الباحث القرآني

فَلَمّا رَآهُما بَصِيرَيْنِ بِالأُمُورِ ﴿قالَ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ يَعْرِفُ (p-٨٢)ذَلِكَ وأدَقَّ مِنهُ، لِيَقْبَلا نُصْحَهُ فِيما هو [أهَمُّ ] المُهِمُّ لِكُلِّ أحَدٍ، - وهو ما خُلِقَ العِبادُ لَهُ مِنَ الِاجْتِماعِ عَلى اللَّهِ - لِتَفْرِيغِهِما لِلْفَهْمِ لِكَلامِهِ والقَبُولِ لِكُلِّ ما يُلْقِيهِ لِاحْتِياجِهِما إلى إفْتائِهِما، مُؤَكِّدًا ما وصَفاهُ بِهِ مِنَ الإحْسانِ بِما اتَّبَعَهُ مِن وصْفِ نَفْسِهِ بِالعِلْمِ، انْتِهازًا لِفُرْصَةِ النَّصِيحَةِ عِنْدَ هَذا الإذْعانِ بِأعْظَمِ ما يَكُونُ النُّصْحُ بِهِ مِنَ الأمْرِ بِالإخْلاصِ في عِبادَةِ الخالِقِ والإعْراضِ عَنِ الشِّرْكِ، فَعَلى كُلِّ ذِي عِلْمٍ إذا احْتاجَ إلى سُؤالِهِ أحَدٌ أنْ يُقْدِمَ عَلى جَوابِهِ نُصْحَهُ بِما هو الأهَمُّ لَهُ، ويَصِفُ لَهُ نَفْسَهُ بِما يُرَغِّبُهُ في قَبُولِ عِلْمِهِ إنْ كانَ الحالُ مُحْتاجًا إلى ذَلِكَ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ التَّزْكِيَةِ [بَلْ -] مِنَ الإرْشادِ إلى الِائْتِمامِ بِهِ بِما يُقَرِّبُ إلى اللَّهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أجْرِهِ: ﴿لا يَأْتِيكُما﴾ أيْ في اليَقَظَةِ ”طَعامٌ“ وبَيَّنَ أنَّهُ خاصٌّ بِهِما دُونَ أهْلِ السِّجْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿تُرْزَقانِهِ﴾ بَناهُ [لِلْمَفْعُولِ -] تَعْمِيمًا ﴿إلا نَبَّأْتُكُما﴾ أيْ أخْبَرَتْكُما إخْبارًا جَلِيلًا عَظِيمًا ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ أيْ بِهِ وبِما يَؤُولُ ويَرْجِعُ إلَيْهِ أمْرُهُ. ولَمّا كانَ البَيانُ في جَمِيعِ الوَقْتِ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّعامِ الَّذِي قَبْلَهُ، نَزَعَ الخافِضَ فَقالَ: ﴿قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما﴾ أيْ أخْبَرْتُكُما بِأنَّهُ يَأْتِيكُما طَعامُ كَذا، فَيَكُونُ سَبَبًا لِكَذا، فَإنَّ المُسَبِّبَ النّاشِئَ عَنِ (p-٨٣)السَّبَبِ هو المالُ. ولَمّا وصَفَ نَفْسَهُ مِنَ العِلْمِ بِما يَدْعُو كُلُّ ذِي هِمَّةٍ إلى السَّعْيِ في الأسْبابِ الَّتِي حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِها لِيَصِيرَ مَثَلَهُ أوْ يَقْرُبَ مِنهُ، وكانَ مَحَلَّ أنْ يُقالَ: مَن عِلْمِكَ ذَلِكَ؟ قالَ مُرْشِدًا إلى اللَّهِ داعِيًا إلَيْهِ أحْسَنَ دُعاءٍ بِما تَمِيلُ إلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الطَّمَعِ في الفَضْلِ: ﴿ذَلِكُما﴾ أيِ الأمْرُ العَظِيمُ؛ ونَبَّهَ عَلى غَزارَةِ عِلْمِهِ بِالتَّبْعِيضِ في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ أيِ المُوجِدِ لِي والمُرَبِّي لِي والمُحْسِنِ إلَيَّ، ولَمْ أقُلْهُ عَنْ تَكَهُّنٍ ولا تَنَجُّمٍ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما لِغَيْرِكَ لا يَعْلَمُهُ مِثْلَ ما عَلَّمَكَ؟ فَقالَ مُعَلِّلًا لَهُ مُطْمِعًا كُلَّ مَن فَعَلَ فِعْلَهُ في فَضْلِ اللَّهِ، مُؤَكِّدًا إعْلامًا بِأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ لِمِثْلِهِ أنْ يَفْعَلَ: ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ أيْ وإنْ كانُوا أقْوِياءَ عَلى مُحاوَلَةِ ما يُرِيدُونَ، فَلِذَلِكَ قَدَرُوا عَلى أذايَ وسَجْنِي بَعْدَ رُؤْيَةِ الآياتِ الشّاهِدَةِ لِي، ونَبَّهَ عَلى أنَّ ذَلِكَ لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إلّا مَن لا يَحْسَبُ العاقِبَةَ بِوَجْهٍ، فَقالَ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ يُجَدِّدُونَ الإيمانَ لِما لَهم مِنَ العَراقَةِ في الكُفْرِ ”بِاللَّهِ“ أيِ المُلْكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا يَخْفى أمْرُهُ عَلى ذِي لُبٍّ مِن أهْلِ مِصْرَ وغَيْرِهِمْ؛ ثُمَّ لَوَّحَ إلى التَّحْذِيرِ مِن يَوْمِ الجَزاءِ الَّذِي (p-٨٤)لا يُغْنِي فِيهِ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ، مُنَبِّهًا عَلى أنَّ الكُفْرَ بِهِ هو القاطِعُ عَنِ العِلْمِ وعَنْ كُلِّ خَيْرٍ، فَقالَ مُؤَكِّدًا تَأْكِيدًا [عَظِيمًا -]، إشارَةً إلى أنَّ أمْرَهم يَنْبَغِي أنْ يُنْكِرَهُ كُلُّ مَن يَسْمَعُهُ، ولا يُصَدِّقُهُ، لِما عَلى الآخِرَةِ مِنَ الدَّلائِلِ الواضِحَةِ جِدًّا المُوجِبَةِ لِئَلّا يُكَذِّبَ بِهِ أحَدٌ: ﴿وهم بِالآخِرَةِ﴾ أيِ الدّارُ الَّتِي لا بُدَّ مِنَ الجَمْعِ إلَيْها، لِأنَّها مَحَطُّ الحِكْمَةِ ”هُمْ“ أيْ بِضَمائِرِهِمْ كَما هم بِظَواهِرِهِمْ، وفي تَكْرِيرِ الضَّمِيرِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ اخْتَصُّوا بِهَذا الجَهْلِ، وأنَّ غَيْرَهم وقَفُوا عَلى الهُدى ﴿كافِرُونَ﴾ أيْ عَرِيقُونَ في التَّغْطِيَةِ لَها، فَلِذَلِكَ أظْلَمَتْ قُلُوبُهم فَكانُوا صُوَرًا لا مَعانِيَ لَها؛ والمِلَّةُ: مَذْهَبُ جَماعَةٍ يَحْمِي بَعْضُها لِبَعْضٍ في الدِّيانَةِ، وأصْلُهُ مِنَ المَلِيلَةِ، وهي حُمّى تَلْحَقُ الإنْسانَ - قالَهُ الرُّمّانِيُّ. [و -] في القامُوسِ إنَّ المَلِيلَةَ: الحُرُّ الكامِنُ في العَظْمِ. وعَبَّرَ بِـ ”تَرَكَتْ“ مَوْضِعُ ”تَجَنَّبَتْ“ مَثَلًا مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُلابِسْ تِلْكَ المِلَّةِ قَطُّ، تَأْنِيسًا لَهُما واسْتِدْراجًا إلى تَرْكِهِما؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب