الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وعَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ . وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ بِجَوابٍ لِما سَألا عَنْهُ فَلا بُدَّ هَهُنا مِن بَيانِ الوَجْهِ الَّذِي لِأجْلِهِ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الجَوابِ إلى هَذا الكَلامِ، والعُلَماءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا كانَ جَوابُ أحَدِ السّائِلِينَ أنَّهُ يُصْلَبُ، ولا شَكَّ أنَّهُ مَتى سَمِعَ ذَلِكَ عَظُمَ حُزْنُهُ وتَشْتَدُّ نَفْرَتُهُ عَنْ سَماعِ هَذا الكَلامِ، فَرَأى أنَّ الصَّلاحَ أنْ يُقَدِّمَ قَبْلَ ذَلِكَ ما يُؤَثِّرُ مَعَهُ بِعِلْمِهِ وكَلامِهِ، حَتّى إذا جاءَ بِها مِن بَعْدِ ذَلِكَ خَرَجَ جَوابُهُ عَنْ أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ تُهْمَةٍ وعَداوَةٍ. الثّانِي: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ دَرَجَتَهُ في العِلْمِ أعْلى وأعْظَمُ مِمّا اعْتَقَدُوا فِيهِ، وذَلِكَ لِأنَّهم طَلَبُوا مِنهُ عِلْمَ التَّعْبِيرِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا العِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلى الظَّنِّ والتَّخْمِينِ، فَبَيَّنَ لَهُما أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ عَلى سَبِيلِ القَطْعِ واليَقِينِ مَعَ عَجْزِ كُلِّ الخَلْقِ عَنْهُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَبِأنْ يَكُونَ فائِقًا عَلى كُلِّ النّاسِ في عِلْمِ التَّعْبِيرِ كانَ أوْلى، فَكانَ المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ تِلْكَ المُقَدِّمَةِ تَقْرِيرَ كَوْنِهِ فائِقًا في عِلْمِ التَّعْبِيرِ واصِلًا فِيهِ إلى ما لَمْ يَصِلْ غَيْرُهُ. والثّالِثُ: قالَ السُّدِّيُّ: ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ في النَّوْمِ بَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ عِلْمَهُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيا لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿إلّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ . الرّابِعُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ أنَّهُما اعْتَقَدا فِيهِ وقَبِلا قَوْلَهُ، فَأوْرَدَ عَلَيْهِما ما دَلَّ عَلى كَوْنِهِ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ الِاشْتِغالَ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِ الدِّينِ أوْلى مِنَ الِاشْتِغالِ بِمُهِمّاتِ الدُّنْيا. والخامِسُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ سَيُصْلَبُ اجْتَهَدَ في أنْ يُدْخِلَهُ في الإسْلامِ حَتّى لا يَمُوتَ عَلى الكُفْرِ، ولا يَسْتَوْجِبَ العِقابَ الشَّدِيدَ ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] . والسّادِسُ: قَوْلُهُ: ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ مَحْمُولٌ عَلى اليَقَظَةِ، والمَعْنى: أنَّهُ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلّا أخْبَرْتُكُما أيُّ طَعامٍ هو، وأيُّ لَوْنٍ هو، وكَمْ هو، وكَيْفَ يَكُونُ عاقِبَتُهُ؛ أيْ إذا أكَلَهُ الإنْسانُ فَهو يُفِيدُ الصِّحَّةَ أوِ السَّقَمَ. وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ، قِيلَ: كانَ المَلِكُ إذا أرادَ قَتْلَ إنْسانٍ صَنَعَ لَهُ طَعامًا فَأرْسَلَهُ إلَيْهِ، فَقالَ يُوسُفُ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلّا أخْبَرْتُكُما أنَّ فِيهِ سُمًّا أمْ لا، هَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ وحاصِلُهُ راجِعٌ إلى أنَّهُ ادَّعى الإخْبارَ عَنِ الغَيْبِ، وهو يَجْرِي مَجْرى قَوْلِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، (p-١١٠)﴿وأُنَبِّئُكم بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ﴾، فالوُجُوهُ الثَّلاثَةُ الأُوَلُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ فائِقًا في عِلْمِ التَّعْبِيرِ، والوُجُوهُ الثَّلاثَةُ الأُخَرُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ نَبِيًّا صادِقًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ادِّعاءِ المُعْجِزَةِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ ادِّعاءٌ لِلنُّبُوَّةِ ؟ قُلْنا: إنَّهُ وإنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكِنْ يَعْلَمُ أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ قَدْ ذَكَرَهُ، وأيْضًا فَفي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ وفي قَوْلِهِ: ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي﴾ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ أيْ لَسْتُ أُخْبِرُكُما عَلى جِهَةِ الكَهانَةِ والنُّجُومِ، وإنَّما أخْبَرْتُكُما بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وعِلْمٍ حَصَلَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ تَوَهُّمٌ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ في هَذِهِ المِلَّةِ. فَنَقُولُ جَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ التَّرْكَ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلشَّيْءِ ولَيْسَ مِن شَرْطِهِ أنْ يَكُونَ قَدْ كانَ خائِضًا فِيهِ. والثّانِي وهو الأصَحُّ: أنْ يُقالَ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عَبْدًا لَهم بِحَسَبِ زَعْمِهِمْ واعْتِقادِهِمُ الفاسِدِ، ولَعَلَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كانَ لا يُظْهِرُ التَّوْحِيدَ والإيمانَ خَوْفًا مِنهم عَلى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ أظْهَرَهُ في هَذا الوَقْتِ، فَكانَ هَذا جارِيًا مَجْرى تَرْكِ مِلَّةَ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَكْرِيرُ لَفْظِ ”هم“ في قَوْلِهِ: ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ لِبَيانِ اخْتِصاصِهِمْ بِالكُفْرِ، ولَعَلَّ إنْكارَهم لِلْمَعادِ أشَدُّ مِن إنْكارِهِمْ لِلْمَبْدَأِ، فَلِأجْلِ مُبالَغَتِهِمْ في إنْكارِ المَعادِ كَرَّرَ هَذا اللَّفْظَ لِلتَّأْكِيدِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ إشارَةٌ إلى عِلْمِ المَبْدَأِ. وقَوْلَهُ: ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ إشارَةٌ إلى عِلْمِ المَعادِ، ومَن تَأمَّلَ في القُرْآنِ المَجِيدِ وتَفَكَّرَ في كَيْفِيَّةِ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلِمَ أنَّ المَقْصُودَ مِن إرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ صَرْفُ الخَلْقِ إلى الإقْرارِ بِالتَّوْحِيدِ وبِالمَبْدَأِ والمَعادِ، وأنَّ ما وراءَ ذَلِكَ عَبَثٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ وفِيهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما الفائِدَةُ في ذِكْرِ هَذا الكَلامِ ؟ . الجَوابُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ادَّعى النُّبُوَّةَ وتَحَدّى بِالمُعْجِزَةِ وهو عِلْمُ الغَيْبِ قَرَنَ بِهِ كَوْنَهُ مِن أهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وأنَّ أباهُ وجَدَّهُ وجَدَّ أبِيهِ كانُوا أنْبِياءَ اللَّهِ ورُسُلَهُ، فَإنَّ الإنْسانَ مَتى ادَّعى حِرْفَةَ أبِيهِ وجَدِّهِ لَمْ يُسْتَبْعَدْ ذَلِكَ مِنهُ، وأيْضًا فَكَما أنَّ دَرَجَةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ كانَ أمْرًا مَشْهُورًا في الدُّنْيا، فَإذا ظَهَرَ أنَّهُ ولَدُهم عَظَّمُوهُ ونَظَرُوا إلَيْهِ بِعَيْنِ الإجْلالِ، فَكانَ انْقِيادُهم لَهُ أعَمَّ وتَأثُّرُ قُلُوبِهِمْ بِكَلامِهِ أكْمَلَ. السُّؤالُ الثّانِي: لَمّا كانَ نَبِيًّا فَكَيْفَ قالَ: إنِّي اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي، والنَّبِيُّ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِشَرِيعَةِ نَفْسِهِ ؟ . قُلْنا: لَعَلَّ مُرادَهُ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ، وأيْضًا لَعَلَّهُ كانَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، إلّا أنَّهُ كانَ عَلى شَرِيعَةِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ قالَ: ﴿ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ وحالُ كُلِّ المُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ ؟ . (p-١١١)والجَوابُ: لَيْسَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لَنا﴾ أنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَلِ المُرادُ أنَّهُ تَعالى طَهَّرَ آباءَهُ عَنِ الكُفْرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ما كانَ لِلَّهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ﴾ [ مَرْيَمَ: ٣٥] . السُّؤالُ الرّابِعُ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ ؟ . الجَوابُ: أنَّ أصْنافَ الشِّرْكِ كَثِيرَةٌ، فَمِنهم مَن يَعْبُدُ الأصْنامَ، ومِنهم مَن يَعْبُدُ النّارَ، ومِنهم مَن يَعْبُدُ الكَواكِبَ، ومِنهم مَن يَعْبُدُ العَقْلَ والنَّفْسَ والطَّبِيعَةَ، فَقَوْلُهُ: ﴿ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ رَدٌّ عَلى كُلِّ هَؤُلاءِ الطَّوائِفِ والفِرَقِ، وإرْشادٌ إلى الدِّينِ الحَقِّ، وهو أنَّهُ لا مُوجِدَ إلّا اللَّهُ ولا خالِقَ إلّا اللَّهُ ولا رازِقَ إلّا اللَّهُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وعَلى النّاسِ﴾ وفِيهِ مَسْألَةٌ، وهي أنَّهُ قالَ: ﴿ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن عَدَمِ الإشْراكِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ عَدَمَ الإشْراكِ وحُصُولَ الإيمانِ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ في حَقِّهِ بِعَيْنِهِ، وفي حَقِّ النّاسِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم لا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلى نِعْمَةِ الإيمانِ، حُكِيَ أنَّ واحِدًا مِن أهْلِ السُّنَّةِ دَخَلَ عَلى بِشْرِ بْنِ المُعْتَمِرِ، وقالَ: هَلْ تَشْكُرُ اللَّهَ عَلى الإيمانِ أمْ لا ؟ فَإنْ قُلْتَ لا، فَقَدْ خالَفْتَ الإجْماعَ، وإنْ شَكَرْتَهُ فَكَيْفَ تَشْكُرُهُ عَلى ما لَيْسَ فِعْلًا لَهُ، فَقالَ لَهُ بِشْرٌ: إنّا نَشْكُرُهُ عَلى أنَّهُ تَعالى أعْطانا القُدْرَةَ والعَقْلَ والآلَةَ، فَيَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَشْكُرَهُ عَلى إعْطاءِ القُدْرَةِ والآلَةِ، فَأمّا أنْ نَشْكُرَهُ عَلى الإيمانِ مَعَ أنَّ الإيمانَ لَيْسَ فِعْلًا لَهُ، فَذَلِكَ باطِلٌ؛ وصَعُبَ الكَلامُ عَلى بِشْرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ ثُمامَةُ بْنُ الأشْرَسِ وقالَ: إنّا لا نَشْكُرُ اللَّهَ عَلى الإيمانِ، بَلِ اللَّهُ يَشْكُرُنا عَلَيْهِ كَما قالَ: ﴿فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] فَقالَ بِشْرٌ: لَمّا صَعُبَ الكَلامُ سَهُلَ. واعْلَمْ أنَّ الَّذِي ألْزَمَهُ ثُمامَةُ باطِلٌ بِنَصِّ هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ عَدَمَ الإشْراكِ مِن فَضْلِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وإنَّما ذَكَرَهُ عَلى سَبِيلِ الذَّمِّ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ مُؤْمِنٍ أنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعالى عَلى نِعْمَةِ الإيمانِ وحِينَئِذٍ تَقْوى الحُجَّةُ وتَكْمُلُ الدَّلالَةُ. قالَ القاضِي: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ إنْ جَعَلْناهُ إشارَةً إلى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ فَهو مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ إنَّما حَصَلَ بِألْطافِهِ وتَسْهِيلِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى النُّبُوَّةِ. والجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى المَذْكُورِ السّابِقِ، وذاكَ هو تَرْكُ الإشْراكِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ تَرْكُ الإشْراكِ مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى، والقاضِي يَصْرِفُهُ إلى الألْطافِ والتَّسْهِيلِ، فَكانَ هَذا تَرْكًا لِلظّاهِرِ، وأمّا صَرْفُهُ إلى النُّبُوَّةِ فَبَعِيدٌ، لِأنَّ اللَّفْظَ الدّالَّ عَلى الإشارَةِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ وهو هَهُنا عَدَمُ الإشْراكِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب