها آمِنًا، فَقَدْ أخْرَجَ الشّافِعِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ _ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ _ قالَ: «حُبِسْنا يَوْمَ الخَنْدَقِ حَتّى ذَهَبَ هَوِيُّ مِنَ اللَّيْلِ حَتّى كُفِينا القِتالُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ﴾ فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ _ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ _ بِلالًا فَأمَرَ فَأقامَ الظُّهْرَ فَصَلّاها كَما كانَ يُصَلِّي، ثُمَّ أقامَ العَصْرَ فَصَلّاها كَذَلِكَ، ثُمَّ أقامَ المَغْرِبَ فَصَلّاها كَذَلِكَ، ثُمَّ أقامَ العِشاءَ فَصَلّاها كَذَلِكَ، وفي لَفْظٍ: فَصَلّى كُلَّ صَلاةٍ ما كانَ يُصَلِّيها في وقْتِها،» وقَدْ كانَتْ صَلاةُ الخَوْفِ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأنَّها نَزَلَتْ في ذاتِ الرِّقاعِ وهي قَبْلَ الخَنْدَقِ، كَما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ مِن أهْلِ السِّيَرِ، وأُجِيبُ بِمَنعِ أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ مُطْلَقًا ولَوْ شَدِيدًا شُرِّعَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ؛ لِيُسْتَدَلَّ بِما وقَعَ فِيهِ مِنَ التَّأْخِيرِ، ويُجْعَلَ ناسِخًا لِما في الآيَةِ كَما قِيلَ، والمَشْرُوعُ في ذاتِ الرِّقاعِ قَبْلَ صَلاةِ الخَوْفِ غَيْرِ الشَّدِيدِ، وهي الَّتِي نَزَلَتْ فِيها ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ لا صَلاةَ شِدَّةِ الخَوْفِ المُبَيَّنَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ، والنِّزاعُ إنَّما هو فِيها، وهي لَمْ تُشَرَّعْ قَبْلَ الخَنْدَقِ بَلْ بَعْدَهُ وفِيهِ كانَ الخَوْفُ شَدِيدًا فَلا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ، وقَدْ أجابَ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ بِأنّا سَلَّمْنا جَمِيعَ ذَلِكَ إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا في جَوازِ الصَّلاةِ مَعَ المَشْيِ أوِ المُسايَفَةِ، إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الرّاجِلُ فِيها بِمَعْنى: الواقِفِ عَلى رِجْلَيْهِ، لا سِيَّما وقَدْ قُوبِلَ بِالرّاكِبِ، وقَدْ عُلِمَ مِن خارِجٍ وُجُوبُ عَدَمِ الإخْلالِ في الصَّلاةِ، وهَذا إخْلالٌ كُلِّيٌّ لا يُحْتَمَلُ فِيها؛ لِإخْراجِهِ لَها عَنْ ماهِيَّتِها بِالكُلِّيَّةِ، وأنْتَ تَعْلَمُ إذا أنْصَفْتَ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ صَرِيحَةٌ مَعَ الشّافِعِيَّةِ؛ لَسَبْقِ وقُومُوا والدِّينُ يُسْرٌ لا عُسْرَ، والمَقاماتُ مُخْتَلِفَةٌ، والمَيْسُورُ لا يَسْقُطُ بِالمَعْسُورِ، وما لا يُدْرَكُ لا يُتْرَكُ، فَلْيُفْهَمْ، وقُرِئَ: رُجالًا، بِضَمِّ الرّاءِ مَعَ التَّخْفِيفِ، وبِضَمِّها مَعَ التَّشْدِيدِ، وقُرِئَ: فَرَجُلًا أيْضًا، ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ وزالَ خَوْفُكُمْ، وعَنْ مُجاهِدٍ: إذا خَرَجْتُمْ مِن دارِ السَّفَرِ إلى دارِ الإقامَةِ، ولَعَلَّهُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أيْ: فَصَلُّوا صَلاةَ الأمْنِ، كَما قالَ ابْنُ زَيْدٍ وعَبَّرَ عَنْها بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ مُعْظَمُ أرْكانِها، وقِيلَ: المُرادُ اشْكُرُوهُ عَلى الأمْنِ، وبَعْضُهم أوْجَبَ الإعادَةَ، وفَسَّرَ هَذا بِأعِيدُوا الصَّلاةَ، وهو مِنَ البُعْدِ بِمَكانٍ، ﴿كَما عَلَّمَكُمْ﴾ أيْ: ذِكْرًا مِثْلَ ما عَلَّمَكم مِنَ الشَّرائِعِ، وكَيْفِيَّةِ الصَّلاةِ حالَتَيِ الأمْنِ والخَوْفِ، أوْ شُكْرًا يُوازِي ذَلِكَ، و( ما ) مَصْدَرِيَّةٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةٌ وفِيهِ بُعْدٌ ﴿ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ مَفْعُولُ ( عَلَّمَكم )، وزادَ ( تَكُونُوا )؛ لِيُفِيدَ النَّظْمَ، ووَقَعَ في مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُونِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ فَقِيلَ: الفائِدَةُ في ذِكْرِ المَفْعُولِ فِيهِ، وإنْ كانَ الإنْسانُ لا يَعْلَمُ إلّا ما لَمْ يَعْلَمِ، التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ حالَةِ الجَهْلِ الَّتِي انْتَقَلَ عَنْها، فَإنَّهُ أوْضَحُ في الِامْتِنانِ، وفي إيرادِ الشَّرْطِيَّةِ الأُولى؛ بِأنَّ المُفِيدَ لِمَشْكُوكُيَّةِ وُقُوعِ الخَوْفِ ونُدْرَتِهِ، وتَصْدِيرِ الثّانِيَةِ بِـ ( إذا ) المُنْبِئَةُ عَنْ تَحَقُّقِ وُقُوعِ الأمْنِ وكَثْرَتِهِ، مَعَ الإيجازِ في جَوابِ الأُولى، والإطْنابِ في جَوابِ الثّانِيَةِ المَبْنِيَّيْنِ عَلى تَنْزِيلِ مَقامِ وُقُوعِ المَأْمُورِ بِهِ فِيهِما مَنزِلَةَ مَقامِ وُقُوعِ الأمْرِ تَنْزِيلًا مُسْتَدْعِيًا لِإجْراءِ مُقْتَضى المَقامِ الأوَّلِ في كُلٍّ مِنهُما مَجْرى مُقْتَضى المَقامِ الثّانِي؛ مِنَ الجَزالَةِ والِاعْتِبارِ، كَما قِيلَ، ما فِيهِ عِبْرَةٌ لِذَوِي الأبْصارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب