الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝﴾ [البقرة: ٢٣٩]. ترَكَ النبيُّ ﷺ صلاةَ العصرِ يومَ الخَنْدَقِ لمّا شغَلَهُ المشرِكونَ عنها، وذلك في شَوّالٍ مِن السَّنَةِ الخامسةِ منها، كما قاله ابنُ إسحاقَ. وقيلَ: في ذي القَعْدةِ. وكانت صلاةُ الخوفِ لم تُشْرَعْ بَعْدُ، ولذا ترَكَ النبيُّ ﷺ صلاةَ العصرِ، ولم يصلِّها حتّى خرَجَ وقتُها، وظاهرُ الحالِ: أنّه يَعلَمُ ولم يَنْسَ، ولكنَّه شُغِلَ بالمشركينَ وقِتالِهم، فأنزَلَ اللَّهُ عليه هذه الآيةَ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾، والرِّجالُ: جمعُ راجِلٍ، أيْ: ماشٍ على قدَمَيْهِ، أيْ: لا تترُكُوها على كلِّ حالٍ في وقتِها، فمَن لم يستَطِعْ أداءَها بطُمَأْنينةٍ جماعةً أو فُرادى، فليؤدِّها راجِلًا ماشيًا، أو راكبًا على دابَّةٍ، أو سيّارةٍ، أو طائرةٍ، أو سفينةٍ. مراتبُ العجزِ عن أداءِ الصلاة عند العدُوِّ: والواجبُ التدرُّجُ في ذلك على مراتِبَ: الأُولى: مَنِ استطاعَ أداءَها جماعةً أو جماعتَيْنِ بإمامٍ واحدٍ أو إمامَيْنِ، كما في صلاةِ الخوفِ، وجَبَ عليهِ أن يصلِّيَها كذلك، وألاَّ يَدَعَ الجماعةَ لِعِلَّةِ الغَزْوِ فقَطْ، ولا يجازِفَ ويغامِرَ فيصلِّيَ جماعةً في حالِ خوفٍ وخطرٍ، فيُبِيدَهم العدوُّ في موضعٍ واحدٍ. الـثـانيةُ: إذا شَقَّتِ الصلاةُ جماعةً أنْ يصلِّيَها، وهو يتمكَّنُ مِن أدائِها تامَّةً منفرِدًا بقيامٍ وركوعٍ وسجودٍ وخشوعٍ، وجَبَ عليه أنْ يؤدِّيَها بتلك الحالِ، ولا يجوزُ أداؤُها ماشيًا أو راكبًا بلا حاجةٍ. الثـالـثـةُ: عندَ العجزِ عن أدائِها بهيئتِها قيامًا وركوعًا وسجودًا، فيصلِّيها راكبًا وماشيًا، ولا حرَجَ، للآيةِ، وبها استدل أحمد بن حنبل على ذلك[[مسائل عبد الله (١٣٢)، ومسائل ابن هاني (١٠٩).]]. وكان أحمد يجعل حكم الأسير كذلك، فإن خاف من أداء الصلاة وهو يسار به أو يمنع من الصلاة، أنه يومئ إيماء الظاهر الآية[[مسائل صالح (٢٦٦).]]. استقبالُ القبلةِ في صلاةِ الخوفِ: ومَن تعذَّر عليه استقبالُ القِبْلةِ، واحتاج لاستقبالِ العَدُوِّ، أو حِراسةِ ثَغْرٍ يَخشى أن يُفاجَأَ معه، سقَطَ عنه وجوبُ استقبالِ القِبْلةِ، وبهذا قال عامَّةُ السلفِ وأكثرُ الخلفِ، وقد روى نافعٌ، أنّ ابنَ عُمَرَ كان إذا سُئِلَ عن صلاةِ الخوفِ، وصَفَها، ثمَّ قال: «فَإنْ كانَ خَوْفٌ هُوَ أشَدَّ مِن ذلك، صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا عَلى أقْدامِهِمْ أوْ رُكْبانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها»، قال نافعٌ: لا أرى ابنَ عُمرَ ذكَرَ ذلك إلاَّ عن رسولِ اللهِ ﷺ، رواهُ مالكٌ والبخاريُّ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٣) (١/١٨٤)، والبخاري (٤٥٣٥) (٦/٣١).]]. ويُومِئُ الراجِلُ والراكِبُ إيماءً حيثُ كان وجهُهُ، ويكبِّرُ بلسانِهِ مستحضِرًا بقَلْبِهِ مواضِعَ الصلاةِ. ويُنسَبُ لأبي حنيفةَ القولُ بعَدَمِ الترخُّصِ بتركِ القبلةِ بحالٍ، وهو ضعيفٌ. ورُوِيَ عنه تركُ الصلاةِ وقتَ المواجَهةِ بالمسايَفةِ وشبهِها، فلا تصلّى عندَهُ بحالٍ إلاَّ عندَ الطمأنينةِ، وهذا مخالِفٌ للدليلِ. وقد يتعذَّرُ على المجاهِدِ أداءُ الصلاةِ ولو ماشيًا أو راكبًا في وقتِ المواجَهةِ التامَّةِ طولَ وقتِ الصلاةِ، فلا يجِدُ قلبًا يجمَعُ معَهُ عَدَّ الركعاتِ وحضورَ النفسِ لتمييزِ مواضعِها، فهذه حالةٌ خاصَّةٌ لها حُكْمُها، ولصاحبِها عُذْرُه. وصحَّ عنِ النبيِّ ﷺ: أنّ صلاةَ الخوفِ ركعةٌ، كما ثبَتَ في «الصحيحِ»، عن مجاهِدٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قال: «فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لسانِ نَبِيِّكُمْ ﷺ في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً»[[أخرجه مسلم (٦٨٧) (١/٤٧٩).]]. ورُوِيَ هذا عن زيدِ بنِ ثابتٍ وجابرٍ، وقال به إسحاقُ. وقال قتادةُ والحسَنُ: «تُجزِئُ ركعةٌ، إنْ شَقَّتْ عليه الاثنَتانِ». وقال الشافعيُّ ومالكٌ والجمهورُ: صلاةُ الخوفِ كصلاةِ الأمنِ في عددِ الركعاتِ، إن كانت في الحضَرِ، وجَبَ أربَعُ ركعاتٍ، وإن كانت في السَّفَرِ، وجَبَ ركعتانِ، وحَمَلُوا ما جاء في حديثِ ابنِ عبّاسٍ على صلاةِ الخوفِ جَماعةً، يصلُّونَ مع الإمامِ ركعةً، ويَقْضُونَ الأُخرى. ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ: أنّ صلاةَ الراجِلِ والراكِبِ رَكْعَتانِ في كلِّ صلاةٍ، ولو كانتِ المغرِبَ أو رُباعِيَّةً كالعِشاءِ والظُّهْرِ والعصرِ، قال به الزُّهْريُّ والنَّخَعيُّ والرَّبيعُ. وصلاةُ الخوفِ جماعةً لها صِفَتُها، وتفصيلُها يأتي في سورةِ النساءِ، بإذنِ الله. وقولُهُ تعالى: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝﴾ بيانٌ لوجوبِ أداءِ الصلاةِ حالَ الأمنِ، كما بيَّنَها اللهُ لنبيِّه ﷺ. وفي الآيةِ: دلالةٌ على جَوازِ صلاةِ الخوفِ بكلِّ ما يتحقَّقُ معه وصفُ الخوفِ الذي يَعجِزُ معه الإنسانُ عن أداءِ الصلاةِ كما شُرِعَتْ ولو مِن غيرِ عَدُوٍّ، كالخوفِ مِن سِباعٍ في فَلاةٍ تُطارِدُهُ، ونحوِ ذلك. وإيجابُ الصلاةِ حالَ الخوفِ، والتشديدُ فيها ولو راجلًا أو راكبًا ـ دليلٌ على عِظَمِها في حالِ الأمنِ والإقامةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب