الباحث القرآني

﴿قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ في الحَبْسِ حَسَبَ عادَتِكُما المُطَّرِدَةِ ﴿إلا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا حالَ ما نَبَّأْتُكُما بِهِ بِأنْ بَيَّنْتُ لَكُما ماهِيَّتَهُ وكَيْفِيَّتَهُ وسائِرَ أحْوالِهِ ﴿قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما﴾، وحاصِلُهُ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلّا أخْبَرْتُكُما قَبْلَ إتْيانِهِ إيّاكُما بِأنَّهُ يَأْتِيكُما طَعامٌ مِن صِفَتِهِ كَيْتَ وكَيْتَ، وإطْلاقُ التَّأْوِيلِ عَلى ذَلِكَ مَعَ أنَّ حَقِيقَتَهُ في المَشْهُورِ تَفْسِيرُ الألْفاظِ المُرادِ مِنها خِلافُ الظّاهِرِ بِبَيانِ المُرادِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ فَإنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ المُشْكَلِ، أوْ أنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى الطَّعامِ المُبْهَمِ بِمَنزِلَةِ التَّأْوِيلِ بِالتَّأْوِيلِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما رُؤِيَ في المَنامِ وشَبِيهٌ لَهُ. ويُحْسِنُ هَذِهِ الاسْتِعارَةَ ما في ذَلِكَ مِنَ المُشاكَلَةِ لِما وقَعَ في عِبارَتِهِما مِن قَوْلِهِما: ﴿نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ﴾ وكَوْنُ المُرادِ بِالتَّأْوِيلِ الأمْرَ الآيِلَ المَآلَ بِناءً عَلى أنَّهُ في الأصْلِ جَعْلُ شَيْءٍ آيِلًا إلى شَيْءٍ آخَرَ، وكَما يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الثّانِي يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الأوَّلُ، ويَكُونُ المَعْنى -إلّا نَبَّأْتُكُما بِما يُؤَوَّلُ إلَيْهِ مِنَ الكَلامِ- والخَبَرُ المُطابِقُ لِلْواقِعِ في غايَةِ البُعْدِ بَلْ لا يَكادُ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ، وكَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ أنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِما التَّوْحِيدَ ويُزَيِّنَهُ لَهُما ويُقَبِّحَ لَهُما الشِّرْكَ بِاللَّهِ تَعالى قَبْلَ أنْ يُجِيبَهُما عَمّا سَألاهُ مِن تَعْبِيرِ رُؤْياهُما ثُمَّ يُجِيبُهُما عَنْ ذَلِكَ. وهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَلى كُلِّ ذِي عَقْلٍ أنْ يَسْلُكَها مَعَ الجَهَلَةِ والفَسَقَةِ إذا اسْتَفْتاهُ واحِدٌ مِنهم أنْ يُقَدِّمَ الإرْشادَ والنَّصِيحَةَ أوَّلًا ويَدْعُوَهُ إلى ما هو أوْلى بِهِ وأوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِمّا اسْتَفْتى فِيهِ ثُمَّ يُفْتِيهِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ كانَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ أوَّلًا بِما هو فَوْقَ عِلْمِ العُلَماءِ وهو الإخْبارُ بِالمَغِيباتِ وجَعَلَهُ تَخَلُّصًا لِما أرادَ كالتَّخَلُّصاتِ المَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ، فَإنَّ الإخْبارَ بِالغَيْبِ يُناسِبُ ما سَألاهُ مِن تَأْوِيلِ رُؤْياهُما وأنَّ مَن كانَ هَكَذا لا مَحالَةَ يَكُونُ بِغَيْرِهِ صادِقًا، ويُقَوِّي أمْرُ المُناسَبَةِ تَخْصِيصَ الطَّعامِ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ المَغِيباتِ كَما لا يَخْفى، ويُناسِبُ ما أرادَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ لِأنَّهُ ثَبَتَ صِدْقُهُ ونُبُوَّتُهُ وكَوْنُهُ مِنَ المُرْتَضِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وفي حِكايَةِ اللَّهِ تَعالى ذَلِكَ إرْشادٌ لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ، وقَدْ أُدْمِجَ فِيهِ أنَّ وصْفَ العالِمِ نَفْسَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ لا يَحْرُمُ ولا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ التَّزْكِيَةِ المَحْظُورَةِ، وإلى ما ذَكَرْنا مِن حَمْلِ الإتْيانِ عَلى الإتْيانِ في اليَقَظَةِ ذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأجِلَّةِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى الإتْيانِ مَنامًا، قالَ السُّدِّيُّ وابْنُ إسْحاقَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ مِن رُؤْيَةِ الخَبّازِ أنَّهُ يُقْتَلُ أخَذَ في حَدِيثٍ آخَرَ تَنْسِيَةً لَهُما أمْرَ المَنامِ وطَماعِيَةً في إيمانِهِما لِيَأْخُذَ المَقْتُولُ (p-241)بِحَظِّهِ مِنَ الإيمانِ وتَسْلَمَ لَهُ آخِرَتُهُ، فَقالَ بِعَظِيمِ عِلْمِهِ بِالتَّعْبِيرِ: إنَّهُ لا يَجِيئُكُما طَعامٌ في نَوْمِكُما تَرَيانِ أنَّكُما تُرْزَقانِهِ إلّا أعْلَمْتُكُما بِما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ في اليَقَظَةِ قَبْلَ أنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ- ولا يَخْفى أنَّ حَدِيثَ الطَّماعِيَةِ المَذْكُورَةِ مِمّا لا بَأْسَ إلّا أنَّ حَدِيثَ التَّنْسِيَةِ لا يَخْلُو عَنْ مَنعٍ، وجاءَ في رِوايَةٍ أُخْرى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أخْرَجَها ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُما عَنْهُ ما يَقْرُبُ مِن هَذا الحَدِيثِ مِن وجْهٍ فَإنَّهُ قالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَرِهَ العِبارَةَ لَهُما فَأجابَهُما بِأنَّ لَهُ عِلْمًا بِما يَأْتِيهِما مِنَ الطَّعامِ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِما تَدُلُّ عَلَيْهِ رُؤْياهُما شَفَقَةً عَلى الهالِكِ مِنهُما، وكانَ المَلِكُ إذا أرادَ قَتَلَ إنْسانٍ صَنَعَ لَهُ طَعامًا مَعْلُومًا فَأرْسَلَ بِهِ فَلَمّا لَمْ يَكْتَفِيا بِذَلِكَ وطَلَبا مِنهُ التَّعْبِيرَ أيْضًا دَعاهُما إلى التَّوْحِيدِ كَراهَةً لِلْعِبارَةِ أيْضًا، فَلَمّا لَمْ يَكْتَفِيا عَبَّرَ لَهُما وأوْضَحَ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ رُؤْياهُما وهو كَما تَرى، وأيّامّا كانَ فالضَّمِيرُ في تَأْوِيلِهِ يَعُودُ عَلى الطَّعامِ، وجَوَّزَ عَلى ما قَصّاهُ عَلَيْهِ مِنَ الرُّؤْيَتَيْنِ عَلى مَعْنى لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ حَسَبَ عادَتِكُما إلّا أخْبَرْتُكُما بِتَأْوِيلِ ما قَصَصْتُما عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما ذَلِكَ الطَّعامُ المُوَقَّتُ، والمُرادُ الإخْبارُ بِالِاسْتِعْجالِ بِالتَّنْبِئَةِ، وفِيهِ أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ مَعَ أنَّ الإخْبارَ بِالِاسْتِعْجالِ مِمّا لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ مُناسَبَةٍ لِما هو بِصَدَدِهِ، وقَدْ يُقالُ: يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلى ما قَصّاهُ ويَكُونُ المُرادُ مِنَ الطَّعامِ المَرْزُوقِ ما رَأياهُ في النَّوْمِ، ولا يَخْفى ما فِيهِ أيْضًا لَكِنَّ التَّأْوِيلَ عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ لا يَحْتاجُ إلى التَّأْوِيلِ، بَلْ يُرادُ مِنهُ ما أُرِيدَ مِن تَأْوِيلِهِ في كَلامِهِما، وكَذا الضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في (يَأْتِيكُما) يَعُودُ عَلى الطَّعامِ وعَوْدُهُ عَلى التَّأْوِيلِ وإنْ كانَ أقْرَبَ بَعِيدٌ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَهُما بِأنَّ عِلْمَهُ ذَلِكَ لَيْسَ مِن عُلُومِ الكَهَنَةِ والمُنَجِّمِينَ بَلْ هو فَضْلٌ إلَهِيٌّ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ فَقالَ: ﴿ذَلِكُما﴾ ويُرْوى أنَّهُما قالا لَهُ: مِن أيْنَ لَكَ ما تَدَّعِيهِ مِنَ العِلْمِ وأنَّكَ لَسْتَ بِكاهِنٍ ولا مُنَجِّمٍ؟! وقِيلَ: قالا إنَّ هَذا كَهانَةٌ أوْ تَنْجِيمٌ، فَقالَ: أيْ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ والكَشْفُ عَنِ المَغِيباتِ، ومَعْنى البُعْدِ في ذَلِكَ لِلْإشارَةِ إلى بُعْدِ مَنزِلَتِهِ وعُلُوِّ دَرَجَتِهِ ﴿مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ بِالوَحْيِ أوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ كَما يَكُونُ لِلْأوْلِياءِ أهْلِ الكَشْفِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، واقْتَصَرَ بَعْضُهم عَلى الأوَّلِ وادَّعى أنَّ الآيَةَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ إذْ ذاكَ نَبِيًّا، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ أنَّ ذَلِكَ بَعْضُ ما عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ تَعالى، أوْ مِن ذَلِكَ الجِنْسِ الَّذِي لا يَنالُهُ إلّا الأصْفِياءُ، ولَقَدْ دَلَّهُما بِذَلِكَ عَلى أنَّ لَهُ عُلُومًا جَمَّةً ما سَمِعاهُ قَطْرَةٌ مِن تَيّارِها وزَهْرَةٌ مِن أزْهارِها؛ وقَوْلُهُ: ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَنْ سُؤالٍ نَشَأ مِمّا تَقَدَّمَ وتَعْلِيلًا لَهُ كَأنَّهُ قِيلَ: لِماذا عَلَّمَكَ رَبُّكَ تِلْكَ العُلُومَ الجَلِيلَةَ الشَّأْنِ؟ فَقالَ: لِأنِّي تَرَكْتُ دِينَ الكُفْرِ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وعِبادَةِ الأوْثانِ. وقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلتَّعْلِيمِ الواقِعِ صِلَةً وهو يُؤَدِّي إلى مَعْنى أنَّهُ مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي لِهَذا السَّبَبِ دُونَ غَيْرِهِ ولَيْسَ بِمُرادٍ. وقِيلَ: لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ، وفِيهِ أنَّ ما ذُكِرَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِكَوْنِ التَّأْوِيلِ المَذْكُورِ بَعْضًا مِمّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ- أوْ لِكَوْنِهِ مِن جِنْسِهِ- بَلْ لِنَفْسِ التَّعْلِيمِ، والمُرادُ بِالتَّرْكِ الِامْتِناعُ فَإنَّهُ لَمْ يَتَلَوَّثْ بِتِلْكَ قَطُّ كَما يُفْصِحُ عَنْهُ ما يَأْتِي مِن كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ اسْتِجْلابًا لَهُما لِأنْ يَتْرُكا تِلْكَ المِلَّةَ الَّتِي هم عَلَيْها عَلى أحْسَنِ وجْهٍ؛ والتَّعْبِيرُ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى بِسَلْبِ الإيمانِ بِهِ سُبْحانَهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلى أنَّ (p-242)عِبادَتَهم لَهُ تَعالى مَعَ عِبادَةِ الأوْثانِ لَيْسَ بِإيمانٍ بِهِ تَعالى كَما يَزْعُمُونَهُ، وأرادَ بِأُولَئِكَ القَوْمَ المُتَّصِفِينَ بِعُنْوانِ الصِّلَةِ حَيْثُ كانُوا، وقِيلَ: أهْلَ مِصْرَ فَإنَّهم كانُوا عَبَدَةً إذْ ذاكَ ﴿وهم بِالآخِرَةِ﴾ وما فِيها مِنَ الجَزاءِ ﴿هم كافِرُونَ﴾ أيْ عَلى الخُصُوصِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الكَنْعانِيِّينَ الَّذِينَ هم عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما يُفِيدُهُ تَوْسِيطُ ضَمِيرِ الفَصْلِ هُنا عِنْدَ البَعْضِ، وذَكَرَ أنَّ تَقْدِيمَ الضَّمِيرِ لِلتَّخْصِيصِ وتَكْرِيرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، ولَعَلَّهُ إنَّما أكَّدَ إنْكارَهم لِلْمَعادِ لِأنَّهُ كانَ أشَدَّ مِن إنْكارِهِمْ لِلْمَبْدَأِ فَتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب