الباحث القرآني

فَلَمّا اسْتَجْمَعَ الأمْرُ اسْتِحْقاقًا وتَحْبِيبًا وتَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا كانَ مِن شَأْنِ كُلِّ ذِي لُبٍّ الإقْبالُ إلَيْهِ وقَصْرُ الهِمَمِ عَلَيْهِ فَقالَ عادِلًا عَنْ أُسْلُوبِ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ لِهَذا مُقَدِّمًا (p-٣٣)لِلْوَسِيلَةِ عَلى طَلَبِ الحاجَةِ لِأنَّهُ أجْدَرُ بِالإجابَةِ ﴿إيّاكَ﴾ أيْ يا مَن هَذِهِ الصِّفاتُ صِفاتُهُ ! ﴿نَعْبُدُ﴾ إرْشادًا لَهم إلى ذَلِكَ؛ ومَعْنى ﴿نَعْبُدُ﴾ كَما قالَ الحَرالِّيُّ: نَبْلُغُ الغايَةَ في أنْحاءِ التَّذَلُّلِ، وأعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ مُكَرِّرًا لِلضَّمِيرِ حَثًّا عَلى المُبالَغَةِ في طَلَبِ العَوْنِ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إشارَةً إلى أنَّ عِبادَتَهُ لا تَتَهَيَّأُ إلّا بِمَعُونَتِهِ وإلى أنَّ مِلاكَ الهِدايَةِ بِيَدِهِ: فانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأ سُبْحانَهُ بِالذّاتِ، ثُمَّ دَلَّ عَلَيْهِ بِالأفْعالِ، ثُمَّ رَقى إلى الصِّفاتِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى الذّاتِ إيماءً إلى أنَّهُ الأوَّلُ [ و] الآخِرُ المُحِيطُ، فَلَمّا حَصَلَ الوُصُولُ إلى شُعْبَةٍ مِن عِلْمِ الأفْعالِ والصِّفاتِ عُلِمَ الِاسْتِحْقاقُ لِلْإفْرادِ بِالعِبادَةِ (p-٣٤)فَعُلِمَ العَجْزُ عَنِ الوَفاءِ بِالحَقِّ فَطُلِبَتِ الإعانَةُ، فَهو كَقَوْلِهِ ﷺ فِيما رَواهُ مُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ في الصَّلاةِ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ في الدُّعاءِ والنَّسائِيُّ وهَذا لَفْظُهُ في التَّعَوُّذِ عَنْ عائِشَةَ رِضَيَ اللَّهُ عَنْها: «أعُوذُ بِعَفْوِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وبِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِكَ مِنكَ»؛ ثُمَّ أتْبَعَهُ فِيما زادَ عَنِ النَّسائِيِّ الِاعْتِرافَ بِالعَجْزِ في قَوْلِهِ: «لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ» . وفي آخِرِ سُورَةِ اقْرَأْ شَرْحٌ بَدِيعٌ لِهَذا الحَدِيثِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهَذِهِ الآياتُ أيْ هَذِهِ وما بَعْدَها مِمّا جاءَ كَلامُ اللَّهِ فِيهِ جارِيًا عَلى لِسانِ خَلْقِهِ فَإنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ كَلامُ اللَّهِ لَكِنْ مِنهُ ما هو كَلامُ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ ومِنهُ ما هو كَلامُ اللَّهِ عَمّا كانَ يَجِبُ أنْ يَنْطِقَ بِهِ الخَلْقُ عَلى اخْتِلافِ (p-٣٥)ألْسِنَتِهِمْ وأحْوالِهِمْ وتَرَقِّي دَرَجاتِهِمْ ورُتَبِ تَفاضُلِهِمْ مِمّا لا يُمْكِنُهُمُ البُلُوغُ إلى كُنْهِهِ لِقُصُورِهِمْ وعَجْزِهِمْ، فَتَوَلّى اللَّهُ الوَكِيلَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ الإنْباءَ عَنْهم بِما كانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِمّا لا يَبْلُغُ إلَيْهِ وُسْعُ خَلْقِهِ وجَعَلَ تِلاوَتَهم لِما أنْبَأ بِهِ عَلى ألْسِنَتِهِمْ نازِلًا لَهم مَنزِلَةَ أنْ لَوْ كانَ ذَلِكَ النُّطْقُ ظاهِرًا مِنهم لُطْفًا بِهِمْ وإتْمامًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، لِأنَّهُ تَعالى لَوْ وكَلَهم في ذَلِكَ إلى أنْفُسِهِمْ لَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ تَصْلُحُ بِهِ أحْوالُهم في دِينِهِمْ ودُنْياهم، ولِذَلِكَ لا يَسْتَطِيعُونَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ إلّا أنْ يَتَوَلّى هو تَعالى بِما يُلَقِّنُهم مِن كَلامِهِ مِمّا يَكُونُ أداءً لِحَقِّ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وإذا كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ الإنْباءَ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِما يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِن حَقِّ رَبِّهِمْ فَكَيْفَ بِما يَكُونُ نَبَأً عَنْ تَحْمِيدِ اللَّهِ وتَمْجِيدِهِ، فَإذًا لَيْسَ لَهم (p-٣٦)وُصْلَةٌ إلّا تِلاوَةَ كَلامِهِ العَلِيِّ بِفَهْمٍ كانَ ذَلِكَ أوْ بِغَيْرِ فَهْمٍ، وتِلْكَ هي صَلاتُهم المُقَسَّمَةُ الَّتِي [ عَبَّرَ ] عَنْها فِيما صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: «قَسَمَتْ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ثُمَّ تَلا هَذِهِ السُّورَةَ؛ فَجاءَتِ الآياتُ الثَّلاثُ الأُوَلُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعالى نَفْسَهُ، فَإذا تَلاها العَبْدُ قَبِلَ اللَّهُ مِنهُ تِلاوَةَ عَبْدِهِ كَلامَهُ وجَعَلَها مِنهُ حَمْدًا وثَناءً وتَمْجِيدًا، وجاءَتْ هَذِهِ الآياتُ عَلى لِسانِ خَلْقِهِ فَكانَ ظاهِرُها التِزامَ عُهَدِ العِبادَةِ وهو ما يَرْجِعُ إلى العَبْدِ وعِمادُها طَلَبُ المَعُونَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وهو (p-٣٧)ما يَرْجِعُ إلى الحَقِّ، فَكانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَبْدِهِ وتَقَدَّمَتْ بَيْنِيَّتُهُ تَعالى؛ لِأنَّ المَعُونَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى العِبادَةِ وواقِعَةٌ بِها وهو مُجابٌ فِيما طَلَبَ مِنَ المَعُونَةِ، فَمَن كانَتْ عَلَيْهِ مَؤُنَةُ شَيْءٍ فاسْتَعانَ اللَّهُ فِيها عَلى مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ جاءَتْهُ المَعُونَةُ عَلى قَدْرِ مَؤُنَتِهِ، فَلا يَقَعُ لِمَنِ اعْتَمَدَ مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ عَجْزٌ عَنْ مَرامٍ أبَدًا وإنَّما يَقَعُ العَجْزُ بِبَخْسِ الحَظِّ مِنَ اللَّهِ تَعالى والجَهْلِ بِمُقْتَضى ما أحْكَمَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ والغَفْلَةُ عَنِ النِّعْمَةِ بِها، وفي قَوْلِهِ:﴿نَعْبُدُ﴾ بِنُونِ الِاسْتِتْباعِ إشْعارٌ بِأنَّ الصَّلاةَ بُنِيَتْ عَلى الِاجْتِماعِ. انْتَهى. وفي الآيَةِ نَدْبٌ إلى اعْتِقادِ العَجْزِ واسْتِشْعارِ الِافْتِقارِ والِاعْتِصامِ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، فاقْتَضى ذَلِكَ تَوْجِيهَ الرَّغَباتِ إلَيْهِ بِالسُّؤالِ فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب