الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ إلَهًا واحِدًا ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَقالُوا كُونُوا هُودًا أو نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ هَذا الخِطابُ لِلْيَهُودِ والنَصارى الَّذِينَ انْتَحَلُوا الأنْبِياءَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، ونَسَبُوهم إلى اليَهُودِيَّةِ والنَصْرانِيَّةِ، فَرَدَّ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ وكَذَّبَهُمْ، وأعْلَمَهم أنَّهم كانُوا عَلى الحَنِيفِيَّةِ والإسْلامِ، وقالَ لَهم -عَلى جِهَةِ التَقْرِيعِ والتَوْبِيخِ-: أشْهَدْتُمْ يَعْقُوبَ وعَلِمْتُمْ بِما أوصى فَتَدَّعُونَ عن عِلْمٍ؟ أيْ: لَمْ تَشْهَدُوا، بَلْ أنْتُمْ تَفْتَرُونَ. و"أمْ" تَكُونُ بِمَعْنى ألِفٍ (p-٣٥٧)الِاسْتِفْهامِ في صَدْرِ الكَلامِ، لُغَةٌ يَمانِيَةٌ. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ "أمْ" يُسْتَفْهَمُ بِها في وسَطِ كَلامٍ قَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهُ، وهَذا مِنهُ، ومِنهُ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ [يونس: ٣٨] وقالَ قَوْمٌ: "أمْ" بِمَعْنى بَلْ والتَقْدِيرُ: بَلْ شَهِدَ أسْلافُكم يَعْقُوبَ، وعَلِمْتُمْ مِنهم ما أوصى بِهِ ولَكِنَّكم كَفَرْتُمْ جَحْدًا، ونَسَبْتُمُوهم إلى غَيْرِ الحَنِيفِيَّةِ عِنادًا. والأظْهَرُ أنَّها الَّتِي بِمَعْنى بَلْ وألِفِ الِاسْتِفْهامِ مَعًا. و"شُهَداءَ": جَمْعُ شاهِدٍ أيْ حاضِرٍ. ومَعْنى الآيَةِ: حَضَرَ يَعْقُوبُ مُقَدِّماتِ المَوْتِ، وإلّا فَلَوْ حَضَرَ المَوْتُ لَما أمْكَنَ أنْ يَقُولَ شَيْئًا. وقَدَّمَ "يَعْقُوبَ" عَلى جِهَةِ تَقْدِيمِ الأهَمِّ، والعامِلُ في "إذْ" "شُهَداءَ". و"إذْ قالَ" بَدَلٌ مِن "إذِ" الأُولى، وعَبَّرَ عَنِ المَعْبُودِ بِـ "ما" تَجْرِبَةً لَهُمْ، ولَمْ يَقُلْ: "مِن" لِئَلّا يَطْرُقَ لَهُمُ الِاهْتِداءَ، وإنَّما أرادَ أنْ يَخْتَبِرَهُمْ، وأيْضًا فالمَعْبُوداتُ المُتَعارَفَةُ مِن دُونِ اللهِ تَعالى جَماداتٌ كالأوثانِ والنارِ والشَمْسِ والحِجارَةِ، فاسْتَفْهَمَهم عَمّا يَعْبُدُونَ مِن هَذِهِ، و"مِن بَعْدِي" أيْ مِن بَعْدِ مَوْتِي. وحُكِيَ أنَّ يَعْقُوبَ حِينَ خُيِّرَ كَما يُخَيَّرُ الأنْبِياءُ اخْتارَ المَوْتَ وقالَ: أمْهِلُونِي حَتّى أُوصِيَ بَنِيَّ وأهْلِي، فَجَمَعَهم وقالَ لَهم هَذا فاهْتَدَوْا، و﴿قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ﴾ الآيَةُ، فَأرَوْهُ ثُبُوتَهم عَلى الدِينِ ومَعْرِفَتَهم بِاللهِ تَعالى. ودَخَلَ إسْماعِيلُ في الآباءِ لِأنَّهُ عَمَّ، وقَدْ «قالَ النَبِيُّ ﷺ في العَبّاسِ: "رُدُّوا عَلِيَّ أُبَيَّ، إنِّي (p-٣٥٨)أخافَ أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ ما فَعَلَتْ ثَقِيفُ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وقالَ عنهُ في مَوْطِنٍ آخَرَ: هَذا بَقِيَّةُ آبائِي» ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَلامُ: «أنا ابْنُ الذَبِيحَيْنِ»، عَلى القَوْلِ الشَهِيرِ في أنَّ إسْحاقَ هو الذَبِيحُ. وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ يَعْمُرَ، والجَحْدَرِيُّ، وأبُو رَجاءٍ: "وَإلَهُ أبِيكَ" واخْتَلَفَ بَعْدُ فَقِيلَ: هو اسْمٌ مُفْرَدٌ أرادُوا بِهِ إبْراهِيمَ وحْدَهُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو جَمْعُ سَلامَةٍ، وحَكى سِيبَوَيْهِ: أبٌ وأبَوْنَ وأبَيْنَ، قالَ الشاعِرُ: ؎ فَلَمّا تَبَيَّنَّ أصْواتَنا بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنا بِالأبْيَنا وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُقالُ: قَدِمَ إسْماعِيلُ لِأنَّهُ أسَنُّ مِن إسْحاقَ، و"إلَهُ" بَدَلٌ مِن "إلَهَكَ"، وكَرَّرَهُ لِفائِدَةِ الصِفَةِ بِالوَحْدانِيَّةِ. وقِيلَ: "إلهًا" حالٌ، وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأنَّ الغَرَضَ إثْباتُ حالِ الوَحْدانِيَّةِ، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، أيْ كَذَلِكَ كُنّا نَحْنُ ونَكُونُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، والعامِلُ "نَعْبُدُ"، والتَأْوِيلُ الأوَّلُ أمْدَحُ. (p-٣٥٩)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾، في مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لِأُمَّةٍ، ومَعْناهُ: ماتَتْ وصارَتْ إلى الخَلاءِ مِنَ الأرْضِ، ويَعْنِي بِالأُمَّةِ الأنْبِياءُ المَذْكُورُونَ، والمُخاطَبُ في هَذِهِ الآيَةِ اليَهُودُ والنَصارى، أيْ أنْتُمْ أيُّها الناحِلُوهُمُ اليَهُودِيَّةَ والنَصْرانِيَّةَ، ذَلِكَ لا يَنْفَعُكُمْ، لِأنَّ كُلَّ نَفْسٍ ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، فَخَيْرُهم لا يَنْفَعُكم إنْ كَسَبْتُمْ شَرًّا. وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى الجَبْرِيَّةِ القائِلِينَ: لا اكْتِسابَ لِلْعَبْدِ، ﴿وَلا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فَتَنْحَلُوهم دِينًا. وقَوْلُهُمْ: ﴿كُونُوا هُودًا أو نَصارى تَهْتَدُوا﴾، نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلا مَن كانَ هُودًا أو نَصارى﴾ [البقرة: ١١١]. ونُصِبَ "مِلَّةَ" بِإضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ، وقِيلَ: نُصِبَتْ عَلى الإغْراءِ، وقَرَأ الأعْرَجُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "بَلْ مِلَّةُ" بِالرَفْعِ، والتَقْدِيرُ: بَلِ الهُدى مِلَّةٌ، و"حَنِيفًا" حالٌ، وقِيلَ: نُصِبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ لِأنَّ الحالَ تَعَلَّقَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ. والحَنَفُ: المَيْلُ، ومِنهُ الأحْنَفُ لِمَن مالَتْ إحْدى قَدَمَيْهِ إلى الأُخْرى. والحَنِيفُ في الدِينِ: الَّذِي مالَ عَنِ الأدْيانِ المَكْرُوهَةِ إلى الحَقِّ، وقالَ قَوْمٌ: الحَنَفُ: الِاسْتِقامَةُ، وسُمِّيَ المُعْوَجُّ القَدَمَيْنِ أحْنَفُ تَفاؤُلًا كَما قِيلَ: سَلِيمٌ ومَفازَةٌ. ويَجِيءُ الحَنِيفُ في الدِينِ المُسْتَقِيمِ عَلى جَمِيعِ طاعاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَدْ خَصَّصَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، فَقالَ قَوْمٌ: الحَنِيفُ الحاجُّ، وقالَ آخَرُونَ: المُخْتَتِنُ، وهَذِهِ أجْزاءُ الحَنَفِ. ونَفى عنهُ الإشْراكَ فانْتَفَتْ (p-٣٦٠)عِبادَةُ الأوثانِ واليَهُودِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، والنَصْرانِيَّةُ لِقَوْلِهِمُ: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب