الباحث القرآني

سُورَةُ فاتِحَةِ الكِتابِ اخْتُلِفَ فِيها، فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّها مَكِّيَّةٌ، بَلْ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ عَلى قَوْلٍ، وهو المَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، وأكْثَرِ الصَّحابَةِ، وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّها مَدَنِيَّةٌ، وقَدْ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، حَتّى عُدَّ هَفْوَةً مِنهُ، وقِيلَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ، وبِالمَدِينَةِ لَمّا حُوِّلَتِ القِبْلَةُ، لِيُعْلَمَ أنَّها في الصَّلاةِ كَما كانَتْ، وقِيلَ: بَعْضُها مَكِّيٌّ وبَعْضُها مَدَنِيٌّ، ولا يَخْفى ضَعْفُهُ، وقَدْ لَهِجَ النّاسُ بِالِاسْتِدْلالِ عَلى مَكِّيَّتِها بِآيَةِ الحِجْرِ: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ وهي مَكِّيَّةٌ لِنَصِّ العُلَماءِ والرِّوايَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَها حُكْمٌ مَرْفُوعٌ، لا لِأنَّ ما قَبْلَها وما بَعْدَها في حَقِّ أهْلِ مَكَّةَ كَما قِيلَ، لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ المَكِّيَّ ما كانَ في حَقِّ أهْلِ مَكَّةَ، والمَشْهُورُ خِلافُهُ، والأقْوى الِاسْتِدْلالُ بِالنَّقْلِ عَنِ الصَّحابَةِ الَّذِينَ شاهَدُوا الوَحْيَ والتَّنْزِيلَ، لِأنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ أوَّلًا عَلى تَفْسِيرِ السَّبْعِ المَثانِي بِالفاتِحَةِ، وهو وإنْ كانَ صَحِيحًا ثابِتًا في الأحادِيثِ إلّا أنَّهُ قَدْ صَحَّ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ تَفْسِيرُها بِالسَّبْعِ الطِّوالِ، وثانِيًا عَلى امْتِناعِ الِامْتِنانِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ إيتائِهِ مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأُمُورٍ قَبْلَ إيتائِهِ إيّاها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ فَهو قَبْلَ الفَتْحِ بِسِنِينَ، والتَّعْبِيرُ بِالماضِي تَحْقِيقٌ لِلْوُقُوعِ، وهَذا وإنْ كانَ خِلافَ الظّاهِرِ، لا سِيَّما مَعَ إيرادِ اللّامِ، وكَلِمَةِ (قَدْ)، ووُرُودِهِ في مَعْرِضِ المِنَّةِ، والغالِبُ فِيها سَبْقُ الوُقُوعِ، وعَطْفُ: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ﴾ الآيَةَ، إلّا أنَّهُ قَدْ خُدِشَ الدَّلِيلُ، لا يُقالُ: إنَّ هَذا وذَلِكَ لا يَدُلّانِ إلّا عَلى أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وأمّا عَلى نَفْيِ نُزُولِها بِالمَدِينَةِ (p-34)أيْضًا فَلا، لِأنّا نَقُولُ: النَّفْيُ هو الأصْلُ، وعَلى مُدَّعِي الإثْباتِ الإثْباتُ وأنّى بِهِ، وما قالُوا في الجَوابِ عَنِ الِاعْتِراضِ بِأنَّ النُّزُولَ ظُهُورٌ مِن عالَمِ الغَيْبِ إلى الشَّهادَةِ، والظُّهُورُ بِها لا يَقْبَلُ التَّكَرُّرَ، فَإنَّ ظُهُورَ الظّاهِرِ ظاهِرُ البُطْلانِ، كَتَحْصِيلِ الحاصِلِ مِن دَعْوى أنَّهُ كانَ في كُلٍّ لِفائِدَةٍ، أوْ أنَّهُ عَلى حَرْفٍ مَرَّةً وآخَرَ أُخْرى لِوُرُودِ (مالِكِ) و(مَلِكِ)، أوْ بِبَسْلَمَةٍ تارَةً، وتارَةً بِدُونِها، وبِهِ تَجَمُّعُ المَذاهِبِ والرِّواياتِ مُصَحِّحٌ لِلْوُقُوعِ لا مُوجِبٌ لَهُ، كَما لا يَخْفى، والسُّورَةُ مَهْمُوزَةٌ وغَيْرُ مَهْمُوزَةٍ بِإبْدالٍ إنْ كانَتْ مِنَ السُّؤْرِ، وهو البَقِيَّةُ، لِأنَّ بَقِيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ بَعْضُهُ، وبِدُونِهِ إنْ كانَتْ مِن سُورِ البِناءِ، وهي المَنزِلَةُ أوْ سُورِ المَدِينَةِ لِإحاطَتِها بِآياتِها، أوْ مِنَ التَّسَوُّرِ، وهو العُلُوُّ والِارْتِفاعُ لِارْتِفاعِها بِكَوْنِها كَلامَ اللَّهِ تَعالى، وتُطْلَقُ عَلى المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطاكَ سُورَةً تَرى كُلَّ مَلَكٍ حَوْلَها يَتَذَبْذَبُ وحَّدَها قُرْآنٌ يَشْتَمِلُ عَلى ذِي فاتِحَةٍ وخاتِمَةٍ، وقِيلَ: طائِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، لِتَخْرُجَ آيَةُ الكُرْسِيِّ مُتَرْجَمَةً تَوْقِيفًا، وقَدْ ثَبَتَتْ أسْماءُ الجَمِيعِ بِالأحادِيثِ والآثارِ، فَمَن قالَ بِكَراهَةِ أنْ يُقالَ: سُورَةُ كَذا، بَلْ سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيها كَذا، بِناءً عَلى ما رُوِيَ عَنْ أنَسٍ وابْنِ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، لا يُعْتَدُّ بِهِ، إذْ حَدِيثُ أنَسٍ ضَعِيفٌ أوْ مَوْضُوعٌ، وحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وإنْ رُوِيَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، والفاتِحَةُ في الأصْلِ صِفَةٌ جُعِلَتْ إمّا لِأوَّلِ الشَّيْءِ، لِكَوْنِهِ واسِطَةً في فَتْحِ الكُلِّ، والتّاءُ لِلنَّقْلِ، أوِ المُبالَغَةِ، ولا اخْتِصاصَ لَها بِزِنَةِ عَلامَةٍ أوْ مَصْدَرٍ أُطْلِقَتْ عَلى الأوَّلِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالمَصْدَرِ إشْعارًا بِأصالَتِهِ، كَأنَّهُ نَفْسُ الفَتْحِ، إذْ تَعَلُّقُهُ بِهِ أوَّلًا، ثُمَّ بِواسِطَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِالمَجْمُوعِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنهُ، وكَذا يُقالُ في الخاتِمَةِ، فَإنَّ بُلُوغَ الآخِرِ يَعْرِضُ الآخِرَ أوَّلًا، والكُلُّ بِواسِطَتِهِ، ولَيْسَ هَذا كالأوَّلِ لِقِلَّةِ فاعِلَةٍ في المَصادِرِ، إلّا أنَّهُ أوْلى مِن كَوْنِهِ لِلْآلَةِ، أوْ باعِثًا، لِأنَّ هَذِهِ مُلْتَبِسَةٌ بِالفِعْلِ ومُقارِنَةٌ لَهُ، والغالِبُ أنْ لا تَتَّصِفَ الآلَةُ، ولا يُقارَنُ الباعِثُ، عَلى أنَّ الآلَةَ هُنا غَيْرُ مُناسِبَةٍ لِإيهامِ أنْ يَكُونَ البَعْضُ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ لِلنِّسْبَةِ، أيْ ذاتُ فَتْحٍ، مَعَ وُجُوهٍ أُخَرَ مَرْجُوحَةٍ، (والكِتابُ) هو المَجْمُوعُ الشَّخْصِيُّ، وفَتْحُ الفاتِحَةِ بِالقِياسِ إلَيْهِ لا إلى القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وبَيْنَ أجْزائِهِ، وهو مُتَحَقِّقٌ في العِلْمِ أوِ اللَّوْحِ أوْ بَيْتِ العِزَّةِ، فَلا ضَيْرَ في اشْتِهارِ السُّورَةِ بِهَذا الِاسْمِ في الأوائِلِ، والإضافَةُ الأوْلى مِن إضافَةِ الِاسْمِ إلى المُسَمّى، وهي مَشْهُورَةٌ، والثّانِيَةُ بِمَعْنى اللّامِ كَما في جُزْءِ الشَّيْءِ لا بِمَعْنى (مِن)، كَما في خاتَمِ فِضَّةٍ لِأنَّ المُضافَ جُزْئِيٌّ قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ، وهو مَذْهَبُ بَعْضٍ في كُلٍّ، وقالَ ابْنُ كَيْسانَ والسِّيرافِيُّ: وجَمْعُ إضافَةِ الجُزْءِ عَلى مَعْنى (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ بَلْ في اللُّمَعِ وشَرْحِهِ: إنَّ مِنَ المَقْدِرَةِ في الإضافَةِ مُطْلَقًا كَذَلِكَ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الجُزْءِ والجُزْئِيِّ، وبَعْضُهم جَعَلَ الإضافَةَ في الجُزْئِيِّ بَيانِيَّةً مُطْلَقًا، وبَعْضُهم خَصَّها بِالعُمُومِ، والخُصُوصِ الوَجْهِيِّ كَما في المِثالِ، وجَعَلَها في المُطْلَقِ كَمَدِينَةِ بَغْدادَ، لامِيَّةً والشُّهْرَةُ لا تُساعِدُهُ. ولِهَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ أسْماءٌ أوْصَلَها البَعْضُ إلى نَيِّفٍ وعِشْرِينَ، أحَدُها فاتِحَةُ الكِتابِ، لِأنَّها مَبْدَؤُهُ عَلى التَّرْتِيبِ المَعْهُودِ، لا لِأنَّها يُفْتَتَحُ بِها في التَّعْلِيمِ، وفي القِراءَةِ في الصَّلاةِ، كَما زَعَمَهُ الإمامُ السُّيُوطِيُّ، ولا لِأنَّها أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَما قِيلَ، أمّا الأوَّلُ والثّالِثُ فَلِأنَّ المَبْدَئِيَّةَ مِن حَيْثُ التَّعْلِيمُ أوِ النُّزُولُ تَسْتَدْعِي مُراعاةَ التَّرْتِيبِ في بَقِيَّةِ أجْزاءِ الكِتابِ مِن تَيْنِكَ الحَيْثِيَّتَيْنِ، ولا رَيْبَ في أنَّ التَّرْتِيبَ التَّعْلِيمِيَّ والنُّزُولِيَّ لَيْسا كالتَّرْتِيبِ المَعْهُودِ، وأمّا الثّانِي فَلِما عَرَفْتَ (p-35)أنَّ لَيْسَ المُرادُ بِالكِتابِ القَدْرَ المُشْتَرَكَ الصّادِقَ عَلى ما يُقْرَأُ في الصَّلاةِ حَتّى يُعْتَبَرَ في التَّسْمِيَةِ مَبْدَئِيَّتُها لَهُ، وحَكى المُرْسِيُّ أنَّها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها أوَّلُ سُورَةٍ كُتِبَتْ في اللَّوْحِ، ويَحْتاجُ إلى نَقْلٍ، وإنْ صَحَّحْنا أنَّ تَرْتِيبَ القُرْآنِ الَّذِي في مَصاحِفِنا كَما في اللَّوْحِ، فَلَرُبَّما كُتِبَ التّالِي ثُمَّ كُتِبَ المَتْلُوُّ، وغَلَبَةُ الظَّنِّ أمْرٌ آخَرُ، (وثانِيها) فاتِحَةُ القُرْآنِ، لِما قَدَّمْنا حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، (وثالِثُها ورابِعُها) أُمُّ الكِتابِ وأُمُّ القُرْآنِ، وحَدِيثُ: «(لا يَقُولَنَّ أحَدُكم أُمُّ الكِتابِ، ولْيَقُلْ: فاتِحَةُ الكِتابِ)،» لا أصْلَ لَهُ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ في الصِّحاحِ تَسْمِيَتُها بِهِ، كَما لا يَخْفى عَلى المُتَتَبِّعِ، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّ الِابْتِداءَ كِتابَةً أوْ تِلاوَةً أوْ نُزُولًا عَلى قَوْلٍ أوْ صَلاةٍ بِها، وما بَعْدَها تالٍ لَها، فَهي كالأُمِّ الَّتِي يَتَكَوَّنُ الوَلَدُ بَعْدَها، ويُقالُ أيْضًا لِلرّايَةِ: أُمٌّ، لِتَقَدُّمِها واتِّباعِ الجَيْشِ لَها، ومِنهُ أُمُّ القُرى، أوْ لِاشْتِمالِها كَما قالَ العَلّامَةُ عَلى مَقاصِدِ المَعانِي الَّتِي في القُرْآنِ مِنَ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ تَعالى بِما هو أهْلُهُ، ومِنَ التَّعَبُّدِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، ومِنَ الوَعِيدِ، أمّا الثَّناءُ فَظاهِرٌ، وأمّا التَّعَبُّدُ فَإمّا مِنَ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ لِأنَّهُ لِلتَّعْلِيمِ، فَيُقَدَّرُ أمْرٌ يُفِيدُهُ، والأمْرُ الإيجابِيُّ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنِ الضِّدِّ في الجُمْلَةِ، ولا نَرى فِيهِ بَأْسًا، أوْ مِنَ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ إنْ أُرِيدَ بِهِ مِلَّةُ الإسْلامِ، أوْ مِن تَقْدِيرِ قُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، ومِن تَأْخِيرِ مُتَعَلِّقِهِ، وإمّا مِن ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ فَإنَّهُ إخْبارٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِالعِبادَةِ، وهي التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ بِارْتِسامِ ما أمَرَ السَّيِّدُ أوْ نَهى، فَيَدُلُّ في الجُمْلَةِ عَلى أنَّهم مُتَعَبَّدُونَ، ولا يُرَدُّ عَلى المُعْتَزِلَةِ عَدَمُ سَبْقِ أمْرٍ ونَهْيٍ أصْلًا، ويُجابُ عِنْدَنا بَعْدَ تَسْلِيمِ العَدَمِ لِلْأوَّلِيَّةِ بِأنَّ رَأْسَ العِبادَةِ التَّوْحِيدُ، وفي الصَّدْرِ ما يُرْشِدُ إلَيْهِ، لا سِيَّما وقَدْ سَبَقَ تَكْلِيفُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وتَبْلِيغِ السُّورَةِ، وذَلِكَ يَكْفِي، وأمّا الوَعْدُ والوَعِيدُ فَمِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ أوْ مِن يَوْمِ الدِّينِ، أيِ الجَزاءِ، والمَجْزِيُّ إمّا ما يَسُرُّ أوْ ما يَضُرُّ، وهُما الثَّوابُ والعِقابُ، وإنَّما كانَتِ المَقاصِدُ هَذِهِ لِأنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وإنْزالَ الكُتُبِ رَحْمَةً لِلْعِبادِ، وإرْشادًا إلى ما يُصْلِحُهم مَعاشًا، ومَعادًا، وذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ مَن يَقْدِرُ عَلى إيصالِ النِّعَمِ إيجادًا، وإمْدادًا، ثُمَّ التَّوَصُّلِ إلَيْهِ بِما يَرْبِطُ العَتِيدَ، ويَجْلِبُ المَزِيدَ عَمَلًا واعْتِقادًا، والتَّنَصُّلِ عَمّا يُفْضِي بِهِ إلى رَجْعِ المُحَصَّلِ، ومَنعِ المُسْتَحْصَلِ قُلُوبًا وأجْسادًا، والثَّناءُ فَرْعُ مَعْرِفَةِ المَثْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِحْقاقِ، وتَدْخُلُ المَعْرِفَةُ بِصِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ، ومِنها ما مِنهُ الإرْسالُ والإنْزالُ والتَّفاوُتُ بَيْنَ المُطِيعِ، والمُذْنِبِ، فَدَخَلَ الإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ والنُّبُوّاتِ والمَعادِ عَلى الإجْمالِ، والتَّعَبُّدُ يُتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ التَّوَصُّلِ والتَّنَصُّلِ، ويُدْخَلُ فِيهِ مِن وجْهِ الإيمانِ بِالنُّبُوّاتِ، وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ الكِتابِ، والمَلائِكَةِ، إذِ الأمْرُ والنَّهْيُ فَرْعُ ثُبُوتِ ذَلِكَ في الجُمْلَةِ، والوَعْدُ والوَعِيدُ يَتَضَمَّنانِ الإيمانَ بِالمَعادِ، ويَبْعَثانِ عَلى التَّعَبُّدِ، والنّاسُ كَإبِلٍ مِائَةٍ لا تَجِدُ فِيها راحِلَةً، والأكْثَرُونَ بَعَثَتْهُمُ الرَّغْبَةُ والرَّهْبَةُ، وأوْسَطُهُمُ الرَّجاءُ والخَوْفُ، والخَواصُّ وقَلِيلٌ ما هُمُ الأُنْسُ والهَيْبَةُ، فَبِالثَّلاثَةِ تَمَّ الإرْشادُ إلى مَصالِحِ المَعاشِ والمَعادِ، ولا أحْصُرُ لَكَ وجْهَ الحَصْرِ بِهَذا، فَلِمَسْلَكِ الذِّهْنِ اتِّساعٌ، ولَكَ أنْ تَرُدَّ الثَّلاثَةَ إلى اثْنَيْنِ، فَتُدْرِجُ الثَّناءَ في التَّعَبُّدِ، إذْ لا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، ولَعَلَّهُ إنَّما جَعَلَهُ قَسِيمًا لَهُ تَلْمِيحًا إلى أنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واجِبٌ عَقْلًا، مُراعاةً لِمَذْهَبِ الِاعْتِزالِ، ولَمْ يُبالِ البَيْضاوِيُّ بِذَلِكَ فَعَبَّرَ بِما عَبَّرَ بِهِ مِنَ المَقالِ، أوْ لِاشْتِمالِها عَلى جُمْلَةِ مَعانِيهِ مِنَ الحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ، والأحْكامِ العَمَلِيَّةِ الَّتِي هي سُلُوكُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، والِاطِّلاعُ عَلى مَراتِبِ السُّعَداءِ، ومَنازِلِ الأشْقِياءِ، والأوَّلُ (p-36)مُسْتَفادٌ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ والثّانِي مِن قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ وما بَعْدَهُ، وسُلُوكُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، مِن قَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا﴾ الآيَةَ، والِاطِّلاعُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلَخْ، وفِيهِ وعْدٌ ووَعِيدٌ، فَدَخَلا فِيهِ، والأمْثالُ والقَصَصُ المَقْصُودُ بِها الِاتِّعاظُ، وكَذا الدُّعاءُ والثَّناءُ، وهَذِهِ جُمْلَةُ المَعانِي القُرْآنِيَّةِ إجْمالًا مُطابَقَةً والتِزامًا، وأبْسَطُ مِن هَذا أنْ يُقالَ: إنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى أرْبَعَةِ أنْواعٍ مِنَ العُلُومِ الَّتِي هي مَناطُ الدِّينِ، (الأوَّلُ) عِلْمُ الأُصُولِ، ومَعاقِدُهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى، وصِفاتِهِ، وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ومَعْرِفَةُ النُّبُوّاتِ وهي المُرادَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ والمَعادِ المُومى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ . (الثّانِي) عِلْمُ الفُرُوعِ، وأُسُّهُ العِباداتُ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ وهي بَدَنِيَّةٌ ومالِيَّةٌ، وهُما مُفْتَقِرانِ إلى أُمُورِ المَعاشِ مِنَ المُعامَلاتِ والمُناكَحاتِ، ولا بُدَّ لَها مِنَ الحُكُوماتِ، فَتَمَهَّدَتِ الفُرُوعُ عَلى الأُصُولِ، (الثّالِثُ) عِلْمُ ما بِهِ يَحْصُلُ الكَمالُ، وهو عِلْمُ الأخْلاقِ، وأجَلُّهُ الوُصُولُ إلى الحَضْرَةِ الصَّمَدانِيَّةِ، والسُّلُوكِ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِقامَةِ في مَنازِلِ هاتِيكَ الرُّتَبِ العَلِيَّةِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ (الرّابِعُ) عِلْمُ القَصَصِ والأخْبارِ عَنِ الأُمَمِ السّالِفَةِ السُّعَداءِ والأشْقِياءِ، وما يَتَّصِلُ بِها مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ وإذا انْبَسَطَ ذِهْنُكَ أتَيْتَ بِأبْسَطِ مِن ذَلِكَ، وهَذانِ الوَجْهانِ يَسْتَدْعِيانِ حَمْلَ الكِتابِ عَلى المَعانِي، أوْ تَقْدِيرَها في التَّرْكِيبِ الإضافِيِّ، والوَجْهُ الأوَّلُ لا يَقْتَضِيهِ ومِن هَذا رَجَّحَهُ البَعْضُ، وإنْ كانَ أدَقَّ وأحْلى، لا لِأنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِما ما ورَدَ مِن أنَّ الفاتِحَةَ تَعْدِلُ ثُلُثَيِ القُرْآنِ إذْ يُزِيلُهُ إذا ثَبَتَ أنَّ الإجْمالَ لا يُساوِي التَّفْصِيلَ، فَزِيادَةُ مَبانِيهِ مَنزِلَةً مَنزِلَةً ثُلُثٌ آخَرُ مِنَ الثَّوابِ، قالَهُ الشِّهابُ ثُمَّ قالَ: ومِنَ العَجَبِ ما قِيلَ هُنا مِن أنَّ ذَلِكَ لِاشْتِمالِها عَلى دِلالَةِ التَّضَمُّنِ، والِالتِزامِ، وهُما ثُلُثا الدِّلالاتِ انْتَهى، وأنا أقُولُ: الأعْجَبُ مِن هَذا تَوْجِيهُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ ما رَواهُ الدَّيْلَمِيُّ في الفِرْدَوْسِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ: فاتِحَةُ الكِتابِ تُجْزِي ما لا يُجْزِي شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ، ولَوْ أنَّ فاتِحَةَ الكِتابِ جُعِلَتْ في كِفَّةِ المِيزانِ، وجُعِلَ القُرْآنُ في الكِفَّةِ الأُخْرى لَفُضِّلَتْ فاتِحَةُ الكِتابِ عَلى القُرْآنِ سَبْعَ مَرّاتٍ، فَإنَّهُ لا يَتَبادَرُ مِنهُ إلّا الفَضْلُ في الثَّوابِ، فَيُعارِضُ ظاهِرُهُ ذَلِكَ الخَبَرَ عَلى تَوْجِيهِهِ، وعَلى تَوْجِيهِ صاحِبِ القِيلِ لا تَعارُضَ، نَعَمْ، أنَّهُ بَعِيدٌ، ويُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الخَبَرَيْنِ، وبِهِ يَزُولُ الإشْكالُ بِأنَّ الأوَّلَ كانَ أوَّلًا وتَضاعَفَ الثَّوابُ ثانِيًا، ولا حَجْرَ عَلى الرَّحْمَةِ الواسِعَةِ، أوْ بِأنَّ اخْتِلافَ المَقالِ لِاخْتِلافِ الحالِ، أوْ بِأنَّ ما يَعْدِلُ الشَّيْءَ كُلَّهُ يَعْدِلُ ثُلُثَيْهِ، أوْ بِأنَّ القُرْآنَ في أحَدِ الخَبَرَيْنِ أوْ فِيهِما بِمَعْنى الصَّلاةِ، مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ وذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ مَراتِبِ النّاسِ في قِراءَتِهِمْ وصَلَواتِهِمْ، فَلْيُتَدَبَّرْ، وعَلى العِلّاتِ لا يُقاسانِ بِما قِيلَ في وجْهِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، لِأنَّها أفْضَلُ السُّوَرِ، أوْ لِأنَّ حُرْمَتَها كَحُرْمَةِ القُرْآنِ كُلِّهِ، أوْ لِأنَّ مَفْزَعَ أهْلِ الإيمانِ إلَيْها، أوْ لِأنَّها مُحْكَمَةٌ، والمُحْكَماتُ أُمُّ الكِتابِ، ولا أعْتَرِضُ عَلى البَعْضِ بِعَدَمِ الِاطِّرادِ لِأنَّ وجْهَ التَّسْمِيَةِ لا يَجِبُ اطِّرادُهُ، ولَكِنِّي أُفَوِّضُ الأمْرَ إلَيْكَ، وسَلامُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْكَ، (لا يُقالُ): إذا كانَتِ الفاتِحَةُ جامِعَةً لِمَعانِي الكِتابِ فَلِمَ سَقَطَ مِنها سَبْعَةُ أحْرُفٍ الثّاءُ والجِيمُ والخاءُ والزّايُ والشِّينُ والظّاءُ والفاءُ، لِأنّا نَقُولُ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الكَمالَ المَعْنَوِيَّ لا يَلْزَمُهُ الكَمالُ الصُّورِيُّ، ولا يَنْقُصُهُ نُقْصانُهُ، إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ، وكانَتْ سَبْعَةً مُوافِقَةً لِعَدَدِ الآيِ المُشْتَمِلِ عَلى الكَثِيرِ مِنَ الأسْرارِ، وكانَتْ مِنَ الحُرُوفِ الظَّلَمانِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ في المُتَشابِهِ مِن أوائِلِ السُّوَرِ، ويَجْمَعُها بَعْدَ إسْقاطِ المُكَرَّرِ: (صِراطٌ عَلى حَقٍّ نُمْسِكُهُ) وهي النُّورانِيَّةُ المُشْتَمِلَةُ عَلَيْها بِأسْرِها الفاتِحَةُ لِلْإشارَةِ إلى غَلَبَةِ الجَمالِ عَلى الجَلالِ المُشْعِرِ بِها تَكَرُّرُ ما يَدُلُّ عَلى الرَّحْمَةِ في الفاتِحَةِ، وإنَّما لَمْ يَسْقُطِ السَّبْعَةُ الباقِيَةُ مِن هَذا النَّوْعِ فَتَخْلُصُ النُّورانِيَّةُ لِيُعْلَمَ أنَّ الأمْرَ مَشُوبٌ، ولا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أنِّي أنا الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿وأنَّ عَذابِي هو العَذابُ الألِيمُ﴾ إشارَةٌ وأيُّ إشارَةٍ إلى ذَلِكَ لِمَن تَأمَّلَ حالَ الجُمْلَتَيْنِ، عَلى أنَّ في كَوْنِ النُّورانِيَّةِ وهي أرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا مَذْكُورَةً (p-37)بِتَمامِها، والظَّلَمانِيَّةِ مَذْكُورَةً مِنها سَبْعَةٌ، وإذا طُوبِقَتِ الآحادُ يَحْصُلُ نُورانِيٌّ مَعَهُ ظَلَمانِيٌّ، ونُورانِيٌّ خالِصٌ إشارَةً إلى قِسْمَيِ المُؤْمِنِينَ، فَمُؤْمِنٌ لَمْ تَشُبْ نُورَ إيمانِهِ ظُلْمَةُ مَعاصِيهِ، ومُؤْمِنٌ قَدْ شابَهَ ذَلِكَ، وفِيهِ رَمْزٌ إلى أنَّهُ لا مُنافاةَ بَيْنَ الإيمانِ والمَعْصِيَةِ، فَلا تُطْفِئُ ظُلْمَتُها نُورَهُ، «(ولا يَزْنِي الزّانِي وهو مُؤْمِنٌ)» مَحْمُولٌ عَلى الكَمالِ، ولَيْسَ البَحْثُ لِهَذا، وإذا لُوحِظَ السّاقِطُ وهو الظَّلَمانِيُّ المَحْضُ المُشِيرُ إلى الظّالِمِ المَحْضِ السّاقِطِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبارِ، والمَذْكُورُ هو النُّورانِيُّ المَحْضُ، المُشِيرُ إلى المُؤْمِنِ المَحْضِ، والنُّورانِيُّ المَشُوبُ المُشِيرُ إلى المُؤْمِنِ المَشُوبِ، يَظْهَرُ سِرُّ التَّثْلِيثِ فِي: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ وإنَّما كانَ السّاقِطُ هَذِهِ السَّبْعَةَ بِخُصُوصِها مِن تِلْكَ الأرْبَعَةَ عَشَرَ، ولَمْ يَعْكِسْ، فَيُسْقِطَ المُثْبَتَ ويُثْبِتَ السّاقِطَ، أوْ يُسْقِطَ سَبْعَةً تُؤْخَذُ مِن هَذا، وهَذا لِسِرِّ عِلْمِهِ، وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ، نَعَمْ، في كَوْنِ السّاقِطِ مُعْجَمًا فَقَطْ إشارَةٌ إلى أنَّ الغَيْنَ في العَيْنِ، والرَّيْنَ في البَيْنِ، فَلِهَذا وقَعَ الحِجابُ وحَصَلَ الِارْتِيابُ، وهَذا ما يَلُوحُ لِأمْثالِنا مِن أسْرارِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، وأيْنَ هو مِمّا يَظْهَرُ لِلْعارِفِينَ الغارِقِينَ مِن بِحارِهِ، المُتَضَلِّعِينَ مِن ماءِ زَمْزَمِ أسْرارِهِ. ولِمَوْلانا العَلّامَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرّازِيِّ في هَذا المَقامِ كَلامٌ لَيْسَ لَهُ في التَّحْقِيقِ أدْنى إلْمامٍ، حَيْثُ جَعَلَ سَبَبَ إسْقاطِ هَذِهِ الحُرُوفِ أنَّها مُشْعِرَةٌ بِالعَذابِ، فالثّاءُ تَدُلُّ عَلى الثُّبُورِ، والجِيمُ أوَّلُ حَرْفٍ مِن جَهَنَّمَ، والخاءُ يُشْعِرُ بِالخِزْيِ، والزّايُ والشِّينُ مِنَ الزَّفِيرِ والشَّهِيقِ، وأيْضًا الزّايُ تَدَلُّ عَلى الزَّقُّومِ، والشِّينُ تَدَلُّ عَلى الشَّقاءِ، والظّاءُ أوَّلُ الظِّلِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿انْطَلِقُوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ وأيْضًا تَدُلُّ عَلى لَظًى، والفاءُ عَلى الفِراقِ، ثُمَّ قالَ: فَإنْ قالُوا: لا حَرْفَ مِنَ الحُرُوفِ إلّا وهو مَذْكُورٌ في اسْمِ شَيْءٍ يُوجِبُ نَوْعًا مِنَ العَذابِ، فَلا يَبْقى لِما ذَكَرْتُمْ فائِدَةٌ، فَنَقُولُ: الفائِدَةُ فِيهِ أنَّهُ قالَ في صِفَةِ جَهَنَّمَ: ﴿لَها سَبْعَةُ أبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنهم جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ ثُمَّ أنَّهُ تَعالى أسْقَطَ سَبْعَةً مِنَ الحُرُوفِ مِن هَذِهِ السُّورَةِ، وهي أوائِلُ ألْفاظٍ دالَّةٍ عَلى العَذابِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن قَرَأ هَذِهِ السُّورَةَ، وآمَنَ بِها، وعَرَفَ حَقائِقَها، صارَ آمِنًا مِنَ الدَّرَكاتِ السَّبْعِ في جَهَنَّمَ، انْتَهى، ولا يَخْفى ما فِيهِ، وجَوابُهُ لا يَنْفَعُهُ ولا يُغْنِيهِ، إذْ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: فَلْتَسْقُطِ الذّالُ، والواوُ، والنُّونُ، والحاءُ، والعَيْنُ، والمِيمُ، والغَيْنُ، إذِ الواوُ مِنَ الوَيْلِ، والذّالُ مِنَ الذِّلَّةِ، والنُّونُ مِنَ النّارِ، والحاءُ مِنَ الحَمِيمِ، والعَيْنُ مِنَ العَذابِ، والمِيمُ مِنَ المِهادِ، والغَيْنُ مِنَ الغَواشِي، والآياتُ ظاهِرَةٌ، والكُلِّ في أهْلِ النّارِ، وتَكُونُ الفائِدَةُ في إسْقاطِها كالفائِدَةِ في إسْقاطِ تِلْكَ مِن غَيْرِ فَرْقٍ أصْلًا، عَلى أنَّ في كَلامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ ومَعَ تَسْلِيمِ سَلامَتِهِ مِمّا قِيلَ، أوْ يُقالُ، لا أرْتَضِيهِ لِلْفَخْرِ، وهو السَّيِّدُ الَّذِي غَدا سَعْدَ المِلَّةِ، وحُجَّةَ الإسْلامِ، وناصِرَ أهْلِهِ، وأمّا نِسْبَتُهُ (p-38)لِأمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ حِينَ سَألَ قَيْصَرُ الرُّومِ مُعاوِيَةَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْ، فَسَألَ عَلِيًّا فَأجابَ، فَلا أصْلَ لَهُ، وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَما مَرامُ الأمِيرِ بِالِاكْتِفاءِ عَلى هَذا المِقْدارِ إلّا التَّنْبِيهُ لِلسّائِلِ عَلى ما لا يَخْفى عَلَيْكَ مِنَ الأسْرارِ، فافْهَمْ ذاكَ، واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى هُداكَ. (وخامِسُها وسادِسُها وسابِعُها) الكَنْزُ، والوافِيَةُ، والكافِيَةُ، لِما مَرَّ مِنِ اشْتِمالِها عَلى الجَواهِرِ المَكْنُوزَةِ، فَتَفِي وتَكْفِي، أوْ لِأنَّها لا تُنَصَّفُ في الصَّلاةِ، ولا يَكْفِي فِيها غَيْرُها، (وثامِنُها) الأساسُ، لِأنَّها أصْلُ القُرْآنِ وأوَّلُ سُورَةٍ فِيهِ، (وتاسِعُها وعاشِرُها والحادِيَ عَشَرَ والثّانِيَ عَشَرَ والثّالِثَ عَشَرَ) سُورَةُ الحَمْدِ، وسُورَةُ الشُّكْرِ، وسُورَةُ الدُّعاءِ، وسُورَةُ تَعْلِيمِ المَسْألَةِ، وسُورَةُ السُّؤالِ، لِاشْتِمالِها عَلى ذَلِكَ، أمّا اشْتِمالُها عَلى الحَمْدِ فَظاهِرٌ، وكَذا عَلى الشُّكْرِ لَدى مَن أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ بِالفَهْمِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الِاسْمانِ كَأُمِّ القُرْآنِ وأُمِّ الكِتابِ. وأمّا الِاشْتِمالُ عَلى الثّالِثِ فَكالِاشْتِمالِ عَلى الأوَّلِ، بَلْ أظْهَرُ، وأمّا تَعْلِيمُ المَسْألَةِ فَلِأنَّها بُدِئَتْ بِالثَّناءِ قَبْلَهُ، والخامِسُ كالثّالِثِ، وهُما كَذَيْنِكَ الثّالِثِ والرّابِعِ كَما لا يَخْفى، (والرّابِعَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَرَ) سُورَةُ المُناجاةِ، وسُورَةُ التَّفْوِيضِ لِأنَّ العَبْدَ يُناجِي رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وبِالتّالِي يَحْصُلُ التَّفْوِيضُ، (والسّادِسَ عَشَرَ والسّابِعَ عَشَرَ والثّامِنَ عَشَرَ) الرُّقْيَةُ والشِّفاءُ والشّافِيَةُ، والأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ، (والتّاسِعَ عَشَرَ) سُورَةُ الصَّلاةِ لِأنَّها واجِبَةٌ أوْ فَرِيضَةٌ فِيها، والِاسْتِحْبابُ مَذْهَبُ بَعْضِ المُجْتَهِدِينَ، ورِوايَةٌ عَنِ البَعْضِ في النَّفَلِ، قِيلَ: ومِن أسْمائِها الصَّلاةُ لِحَدِيثِ: «(قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ)،» وأرادَ السُّورَةَ، والمَجازُ اللُّغَوِيُّ لِعَلاقَةِ الكُلِّيَّةِ والجُزْئِيَّةِ أوِ اللُّزُومِ حَقِيقَةً أوْ حُكْمًا كالمَجازِ في الحَذْفِ مُحْتَمَلٌ، (والعِشْرُونَ) النُّورُ لِظُهُورِها بِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِها، أوْ لِتَنْوِيرِها القُلُوبَ لِجَلالَةِ قَدْرِها، أوْ لِأنَّها لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ المَعانِي عِبارَةٌ عَنِ النُّورِ بِمَعْنى القُرْآنِ، (والحادِي والعِشْرُونَ) القُرْآنُ العَظِيمُ، وهو ظاهِرٌ مِمّا قَدَّمْناهُ، (والثّانِي والعِشْرُونَ) السَّبْعُ المَثانِي لِأنَّها سَبْعُ آياتٍ بِاتِّفاقٍ، وما رَأيْنا مُشارِكًا لَها سِوى ”أرَأيْت“ والقَوْلُ بِأنَّها ثَمانِ كالقَوْلِ بِأنَّها تِسْعٌ شاذٌّ لا يُعْبَأُ بِهِ، أوْ وهْمٌ مِنَ الرّاوِي، إلّا أنَّ مِنهم مَن عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً دُونَ ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ومِنهم مَن عَكَسَ، والمَدارُ الرِّوايَةُ، فَلا يُوَهَّنُ الثّانِي أنَّ وِزانَ الآيَةِ لا يُناسِبُ وِزانَ فَواصِلِ السُّوَرِ، عَلى أنَّ في سُورَةِ النَّصْرِ ما هو مِن هَذا البابِ، وتُثَنّى وتُكَرَّرُ في كُلِّ رَكْعَةٍ وصَلاةٍ ذاتِ رُكُوعٍ، أوِ المُرادُ المُتَعارَفُ الأغْلَبُ مِنَ الصَّلاةِ، فَلا تُرَدُّ الرَّكْعَةُ الواحِدَةُ ولا صَلاةُ الجِنازَةِ عَلى أنَّ في البُتَيْراءِ اخْتِلافًا، وصَلاةُ الجِنازَةِ دُعاءٌ لا صَلاةٌ حَقِيقَةً، وقِيلَ: وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تُثَنّى بِسُورَةٍ أُخْرى، أوْ لِأنَّها نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، أوْ لِأنَّها عَلى قِسْمَيْنِ دُعاءٍ وثَناءٍ، أوْ لِأنَّها كُلَّما قَرَأ العَبْدُ مِنها آيَةً ثَنّاهُ اللَّهُ تَعالى بِالإخْبارِ عَنْ فِعْلِهِ كَما في الحَدِيثِ المَشْهُورِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وهَذِهِ الأقْوالُ مَبْنِيَّةٌ عَلى أنْ تَكُونَ المَثانِي مِنَ التَّثْنِيَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِنَ الثَّناءِ لِما فِيها مِنَ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ تَعالى، أوْ لِما ورَدَ مِنَ الثَّناءِ عَلى مَن يَتْلُوها، وأنْ تَكُونَ مِنَ الثُّنْيا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَثْناها لِهَذِهِ الأُمَّةِ والحَمْدُ لِلَّهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ الحِكْمَةُ في تَسْوِيرِ القُرْآنِ سُوَرًا كالكُتُبِ خِلافًا لِلزَّرْكَشِيِّ أنْ يَكُونَ أنْشَطَ لِلْقارِئِ، وأبْعَثَ عَلى التَّحْصِيلِ كالمُسافِرِ إذا قَطَعَ مِيلًا أوْ فَرْسَخًا نَفَّسَ ذَلِكَ مِنهُ، ونَشِطَ لِلْمَسِيرِ، وإذا أخَذَ الحافِظُ السُّورَةَ اعْتَقَدَ أنَّهُ أخَذَ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى طائِفَةً مُسْتَقِلَّةً، فَيَعْظُمُ عِنْدَهُ ما حَفِظَ، وأيْضًا الجِنْسُ إذا انْطَوى تَحْتَهُ أنْواعٌ وأصْنافٌ كانَ أحْسَنَ مِن أنْ يَكُونَ تَحْتَهُ بابٌ واحِدٌ، مَعَ أنَّ في ذَلِكَ تَحْقِيقَ كَوْنِ السُّورَةِ بِمُجَرَّدِها مُعْجِزَةً وآيَةً مِن آياتِ اللَّهِ تَعالى، والحِكْمَةُ في كَوْنِها طِوالًا وقِصارًا أظْهَرُ مِن أنْ تَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب