الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيكُما ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وعَلى الناسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ (p-٨٨)رُوِيَ عَنِ السُدِّيِّ وابْنِ إسْحاقَ أنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا عَلِمَ شِدَّةَ تَعْبِيرِ مَنامَةِ رائِي الخُبْزِ وأنَّها تُؤْذِنُ بِقَتْلِهِ ذَهَبَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَدِيثِ عَسى ألّا يُطالِباهُ بِالتَعْبِيرِ، فَقالَ لَهُما -مُعْلِمًا بِعَظِيمِ عِلْمِهِ لِلتَّعْبِيرِ-: إنَّهُ لا يَجِيئُكُما طَعامٌ في نَوْمِكُما تَرَيانِ أنَّكُما رُزِقْتُماهُ إلّا أعْلَمْتُكُما بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الطَعامِ، أيْ: بِما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ في اليَقَظَةِ قَبْلَ أنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ التَأْوِيلُ الَّذِي أُعْلِمُكُما بِهِ، فَرُوِيَ أنَّهُما قالا: ومِن أيْنَ لَكَ ما تَدَّعِيهِ مِنَ العِلْمِ وأنْتَ لَسْتَ بِكاهِنٍ ولا مُنَجِّمٍ؟ فَقالَ لَهُما: ﴿ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾، ثُمَّ نَهَضَ يُنْحِي لَهُما عَلى الكُفْرِ ويُحَسِّنُ لَهُما الإيمانَ بِاللهِ، فَرُوِيَ أنَّهُ قَصَدَ في ذَلِكَ وجْهَيْنِ: أحَدِهِما: تَنْسِيَتُهُما أمْرَ تَعْبِيرِ ما سَألا عنهُ؛ إذْ في ذَلِكَ النِذارَةُ بِقَتْلِ أحَدِهِما، والآخَرِ: الطَماعِيَةُ في إيمانِهِما؛ لِيَأْخُذَ المَقْتُولُ بِحَظِّهِ مِنَ الإيمانِ وتَسْلُمُ لَهُ آخِرَتُهُ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجَ: أرادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ في اليَقَظَةِ تُرْزَقانِهِ إلّا نَبَّأْتُكُما مِنهُ بِعِلْمٍ، وبِما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُكُما قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما ذَلِكَ المَآلُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَعَلى هَذا إنَّما أعْلَمَهم بِأنَّهُ يَعْلَمُ مُغَيَّباتٍ لا تَعَلُّقَ لَها بِرُؤْيا، وقَصَدَ بِذَلِكَ أحَدَ الوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، وهَذا عَلى ما رُوِيَ مِن أنَّهُ نُبِّئَ في السِجْنِ، فَإخْبارُهُ كَإخْبارِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجَ: كانَتْ عادَةَ ذَلِكَ المَلِكِ إذا أرادَ قَتْلَ أحَدٍ مِمَّنْ في سِجْنِهِ بَعَثَ إلَيْهِ طَعامًا يَجْعَلُهُ عَلامَةً لِقَتْلِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ لا يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ ولا يَنْهَضُ بِهِ إسْنادُ. وقَوْلُهُ: "تَرَكْتُ" مَعَ أنَّهُ لَمْ يَتَشَبَّثْ بِها -جائِزٌ صَحِيحٌ، وذَلِكَ أنَّهُ عَبَّرَ عن تَجَنُّبِهِ مِن أوَّلَ بِالتَرْكِ، وساقَ لَفْظَةَ التَرْكِ اسْتِجْلابًا لَهُما عَسى أنْ يَتَوَكَّأ التَرْكُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي هو بَعْدَ الأخْذِ في الشَيْءِ، والقَوْمُ المَتْرُوكُ مِلَّتُهُمِ: المَلِكُ وأتْباعَهُ، وكَرَّرَ قَوْلَهُ: "وَهُمْ" عَلى جِهَةِ التَأْكِيدِ، وحَسُنَ ذَلِكَ لِلْفاصِلَةِ الَّتِي بَيْنَهُما. وقَوْلُهُ: "واتَّبَعْتُ" الآيَةُ. تَمادٍ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ في دُعائِهِما إلى المِلَّةِ الحَنِيفَةِ، وزَوالٌ عن مُواجَهَةِ (مجلث) لِما تَقْتَضِيهِ رُؤْياهُ. وقَرَأ "ءاباءِي?" بِالإسْكانِ في (p-٨٩)الياءِ، الأشْهَبُ العَقِيلِيُّ وأبُو عَمْرٍو، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "آبائِيَ" بِياءٍ مَفْتُوحَةٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: هُما حَسَنَتانِ فاقْرَأْ كَيْفَ شِئْتَ، وأمّا طَرْحُ الهَمْزَةِ فَلا يَجُوزُ، ولَكِنَّ تَخْفِيفَها جَيِّدٌ، فَتَصِيرُ ياءً مَكْسُورَةً بَعْدَ ياءٍ ساكِنَةٍ أو مَفْتُوحَةٍ. وقَوْلُهُ: "ذَلِكَ" إشارَةٌ إلى مِلَّتِهِمْ وشَرْعِهِمْ، وكَوْنِ ذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهِمْ بَيِّنٌ؛ إذْ خَصَّهُمُ اللهُ تَعالى بِذَلِكَ، وجَعَلَهم أنْبِياءَ، وكَوْنُهُ فَضْلًا عَلى الناسِ هو إذْ يَدْعَوْنَ بِهِ إلى الدِينِ، ويُساقُونَ إلى النَجاةِ مِن عَذابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: " مِن شَيْءٍ " هي "مِنِ" الزائِدَةِ المُؤَكِّدَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الجَحْدِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا يَشْكُرُونَ﴾ يُرِيدُ الشُكْرَ التامَّ الَّذِي فِيهِ الإيمانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب