الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ نُطْقُ المُؤْمِنِ بِهِ إقْرارٌ بِالرُبُوبِيَّةِ، وتَذَلُّلٌ وتَحْقِيقٌ لِعِبادَةِ اللهِ، إذْ سائِرُ الناسِ يَعْبُدُونَ سِواهُ مِن أصْنامٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقُدِّمَ المَفْعُولُ عَلى الفِعْلِ اهْتِمامًا، وشَأْنُ العَرَبِ تَقْدِيمُ الأهَمِّ. ويَذْكُرُ أنَّ أعْرابِيًّا سَبَّ آخَرَ، فَأعْرَضَ المَسْبُوبُ عنهُ، فَقالَ لَهُ السابُّ: إيّاكَ أعْنِي، فَقالَ الآخَرُ: وعنكَ أعْرِضُ، فَقَدَّما الأهَمَّ. وقَرَأ الفَضْلُ الرُقاشِيُّ "أيّاكَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وهي لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ فائِدٍ: "إيّاكَ" (p-٨٣)بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ الياءِ، وذَلِكَ أنَّهُ كَرِهَ تَضْعِيفَ الياءِ لِثِقَلِها، وكَوْنُ الكَسْرَةِ قَبْلَها، وهَذا كَتَخْفِيفِ "رَبِ" و"إنْ". وقَرَأ أبُو السِوارِ الغَنَوِيُّ "هَيّاكَ نَعْبُدُ، وهَيّاكَ نَسْتَعِينُ" بِالهاءِ وهي لُغَةٌ. واخْتَلَفَ النَحْوِيُّونَ في "إيّاكَ"، قالَ الخَلِيلُ: "إيّا" اسْمٌ مُضْمَرٌ، أُضِيفَ إلى ما بَعْدَهُ لِلْبَيانِ لا لِلتَّعْرِيفِ، وحُكِيَ عَنِ العَرَبِ: "إذا بَلَغَ الرَجُلُ السِتِّينَ فَإيّاهُ وايا الشَوابِّ"، وقالَ المُبَرِّدُ: "إيّا" اسْمٌ مُبْهَمٌ، أُضِيفَ لِلتَّخْصِيصِ لا لِلتَّعْرِيفِ. وحَكى ابْنُ كَيْسانَ عن بَعْضِ الكُوفِيِّينَ: أنَّ "إيّاكَ" بِكَمالِهِ اسْمٌ مُضْمَرٌ، ولا يُعْرَفُ اسْمٌ مُضْمَرٌ يُتَغَيَّرُ آخِرُهُ غَيْرُهُ. وحُكِيَ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: الكافُ والهاءُ والياءُ هي الِاسْمُ المُضْمَرُ، لَكِنَّها لا تَقُومُ بِأنْفُسِها، ولا تَكُونُ إلّا مُتَّصِلاتٍ، فَإذا تَقَدَّمَتِ الأفْعالُ جَعَلَ "إيّا" عِمادًا لَها، فَيُقالُ: "إيّاكَ، وإيّاهُ، وإيّايَ". وإذا تَأخَّرَتِ اتَّصَلَتْ بِالأفْعالِ واسْتُغْنِيَ عن "إيّا". وحُكِيَ عن بَعْضِهِمْ: أنَّ "إيّا" اسْمٌ مُبْهَمٌ يُكَنّى بِهِ عَنِ المَنصُوبِ، وزِيدَتِ الكافُ والهاءُ تَفْرِقَةً بَيْنَ المُخاطَبِ والغائِبِ والمُتَكَلِّمِ، ولا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، فَهي كالكافِ في ذَلِكَ، وفي أرَأيْتُكَ زَيْدًا ما فَعَلَ. و"نَعْبُدُ" مَعْناهُ: نُقِيمُ الشَرْعَ والأوامِرَ مَعَ تَذَلُّلٍ واسْتِكانَةٍ، والطَرِيقُ المُذَلَّلُ يُقالُ لَهُ مُعَبَّدٌ، وكَذَلِكَ البَعِيرُ، وقالَ طَرَفَةُ: ؎ تُبارِي عِتاقًا ناجِياتٍ وأتْبَعَتْ وظِيفًا وظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ وتَكَرَّرَتْ "إيّاكَ" بِحَسَبِ اخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ، فاحْتاجَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى تَأْكِيدٍ واهْتِمامٍ. و"نَسْتَعِينُ"، مَعْناهُ نَطْلُبُ العَوْنَ مِنكَ في جَمِيعِ أُمُورِنا، وهَذا كُلُّهُ تَبَرُّو مِن (p-٨٤)الأصْنامِ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ، والنَخْعِيُّ: "نَسْتَعِينُ" بِكَسْرِ النُونِ، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ في النُونِ والتاءِ والهَمْزَةِ، ولا يَقُولُونَها في ياءِ الغائِبِ، وإنَّما ذَلِكَ في كُلِّ فِعْلٍ سُمِّيَ فاعِلُهُ فِيهِ زَوائِدَ، أو فِيما يَأْتِي مِنَ الثُلاثِيِّ عَلى فَعِلَ يَفْعَلُ بِكَسْرِ العَيْنِ في الماضِي، وفَتْحِها في المُسْتَقْبَلِ، نَحْوُ عَلِمَ وشَرِبَ، وكَذَلِكَ فِيما جاءَ مُعْتَلَّ العَيْنِ نَحْوُ خالٍ يَخالُ، فَإنَّهم يَقُولُونَ: تَخالُ وأخالُ. و"نَسْتَعِينُ" أصْلُهُ نَسْتَعْوِنُ. نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى العَيْنِ، وقُلِبَتْ ياءً لِانْكِسارِ ما قَبْلَها. والمَصْدَرُ: "اسْتِعانَةٌ"، أصْلُهُ "اسْتِعْوانٌ"، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى العَيْنِ، فَلَمّا انْفَتَحَ ما قَبْلَها وهي في نِيَّةِ الحَرَكَةِ انْقَلَبَتْ ألِفًا، فَوَجَبَ حَذْفُ أحَدِ الألِفَيْنِ الساكِنَيْنِ، فَقِيلَ: حُذِفَتِ الأولى لِأنَّ الثانِيَةَ مَجْلُوبَةٌ لِمَعْنًى فَهي أولى بِالبَقاءِ، وقِيلَ: حُذِفَتِ الثانِيَةُ لِأنَّ الأُولى أصْلِيَّةٌ فَهي أولى بِالبَقاءِ، ثُمَّ لَزِمَتِ الهاءَ عِوَضًا مِنَ المَحْذُوفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب