فإذا قال:
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ انتظرَ جواب ربه له: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وتأمل عبوديةَ هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميَّز الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وفَقِهَ سرّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميَّزَ بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة "إياك نعبد" والتوحيد الذي تقتضيه كلمة "إياك نستعين"، وفَقِهَ سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما، وفَقِهَ تقديم "إياك نعبد" على "إياك نستعين"، وتقديم المعمول على الفعل مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأخصر، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة، وعلمَ ما تدفع كل واحدة من الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية، وكيف تُدخِله الكلمتان في صريح العبودية، وعَلِمَ كيف يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين، بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلِّ الغايات وأكمل الوسائل، وكيف جيء بهما بضمير الخطاب والحضور دون ضمير الغائب.
وهذا موضع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطنا القول فيه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، وفي كتاب "الرسالة المصرية".
[فائدة]
والعَبْدُ إذا عَزَمَ عَلى فِعْلِ أمْرٍ فَعَلَيْهِ أنْ يَعْلَمَ أوَّلًا هَلْ هو طاعَةٌ لِلَّهِ أمْ لا؟ فَإنْ لَمْ يَكُنْ طاعَةٌ فَلا يَفْعَلُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مُباحًا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلى الطّاعَةِ، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ طاعَةً، فَإذا بانَ لَهُ أنَّهُ طاعَةٌ فَلا يُقْدِمُ عَلَيْهِ حَتّى يَنْظُرَ هَلْ هو مُعانٌ عَلَيْهِ أمْ لا؟ فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُعانًا عَلَيْهِ فَلا يُقْدِمُ عَلَيْهِ فَيُذِلَّ نَفْسَهُ، وإنْ كانَ مُعانًا عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ نَظَرٌ آخَرُ، وهو أنْ يَأْتِيَهُ مِن بابِهِ؛ فَإنْ أتاهُ مِن غَيْرِ بابِهِ أضاعَهُ أوْ فَرَّطَ فِيهِ أوْ أفْسَدَ مِنهُ شَيْئًا؛ فَهَذِهِ الأُمُورُ الثَّلاثَةُ أصْلُ سَعادَةِ العَبْدِ وفَلاحِهِ، وهي مَعْنى قَوْلِ العَبْدِ:
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾فَأسْعَدُ الخَلْقِ أهْلُ العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ والهِدايَةِ إلى المَطْلُوبِ، وأشْقاهم مَن عُدِمَ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ، ومِنهم مَن يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِن
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ ونَصِيبُهُ مِن
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَعْدُومٌ أوْ ضَعِيفٌ؛ فَهَذا مَخْذُولٌ مُهِينٌ مَحْزُونٌ، ومِنهم مَن يَكُونُ نَصِيبُهُ مِن
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَوِيًّا ونَصِيبُهُ مِن
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ ضَعِيفًا أوْ مَفْقُودًا؛ فَهَذا لَهُ نُفُوذٌ وتَسَلُّطٌ وقُوَّةٌ، ولَكِنْ لا عاقِبَةَ لَهُ، بَلْ عاقِبَتُهُ أسْوَأُ عاقِبَةً، ومِنهم مَن يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِن
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ولَكِنْ نَصِيبُهُ مِن الهِدايَةِ إلى المَقْصُودِ ضَعِيفٌ جِدًّا، كَحالِ كَثِيرٍ مِن العِبادِ والزُّهّادِ الَّذِينَ قَلَّ عِلْمُهم بِحَقائِقِ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ مِن الهُدى ودِينِ الحَقِّ.
وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فَمَن خَلَصَتْ نِيَّتُهُ في الحَقِّ ولَوْ عَلى نَفْسِهِ " إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَكْفِي قِيامُهُ في الحَقِّ لِلَّهِ إذا كانَ عَلى غَيْرِهِ، حَتّى يَكُونَ أوَّلَ قائِمٍ بِهِ عَلى نَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قِيامُهُ بِهِ عَلى غَيْرِهِ، وإلّا فَكَيْفَ يُقْبَلُ الحَقُّ مِمَّنْ أهْمَلَ القِيامَ بِهِ عَلى نَفْسِهِ؟ وخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ يَوْمًا وعَلَيْهِ ثَوْبانِ، فَقالَ: أيُّها النّاسُ ألا تَسْمَعُونَ؟ فَقالَ سَلْمانُ: لا نَسْمَعُ، فَقالَ عُمَرُ: ولِمَ يا أبا عَبْدِ اللَّهِ؟ قالَ: إنّك قَسَّمْت عَلَيْنا ثَوْبًا ثَوْبًا وعَلَيْك ثَوْبانِ، فَقالَ: لا تَعْجَلْ. يا عَبْدَ اللَّهِ، يا عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقالَ: لَبَّيْكَ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقالَ: نَشَدْتُك اللَّهَ الثَّوْبُ الَّذِي ائْتَزَرْتُ بِهِ أهْوَ ثَوْبُكَ؟ قالَ: نَعَمْ، اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقالَ سَلْمانُ: أمّا الآنَ فَقُلْ نَسْمَعْ.
* [فصلٌ: لِلَّهِ عَلى كُلِّ أحَدٍ عُبُودِيَّةٌ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ]
وَقَوْلُهُ: " فَإنَّ القَضاءَ في مَواطِنِ الحَقِّ مِمّا يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الأجْرَ، ويُحْسِنُ بِهِ الذُّخْرَ "
هَذا عُبُودِيَّةُ الحُكّامِ ووُلاةِ الأمْرِ الَّتِي تُرادُ مِنهُمْ، ولِلَّهِ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ أحَدٍ عُبُودِيَّةٌ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ، سِوى العُبُودِيَّةِ العامَّةِ الَّتِي سَوّى بَيْنَ عِبادِهِ فِيها؛ فَعَلى العالِمِ مِن عُبُودِيَّتِهِ نَشْرُ السُّنَّةِ والعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ما لَيْسَ عَلى الجاهِلِ، وعَلَيْهِ مِن عُبُودِيَّةِ الصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ ما لَيْسَ عَلى غَيْرِهِ، وعَلى الحاكِمِ مِن عُبُودِيَّةِ إقامَةِ الحَقِّ وتَنْفِيذِهِ وإلْزامِهِ مِمَّنْ هو عَلَيْهِ بِهِ والصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ والجِهادِ عَلَيْهِ ما لَيْسَ عَلى المُفْتِي. وعَلى الغَنِيِّ مِن عُبُودِيَّةِ أداءِ الحُقُوقِ الَّتِي في مالِهِ ما لَيْسَ عَلى الفَقِيرِ، وعَلى القادِرِ عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ بِيَدِهِ ولِسانِهِ ما لَيْسَ عَلى العاجِزِ عَنْهُما.
وَتَكَلَّمَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ الرّازِيّ يَوْمًا في الجِهادِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، فَقالَتْ لَهُ امْرَأةٌ: هَذا واجِبٌ قَدْ وُضِعَ عَنّا، فَقالَ: هَبِي أنَّهُ قَدْ وُضِعَ عَنْكُنَّ سِلاحُ اليَدِ واللِّسانِ، فَلَمْ يُوضَعْ عَنْكُنَّ سِلاحُ القَلْبِ، فَقالَتْ: صَدَقْت جَزاكَ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ غَرَّ إبْلِيسُ أكْثَرَ الخَلْقِ بِأنْ حَسَّنَ لَهم القِيامَ بِنَوْعٍ مِن الذِّكْرِ والقِراءَةِ والصَّلاةِ والصِّيامِ والزُّهْدِ في الدُّنْيا والِانْقِطاعِ، وعَطَّلُوا هَذِهِ العُبُودِيّاتِ، فَلَمْ يُحَدِّثُوا قُلُوبَهم بِالقِيامِ بِها، وهَؤُلاءِ عِنْدَ ورَثَةِ الأنْبِياءِ مِن أقَلِّ النّاسِ دِينًا؛ فَإنَّ الدِّينَ هو القِيامُ لِلَّهِ بِما أمَرَ بِهِ، فَتارِكُ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ أسْوَأُ حالًا عِنْدَ اللَّهِ ورَسُولِهِ مِن مُرْتَكِبِ المَعاصِي؛ فَإنَّ تَرْكَ الأمْرِ أعْظَمُ مِن ارْتِكابِ النَّهْيِ مِن أكْثَرَ مِن ثَلاثِينَ وجْهًا ذَكَرَها شَيْخُنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بَعْضِ تَصانِيفِهِ؛ ومَن لَهُ خِبْرَةٌ بِما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ وبِما كانَ عَلَيْهِ هو وأصْحابُهُ رَأْيٌ أنَّ أكْثَرَ مَن يُشارُ إلَيْهِمْ بِالدِّينِ هم أقَلُّ النّاسِ دِينًا، واللَّهُ المُسْتَعانُ، وأيُّ دِينٍ وأيُّ خَيْرٍ فِيمَن يَرى مَحارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ وحُدُودَهُ تُضاعُ ودِينَهُ يُتْرَكُ وسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرْغَبُ عَنْها وهو بارِدُ القَلْبِ ساكِتُ اللِّسانِ؟ شَيْطانٌ أخْرَسُ، كَما أنَّ المُتَكَلِّمَ بِالباطِلِ شَيْطانٌ ناطِقٌ، وهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلّا مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ إذا سَلَّمْت لَهم مَآكِلَهم ورِياساتِهِمْ فَلا مُبالاةَ بِما جَرى عَلى الدِّينِ؟، وخِيارُهم المُتَحَزِّنُ المُتَلَمِّظُ، ولَوْ نُوزِعَ في بَعْضِ ما فِيهِ غَضاضَةٌ عَلَيْهِ في جاهِهِ أوْ مالِهِ بَذَلَ وتَبَذَّلَ وجَدَّ واجْتَهَدَ، واسْتَعْمَلَ مَراتِبَ الإنْكارِ الثَّلاثَةِ بِحَسَبِ وُسْعِهِ. وهَؤُلاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِن عَيْنِ اللَّهِ ومَقْتِ اللَّهِ لَهم - قَدْ بُلُوا في الدُّنْيا بِأعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وهم لا يَشْعُرُونَ، وهو مَوْتُ القُلُوبِ؛ فَإنَّهُ القَلْبُ كُلَّما كانَتْ حَياتُهُ أتَمَّ كانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ ورَسُولِهِ أقْوى، وانْتِصارُهُ لِلدِّينِ أكْمَلُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ وغَيْرُهُ أثَرًا
«أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أوْحى إلى مَلِكٍ مِن المَلائِكَةِ أنْ اخْسِفْ بِقَرْيَةِ كَذا وكَذا، فَقالَ: يا رَبِّ كَيْفَ وفِيهِمْ فُلانُ العابِدُ؟ فَقالَ: بِهِ فابْدَأْ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وجْهُهُ في يَوْمًا قَطُّ».
وَذَكَرَ أبُو عُمَرَ في كِتابِ التَّمْهِيدِ
«أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أوْحى إلى نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ أنْ قُلْ لِفُلانٍ الزّاهِدِ: أمّا زُهْدُك في الدُّنْيا فَقَدْ تَعَجَّلْت بِهِ الرّاحَةَ، وأمّا انْقِطاعُك إلَيَّ فَقَدْ اكْتَسَبْت بِهِ العِزَّ، ولَكِنْ ماذا عَمِلَتْ فِيما لِي عَلَيْك؟ فَقالَ: يا رَبِّ وأيُّ شَيْءٍ لَك عَلَيَّ؟ قالَ: هَلْ والَيْت في ولِيًّا أوْ عادَيْت في عَدُوًّا»؟
* [فَصْلٌ: سِرُّ الخَلْقِ والأمْرِ والشَّرائِعِ]
وَسِرُّ الخَلْقِ والأمْرِ، والكُتُبِ والشَّرائِعِ، والثَّوابِ والعِقابِ انْتَهى إلى هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ، وعَلَيْهِما مَدارُ العُبُودِيَّةِ والتَّوْحِيدِ، حَتّى قِيلَ: أنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتابٍ وأرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ مَعانِيَها في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ، وجَمَعَ مَعانِيَ هَذِهِ الكُتُبِ الثَّلاثَةِ في القُرْآنِ، وجَمَعَ مَعانِيَ القُرْآنِ في المُفَصَّلِ، وجَمَعَ مَعانِيَ المُفَصَّلِ في الفاتِحَةِ، ومَعانِيَ الفاتِحَةِ في
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
وَهُما الكَلِمَتانِ المَقْسُومَتانِ بَيْنَ الرَّبِّ وبَيْنَ عَبْدِهِ نِصْفَيْنِ، فَنَصِفُهُما لَهُ تَعالى، وهو " إيّاكَ نَعْبُدُ " ونِصْفُهُما لِعَبْدِهِ وهو " إيّاكَ نَسْتَعِينُ ".
وَسَيَأْتِي سِرُّ هَذا ومَعْناهُ إنْ شاءَ اللَّهُ في مَوْضِعِهِ.
والعِبادَةُ تَجْمَعُ أصْلَيْنِ: غايَةُ الحُبِّ بِغايَةِ الذُّلِّ والخُضُوعِ، والعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أيْ مُذَلَّلٌ، والتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ، فَمَن أحْبَبْتَهُ ولَمْ تَكُنْ خاضِعًا لَهُ، لَمْ تَكُنْ عابِدًا لَهُ، ومَن خَضَعْتَ لَهُ بِلا مَحَبَّةٍ لَمْ تَكُنْ عابِدًا لَهُ حَتّى تَكُونَ مُحِبًّا خاضِعًا، ومِن هاهُنا كانَ المُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ العِبادِ لِرَبِّهِمْ مُنْكِرِينَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، والمُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَهُمْ، بَلْ هو غايَةُ مَطْلُوبِهِمْ، ووَجْهُهُ الأعْلى نِهايَةُ بُغْيَتِهِمْ مُنْكِرِينَ لِكَوْنِهِ إلَهًا، وإنْ أقَرُّوا بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعالَمِينَ وخالِقًا لَهُمْ، فَهَذا غايَةُ تَوْحِيدِهِمْ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ مُشْرِكُو العَرَبِ، ولَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنِ الشِّرْكِ، كَما قالَ تَعالى
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧] وقالَ تَعالى
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥]،
﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها﴾ [المؤمنون: ٨٤] إلى قَوْلِهِ
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأنّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٩] ولِهَذا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهِ عَلى تَوْحِيدِ إلَهِيَّتِهِ، وأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، كَما أنَّهُ لا خالِقَ غَيْرُهُ، ولا رَبَّ سِواهُ.
والِاسْتِعانَةُ تَجْمَعُ أصْلَيْنِ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، والِاعْتِمادُ عَلَيْهِ، فَإنَّ العَبْدَ قَدْ يَثِقُ بِالواحِدِ مِنَ النّاسِ، ولا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ في أُمُورِهِ مَعَ ثِقَتِهِ بِهِ لِاسْتِغْنائِهِ عَنْهُ، وقَدْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِ بِهِ لِحاجَتِهِ إلَيْهِ، ولِعَدَمِ مَن يَقُومُ مَقامَهَ، فَيَحْتاجُ إلى اعْتِمادِهِ عَلَيْهِ، مَعَ أنَّهُ غَيْرُ واثِقٍ بِهِ.
والتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِن أصْلَيْنِ: مِنَ الثِّقَةِ، والِاعْتِمادِ، وهو حَقِيقَةُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " وهَذانَ الأصْلانِ وهُما التَّوَكُّلُ، والعِبادَةُ قَدْ ذُكِرا في القُرْآنِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، قَرَنَ بَيْنَهُما فِيها، هَذا أحَدُها.
الثّانِي: قَوْلُ شُعَيْبٍ
﴿وَما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: ٨٨].
الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ١٢٣].
الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنِ المُؤْمِنِينَ
﴿رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإلَيْكَ أنَبْنا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [الممتحنة: ٤].
الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى
﴿واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لا إلَهَ إلّا هو فاتَّخِذْهُ وكِيلًا﴾ [المزمل: ٨].
السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى
﴿قُلْ هو رَبِّي لا إلَهَ إلّا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ﴾ [الرعد: ٣٠].
فَهَذِهِ سِتَّةُ مَواضِعَ يُجْمَعُ فِيها بَيْنَ الأصْلَيْنِ، وهُما "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ".
وَتَقْدِيمُ " العِبادَةِ " عَلى " الِاسْتِعانَةِ " في الفاتِحَةِ مِن بابِ تَقْدِيمِ الغاياتِ عَلى الوَسائِلِ، إذِ " العِبادَةُ " غايَةُ العِبادِ الَّتِي خُلِقُوا لَها، و" الِاسْتِعانَةُ " وسِيلَةٌ إلَيْها، ولِأنَّ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ واسْمِهِ " اللَّهِ " "
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ واسْمِهِ " الرَّبِّ " فَقَدَّمَ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " عَلى " إيّاكَ نَسْتَعِينُ " كَما قَدَّمَ اسْمَ " اللَّهِ " عَلى " الرَّبِّ " في أوَّلِ السُورَةِ، ولِأنَّ " إيّاكَ نَعْبُدُ " قَسْمُ " الرَّبِّ "، فَكانَ مِنَ الشَّطْرِ الأوَّلِ، الَّذِي هو ثَناءٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، لِكَوْنِهِ أوْلى بِهِ، و" إيّاكَ نَسْتَعِينُ " قَسْمُ العَبْدِ، فَكانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وهو "
﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] " إلى آخِرِ السُّورَةِ.
وَلِأنَّ " العِبادَةَ " المُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ " الِاسْتِعانَةُ " مِن غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ ولا يَنْعَكِسُ، لِأنَّ صاحِبَ الأغْراضِ والشَّهَواتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلى شَهَواتِهِ، فَكانَتِ العِبادَةُ أكْمَلَ وأتَمَّ، ولِهَذا كانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ.
وَلِأنَّ " الِاسْتِعانَةَ " جُزْءٌ مِنِ " العِبادَةِ " مِن غَيْرٍ عَكْسٍ، ولِأنَّ " الِاسْتِعانَةَ " طَلَبٌ مِنهُ، و" العِبادَةَ " طَلَبٌ لَهُ.
وَلِأنَّ " العِبادَةَ " لا تَكُونُ إلّا مِن مُخْلِصٍ، و" الِاسْتِعانَةَ " تَكُونُ مِن مُخْلِصٍ ومِن غَيْرِ مُخْلِصٍ.
وَلِأنَّ " العِبادَةَ " حَقُّهُ الَّذِي أوْجَبَهُ عَلَيْكَ، و" الِاسْتِعانَةُ " طَلَبُ العَوْنِ عَلى " العِبادَةِ "، وهو بَيانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِها عَلَيْكَ، وأداءُ حَقِّهِ أهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ.
وَلِأنَّ " العِبادَةَ " شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، واللَّهُ يُحِبُّ أنْ يَشْكُرَ، والإعانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإذا التَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، ودَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّها أعانَكَ عَلَيْها، فَكانَ التِزامُها والدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّها سَبَبًا لِنَيْلِ الإعانَةِ، وكُلَّما كانَ العَبْدُ أتَمَّ عُبُودِيَّةً كانَتِ الإعانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أعْظَمَ.
والعُبُودِيَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِإعانَتَيْنِ: إعانَةٍ قَبْلَها عَلى التِزامِها والقِيامِ بِها، وإعانَةٍ بَعْدَها عَلى عُبُودِيَّةٍ أُخْرى، وهَكَذا أبَدًا، حَتّى يَقْضِيَ العَبْدُ نَحْبَهُ.
وَلِأنَّ " إيّاكَ نَعْبُدُ " لَهُ، و" إيّاكَ نَسْتَعِينُ " بِهِ، وما لَهُ مُقَدَّمٌ عَلى ما بِهِ، لِأنَّ ما لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّتِهِ ورِضاهُ، وما بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وما تَعَلَّقَ بِمَحَبَّتِهِ أكْمَلُ مِمّا تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ، فَإنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، والمَلائِكَةُ والشَّياطِينُ والمُؤْمِنُونَ والكُفّارُ، والطّاعاتُ والمَعاصِي، والمُتَعَلِّقُ بِمَحَبَّتِهِ: طاعَتُهم وإيمانُهُمْ، فالكُفّارُ أهْلُ مَشِيئَتِهِ، والمُؤْمِنُونَ أهْلُ مَحَبَّتِهِ، ولِهَذا لا يَسْتَقِرُّ في النّارِ شَيْءٌ لِلَّهِ أبَدًا، وكُلُّ ما فِيها فَإنَّهُ بِهِ تَعالى وبِمَشِيئَتِهِ.
فَهَذِهِ الأسْرارُ يَتَبَيَّنُ بِها حِكْمَةُ تَقْدِيمِ " إيّاكَ نَعْبُدُ " عَلى " إيّاكَ نَسْتَعِينُ ".
وَأمّا تَقْدِيمُ المَعْبُودِ والمُسْتَعانِ عَلى الفِعْلَيْنِ، فَفِيهِ: أدَبُهم مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلى فِعْلِهِمْ، وفِيهِ الِاهْتِمامُ وشِدَّةُ العِنايَةِ بِهِ، وفِيهِ الإيذانُ بِالِاخْتِصاصِ، المُسَمّى بِالحَصْرِ، فَهو في قُوَّةٍ: لا نَعْبُدُ إلّا إيّاكَ، ولا نَسْتَعِينُ إلّا بِكَ، والحاكِمُ في ذَلِكَ ذَوْقُ العَرَبِيَّةِ والفِقْهُ فِيها، واسْتِقْراءُ مَوارِدِ اسْتِعْمالِ ذَلِكَ مُقَدَّمًا، وسِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلى الِاهْتِمامِ، ولَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ.
وَلِأنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ القائِلِ أنْ يُعْتِقَ عَشَرَةَ أعْبُدٍ مَثَلًا، ثُمَّ يَقُولُ لِأحَدِهِمْ: إيّاكَ أعْتَقْتُ، ومَن سَمِعَهُ أنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وقالَ: وغَيْرَهُ أيْضًا أعْتَقْتَ، ولَوْلا فَهْمُ الِاخْتِصاصِ لَما قُبِّحَ هَذا الكَلامُ، ولا حَسُنَ إنْكارُهُ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى
﴿وَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠]،
﴿وَإيّايَ فاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤١] كَيْفَ تَجِدُهُ في قُوَّةِ: لا تَرْهَبُوا غَيْرِي، ولا تَتَّقُوا سِوايَ، وكَذَلِكَ " إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ " هو في قُوَّةِ: لا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، ولا نَسْتَعِينُ بِسِواكَ، وكُلُّ ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ يَفْهَمُ هَذا الِاخْتِصاصَ مِن عِلَّةِ السِّياقِ.
وَلا عِبْرَةَ بِجَدَلِ مَن قَلَّ فَهْمُهُ، وفُتِحَ عَلَيْهِ بابُ الشَّكِّ والتَّشْكِيكِ، فَهَؤُلاءِ هم آفَةُ العُلُومِ، وبَلِيَّةُ الأذْهانِ والفُهُومِ، مَعَ أنَّ في ضَمِيرِ " إيّاكَ " مِنَ الإشارَةِ إلى نَفْسِ الذّاتِ والحَقِيقَةِ ما لَيْسَ في الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ، فَفِي: إيّاكَ قَصَدْتُ وأحْبَبْتُ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى مَعْنى حَقِيقَتِكَ وذاتِكَ قَصْدِي، ما لَيْسَ في قَوْلِكَ: قَصَدْتُكَ وأحْبَبْتُكَ، وإيّاكَ أعْنِي فِيهِ مَعْنى: نَفْسَكَ وذاتَكَ وحَقِيقَتَكَ أعْنِي.
وَمِن هاهُنا قالَ مَن قالَ مِنَ النُّحاةِ: إنَّ " إيّا " اسْمٌ ظاهِرٌ مُضافٌ إلى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ، ولَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِرَدٍّ شافٍ.
وَلَوْلا أنّا في شَأْنٍ وراءَ هَذا لَأشْبَعْنا الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وذَكَرْنا مَذاهِبَ النُّحاةِ فِيها، ونَصَرْنا الرّاجِحَ، ولَعَلَّنا أنْ نَعْطِفَ عَلى ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ.
وَفِي إعادَةِ " إيّاكَ " مَرَّةً أُخْرى دَلالَةٌ عَلى تَعَلُّقِ هَذِهِ الأُمُورِ بِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الفِعْلَيْنِ، فَفي إعادَةِ الضَّمِيرِ مِن قُوَّةِ الِاقْتِضاءِ لِذَلِكَ ما لَيْسَ في حَذْفِهِ، فَإذا قُلْتَ لِمَلِكٍ مَثَلًا: إيّاكَ أُحِبُّ، وإيّاكَ أخافُ، كانَ فِيهِ مِنَ اخْتِصاصِ الحُبِّ والخَوْفِ بِذاتِهِ والِاهْتِمامِ بِذِكْرِهِ، ما لَيْسَ في قَوْلِكِ: إيّاكَ أُحِبُّ وأخافُ.
* [فَصْلٌ: أقْسامُ النّاسِ في العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ]
إذا عَرَفْتَ هَذا، فالنّاسُ في هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ وهُما العِبادَةُ والِاسْتِعانَةُ أرْبَعَةُ أقْسامٍ:
أجَلُّها وأفْضَلُها: أهْلُ العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ بِالَلَّهِ عَلَيْها، فَعِبادَةُ اللَّهِ غايَةُ مُرادِهِمْ، وطَلَبُهم مِنهُ أنْ يُعِينَهم عَلَيْها، ويُوَفِّقَهم لِلْقِيامِ بِها، ولِهَذا كانَ مِن أفْضَلِ ما يُسْألُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى الإعانَةُ عَلى مَرْضاتِهِ، وهو الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِحِبِّهِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقالَ
«يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلا تَنْسَ أنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ».
فَأنْفَعُ الدُّعاءِ طَلَبُ العَوْنِ عَلى مَرْضاتِهِ، وأفْضَلُ المَواهِبِ إسْعافُهُ بِهَذا المَطْلُوبِ، وجَمِيعُ الأدْعِيَةِ المَأْثُورَةِ مَدارُها عَلى هَذا، وعَلى دَفْعِ ما يُضادُّهُ، وعَلى تَكْمِيلِهِ وتَيْسِيرِ أسْبابِهِ، فَتَأمَّلْها.
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: تَأمَّلْتُ أنْفَعَ الدُّعاءِ فَإذا هو سُؤالُ العَوْنِ عَلى مَرْضاتِهِ، ثُمَّ رَأيْتُهُ في الفاتِحَةِ في
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
وَمُقابِلُ هَؤُلاءِ القِسْمُ الثّانِي، وهُمُ المُعْرِضُونَ عَنْ عِبادَتِهِ والِاسْتِعانَةِ بِهِ، فَلا عِبادَةَ ولا اسْتِعانَةَ، بَلْ إنْ سَألَهُ أحَدُهم واسْتَعانَ بِهِ فَعَلى حُظُوظِهِ وشَهَواتِهِ، لا عَلى مَرْضاةِ رَبِّهِ وحُقُوقِهِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ يَسْألُهُ أوْلِياؤُهُ وأعْداؤُهُ ويَمُدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ، وأبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إبْلِيسُ ومَعَ هَذا فَقَدَ سَألَهُ حاجَةً فَأعْطاهُ إيّاها، ومَتَّعَهُ بِها، ولَكِنْ لَمّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلى مَرْضاتِهِ، كانَتْ زِيادَةً لَهُ في شِقْوَتِهِ، وبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وطَرْدِهِ عَنْهُ، وهَكَذا كُلُّ مَنِ اسْتَعانَ بِهِ عَلى أمْرٍ وسَألَهُ إيّاهُ، ولَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلى طاعَتِهِ كانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضاتِهِ، قاطِعًا لَهُ عَنْهُ ولا بُدَّ.
وَلْيَتَأمَّلِ العاقِلُ هَذا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، ولْيَعْلَمْ أنَّ إجابَةَ اللَّهِ لِسائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرامَةِ السّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْألُهُ عَبْدُهُ الحاجَةَ فَيَقْضِيها لَهُ، وفِيها هَلاكُهُ وشِقْوَتُهُ، ويَكُونُ قَضاؤُهُ لَهُ مِن هَوانِهِ عَلَيْهِ، وسُقُوطِهِ مِن عَيْنِهِ، ويَكُونُ مَنعُهُ مِنها لِكَرامَتِهِ عَلَيْهِ ومَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمايَةً وصِيانَةً وحِفْظًا لا بُخْلًا، وهَذا إنَّما يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرامَتَهُ ومَحَبَّتَهُ، ويُعامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّهُ ولا يُكْرِمُهُ، ويَراهُ يَقْضِي حَوائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وهَذا حَشْوُ قَلْبِهِ ولا يَشْعُرُ بِهِ، والمَعْصُومُ مَن عَصَمَهُ اللَّهُ، والإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وعَلامَةُ هَذا حَمْلُهُ عَلى الأقْدارِ وعِتابُهُ الباطِنُ لَها، كَما قِيلَ:
وَعاجِزُ الرَّأْيِ مِضْياعٌ لِفُرْصَتِهِ ∗∗∗ حَتّى إذا فاتَ أمْرٌ عاتَبَ القَدَرا
فَواللَّهِ لَوْ كَشَفَ عَنْ حاصِلِهِ وسِرِّهِ لَرَأى هُناكَ مُعاتَبَةَ القَدَرِ واتِّهامَهُ، وأنَّهُ قَدْ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كَذا وكَذا، ولَكِنْ ما حِيلَتِي، والأمْرُ لَيْسَ إلَيَّ؟ والعاقِلُ خَصْمُ نَفْسِهِ، والجاهِلُ خَصْمُ أقْدارِ رَبِّهِ.
فاحْذَرْ كُلَّ الحَذَرِ أنْ تَسْألَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وعاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وإذا لَمْ تَجِدْ مِن سُؤالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعالى فِيهِ الخِيَرَةَ، وقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤالِكَ الِاسْتِخارَةَ، ولا تَكُنِ اسْتِخارَةٌ بِاللِّسانِ بِلا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخارَةُ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِمَصالِحِهِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْها، ولا اهْتِداءَ لَهُ إلى تَفاصِيلِها، ولا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا ولا نَفْعًا، بَلْ إنْ وُكِّلَّ إلى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الهَلاكِ، وانْفَرَطَ عَلَيْهِ أمْرُهُ.
وَإذا أعْطاكَ ما أعْطاكَ بِلا سُؤالٍ تَسْألُهُ أنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلى طاعَتِهِ وبَلاغًا إلى مَرْضاتِهِ، ولا يَجْعَلَهُ قاطِعًا لَكَ عَنْهُ، ولا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضاتِهِ، ولا تَظُنُّ أنَّ عَطاءَهُ كُلَّ ما أعْطى لِكَرامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، ولا مَنعَهُ كُلَّ ما يَمْنَعُهُ لِهَوانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، ولَكِنَّ عَطاءَهُ ومَنعَهُ ابْتِلاءٌ وامْتِحانٌ، يَمْتَحِنُ بِهِما عِبادَهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ - وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ - كَلّا﴾ [الفجر: ١٥-١٧] أيْ لَيْسَ كُلُّ مَن أعْطَيْتُهُ ونَعَّمْتُهُ وخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أكْرَمْتُهُ، وما ذاكَ لِكَرامَتِهِ عَلَيَّ، ولَكِنَّهُ ابْتِلاءٌ مِنِّي، وامْتِحانٌ لَهُ أيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أمْ يَكْفُرُنِي فَأسْلُبَهُ إيّاهُ، وأُخَوِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ ولَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لا يُفَضَّلُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مِن هَوانِهِ عَلَيَّ، ولَكِنَّهُ ابْتِلاءٌ وامْتِحانٌ مِنِّي لَهُ أيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أضْعافَ أضْعافِ ما فاتَهُ مِن سَعَةِ الرِّزْقِ، أمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟
فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى مَن ظَنَّ أنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إكْرامٌ، وأنَّ الفَقْرَ إهانَةٌ، فَقالَ: لَمْ أبْتَلِ عَبْدِي بِالغِنى لِكَرامَتِهِ عَلَيَّ، ولَمْ أبْتَلِهِ بِالفَقْرِ لِهَوانِهِ عَلَيَّ، فَأخْبَرَ أنَّ الإكْرامَ والإهانَةَ لا يَدُورانِ عَلى المالِ وسَعَةِ الرِّزْقِ وتَقْدِيرِهِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يُوَسِّعُ عَلى الكافِرِ لا لِكَرامَتِهِ، ويُقَتِّرُ عَلى المُؤْمِنِ لا لِإهانَتِهِ، إنَّما يُكْرِمُ مَن يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ ومَحَبَّتِهِ وطاعَتِهِ، ويُهِينُ مَن يُهِينُهُ بِالإعْراضِ عَنْهُ ومَعْصِيَتِهِ، فَلَهُ الحَمْدُ عَلى هَذا وعَلى هَذا، وهو الغَنِيُّ الحَمِيدُ.
فَعادَتْ سَعادَةُ الدُّنْيا والآخِرَةِ إلى
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
القِسْمُ الثّالِثُ: مَن لَهُ نَوْعُ عِبادَةٍ بِلا اسْتِعانَةٍ، وهَؤُلاءِ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: القَدَرِيَّةُ القائِلُونَ بِأنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِالعَبْدِ جَمِيعَ مَقْدُورِهِ مِنَ الألْطافِ، وأنَّهُ لَمْ يَبْقَ في مَقْدُورِهِ إعانَةٌ لَهُ عَلى الفِعْلِ، فَإنَّهُ قَدْ أعانَهُ بِخَلْقِ الآلاتِ وسَلامَتِها، وتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ، وإرْسالِ الرُّسُلِ، وتَمْكِينِهِ مِنَ الفِعْلِ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذا إعانَةٌ مَقْدُورَةٌ يَسْألُهُ إيّاها، بَلْ قَدْ ساوى بَيْنَ أوْلِيائِهِ وأعْدائِهِ في الإعانَةِ، فَأعانَ هَؤُلاءِ كَما أعانَ هَؤُلاءِ، ولَكِنَّ أوْلِياءَهُ اخْتارُوا لِنُفُوسِهِمُ الإيمانَ، وأعْداءَهُ اخْتارُوا لِنُفُوسِهِمُ الكُفْرَ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وفَّقَ هَؤُلاءِ بِتَوْفِيقٍ زائِدٍ أوْجَبَ لَهُمُ الإيمانَ، وخَذَلَ هَؤُلاءِ بِأمْرٍ آخَرَ أوْجَبَ لَهُمُ الكُفْرَ، فَهَؤُلاءِ لَهم نَصِيبٌ مَنقُوصٌ مِنَ العِبادَةِ، لا اسْتِعانَةَ مَعَهُ، فَهم مَوْكُولُونَ إلى أنْفُسِهِمْ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الِاسْتِعانَةِ والتَّوْحِيدِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الإيمانُ بِالقَدَرِ نِظامُ التَّوْحِيدِ، فَمَن آمَنَ بِاللَّهِ وكَذَّبَ بِقَدَرِهِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ.
النَّوْعُ الثّانِي: مَن لَهم عِباداتٌ وأوْرادٌ، ولَكِنَّ حَظَّهم ناقِصٌ مِنَ التَّوَكُّلِ والِاسْتِعانَةِ، لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهم لِارْتِباطِ الأسْبابِ بِالقَدَرِ، وتَلاشِيها في ضِمْنِهِ، وقِيامِها بِهِ، وأنَّها بِدُونِ القَدَرِ كالمَواتِ الَّذِي لا تَأْثِيرَ لَهُ، بَلْ كالعَدَمِ الَّذِي لا وُجُودَ لَهُ، وأنَّ القَدَرَ كالرُّوحِ المُحَرِّكِ لَها، والمُعَوَّلُ عَلى المُحَرِّكِ الأوَّلِ.
فَلَمْ تَنْفُذْ قُوى بَصائِرِهِمْ مِنَ المُتَحَرِّكِ إلى المُحَرِّكِ، ومِنَ السَّبَبِ إلى المُسَبَّبِ، ومِنَ الآلَةِ إلى الفاعِلِ، فَضَعُفَتْ عَزائِمُهم وقَصُرَتْ هِمَمُهُمْ، فَقَلَّ نَصِيبُهم مِن "
﴿إيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " ولَمْ يَجِدُوا ذَوْقَ التَّعَبُّدِ بِالتَّوَكُّلِ والِاسْتِعانَةِ، وإنْ وجَدُوا ذَوْقَهُ بِالأوْرادِ والوَظائِفِ.
فَهَؤُلاءِ لَهم نَصِيبٌ مِنَ التَّوْفِيقِ والنُّفُوذِ والتَّأْثِيرِ، بِحَسَبِ اسْتِعانَتِهِمْ وتَوَكُّلِهِمْ، ولَهم مِنَ الخُذْلانِ والضَّعْفِ والمَهانَةِ والعَجْزِ بِحَسَبِ قِلَّةِ اسْتِعانَتِهِمْ وتَوَكُّلِهِمْ، ولَوْ تَوَكَّلَ العَبْدُ عَلى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ في إزالَةِ جَبَلٍ عَنْ مَكانِهِ وكانَ مَأْمُورًا بِإزالَتِهِ لَأزالَهُ.
فَإنْ قُلْتَ: فَما مَعْنى التَّوَكُّلِ والِاسْتِعانَةِ؟
قُلْتُ: هو حالٌ لِلْقَلْبِ يَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، والإيمانِ بِتَفَرُّدِهِ بِالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ والضُّرِّ والنَّفْعِ، والعَطاءِ والمَنعِ، وأنَّهُ ما شاءَ كانَ وإنْ لَمْ يَشَأِ النّاسُ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وإنْ شاءَهُ النّاسُ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذا اعْتِمادًا عَلَيْهِ، وتَفْوِيضًا إلَيْهِ، وطُمَأْنِينَةً بِهِ، وثِقَةً بِهِ، ويَقِينًا بِكِفايَتِهِ لِما تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وأنَّهُ مَلِيٌّ بِهِ، ولا يَكُونُ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، شاءَهُ النّاسُ أمْ أبَوْهُ.
فَتُشْبِهُ حالَتُهُ حالَةَ الطِّفْلِ مَعَ أبَوَيْهِ فِيما يَنْوِيهِ مِن رَغْبَةٍ ورَهْبَةٍ هُما مَلِيّانِ بِهِما، فانْظُرْ في تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنِ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِ أبَوَيْهِ، وحَبْسِ هَمِّهِ عَلى إنْزالِ ما يَنْوِيهِ بِهِما، فَهَذِهِ حالُ المُتَوَكِّلِ، ومَن كانَ هَكَذا مَعَ اللَّهِ فاللَّهُ كافِيهِ ولا بُدَّ، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣] أيْ كافِيهِ، والحَسْبُ الكافِي، فَإنْ كانَ مَعَ هَذا مِن أهْلِ التَّقْوى كانَتْ لَهُ العاقِبَةُ الحَمِيدَةُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ التَّقْوى فَهو.
القِسْمُ الرّابِعُ: وهو مَن شَهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ بِالنَّفْعِ والضُّرِّ، وأنَّهُ ما شاءَ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، ولَمْ يَدْرِ مَعَ ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، واسْتَعانَ بِهِ عَلى حُظُوظِهِ وشَهَواتِهِ وأغْراضِهِ، وطَلَبَها مِنهُ، وأنْزَلَها بِهِ، فَقُضِيَتْ لَهُ، وأُسْعِفَ بِها، سَواءٌ كانَتْ أمْوالًا أوْ رِياسَةً أوْ جاهًا عِنْدَ الخَلْقِ، أوْ أحْوالًا مِن كَشْفٍ وتَأْثِيرٍ وقُوَّةٍ وتَمْكِينٍ، ولَكِنْ لا عاقِبَةَ لَهُ، فَإنَّها مِن جِنْسِ المُلْكِ الظّاهِرِ، والأمْوالُ لا تَسْتَلْزِمُ الإسْلامَ، فَضْلًا عَنِ الوِلايَةِ والقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّ المُلْكَ والجاهَ والمالَ والحالَ مُعْطاةٌ لِلْبَرِّ والفاجِرِ، والمُؤْمِنِ والكافِرِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ عَلى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِمَن آتاهُ إيّاهُ ورِضاهُ عَنْهُ، وأنَّهُ مِن أوْلِيائِهِ المُقَرَّبِينَ، فَهو مِن أجْهَلِ الجاهِلِينَ، وأبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ ومَعْرِفَةِ دِينِهِ، والتَّمْيِيزِ بَيْنَ ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، ويَكْرَهُهُ ويُسْخِطُهُ، فالحالُ مِنَ الدُّنْيا، فَهو كالمُلْكِ والمالِ إنْ أعانَ صاحِبَهُ عَلى طاعَةِ اللَّهِ ومَرْضاتِهِ، وتَنْفِيذِ أوامِرِهِ ألْحَقَهُ بِالمُلُوكِ العادِلِينَ البَرَرَةِ، وإلّا فَهو وبالٌ عَلى صاحِبِهِ، ومُبْعِدٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ، ومُلْحِقٌ لَهُ بِالمُلُوكِ الظَّلَمَةِ، والأغْنِياءِ الفَجَرَةِ.
* [فَصْلٌ: لا يَكُونُ العَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِـ (إيّاكَ نَعْبُدُ) إلّا بِمُتابَعَةِ الرَّسُولِ والإخْلاصِ وأقْسامُ النّاسِ في ذَلِكَ]
إذا عُرِفَ هَذا فَلا يَكُونُ العَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " إلّا بِأصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أحَدُهُما: مُتابَعَةُ الرَّسُولِ ﷺ.
والثّانِي: الإخْلاصُ لِلْمَعْبُودِ، فَهَذا تَحْقِيقُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ".
والنّاسُ مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ أيْضًا إلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ:
أحَدُها: أهْلُ الإخْلاصِ لِلْمَعْبُودِ والمُتابَعَةِ، وهم أهْلُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " حَقِيقَةً، فَأعْمالُهم كُلُّها لِلَّهِ، وأقْوالُهم لِلَّهِ، وعَطاؤُهم لِلَّهِ، ومَنعُهم لِلَّهِ، وحُبُّهم لِلَّهِ، وبُغْضُهم لِلَّهِ، فَمُعامَلَتُهم ظاهِرًا وباطِنًا لِوَجْهِ اللَّهِ وحْدَهُ، لا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مِنَ النّاسِ جَزاءً ولا شُكُورًا، ولا ابْتِغاءَ الجاهِ عِنْدَهُمْ، ولا طَلَبَ المُحَمَّدَةِ، والمُنْزِلَةِ في قُلُوبِهِمْ، ولا هَرَبًا مِن ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُّوا النّاسَ بِمَنزِلَةِ أصْحابِ القُبُورِ، لا يَمْلِكُونَ لَهم ضُرًّا ولا نَفْعًا، ولا مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا، فالعَمَلُ لِأجْلِ النّاسِ، وابْتِغاءُ الجاهِ والمَنزِلَةِ عِنْدَهُمْ، ورَجاؤُهم لِلضُّرِّ والنَّفْعِ مِنهم لا يَكُونُ مِن عارِفٍ بِهِمُ ألْبَتَّةَ، بَلْ مِن جاهِلٍ بِشَأْنِهِمْ، وجاهِلٍ بِرَبِّهِ، فَمَن عَرَفَ النّاسَ أنْزَلَهم مَنازِلَهُمْ، ومَن عَرَفَ اللَّهَ أخْلَصَ لَهُ أعْمالَهُ وأقْوالَهُ، وعَطاءَهُ ومَنعَهُ وحُبَّهُ وبُغْضَهُ، ولا يُعامِلُ أحَدَ الخَلْقِ دُونَ اللَّهِ إلّا لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ وجَهْلِهِ بِالخَلْقِ، وإلّا فَإذا عَرَفَ اللَّهَ وعَرَفَ النّاسَ آثَرَ مُعامَلَةَ اللَّهِ عَلى مُعامَلَتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ أعْمالُهم كُلُّها وعِبادَتُهم مُوافَقَةٌ لِأمْرِ اللَّهِ، ولِما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، وهَذا هو العَمَلُ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِن عامِلٍ سِواهُ، وهو الَّذِي بَلا عِبادَهُ بِالمَوْتِ والحَياةِ لِأجْلِهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢] وجَعَلَ ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِيَخْتَبِرَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا، قالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: العَمَلُ الحَسَنُ هو أخْلَصُهُ وأصْوَبُهُ، قالُوا: يا أبا عَلِيٍّ ما أخْلَصُهُ وأصْوَبُهُ؟ قالَ: إنَّ العَمَلَ إذا كانَ خالِصًا ولَمْ يَكُنْ صَوابًا لَمْ يُقْبَلْ، وإذا كانَ صَوابًا، ولَمْ يَكُنْ خالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتّى يَكُونَ خالِصًا صَوابًا، والخالِصُ: ما كانَ لِلَّهِ، والصَّوابُ: ما كانَ عَلى السُّنَّةِ، وهَذا هو المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى
﴿فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] وفي قَوْلِهِ
﴿وَمَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٥] فَلا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ العَمَلِ إلّا ما كانَ خالِصًا لِوَجْهِهِ، عَلى مُتابَعَةِ أمْرِهِ، وما عَدا ذَلِكَ فَهو مَرْدُودٌ عَلى عامِلِهِ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أحْوَجَ ما هو إلَيْهِ هَباءً مَنثُورًا، وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنا فَهو رَدٌّ» وكُلُّ عَمَلٍ بِلا اقْتِداءٍ فَإنَّهُ لا يَزِيدُ عامِلَهُ مِنَ اللَّهِ إلّا بُعْدًا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما يُعْبَدُ بِأمْرِهِ، لا بِالآراءِ والأهْواءِ.
* (فَصْلٌ)
الضَّرْبُ الثّانِي: مَن لا إخْلاصَ لَهُ ولا مُتابَعَةَ، فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوافِقًا لِشَرْعٍ، ولَيْسَ هو خالِصًا لِلْمَعْبُودِ، كَأعْمالِ المُتَزَيِّنِينَ لِلنّاسِ، المُرائِينَ لَهم بِما لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، وهَؤُلاءِ شِرارُ الخَلْقِ، وأمْقَتُهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَهم أوْفَرُ نَصِيبٍ مِن قَوْلِهِ
﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهم بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٨٨] يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا مِنَ البِدْعَةِ والضَّلالَةِ والشِّرْكِ، ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِاتِّباعِ السُّنَّةِ والإخْلاصِ.
وَهَذا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِيمَنِ انْحَرَفَ مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى العِلْمِ والفَقْرِ والعِبادَةِ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، فَإنَّهم يَرْتَكِبُونَ البِدَعَ والضَّلالاتِ، والرِّياءَ والسُّمْعَةَ ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّباعِ والإخْلاصِ والعِلْمِ، فَهم أهْلُ الغَضَبِ والضَّلالِ.
[مُخْلِصٌ في أعْمالِهِ لَكِنَّها عَلى غَيْرِ مُتابَعَةِ الأمْرِ]
الضَّرْبُ الثّالِثُ: مَن هو مُخْلِصٌ في أعْمالِهِ، لَكِنَّها عَلى غَيْرِ مُتابَعَةِ الأمْرِ، كَجُهّالِ العُبّادِ، والمُنْتَسِبِينَ إلى طَرِيقِ الزُّهْدِ والفَقْرِ، وكُلِّ مَن عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ أمْرِهِ، واعْتَقَدَ عِبادَتَهُ هَذِهِ قُرْبَةً إلى اللَّهِ فَهَذا حالُهُ، كَمَن يَظُنُّ أنَّ سَماعَ المُكاءِ والتَّصْدِيَةِ قُرْبَةٌ، وأنَّ الخَلْوَةَ الَّتِي يَتْرُكُ فِيها الجُمْعَةَ والجَماعَةَ قُرْبَةٌ، وأنَّ مُواصَلَةَ صَوْمِ النَّهارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وأنَّ صِيامَ يَوْمِ فِطْرِ النّاسِ كُلِّهِمْ قُرْبَةٌ، وأمْثالِ ذَلِكَ.
[مَن أعْمالُهُ عَلى مُتابَعَةِ الأمْرِ لَكِنَّها لِغَيْرِ اللَّهِ]
* فَصْلٌالضَّرْبُ الرّابِعُ: مَن أعْمالُهُ عَلى مُتابَعَةِ الأمْرِ، لَكِنَّها لِغَيْرِ اللَّهِ، كَطاعَةِ المُرائِينَ، وكالرَّجُلِ يُقاتِلُ رِياءً وحَمِيَّةً وشَجاعَةً، ويَحُجُّ لِيُقالَ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ لِيُقالَ، فَهَؤُلاءِ أعْمالُهم ظاهِرُها أعْمالٌ صالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِها، لَكِنَّها غَيْرُ صالِحَةٍ، فَلا تُقْبَلُ
﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] فَكُلُّ أحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إلّا بِعِبادَةِ اللَّهِ بِما أمَرَ، والإخْلاصِ لَهُ في العِبادَةِ، وهم أهْلُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ".
* [فَصْلٌ: أهْلُ مَقامِ (إيّاكَ نَعْبُدُ) لَهم في أفْضَلِ العِبادَةِ وأنْفَعِها وأحَقِّها بِالإيثارِ والتَّخْصِيصِ أرْبَعُ طُرُقٍ]
ثُمَّ أهْلُ مَقامِ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " لَهم في أفْضَلِ العِبادَةِ وأنْفَعِها وأحَقِّها بِالإيثارِ والتَّخْصِيصِ أرْبَعُ طُرُقٍ، فَهم في ذَلِكَ أرْبَعَةُ أصْنافٍ:
الصِّنْفُ الأوَّلُ: عِنْدَهم أنْفَعُ العِباداتِ وأفْضَلُها أشَقُّها عَلى النُّفُوسِ وأصْعَبُها.
قالُوا: لِأنَّهُ أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْ هَواها، وهو حَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ.
قالُوا: والأجْرُ عَلى قَدْرِ المَشَقَّةِ، ورَوَوْا حَدِيثًا لا أصْلَ لَهُ "
«أفْضَلُ الأعْمالِ أحَمَزُها» " أيْ أصْعَبُها وأشَقُّها.
وَهَؤُلاءِ: هم أهْلُ المُجاهَداتِ والجَوْرِ عَلى النُّفُوسِ.
قالُوا: وإنَّما تَسْتَقِيمُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، إذْ طَبْعُها الكَسَلُ والمَهانَةُ، والإخْلادُ إلى الأرْضِ، فَلا تَسْتَقِيمُ إلّا بِرُكُوبِ الأهْوالِ وتَحَمُّلِ المَشاقِّ.
الصِّنْفُ الثّانِي، قالُوا: أفْضَلُ العِباداتِ التَّجَرُّدُ، والزُّهْدُ في الدُّنْيا، والتَّقَلُّلُ مِنها غايَةَ الإمْكانِ، واطِّراحُ الِاهْتِمامِ بِها، وعَدَمُ الِاكْتِراثِ بِكُلِّ ما هو مِنها.
ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمانِ:
فَعَوامُّهم ظَنُّوا أنَّ هَذا غايَةٌ، فَشَمَّرُوا إلَيْهِ وعَمِلُوا عَلَيْهِ، ودَعَوُا النّاسَ إلَيْهِ، وقالُوا: هو أفْضَلُ مِن دَرَجَةِ العِلْمِ والعِبادَةِ، فَرَأوُا الزُّهْدَ في الدُّنْيا غايَةَ كُلِّ عِبادَةٍ ورَأْسَها.
وَخَواصُهم رَأوْا هَذا مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ، وأنَّ المَقْصُودَ بِهِ عُكُوفُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ، وجَمْعُ الهِمَّةِ عَلَيْهِ، وتَفْرِيغُ القَلْبِ لِمَحَبَّتِهِ، والإنابَةِ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، والِاشْتِغالِ بِمَرْضاتِهِ، فَرَأوْا أنَّ أفْضَلَ العِباداتِ في الجَمْعِيَّةِ عَلى اللَّهِ، ودَوامِ ذِكْرِهِ بِالقَلْبِ واللِّسانِ، والِاشْتِغالِ بِمُراقَبَتِهِ، دُونَ كُلِّ ما فِيهِ تَفْرِيقٌ لِلْقَلْبِ وتَشْتِيتٌ لَهُ.
ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمانِ، فالعارِفُونَ المُتَّبِعُونَ مِنهم إذا جاءَ الأمْرُ والنَّهْيُ بادَرُوا إلَيْهِ ولَوْ فَرَّقَهم وأذْهَبَ جَمْعِيَّتَهُمْ، والمُنْحَرِفُونَ مِنهم يَقُولُونَ: المَقْصُودُ مِنَ العِبادَةِ جَمْعِيَّةُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ، فَإذا جاءَ ما يُفَرِّقُهُ عَنِ اللَّهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، ورُبَّما يَقُولُ قائِلُهُمْ:
يُطالَبُ بِالأوْرادِ مَن كانَ غافِلًا ∗∗∗ فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أوْقاتِهِ وِرْدُ
. ثُمَّ هَؤُلاءِ أيْضًا قِسْمانِ، مِنهم مَن يَتْرُكُ الواجِباتِ والفَرائِضَ لِجَمْعِيَّتِهِ، ومِنهم مَن يَقُومُ بِها ويَتْرُكُ السُّنَنَ والنَّوافِلَ، وتَعَلُّمَ العِلْمِ النّافِعِ لِجَمْعِيَّتِهِ.
وَسَألَ بَعْضُ هَؤُلاءِ شَيْخًا عارِفًا، فَقالَ: إذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ وأنا في جَمْعِيَّتِي عَلى اللَّهِ، فَإنْ قُمْتُ وخَرَجْتُ نَفَقْتُ، وإنْ بَقِيتُ عَلى حالِي بَقِيتُ عَلى جَمْعِيَّتِي، فَما الأفْضَلُ في حَقِّي؟
فَقالَ: إذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ وأنْتَ تَحْتَ العَرْشِ فَقُمْ، وأجِبْ داعِيَ اللَّهِ، ثُمَّ عُدْ إلى مَوْضِعِكَ، وهَذا لِأنَّ الجَمْعِيَّةَ عَلى اللَّهِ حَظُّ الرُّوحِ والقَلْبِ، وإجابَةَ الدّاعِي حَقُّ الرَّبِّ، ومَن آثَرَ حَظَّ رُوحِهِ عَلى حَقِّ رَبِّهِ فَلَيْسَ مِن أهْلِ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ".
الصِّنْفُ الثّالِثُ: رَأوْا أنَّ أنْفَعَ العِباداتِ وأفْضَلَها: ما كانَ فِيهِ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ، فَرَأوْهُ أفْضَلَ مِن ذِي النَّفْعِ القاصِرِ، فَرَأوْا خِدْمَةَ الفُقَراءِ، والِاشْتِغالَ بِمَصالِحِ النّاسِ وقَضاءَ حَوائِجِهِمْ، ومُساعَدَتِهِمْ بِالمالِ والجاهِ والنَّفْعِ أفْضَلَ، فَتَصَدَّوْا لَهُ وعَمِلُوا عَلَيْهِ واحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ
«الخَلْقُ كُلُّهم عِيالُ اللَّهِ، وأحَبُّهم إلَيْهِ أنْفَعُهم لِعِيالِهِ» رَواهُ أبُو يَعْلى.
واحْتَجُّوا بِأنَّ عَمَلَ العابِدِ قاصِرٌ عَلى نَفْسِهِ، وعَمَلَ النَّفّاعِ مُتَعَدٍّ إلى الغَيْرِ، وأيْنَ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ؟
قالُوا: ولِهَذا كانَ فَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلى سائِرِ الكَواكِبِ.
قالُوا: وقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«لَأنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ» وهَذا التَّفْضِيلُ إنَّما هو لِلنَّفْعِ المُتَعَدِّي، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ
«مَن دَعا إلى هُدًى كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ
«إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِي النّاسِ الخَيْرَ» وبِقَوْلِهِ ﷺ
«إنَّ العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ، حَتّى الحِيتانُ في البَحْرِ، والنَّمْلَةُ في جُحْرِها».
واحْتَجُّوا بِأنَّ صاحِبَ العِبادَةِ إذا ماتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وصاحِبَ النَّفْعِ لا يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ، ما دامَ نَفْعُهُ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ.
واحْتَجُّوا بِأنَّ الأنْبِياءَ إنَّما بُعِثُوا بِالإحْسانِ إلى الخَلْقِ وهِدايَتِهِمْ، ونَفْعِهِمْ في مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ، لَمْ يُبْعَثُوا بِالخُلْواتِ والِانْقِطاعِ عَنِ النّاسِ والتَّرَهُّبِ، ولِهَذا أنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ هَمُّوا بِالِانْقِطاعِ لِلتَّعَبُّدِ، وتَرْكِ مُخالَطَةِ النّاسِ، ورَأى هَؤُلاءِ التَّفَرُّقَ في أمْرِ اللَّهِ، ونَفْعَ عِبادِهِ، والإحْسانَ إلَيْهِمْ، أفْضَلَ مِنَ الجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ.
الصِّنْفُ الرّابِعُ، قالُوا: إنَّ أفْضَلَ العِبادَةِ العَمَلُ عَلى مَرْضاةِ الرَّبِّ في كُلِّ وقْتٍ بِما هو مُقْتَضى ذَلِكَ الوَقْتِ ووَظِيفَتُهُ، فَأفْضَلُ العِباداتِ في وقْتِ الجِهادِ: الجِهادُ، وإنْ آَلَ إلى تَرْكِ الأوْرادِ، مِن صَلاةِ اللَّيْلِ وصِيامِ النَّهارِ، بَلْ ومِن تَرْكِ إتْمامِ صَلاةِ الفَرْضِ، كَما في حالَةِ الأمْنِ.
والأفْضَلُ في وقْتِ حُضُورِ الضَّيْفِ مَثَلًا القِيامُ بِحَقِّهِ، والِاشْتِغالُ بِهِ عَنِ الوِرْدِ المُسْتَحَبِّ، وكَذَلِكَ في أداءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ والأهْلِ.
والأفْضَلُ في أوْقاتِ السَّحَرِ الِاشْتِغالُ بِالصَّلاةِ والقُرْآنِ، والدُّعاءِ والذِّكْرِ والِاسْتِغْفارِ.
والأفْضَلُ في وقْتِ اسْتِرْشادِ الطّالِبِ، وتَعْلِيمِ الجاهِلِ الإقْبالُ عَلى تَعْلِيمِهِ والِاشْتِغالِ بِهِ.
والأفْضَلُ في أوْقاتِ الأذانِ تَرْكُ ما هو فِيهِ مِن وِرْدِهِ، والِاشْتِغالُ بِإجابَةِ المُؤَذِّنِ.
والأفْضَلُ في أوْقاتِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ الجِدُّ والنُّصْحُ في إيقاعِها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، والمُبادَرَةُ إلَيْها في أوَّلِ الوَقْتِ، والخُرُوجُ إلى الجامِعِ، وإنْ بَعُدَ كانَ أفْضَلَ.
والأفْضَلُ في أوْقاتِ ضَرُورَةِ المُحْتاجِ إلى المُساعَدَةِ بِالجاهِ، أوِ البَدَنِ، أوِ المالِ الِاشْتِغالُ بِمُساعَدَتِهِ، وإغاثَةُ لَهْفَتِهِ، وإيثارُ ذَلِكَ عَلى أوْرادِكَ وخَلْوَتِكَ.
والأفْضَلُ في وقْتِ قِراءَةِ القُرْآنِ جَمْعِيَّةُ القَلْبِ والهِمَّةِ عَلى تَدَبُّرِهِ وتَفَهُّمِهِ، حَتّى كَأنَّ اللَّهَ تَعالى يُخاطِبُكَ بِهِ، فَتَجْمَعُ قَلْبَكَ عَلى فَهْمِهِ وتَدَبُّرِهِ، والعَزْمُ عَلى تَنْفِيذِ أوامِرِهِ أعْظَمُ مِن جَمْعِيَّةِ قَلْبِ مَن جاءَهُ كِتابٌ مِنَ السُّلْطانِ عَلى ذَلِكَ.
والأفْضَلُ في وقْتِ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الِاجْتِهادُ في التَّضَرُّعِ والدُعاءِ والذِكْرِ دُونَ الصَّوْمِ المُضْعِفِ عَنْ ذَلِكَ.
والأفْضَلُ في أيّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ الإكْثارُ مِنَ التَّعَبُّدِ، لاسِيَّما التَّكْبِيرُ والتَهْلِيلُ والتَحْمِيدُ، فَهو أفْضَلُ مِنَ الجِهادِ غَيْرِ المُتَعَيَّنِ.
والأفْضَلُ في العَشْرِ الأخِيرِ مِن رَمَضانَ لُزُومُ المَسْجِدِ فِيهِ والخَلْوَةِ والِاعْتِكافِ دُونَ التَّصَدِّي لِمُخالَطَةِ النّاسِ والِاشْتِغالِ بِهِمْ، حَتّى إنَّهُ أفْضَلُ مِنَ الإقْبالِ عَلى تَعْلِيمِهِمُ العِلْمَ، وإقْرائِهِمُ القُرْآنَ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ.
والأفْضَلُ في وقْتِ مَرَضِ أخِيكَ المُسْلِمِ أوْ مَوْتِهِ عِيادَتُهُ، وحُضُورُ جِنازَتِهِ وتَشْيِيعُهُ، وتَقْدِيمُ ذَلِكَ عَلى خَلْوَتِكَ وجَمْعِيَّتِكَ.
والأفْضَلُ في وقْتِ نُزُولِ النَّوازِلِ وأذاةِ النّاسِ لَكَ أداءُ واجِبِ الصَّبْرِ مَعَ خُلْطَتِكَ بِهِمْ، دُونَ الهَرَبِ مِنهُمْ، فَإنَّ المُؤْمِنَ الَّذِي يُخالِطُ النّاسَ لِيَصْبِرَ عَلى أذاهم أفْضَلُ مِنَ الَّذِي لا يُخالِطُهم ولا يُؤْذُونَهُ.
والأفْضَلُ خُلْطَتُهم في الخَيْرِ، فَهي خَيْرٌ مِنَ اعْتِزالِهِمْ فِيهِ، واعْتِزالُهم في الشَّرِّ، فَهو أفْضَلُ مِن خُلْطَتِهِمْ فِيهِ، فَإنْ عَلِمَ أنَّهُ إذا خالَطَهم أزالَهُ أوْ قَلَّلَهُ فَخُلْطَتُهم حِينَئِذٍ أفْضَلُ مِنِ اعْتِزالِهِمْ.
فالأفْضَلُ في كُلِّ وقْتٍ وحالٍ إيثارُ مَرْضاةِ اللَّهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ والحالِ، والِاشْتِغالُ بِواجِبِ ذَلِكَ الوَقْتِ ووَظِيفَتِهِ ومُقْتَضاهُ.
وَهَؤُلاءِ هم أهْلُ التَّعَبُّدِ المُطْلَقِ، والأصْنافُ قِبَلَهم أهْلُ التَّعَبُّدِ المُقَيَّدِ، فَمَتى خَرَجَ أحَدُهم عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ العِبادَةِ وفارَقَهُ يَرى نَفْسَهُ كَأنَّهُ قَدْ نَقَصَ وتَرَكَ عِبادَتَهُ، فَهو يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى وجْهٍ واحِدٍ، وصاحِبُ التَّعَبُّدِ المُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ في تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى أيْنَ كانَتْ، فَمَدارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْها، فَهو لا يَزالُ مُتَنَقِّلًا في مَنازِلِ العُبُودِيَّةِ، كُلَّما رُفِعَتْ لَهُ مَنزِلَةٌ عَمِلَ عَلى سَيْرِهِ إلَيْها، واشْتَغَلَ بِها حَتّى تَلُوحَ لَهُ مَنزِلَةٌ أُخْرى، فَهَذا دَأْبَهُ في السَّيْرِ حَتّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ، فَإنْ رَأيْتَ العُلَماءَ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، وإنْ رَأيْتَ العُبّادَ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، وإنْ رَأيْتَ المُجاهِدِينَ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، وإنْ رَأيْتَ الذّاكِرِينَ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، وإنْ رَأيْتَ المُتَصَدِّقِينَ المُحْسِنِينَ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، وإنْ رَأيْتَ أرْبابَ الجَمْعِيَّةِ وعُكُوفِ القَلْبِ عَلى اللَّهِ رَأيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذا هو العَبْدُ المُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، ولَمْ تُقَيِّدْهُ القُيُودُ، ولَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلى مُرادِ نَفْسِهِ وما فِيهِ لَذَّتُها وراحَتُها مِنَ العِباداتِ، بَلْ هو عَلى مُرادِ رَبِّهِ، ولَوْ كانَتْ راحَةُ نَفْسِهِ ولَذَّتُها في سِواهُ، فَهَذا هو المُتَحَقِّقُ بِ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " حَقًّا، القائِمُ بِهِما صِدْقًا، مَلْبَسُهُ ما تَهَيَّأ، ومَأْكَلُهُ ما تَيَسَّرَ، واشْتِغالُهُ بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ في كُلِّ وقْتٍ بِوَقْتِهِ، ومَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهى بِهِ المَكانُ ووَجَدَهُ خالِيًا، لا تَمْلِكُهُ إشارَةٌ، ولا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، ولا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دائِرٌ مَعَ الأمْرِ حَيْثُ دارَ، يَدِينُ بِدِينِ الآمِرِ أنّى تَوَجَّهَتْ رَكائِبُهُ، ويَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضارِبُهُ، يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، ويَسْتَوْحِشُ مِنهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كالغَيْثِ حَيْثُ وقَعَ نَفَعَ، وكالنَخْلَةِ لا يَسْقُطُ ورَقُها وكُلُّها مَنفَعَةٌ حَتّى شَوْكُها، وهو مَوْضِعُ الغِلْظَةِ مِنهُ عَلى المُخالِفِينَ لِأمْرِ اللَّهِ، والغَضَبِ إذا انْتُهِكَتْ مَحارِمُ اللَّهِ، فَهو لِلَّهِ وبِاللَّهِ ومَعَ اللَّهِ، قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلا خَلْقٍ، وصَحِبَ النّاسَ بِلا نَفْسٍ، بَلْ إذا كانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الخَلائِقَ عَنِ البَيْنِ، وتَخَلّى عَنْهُمْ، وإذا كانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الوَسَطِ وتَخَلّى عَنْها، فَواهًا لَهُ! ما أغْرَبَهُ بَيْنَ النّاسِ! وما أشَدَّ وحْشَتَهُ مِنهُمْ! وما أعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وفَرَحَهُ بِهِ، وطُمَأْنِينَتَهُ وسُكُونَهُ إلَيْهِ! واللَّهُ المُسْتَعانُ، وعَلَيْهِ التُكْلانُ.
* [فَصْلٌ: مَنفَعَةُ العِبادَةِ وحِكْمَتُها ومَقْصُودُها وانْقِسامُ النّاسِ في ذَلِكَ لِأرْبَعَةِ أصْنافٍ]
[نُفاةُ التَّعْلِيلِ]
ثُمَّ لِلنّاسِ في مَنفَعَةِ العِبادَةِ وحِكْمَتِها ومَقْصُودِها طُرُقٌ أرْبَعَةٌ، وهم في ذَلِكَ أرْبَعَةُ أصْنافٍ.
الصِّنْفُ الأوَّلُ: نُفاةُ الحُكْمِ والتَّعْلِيلِ، الَّذِينَ يَرُدُّونَ الأمْرَ إلى مَحْضِ المَشِيئَةِ، وصِرْفِ الإرادَةِ، فَهَؤُلاءِ عِنْدَهُمُ القِيامُ بِها لَيْسَ إلّا لِمُجَرَّدِ الأمْرِ، مِن غَيْرِ أنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعادَةٍ في مَعاشٍ ولا مَعادٍ، ولا سَبَبًا لِنَجاةٍ، وإنَّما القِيامُ بِها لِمُجَرَّدِ الأمْرِ ومَحْضِ المَشِيئَةِ، كَما قالُوا في الخَلْقِ: إنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ما خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، ولا لِغايَةٍ هي المَقْصُودَةُ بِهِ، ولا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ مِنهُ، ولَيْسَ في المَخْلُوقاتِ أسْبابٌ مُقْتَضِياتٌ لِمُسَبَّباتِها، ولا فِيها قُوًى ولا طَبائِعُ، فَلَيْسَتِ النّارُ سَبَبًا لِلْإحْراقِ، ولا الماءُ سَبَبًا لِلْإرْواءِ والَبْرِيدِ وإخْراجِ النَّباتِ، ولا فِيهِ قُوَّةٌ ولا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وحُصُولُ الإحْراقِ والرِّيِّ لَيْسَ بِهِما، لَكِنْ بِإجْراءِ العادَةِ الاقْتِرانِيَّةِ عَلى حُصُولِ هَذا عِنْدَ هَذا لا بِسَبَبٍ ولا بِقُوَّةٍ قامَتْ بِهِ، وهَكَذا الأمْرُ عِنْدَهم في أمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَواءٌ، لا فَرْقَ في نَفْسِ الأمْرِ بَيْنَ المَأْمُورِ والمَحْظُورِ، ولَكِنَّ المَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أمْرَهُ بِهَذا ونَهْيَهُ عَنْ هَذا، مِن غَيْرِ أنْ يَقُومَ بِالمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، ولا المَنهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ.
وَلِهَذا الأصْلِ لَوازِمُ وفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فاسِدَةٌ، وقَدْ ذَكَرْناها في كِتابِنا الكَبِيرِ المُسَمّى " مِفْتاحُ دارِ السَّعادَةِ ومَطْلَبُ أهْلِ العِلْمِ والإرادَةِ " وبَيَّنّا فَسادَ هَذا الأصْلِ مِن نَحْوِ سِتِّينَ وجْهًا، وهو كِتابٌ بَدِيعٌ في مَعْناهُ، وذَكَرْناهُ أيْضًا في كِتابِنا المُسَمّى " سَفَرُ الهِجْرَتَيْنِ وطَرِيقُ السَّعادَتَيْنِ ".
وَهَؤُلاءِ لا يَجِدُونَ حَلاوَةَ العِبادَةِ ولا لَذَّتَها، ولا يَتَنَعَّمُونَ بِها، ولَيْسَتِ الصَّلاةُ قُرَّةَ أعْيُنِهِمْ، ولَيْسَتِ الأوامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وغِذاءَ أرْواحِهِمْ وحَياتِهِمْ، ولِهَذا يُسَمُّونَها تَكالِيفَ، أيْ قَدْ كُلِّفُوا بِها، ولَوْ سَمّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ المُلُوكِ أوْ غَيْرِهِ ما يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وقالَ: إنِّي إنَّما أفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، ولِهَذا أنْكَرَ هَؤُلاءِ أوْ كَثِيرٌ مِنهم مَحَبَّةَ العَبْدِ لِرَبِّهِ، وقالُوا: إنَّما يُحِبُّ ثَوابَهُ وما يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لا أنَّهُ يُحِبُّ ذاتَهُ، فَجَعَلُوا المَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وحَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ هي كَمالُ المَحَبَّةِ، فَأنْكَرُوا حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ ولُبَّها، وحَقِيقَةُ الإلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغايَةِ الحُبِّ، المَقْرُونِ بِغايَةِ الذُّلِّ والخُضُوعِ، والإجْلالِ والتَّعْظِيمِ، فَأنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وذَلِكَ إنْكارٌ لِإلَهِيَّتِهِ، وشَيْخُ هَؤُلاءِ هو الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحّى بِهِ خالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القَسْرِيُّ في يَوْمٍ أضْحى، وقالَ: إنَّهُ زَعَمَ أنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسى تَكْلِيمًا، ولَمْ يَتَّخِذْ إبْراهِيمَ خَلِيلًا، وإنَّما كانَ إنْكارُهُ لِكَوْنِهِ تَعالى مَحْبُوبًا مُحِبًّا، لَمْ يُنْكِرْ حاجَةَ إبْراهِيمَ إلَيْهِ، الَّتِي هي الخُلَّةُ عِنْدَ الجَهْمِيَّةِ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيها جَمِيعُ الخَلائِقِ، فَكُلُّهم أخِلّاءُ لِلَّهِ عِنْدَهم.
وَقَدْ بَيَّنّا فَسادَ قَوْلِهِمْ هَذا، وإنْكارِهِمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ مِن أكْثَرَ مِن ثَمانِينَ وجْهًا في كِتابِنا المُسَمّى " قُرَّةُ عُيُونِ المُحِبِّينَ، ورَوْضَةُ قُلُوبِ العارِفِينَ " وذَكَرْنا فِيهِ وُجُوبُ تَعَلُّقِ المَحَبَّةِ بِالحَبِيبِ الأوَّلِ مِن جَمِيعِ طُرُقِ الأدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ والذَّوْقِيَّةِ والفِطْرِيَّةِ وأنَّهُ لا كَمالَ لِلْإنْسانِ بِدُونِ ذَلِكَ ألْبَتَّةَ، كَما أنَّهُ لا كَمالَ لِجِسْمِهِ إلّا بِالرُّوحِ والحَياةِ، ولا لِعَيْنِهِ إلّا بِالنُّورِ الباصِرِ، ولا لِأُذُنِهِ إلّا بِالسَّمْعِ، وأنَّ الأمْرَ فَوْقَ ذَلِكَ وأعْظَمُ.
[القَدَرِيَّةُ النُفاةُ]
الصِّنْفُ الثّانِي: القَدَرِيَّةُ النُفاةُ، الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الحِكْمَةِ والتَّعْلِيلِ ولَكِنْ لا يَقُومُ بِالرَّبِّ، ولا يَرْجِعُ إلَيْهِ، بَلْ يَرْجِعُ إلى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ المَخْلُوقِ ومَنفَعَتِهِ.
فَعِنْدَهُمْ: أنَّ العِباداتِ شُرِعَتْ أثْمانًا لِما يَنالُهُ العِبادُ مِنَ الثَّوابِ والنَّعِيمِ، وأنَّها بِمَنزِلَةِ اسْتِيفاءِ أُجْرَةِ الأجِيرِ.
قالُوا: ولِهَذا يَجْعَلُها اللَّهُ تَعالى عِوَضًا كَقَوْلِهِ
﴿وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣] وقَوْلِهِ
﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢] وقَوْلِهِ
﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: ٩٠] وقَوْلِهِ ﷺ فِيما يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ
«يا عِبادِي، إنَّما هي أعْمالُكم أُحْصِيها لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكم إيّاها» وقَوْلِهِ تَعالى
﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [الزمر: ١٠]قالُوا: وقَدْ سَمّاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ جَزاءً وأجْرًا وثَوابًا، لِأنَّهُ يَثُوبُ إلى العامِلِ مِن عَمَلِهِ، أيْ يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنهُ.
قالُوا: ولَوْلا ارْتِباطُهُ بِالعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزاءً ولا أجْرًا ولا ثَوابًا مَعْنًى.
قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ الوَزْنُ، فَلَوْلا تَعَلُّقُ الثَّوابِ والعِقابِ بِالأعْمالِ واقْتِضاؤُها لَها، وكَوْنُها كالأثْمانِ لَها لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى، وقَدْ قالَ تَعالى
﴿والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ - ومَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٨-٩].
وَهاتانِ الطّائِفَتانِ مُتَقابِلَتانِ أشَدَّ التَّقابُلِ، وبَيْنَهُما أعْظَمُ التَّبايُنِ.
فالجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأعْمالِ ارْتِباطًا بِالجَزاءِ ألْبَتَّةَ، وجَوَّزَتْ أنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَن أفْنى عُمْرَهُ في طاعَتِهِ، ويُنَعِّمَ مَن أفْنى عُمْرَهُ في مَعْصِيَتِهِ، وكِلاهُما بِالنِسْبَةِ إلَيْهِ سَواءٌ، وجَوَّزَتْ أنْ يَرْفَعَ صاحِبَ العَمَلِ القَلِيلِ عَلى مَن هو أعْظَمُ مِنهُ عَمَلًا، وأكْثَرُ وأفْضَلُ دَرَجاتٍ، والكُلُّ عِنْدَهم راجِعٌ إلى مَحْضِ المَشِيئَةِ، مِن غَيْرِ تَعْلِيلٍ ولا سَبَبٍ، ولا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذا بِالثَوابِ، وهَذا بِالعِقابِ.
والقَدَرِيَّةُ أوْجَبَتْ عَلى اللَّهِ رِعايَةَ الأصْلَحِ، وجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الأعْمالِ وثَمَنًا لَها، وأنَّ وُصُولَ الثَّوابِ إلى العَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلا ثَمَنٍ.
فَقاتَلَهُمُ اللَّهُ، ما أجْهَلَهم بِاللَّهِ وأغَرَّهم بِهِ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وإحْسانَهُ إلى عَبْدِهِ بِمَنزِلَةِ صَدَقَةِ العَبْدِ عَلى العَبْدِ، حَتّى قالُوا: إنَّ إعْطاءَهُ ما يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلى عَمَلِهِ أحَبُّ إلى العَبْدِ وأطْيَبُ لَهُ مِن أنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنهُ بِلا عَمَلٍ.
فَقابَلَتْهُمُ الجَبْرِيَّةُ أشَدَّ المُقابَلَةِ، ولَمْ يَجْعَلُوا لِلْأعْمالِ تَأْثِيرًا في الجَزاءِ ألْبَتَّةَ.
والطائِفَتانِ جائِرَتانِ، مُنْحَرِفَتانِ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبادَهُ، وجاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ونَزَلَتْ بِهِ الكُتُبُ، وهو أنَّ الأعْمالَ أسْبابٌ مُوَصِّلَةٌ إلى الثَّوابِ والعِقابِ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُما كاقْتِضاءِ سائِرِ الأسْبابِ لِمُسَبَّباتِها، وأنَّ الأعْمالَ الصّالِحَةَ مِن تَوْفِيقِ اللَّهِ وفَضْلِهِ ومَنِّهِ، وصَدَقَتِهِ عَلى عَبْدِهِ، إنْ أعانَهُ عَلَيْها ووَفَّقَهُ لَها، وخَلَقَ فِيهِ إرادَتَها والقُدْرَةَ عَلَيْها، وحَبَّبَها إلَيْهِ، وزَيَّنَها في قَلْبِهِ وكَرَّهَ إلَيْهِ أضْدادُها، ومَعَ هَذا فَلَيْسَتْ ثَمَنًا لِجَزائِهِ وثَوابِهِ، ولا هي عَلى قَدْرِهِ، بَلْ غايَتُها إذا بَذَلَ العَبْدُ فِيها نُصْحَهُ وجُهْدَهُ، وأوْقَعَها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ أنْ تَقَعَ شُكْرًا لَهُ عَلى بَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ طالَبَهُ بِحَقِّهِ لَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ عَلى تِلْكَ النِّعْمَةِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِها، فَلِذَلِكَ لَوْ عَذَّبَ أهْلَ سَماواتِهِ وأهْلَ أرْضِهِ لَعَذَّبَهم وهو غَيْرُ ظالِمٍ لَهُمْ، ولَوْ رَحِمَهم لَكانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهم مِن أعْمالِهِمْ، كَما ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ولِهَذا نَفى النَّبِيُّ ﷺ دُخُولَ الجَنَّةِ بِالعَمَلِ، كَما قالَ
«لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنكُمُ الجَنَّةَ عَمَلُهُ» وفي لَفْظٍ:
«لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ مِنكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ،» وفي لَفْظٍ:
«لَنْ يُنْجِيَ أحَدًا مِنكم عَمَلُهُ قالُوا: ولا أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ» وأثْبَتَ سُبْحانَهُ دُخُولَ الجَنَّةِ بِالعَمَلِ، كَما في قَوْلِهِ
﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢] ولا تَنافِي بَيْنَهُما، إذْ تَوارُدُ النَّفْيِ والإثْباتِ لَيْسَ عَلى مَعْنًى واحِدٍ، فالمَنفِيُّ اسْتِحْقاقُها بِمُجَرَّدِ الأعْمالِ، وكَوْنِ الأعْمالِ ثَمَنًا وعِوَضًا لَها، رَدًّا عَلى القَدَرِيَّةِ المَجُوسِيَّةِ، الَّتِي زَعَمَتْ أنَّ التَفَضُّلَ بِالثَوابِ ابْتِداءً مُتَضَمِّنٌ لِتَكْرِيرِ المِنَّةِ.
وَهَذِهِ الطّائِفَةُ مِن أجْهَلِ الخَلْقِ بِاللَّهِ، وأغْلَظِهِمْ عَنْهُ حِجابًا، وحُقَّ لَهم أنْ يَكُونُوا مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ، ويَكْفِي في جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ أنَّهم لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ أهْلَ سَماواتِهِ وأرْضِهِ في مِنَّتِهِ، وأنَّ مِن تَمامِ الفَرَحِ والسُرُورِ، والغِبْطَةِ واللَّذَّةِ اغْتِباطُهم بِمِنَّةِ سَيِّدِهِمْ ومَوْلاهُمُ الحَقِّ، وأنَّهم إنَّما طابَ لَهم عَيْشُهم بِهَذِهِ المِنَّةِ، وأعْظَمُهم مِنهُ مَنزِلَةً، وأقْرَبُهم إلَيْهِ أعْرَفُهم بِهَذِهِ المِنَّةِ، وأعْظَمُهم إقْرارًا بِها، وذِكْرًا لَها، وشُكْرًا عَلَيْها، ومَحَبَّةً لَهُ لِأجْلِها، فَهَلْ يَتَقَلَّبُ أحَدٌ قَطٌّ إلّا في مِنَّتِهِ؟
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧].
واحْتِمالُ مِنَّةِ المَخْلُوقِ إنَّما كانَتْ نَقْصًا لِأنَّهُ نَظِيرُهُ، فَإذا مَنَّ عَلَيْهِ اسْتَعْلى عَلَيْهِ، ورَأى المَمْنُونُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ دُونَهُ، هَذا مَعَ أنَّهُ لَيْسَ في كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَلِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ المِنَّةُ عَلى أُمَّتِهِ، وكانَ أصْحابُهُ يَقُولُونَ: " اللَّهُ ورَسُولُهُ أمَنُّ " ولا نَقْصَ في مِنَّةِ الوالِدِ عَلى ولَدِهِ، ولا عارَ عَلَيْهِ في احْتِمالِها، وكَذَلِكَ السَّيِّدُ عَلى عَبْدِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ العالَمِينَ الَّذِي إنَّما يَتَقَلَّبُ الخَلائِقُ في بَحْرِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ، ومَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، بِلا عِوَضٍ مِنهُمُ ألْبَتَّةَ؟ وإنْ كانَتْ أعْمالُهم أسْبابًا لِما يَنالُونَهُ مِن كَرَمِهِ وجُودِهِ، فَهو المَنّانُ عَلَيْهِمْ، بِأنْ وفَّقَهم لِتِلْكَ الأسْبابِ وهَداهم لَها، وأعانَهم عَلَيْها، وكَمَّلَها لَهُمْ، وقَبِلَها مِنهم عَلى ما فِيها؟ وهَذا هو المَعْنى الَّذِي أثْبَتَ بِهِ دُخُولَ الجَنَّةِ في قَوْلِهِ
﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣].
فَهَذِهِ باءُ السَّبَبِيَّةِ، رَدًّا عَلى القَدَرِيَّةِ والجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا ارْتِباطَ بَيْنَ الأعْمالِ والجَزاءِ، ولا هي أسْبابٌ لَهُ، وإنَّما غايَتُها أنْ تَكُونَ أماراتٍ.
قالُوا: ولَيْسَتْ أيْضًا مُطَّرِدَةً، لِتَخَلُّفِ الجَزاءِ عَنْها في الخَيْرِ والشَّرِّ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا مَحْضُ الأمْرِ الكَوْنِيِّ والمَشِيئَةِ.
فالنُّصُوصُ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلاءِ، كَما هي مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ أُولَئِكَ، وأدِلَّةُ المَعْقُولِ والفِطْرَةِ أيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَ الفَرِيقَيْنِ، وتُبَيِّنُ لِمَن لَهُ قَلْبٌ ولُبٌّ مِقْدارَ قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ، وهُمُ الفِرْقَةُ الوَسَطُ، المُثْبِتُونَ لِعُمُومِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، وخَلْقِهِ العِبادَ وأعْمالَهُمْ، ولِحِكْمَتِهِ التّامَّةِ المُتَضَمِّنَةِ رَبْطَ الأسْبابِ بِمُسَبَّباتِها، وانْعِقادَها بِها شَرْعًا وقَدَرًا، وتَرْتِيبَها عَلَيْها عاجِلًا وآجِلًا.
وَكُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ المُنْحَرِفَتَيْنِ تَرَكَتْ نَوْعًا مِنَ الحَقِّ، وارْتَكَبَتْ لِأجْلِهِ نَوْعًا مِنَ الباطِلِ، بَلْ أنْواعًا، وهَدى اللَّهُ أهْلَ السُّنَّةِ لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ
﴿واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] و
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: ٢١].
[الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ فائِدَةَ العِبادَةِ رِياضَةُ النُّفُوسِ]
الصِّنْفُ الثّالِثُ: الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ فائِدَةَ العِبادَةِ رِياضَةُ النُّفُوسِ، واسْتِعْدادُها لِفَيْضِ العُلُومِ عَلَيْها، وخُرُوجِ قُواها عَنْ قُوى النُّفُوسِ السَبُعِيَّةِ والبَهِيمِيَّةِ، فَلَوْ عُطِّلَتْ عَنِ العِباداتِ لَكانَتْ مِن جِنْسِ نُفُوسِ السِّباعِ والبَهائِمِ، والعِباداتُ تُخْرِجُها عَنْ مَأْلُوفاتِها وعَوائِدِها، وتَنْقِلُها إلى مُشابَهَةِ العُقُولِ المُجَرَّدَةِ، فَتَصِيرُ عالِمَةً قابِلَةً لِانْتِقاشِ صُوَرِ العُلُومِ والمَعارِفِ فِيها، وهَذا يَقُولُهُ طائِفَتانِ:
إحْداهُما: مَن يَقْرُبُ إلى النُّبُوّاتِ والشَّرائِعِ مِنَ الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِقِدَمِ العالَمِ، وعَدَمِ انْشِقاقِ الأفْلاكِ، وعَدَمِ الفاعِلِ المُخْتارِ.
الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ: مَن تَفَلْسَفَتْ مِن صُوفِيَّةِ الإسْلامِ، وتَقَرَّبَ إلى الفَلاسِفَةِ، فَإنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ العِباداتِ رِياضاتٌ لِاسْتِعْدادِ النُّفُوسِ وتَجَرُّدِها، ومُفارَقَتِها العالَمَ الحِسِّيَّ، ونُزُولِ الوارِداتِ والمَعارِفِ عَلَيْها.
ثُمَّ مِن هَؤُلاءِ مَن لا يُوجِبُ العِباداتِ إلّا لِهَذا المَعْنى، فَإذا حَصَلَ لَها بَقِيَ مُخَيَّرًا في حِفْظِهِ أوْ رَدِّهِ، أوِ الِاشْتِغالِ بِالوارِدِ عَنْها، ومِنهم مَن يُوجِبُ القِيامَ بِالأوْرادِ والوَظائِفِ، وعَدَمِ الإخْلالِ بِها، وهم صِنْفانِ أيْضًا:
أحَدُهُما: مَن يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْقانُونِ، وضَبْطًا لِلنُّفُوسِ.
والآخَرُونَ: الَّذِينَ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْوارِدِ، وخَوْفًا مَن تَدْرُجِ النَّفْسِ بِمُفارَقَتِها لَهُ إلى حالَتِها الأُولى مِنَ البَهِيمِيَّةِ.
فَهَذِهِ نِهايَةُ أقْدامِ المُتَكَلِّمِينَ عَلى طَرِيقِ السُّلُوكِ، وغايَةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُكْمِ العِبادَةِ وما شُرِعَتْ لِأجْلِهِ، ولا تَكادُ تَجِدُ في كُتُبِ القَوْمِ غَيْر هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلاثَةِ، عَلى سَبِيلِ الجَمْعِ، أوْ عَلى سَبِيلِ البَدَلِ.
[الطّائِفَةُ المُحَمَّدِيَّةُ الإبْراهِيمِيَّةُ]
وَأمّا الصِّنْفُ الرّابِعُ: فَهُمُ الطّائِفَةُ المُحَمَّدِيَّةُ الإبْراهِيمِيَّةُ، أتْباعُ الخَلِيلَيْنِ، العارِفُونَ بِاللَّهِ وحِكْمَتِهِ في أمْرِهِ وشَرْعِهِ وخَلْقِهِ، وأهْلُ البَصائِرِ في عِبادَتِهِ، ومُرادِهِ بِها.
فالطَّوائِفُ الثَّلاثُ مَحْجُوبُونَ عَنْهم بِما عِنْدَهم مِنَ الشُّبَهِ الباطِلَةِ، والقَواعِدِ الفاسِدَةِ، ما عِنْدَهم وراءَ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَدْ فَرِحُوا بِما عِنْدَهم مِنَ المُحالِ، وقَنَعُوا بِما ألِفُوهُ مِنَ الخَيالِ، ولَوْ عَلِمُوا أنَّ وراءَهُ ما هو أجَّلُ مِنهُ وأعْظَمُ لَما ارْتَضَوْا بِدُونِهِ، ولَكِنَّ عُقُولَهم قَصُرَتْ عَنْهُ، ولَمْ يَهْتَدُوا إلَيْهِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، ولَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، لِيَجْتَهِدُوا في طَلَبِهِ، ورَأوْا أنَّ ما مَعَهم خَيْرٌ مِنَ الجَهْلِ، ورَأوْا تَناقُضَ ما مَعَ غَيْرِهِمْ وفَسادَهُ.
فَتَرَكَّبَ مِن هَذِهِ الأُمُورِ إيثارُ ما عِنْدَهم عَلى ما سِواهُ، وهَذِهِ بَلِيَّةُ الطَّوائِفِ، والمُعافى مَن عافاهُ اللَّهُ.
* [فَصْلٌ: سِرُّ العُبُودِيَّةِ وغايَتُها وحِكْمَتُها]
فاعْلَمْ أنَّ سِرَّ العُبُودِيَّةِ، وغايَتَها وحِكْمَتَها إنَّما يَطَّلِعُ عَلَيْها مَن عَرَفَ صِفاتِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ، ولَمْ يُعَطِّلْها، وعَرَفَ مَعْنى الإلَهِيَّةِ وحَقِيقَتَها، ومَعْنى كَوْنِهِ إلَهًا، بَلْ هو الإلَهُ الحَقُّ، وكُلُّ إلَهٍ سِواهُ فَباطِلٌ، بَلْ أبْطَلُ الباطِلِ، وأنَّ حَقِيقَةَ الإلَهِيَّةِ لا تَنْبَغِي إلّا لَهُ، وأنَّ العِبادَةَ مُوجَبُ إلَهِيَّتِهِ وأثَرُها ومُقْتَضاها، وارْتِباطُها بِها كارْتِباطِ مُتَعَلِّقِ الصِّفاتِ بِالصِّفاتِ، وكارْتِباطِ المَعْلُومِ بِالعِلْمِ، والمَقْدُورِ بِالقُدْرَةِ، والأصْواتِ بِالسَمْعِ، والإحْسانِ بِالرَحْمَةِ، والعَطاءِ بِالجُودِ.
فَمَن أنْكَرَ حَقِيقَةَ الإلَهِيَّةِ ولَمْ يَعْرِفْها كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ العِباداتِ وغاياتِها ومَقاصِدِها وما شُرِعَتْ لِأجْلِهِ؟ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ العِلْمُ بِأنَّها هي الغايَةُ المَقْصُودَةُ بِالخَلْقِ، والَّتِي لَها خُلِقُوا، ولَها أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وأُنْزِلَتِ الكُتُبُ، ولِأجْلِها خُلِقَتِ الجَنَّةُ والنارُ؟ وأنَّ فَرْضَ تَعْطِيلِ الخَلِيقَةِ عَنْها نِسْبَةٌ لِلَّهِ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، ويَتَعالى عَنْهُ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ، ولَمْ يَخْلُقْهُما باطِلًا، ولَمْ يَخْلُقِ الإنْسانَ عَبَثًا ولَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى مُهْمَلًا، قالَ تَعالى
﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] أيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ ولا حِكْمَةٍ، ولا لِعِبادَتِي ومُجازاتِي لَكُمْ، وقَدْ صَرَّحَ تَعالى بِهَذا في قَوْلِهِ
﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فالعِبادَةُ هي الغايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَها الجِنَّ والإنْسَ والخَلائِقَ كُلَّها، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] أيْ مُهْمَلًا، قالَ الشّافِعِيُّ: لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهى، وقالَ غَيْرُهُ: لا يُثابُ ولا يُعاقَبُ، والصَحِيحُ الأمْرانِ، فَإنَّ الثَّوابَ والعِقابَ مُتَرَتِّبانِ عَلى الأمْرِ والنَهْيِ، والأمْرُ والنَهْيُ طَلَبُ العِبادَةِ وإرادَتُها، وحَقِيقَةُ العِبادَةِ امْتِثالُهُما، وقالَ تَعالى
﴿وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١] وقالَ
﴿وَما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الحجر: ٨٥] وقالَ
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الجاثية: ٢٢].
فَأخْبَرَ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ المُتَضَمِّنِ أمْرَهُ ونَهْيَهُ، وثَوابَهُ وعِقابَهُ.
فَإذا كانَتِ السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما خُلِقَتْ لِهَذا، وهو غايَةُ الخَلْقِ، فَكَيْفَ يُقالُ إنَّهُ لا عِلَّةَ لَهُ، ولا حِكْمَةَ مَقْصُودَةٌ هي غايَتُهُ؟ أوْ إنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اسْتِئْجارِ العِبادِ حَتّى لا يُنَكَّدَ عَلَيْهِمُ الثَّوابُ بِالمِنَّةِ، أوْ لِمُجَرَّدِ اسْتِعْدادِ النُّفُوسِ لِلْمَعارِفِ العَقْلِيَّةِ، وارْتِياضِها بِمُخالَفَةِ العَوائِدِ؟
فَلْيَتَأمَّلِ اللَّبِيبُ الفُرْقانَ بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ، وبَيْنَ ما دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الوَحْيِ يَجِدْ أنَّ أصْحابَ هَذِهِ الأقْوالِ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ.
فاللَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبادَتِهِ، الجامِعَةِ لِكَمالِ مَحَبَّتِهِ، مَعَ الخُضُوعِ لَهُ والِانْقِيادِ لِأمْرِهِ.
فَأصْلُ العِبادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، بَلْ إفْرادُهُ بِالمَحَبَّةِ، وأنْ يَكُونَ الحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلا يُحِبُّ مَعَهُ سِواهُ، وإنَّما يُحِبُّ لِأجْلِهِ وفِيهِ، كَما يُحِبُّ أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ ومَلائِكَتَهُ وأوْلِياءَهُ، فَمَحَبَّتُنا لَهم مِن تَمامِ مَحَبَّتِهِ، ولَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّهِ.
وَإذا كانَتِ المَحَبَّةُ لَهُ هي حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وسِرَّها، فَهي إنَّما تَتَحَقَّقُ بِاتِّباعِ أمْرِهِ، واجْتِنابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّباعِ الأمْرِ واجْتِنابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ، ولِهَذا جَعَلَ تَعالى اتِّباعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْها، وشاهِدًا لِمَنِ ادَّعاها، فَقالَ تَعالى
﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] فَجَعَلَ اتِّباعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، ووُجُودُ المَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفاءُ المَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفاءِ المُتابَعَةِ، فانْتِفاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لازِمٌ لِانْتِفاءِ المُتابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وانْتِفاءُ المُتابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهم بِدُونِ المُتابَعَةِ لِرَسُولِهِ.
وَدَلَّ عَلى أنَّ مُتابَعَةَ الرَّسُولِ ﷺ هي حُبُّ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وطاعَةُ أمْرِهِ، ولا يَكْفِي ذَلِكَ في العُبُودِيَّةِ حَتّى يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلى العَبْدِ مِمّا سِواهُما، فَلا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَتى كانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنهُما فَهَذا هو الشِّرْكُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصاحِبِهِ ألْبَتَّةَ، ولا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٢٤].
فَكُلُّ مَن قَدَّمَ طاعَةَ أحَدٍ مِن هَؤُلاءِ عَلى طاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ قَوْلَ أحَدٍ مِنهم عَلى قَوْلِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ مَرْضاةَ أحَدٍ مِنهم عَلى مَرْضاةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ خَوْفَ أحَدٍ مِنهم ورَجاءَهُ والتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلى خَوْفِ اللَّهِ ورَجائِهِ والتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أوْ مُعامَلَةَ أحَدِهِمْ عَلى مُعامَلَةِ اللَّهِ فَهو مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وإنْ قالَهُ بِلِسانِهِ فَهو كَذِبٌ مِنهُ، وإخْبارٌ بِخِلافِ ما هو عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أحَدٍ عَلى حُكْمِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَذَلِكَ المُقَدَّمُ عِنْدَهُ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الأمْرُ عَلى مَن يُقَدِّمُ قَوْلَ أحَدٍ أوْ حُكْمَهُ، أوْ طاعَتَهُ أوْ مَرْضاتَهُ، ظَنًّا مِنهُ أنَّهُ لا يَأْمُرُ ولا يَحْكُمُ ولا يَقُولُ إلّا ما قالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، ويُحاكِمُ إلَيْهِ، ويَتَلَقّى أقْوالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذا مَعْذُورٌ إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا إذا قَدَرَ عَلى الوُصُولِ إلى الرَّسُولِ، وعَرَفَ أنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هو أوْلى بِهِ مُطْلَقًا، أوْ في بَعْضِ الأُمُورِ، ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى الرَّسُولِ ولا إلى مَن هو أوْلى بِهِ، فَهَذا الَّذِي يُخافُ عَلَيْهِ، وهو داخِلٌ تَحْتَ الوَعِيدِ، فَإنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَن خالَفَهُ وأذَلَّهُ، ولَمْ يُوافِقْهُ عَلى اتِّباعِ شَيْخِهِ، فَهو مِنَ الظَّلَمَةِ المُعْتَدِينَ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
* [فَصْلٌ: بِناءُ إيّاكَ نَعْبُدُ عَلى أرْبَعِ قَواعِدَ]
وَبَنى "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " عَلى أرْبَعِ قَواعِدَ: التَّحَقُّقُ بِما يُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ ويَرْضاهُ، مِن قَوْلِ اللِّسانِ والقَلْبِ، وعَمَلِ القَلْبِ والجَوارِحِ.
فالعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جامِعٌ لِهَذِهِ المَراتِبِ الأرْبَعِ، فَأصْحابُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " حَقًّا هم أصْحابُها.
فَقَوْلُ القَلْبِ: هو اعْتِقادُ ما أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وعَنْ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ ومَلائِكَتِهِ ولِقائِهِ عَلى لِسانِ رُسُلِهِ.
وَقَوْلُ اللِّسانِ: الإخْبارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، والدَعْوَةُ إلَيْهِ، والذَبُّ عَنْهُ، وتَبْيِينُ بُطْلانِ البِدَعِ المُخالِفَةِ لَهُ، والقِيامُ بِذِكْرِهِ، وتَبْلِيغُ أوامِرِهِ.
وَعَمَلُ القَلْبِ: كالمَحَبَّةِ لَهُ، والتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، والإنابَةِ إلَيْهِ، والخَوْفِ مِنهُ والرَجاءِ لَهُ، وإخْلاصِ الدِّينِ لَهُ، والصَبْرِ عَلى أوامِرِهِ، وعَنْ نَواهِيهِ، وعَلى أقْدارِهِ، والرِضى بِهِ وعَنْهُ، والمُوالاةِ فِيهِ، والمُعاداةِ فِيهِ، والذُلِّ لَهُ والخُضُوعِ، والإخْباتِ إلَيْهِ، والطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أعْمالِ القُلُوبِ الَّتِي فَرْضُها أفْرَضُ مِن أعْمالِ الجَوارِحِ، ومُسْتَحِبُّها أحَبُّ إلى اللَّهِ مِن مُسْتَحِبِّها، وعَمَلُ الجَوارِحِ بِدُونِها إمّا عَدِيمُ المَنفَعَةِ أوْ قَلِيلُ المَنفَعَةِ.
وَأعْمالُ الجَوارِحِ: كالصَلاةِ والجِهادِ، ونَقْلِ الأقْدامِ إلى الجُمْعَةِ والجَماعاتِ، ومُساعَدَةِ العاجِزِ، والإحْسانِ إلى الخَلْقِ ونَحْوِ ذَلِكَ.
فَ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " التِزامٌ لِأحْكامِ هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وإقْرارٌ بِها، "
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " طَلَبٌ لِلْإعانَةِ عَلَيْها والتَّوْفِيقِ لَها، و"
﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] " مُتَضَمِّنٌ لِلتَّعْرِيفِ بِالأمْرَيْنِ عَلى التَّفْصِيلِ، وإلْهامِ القِيامِ بِهِما، وسُلُوكِ طَرِيقِ السّالِكِينَ إلى اللَّهِ بِها.
* [فَصْلٌ: دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ إلى (إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ)]
وَجَمِيعُ الرُّسُلِ إنَّما دَعَوْا إلى "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] " فَإنَّهم كُلَّهم دَعَوْا إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وإخْلاصِ عِبادَتِهِ، مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، فَقالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْمِهِ
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩] وكَذَلِكَ قالَ هُودٌ وصالِحٌ وشُعَيْبٌ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وقالَ
﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥] وقالَ تَعالى
﴿ياأيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: ٥١-٥٢].
* [فَصْلٌ: اللَّهُ تَعالى جَعَلَ العُبُودِيَّةَ وصْفَ أكْمَلِ خَلْقِهِ]
واللَّهُ تَعالى جَعَلَ العُبُودِيَّةَ وصْفَ أكْمَلِ خَلْقِهِ، وأقْرَبِهِمْ إلَيْهِ، فَقالَ
﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ ومَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهم إلَيْهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٧٢] وقالَ
﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ويُسَبِّحُونَهُ ولَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] وهَذا يُبَيِّنُ أنَّ الوَقْفَ التّامَّ في قَوْلِهِ في سُورَةِ الأنْبِياءِ
﴿وَلَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنبياء: ١٩] هاهُنا، ثُمَّ يَبْتَدِئُ
﴿وَمَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] فَهُما جُمْلَتانِ تامَّتانِ مُسْتَقِلَّتانِ، أيْ إنَّ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ عَبِيدًا ومِلْكًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جُمْلَةً أُخْرى فَقالَ
﴿وَمَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأنبياء: ١٩] يَعْنِي أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يَعْنِي لا يَأْنَفُونَ عَنْها، ولا يَتَعاظَمُونَ ولا يَسْتَحْسِرُونَ، فَيَعْيَوْنَ ويَنْقَطِعُونَ يُقالُ: حَسِرَ واسْتَحْسَرَ، إذا تَعِبَ وأعْيا بَلْ عِبادَتُهم وتَسْبِيحُهم كالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ، فالأوَّلُ وصْفٌ لِعَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ، والثّانِي وصْفٌ لِعَبِيدِ إلَهِيَّتِهِ، وقالَ تَعالى
﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣] إلى آخِرِ السُّورَةِ، وقالَ
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦] وقالَ
﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ [ص: ١٧] وقالَ
﴿واذْكُرْ عَبْدَنا أيُّوبَ﴾ [ص: ٤١] وقالَ
﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ [ص: ٤٥] وقالَ عَنْ سُلَيْمانَ
﴿نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ﴾ [ص: ٣٠] وقالَ عَنِ المَسِيحِ
﴿إنْ هو إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ٥٩] فَجَعَلَ غايَتَهُ العُبُودِيَّةَ لا الإلَهِيَّةَ، كَما يَقُولُ أعْداؤُهُ النَّصارى، ووَصَفَ أكْرَمَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وأعْلاهم عِنْدَهُ مَنزِلَةً بِالعُبُودِيَّةِ في أشْرَفِ مَقاماتِهِ، فَقالَ تَعالى
﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البقرة: ٢٣] وقالَ تَبارَكَ وتَعالى
﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] وقالَ
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ [الكهف: ١] فَذَكَرَهُ بِالعُبُودِيَّةِ في مَقامِ إنْزالِ الكِتابِ عَلَيْهِ، وفي مَقامِ التَّحَدِّي بِأنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وقالَ
﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: ١٩] فَذَكَرَهُ بِالعُبُودِيَّةِ في مَقامِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وقالَ
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] فَذَكَرَهُ بِالعُبُودِيَّةِ في مَقامِ الإسْراءِ، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ
«لا تُطْرُونِي كَما أطْرَتِ النَّصارى» المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإنَّما أنا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ وفي الحَدِيثِ
«أنا عَبْدٌ، آكُلُ كَما يَأْكُلُ العَبْدُ، وأجْلِسُ كَما يَجْلِسُ العَبْدُ» وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ: قَرَأْتُ في التَّوْراةِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُهُ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ، ولا صَخّابٍ بِالأسْواقِ، ولا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولَكِنْ يَعْفُو ويَغْفِرُ.
وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ البِشارَةَ المُطْلَقَةَ لِعِبادِهِ، فَقالَ تَعالى
﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٧] وجَعَلَ الأمْنَ المُطْلَقَ لَهُمْ، فَقالَ تَعالى
﴿ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: ٦٨-٦٩] وعَزَلَ الشَّيْطانَ عَنْ سُلْطانِهِ عَلَيْهِمْ خاصَّةً، وجَعَلَ سُلْطانَهُ عَلى مَن تَوَلّاهُ وأشْرَكَ بِهِ، فَقالَ
﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢]وَقالَ
﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٩٩-١٠٠].
وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ إحْسانَ العُبُودِيَّةِ أعْلى مَراتِبِ الدِّينِ وهو الإحْسانُ فَقالَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ وقَدْ سَألَهُ عَنِ الإحْسانِ
«أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ».
* [فَصْلٌ: في لُزُومِ (إيّاكَ نَعْبُدُ) لِكُلِّ عَبْدٍ إلى المَوْتِ]
قالَ اللَّهُ تَعالى لِرَسُولِهِ
﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] وقالَ أهْلُ النّارِ
﴿وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتّى أتانا اليَقِينُ﴾ [المدثر: ٤٦] واليَقِينُ هاهُنا هو المَوْتُ بِإجْماعِ أهْلِ التَّفْسِيرِ، وفي الصَّحِيحِ
«فِي قِصَّةِ مَوْتِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ أمّا عُثْمانُ فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ مِن رَبِّهِ أيِ المَوْتُ وما فِيهِ»، فَلا يَنْفَكُّ العَبْدُ مِنَ العُبُودِيَّةِ ما دامَ في دارِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَيْهِ في البَرْزَخِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرى لَمّا يَسْألُهُ المَلَكانِ مَن كانَ يَعْبُدُ؟ وما يَقُولُ في رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ ويَلْتَمِسانِ مِنهُ الجَوابَ، وعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرى يَوْمَ القِيامَةِ، يَوْمَ يَدْعُو اللَّهُ الخَلْقَ كُلَّهم إلى السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ، ويَبْقى الكُفّارُ والمُنافِقُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، فَإذا دَخَلُوا دارَ الثَّوابِ والعِقابِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ هُناكَ، وصارَتْ عُبُودِيَّةُ أهْلِ الثَّوابِ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِأنْفاسِهِمْ لا يَجِدُونَ لَهُ تَعَبًا ولا نَصْبًا.
وَمَن زَعَمَ أنَّهُ يَصِلُ إلى مَقامٍ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَهو زِنْدِيقٌ كافِرٌ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ، وإنَّما وصَلَ إلى مَقامِ الكُفْرِ بِاللَّهِ، والِانْسِلاخِ مِن دِينِهِ، بَلْ كُلَّما تَمَكَّنَ العَبْدُ في مَنازِلِ العُبُودِيَّةِ كانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أعْظَمَ، والواجِبُ عَلَيْهِ مِنها أكْبَرَ وأكْثَرَ مِنَ الواجِبِ عَلى مَن دُونَهُ، ولِهَذا كانَ الواجِبُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَلْ عَلى جَمِيعِ الرُّسُلِ أعْظَمَ مِنَ الواجِبِ عَلى أُمَمِهِمْ، والواجِبُ عَلى أُولِي العَزْمِ أعْظَمَ مِنَ الواجِبِ عَلى مَن دُونَهُمْ، والواجِبُ عَلى أُولِي العِلْمِ أعْظَمَ مِنَ الواجِبِ عَلى مَن دُونَهُمْ، وكُلُّ أحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ.
* [فَصْلٌ: في انْقِسامِ العُبُودِيَّةِ إلى عامَّةٍ وخاصَّةٍ]
فالعُبُودِيَّةُ العامَّةُ عُبُودِيَّةُ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ كُلِّهِمْ لِلَّهِ، بَرِّهِمْ وفاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وكافِرِهِمْ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ القَهْرِ والمُلْكِ، قالَ تَعالى
﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا - تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا - أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا - وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا - إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٨٨-٩٣] فَهَذا يَدْخُلُ فِيهِ مُؤْمِنُهم وكافِرُهم.
وَقالَ تَعالى
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم وما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ﴾ [الفرقان: ١٧] فَسَمّاهم عِبادَهُ مَعَ ضَلالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالإشارَةِ، وأمّا المُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إلّا لِأهْلِ النَّوْعِ الثّانِي، كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَقالَ تَعالى
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزمر: ٤٦] وقالَ
﴿وَما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ [غافر: ٣١] وقالَ
﴿إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبادِ﴾ [غافر: ٤٨] فَهَذا يَتَناوَلُ العُبُودِيَّةَ الخاصَّةَ والعامَّةَ.
وَأمّا النَّوْعُ الثّانِي: فَعُبُودِيَّةُ الطّاعَةِ والمَحَبَّةِ، واتِّباعِ الأوامِرِ، قالَ تَعالى
﴿ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: ٦٨] وقالَ
﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٧] وقالَ
﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] وقالَ تَعالى عَنْ إبْلِيسَ
﴿وَلَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: ٣٩] فَقالَ تَعالى عَنْهم
﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢].
فالخَلْقُ كُلُّهم عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وأهْلُ طاعَتِهِ ووِلايَتِهِ هم عَبِيدُ إلَهِيَّتِهِ.
وَلا يَجِيءُ في القُرْآنِ إضافَةُ العِبادِ إلَيْهِ مُطْلَقًا إلّا لِهَؤُلاءِ.
وَأمّا وصْفُ عَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ بِالعُبُودِيَّةِ فَلا يَأْتِي إلّا عَلى أحَدِ خَمْسَةِ أوْجُهٍ: إمّا مُنْكِرًا، كَقَوْلِهِ
﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣] والثّانِي مُعَرَّفًا بِاللّامِ، كَقَوْلِهِ
﴿وَما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ [غافر: ٣١]،
﴿إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبادِ﴾ [غافر: ٤٨].
الثّالِثُ: مُقَيَّدًا بِالإشارَةِ أوْ نَحْوِها، كَقَوْلِهِ
﴿أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ﴾ [الفرقان: ١٧].
الرّابِعُ: أنْ يُذْكَرُوا في عُمُومِ عِبادِهِ، فَيَنْدَرِجُوا مَعَ أهْلِ طاعَتِهِ في الذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ
﴿أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزمر: ٤٦].
الخامِسُ: أنْ يُذْكَرُوا مَوْصُوفِينَ بِفِعْلِهِمْ، كَقَوْلِهِ
﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٣].
وَقَدْ يُقالُ: إنَّما سَمّاهم عِبادَهُ إذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِن رَحْمَتِهِ، وأنابُوا إلَيْهِ، واتَّبَعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِن عَبِيدِ الإلَهِيَّةِ والطّاعَةِ.
وَإنَّما انْقَسَمَتِ العُبُودِيَّةُ إلى خاصَّةٍ وعامَّةٍ، لِأنَّ أصْلَ مَعْنى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ والخُضُوعُ، يُقالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذا كانَ مُذَلَّلًا بِوَطْءِ الأقْدامِ، وفُلانٌ عَبَّدَهُ الحُبُّ إذا ذَلَّلَهُ، لَكِنْ أوْلِياؤُهُ خَضَعُوا لَهُ وذَلُّوا طَوْعًا واخْتِيارًا، وانْقِيادًا لِأمْرِهِ ونَهْيِهِ، وأعْداؤُهُ خَضَعُوا لَهُ قَهْرًا ورَغْمًا.
وَنَظِيرُ انْقِسامِ العُبُودِيَّةِ إلى خاصَّةٍ وعامَّةٍ انْقِسامُ القُنُوتِ إلى خاصٍّ وعامٍّ، والُسُجُودُ كَذَلِكَ، قالَ تَعالى في القُنُوتِ الخاصِّ
﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩] وقالَ في حَقِّ مَرْيَمَ
﴿وَكانَتْ مِنَ القانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢] وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
وَقالَ في القُنُوتِ العامِّ
﴿وَلَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ [الروم: ٢٦] أيْ خاضِعُونَ أذِلّاءُ.
وَقالَ في السُّجُودِ الخاصِّ
﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ويُسَبِّحُونَهُ ولَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] وقالَ
﴿إذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨] وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
وَقالَ في السُّجُودِ العامِّ
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ [الرعد: ١٥].
وَلِهَذا كانَ هَذا السُّجُودُ الكُرْهُ غَيْرَ السُّجُودِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ [الحج: ١٨] فَخَصَّ بِالسُّجُودِ هُنا كَثِيرًا مِنَ النّاسِ وعَمَّهم بِالسُّجُودِ في سُورَةِ النَّحْلِ
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ﴾ [النحل: ٤٩] وهو سُجُودُ الذُّلِّ والقَهْرِ والخُضُوعِ، فَكُلُّ أحَدٍ خاضِعٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ذَلِيلٌ لِعِزَّتِهِ، مَقْهُورٌ تَحْتَ سُلْطانِهِ تَعالى.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبِ (إيّاكَ نَعْبُدُ) عِلْمًا وعَمَلًا]
لِلْعُبُودِيَّةِ مَراتِبُ، بِحَسَبِ العِلْمِ والعَمَلِ، فَأمّا مَراتِبُها العِلْمِيَّةُ فَمَرْتَبَتانِ:
إحْداهُما: العِلْمُ بِاللَّهِ، والثّانِيَةُ: العِلْمُ بِدِينِهِ.
فَأمّا العِلْمُ بِهِ سُبْحانَهُ، فَخَمْسُ مَراتِبَ: العِلْمُ بِذاتِهِ، وصِفاتِهِ، وأفْعالِهِ، وأسْمائِهِ، وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ.
والعِلْمُ بِدِينِهِ مَرْتَبَتانِ، إحْداهُما: دِينُهُ الأمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ، وهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ المُوصِلُ إلَيْهِ.
والثّانِيَةُ: دِينُهُ الجَزائِيُّ، المُتَضَمِّنُ ثَوابَهُ وعِقابَهُ، وقَدْ دَخَلَ في هَذا العِلْمِ العِلْمُ بِمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
وَأمّا مَراتِبُها العِلْمِيَّةُ، فَمَرْتَبَتانِ: مَرْتَبَةٌ لِأصْحابِ اليَمِينِ، ومَرْتَبَةٌ لِلسّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ.
فَأمّا مَرْتَبَةُ أصْحابِ اليَمِينِ: فَأداءُ الواجِباتِ، وتَرْكُ المُحَرَّماتِ، مَعَ ارْتِكابِ المُباحاتِ، وبَعْضِ المَكْرُوهاتِ، وتَرْكِ بَعْضِ المُسْتَحَبّاتِ.
وَأمّا رُتْبَةُ المُقَرَّبِينَ: فالقِيامُ بِالواجِباتِ والمَندُوباتِ، وتَرْكُ المُحَرَّماتِ والمَكْرُوهاتِ، زاهِدِينَ فِيما لا يَنْفَعُهم في مَعادِهِمْ، مُتَوَرِّعِينَ عَمّا يَخافُونَ ضَرَرَهُ.
وَخاصَّتُهم قَدِ انْقَلَبَتِ المُباحاتُ في حَقِّهِمْ طاعاتٍ وقُرُباتٍ بِالنِّيَّةِ فَلَيْسَ في حَقِّهِمْ مُباحٌ مُتَساوِي الطَّرَفَيْنِ، بَلْ كُلُّ أعْمالِهِمْ راجِحَةٌ، ومَن دُونَهم يَتْرُكُ المُباحاتِ مُشْتَغِلًا عَنْها بِالعِباداتِ، وهَؤُلاءِ يَأْتُونَها طاعاتٍ وقُرُباتٍ، ولِأهْلِ هاتَيْنِ المَرْتَبَتَيْنِ دَرَجاتٌ لا يُحْصِيها إلّا اللَّهُ.
* [فَصْلٌ: مَراتِبُ العُبُودِيَّةِ وهي خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً]
[عِبادَةُ القَلْبِ]
وَرَحى العُبُودِيَّةِ تَدُورُ عَلى خَمْسَ عَشْرَةَ قاعِدَةً، مَن كَمَّلَها كَمَّلَ مَراتِبَ العُبُودِيَّةِ.
وَبَيانُها أنَّ العُبُودِيَّةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلى القَلْبِ، واللِّسانِ، والجَوارِحِ، وعَلى كُلٍّ مِنها عُبُودِيَّةٌ تَخُصُّهُ.
والأحْكامُ الَّتِي لِلْعُبُودِيَّةِ خَمْسَةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرامٌ، ومَكْرُوهٌ، ومُباحٌ، وهي لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ القَلْبِ، واللِّسانِ، والجَوارِحِ.
فَواجِبُ القَلْبِ مِنهُ مُتَّفَقٌ عَلى وُجُوبِهِ، ومُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فالمُتَّفَقُ عَلى وُجُوبِهِ كالإخْلاصِ، والتَّوَكُّلِ، والمَحَبَّةِ، والبِرِّ، والإنابَةِ، والخَوْفِ، والرَّجاءِ، والتَّصْدِيقِ الجازِمِ، والنِّيَّةِ في العِبادَةِ، وهَذِهِ قَدْرٌ زائِدٌ عَلى الإخْلاصِ، فَإنَّ الإخْلاصَ هو إفْرادُ المَعْبُودِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَنِيَّةُ العِبادَةِ لَها مَرْتَبَتانِ:
إحْداهُما: تَمْيِيزُ العِبادَةِ عَنِ العادَةِ.
والثّانِيَةُ: تَمْيِيزُ مَراتِبِ العِباداتِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ.
والأقْسامُ الثَّلاثَةُ واجِبَةٌ.
وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ، والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الإخْلاصِ أنَّ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا وطَلَبًا، فالإخْلاصُ تَوْحِيدُ مَطْلُوبِهِ، والصِّدْقُ تَوْحِيدُ طَلَبِهِ.
فالإخْلاصُ: أنْ لا يَكُونَ المَطْلُوبُ مُنْقَسِمًا، والصِّدْقُ: أنْ لا يَكُونَ الطَّلَبُ مُنْقَسِمًا، فالصِّدْقُ بَذْلُ الجُهْدِ، والإخْلاصُ إفْرادُ المَطْلُوبِ.
واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى وُجُوبِ هَذِهِ الأعْمالِ عَلى القَلْبِ مِن حَيْثُ الجُمْلَةِ.
وَكَذَلِكَ النُّصْحُ في العُبُودِيَّةِ، ومَدارُ الدِّينِ عَلَيْهِ، وهو بَذْلُ الجُهْدِ في إيقاعِ العُبُودِيَّةِ عَلى الوَجْهِ المَحْبُوبِ لِلرَّبِّ المَرْضِيِّ لَهُ، وأصْلُ هَذا واجِبٌ، وكَمالُهُ مَرْتَبَةُ المُقَرَّبِينَ.
وَكَذَلِكَ كَلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الواجِباتِ القَلْبِيَّةِ لَهُ طَرَفانِ، واجِبٌ مُسْتَحَقٌّ، وهو مَرْتَبَةُ أصْحابِ اليَمِينِ، وكَمالٌ مُسْتَحَبٌّ، وهو مَرْتَبَةُ المُقَرَّبِينَ.
وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ واجِبٌ بِاتِّفاقِ الأُمَّةِ، قالَ الإمامُ أحْمَدُ: ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ في تِسْعِينَ مَوْضِعًا مِنَ القُرْآنِ، أوْ بِضْعًا وتِسْعِينَ، ولَهُ طَرَفانِ أيْضًا: واجِبٌ مُسْتَحَقٌّ، وكَمالٌ مُسْتَحَبٌّ.
وَأمّا المُخْتَلَفُ فِيهِ فَكالرِّضا، فَإنَّ في وُجُوبِهِ قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهاءِ والصُّوفِيَّةِ، والقَوْلانِ لِأصْحابِ أحْمَدَ، فَمَن أوْجَبَهُ قالَ: السُّخْطُ حَرامٌ، ولا خَلاصَ عَنْهُ إلّا بِالرِّضا، وما لا خَلاصَ عَنِ الحَرامِ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ.
واحْتَجُّوا بِأثَرِ " مَن لَمْ يَصْبِرْ عَلى بَلائِي، ولَمْ يَرْضَ بِقَضائِي، فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوايَ ".
وَمَن قالَ: هو مُسْتَحَبٌّ، قالَ: لَمْ يَجِئِ الأمْرُ بِهِ في القُرْآنِ ولا في السُّنَّةِ، بِخِلافِ الصَّبْرِ، فَإنَّ اللَّهَ أمَرَ بِهِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن كِتابِهِ، وكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ، قالَ
﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤] وأمَرَ بِالإنابَةِ، فَقالَ
﴿وَأنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٥٤] وأمَرَ بِالإخْلاصِ كَقَوْلِهِ
﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] وكَذَلِكَ الخَوْفُ كَقَوْلِهِ
﴿فَلا تَخافُوهم وخافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٥] وقَوْلِهِ
﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي﴾ [البقرة: ١٥٠] وقَوْلِهِ
﴿وَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠] وكَذَلِكَ الصِّدْقُ، قالَ تَعالى
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩] وكَذَلِكَ المَحَبَّةُ، وهي أفْرَضُ الواجِباتِ، إذْ هي قَلْبُ العِبادَةِ المَأْمُورِ بِها، ومُخُّها ورُوحُها.
وَأمّا الرِّضا فَإنَّما جاءَ في القُرْآنِ مَدْحُ أهْلِهِ، والثَّناءُ عَلَيْهِمْ، لا الأمْرُ بِهِ.
قالُوا: وأمّا الأثَرُ المَذْكُورُ فَإسْرائِيلِيٌّ، لا يُحْتَجُّ بِهِ.
قالُوا: وفي الحَدِيثِ المَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ الرِّضا مَعَ اليَقِينِ فافْعَلْ، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإنَّ في الصَّبْرِ عَلى ما تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا» وهو في بَعْضِ السُّنَنِ.
قالُوا: وأمّا قَوْلُكم " لا خَلاصَ عَنِ السُّخْطِ إلّا بِهِ " فَلَيْسَ بِلازِمٍ، فَإنَّ مَراتِبَ النّاسِ في المَقْدُورِ ثَلاثَةٌ: الرِّضا، وهو أعْلاها، والسُّخْطُ، وهو أسْفَلُها، والصَّبْرُ عَلَيْهِ بِدُونِ الرِّضا بِهِ، وهو أوْسَطُها، فالأُولى لِلْمُقَرَّبِينَ السّابِقِينَ، والثّالِثَةُ لِلْمُقْتَصِدِينَ، والثّانِيَةُ لِلظّالِمِينَ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَصْبِرُ عَلى المَقْدُورِ فَلا يَسْخَطُ، وهو غَيْرُ راضٍ بِهِ، فالرِّضا أمْرٌ آخَرُ.
وَقَدْ أُشْكِلَ عَلى بَعْضِ النّاسِ اجْتِماعُ الرِّضا مَعَ التَّألُّمِ، وظَنَّ أنَّهُما مُتَبايِنانِ، ولَيْسَ كَما ظَنَّهُ، فالمَرِيضُ الشّارِبُ لِلدَّواءِ الكَرِيهِ مُتَألِّمٌ بِهِ راضٍ بِهِ، والصّائِمُ في شَهْرِ رَمَضانَ في شِدَّةِ الحَرِّ مُتَألِّمٌ بِصَوْمِهِ راضٍ بِهِ، والبَخِيلُ مُتَألِّمٌ بِإخْراجِ زَكاةِ مالِهِ راضٍ بِها، فالتَّألُّمُ كَما لا يُنافِي الصَّبْرَ لا يُنافِي الرِّضا بِهِ.
وَهَذا الخِلافُ بَيْنَهم إنَّما هو في الرِّضا بِقَضائِهِ الكَوْنِيِّ، وأمّا الرِّضا بِهِ رَبًّا وإلَهًا، والرِّضا بِأمْرِهِ الدِّينِيِّ فَمُتَّفَقٌ عَلى فَرْضِيَّتِهِ، بَلْ لا يَصِيرُ العَبْدُ مُسْلِمًا إلّا بِهَذا الرِّضا أنْ يَرْضى بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا.
وَمِن هَذا أيْضًا اخْتِلافُهم في الخُشُوعِ في الصَّلاةِ، وفِيهِ قَوْلانِ لِلْفُقَهاءِ، وهُما في مَذْهَبِ أحْمَدَ وغَيْرِهِ.
وَعَلى القَوْلَيْنِ اخْتِلافُهم في وُجُوبِ الإعادَةِ عَلى مَن غَلَبَ عَلَيْهِ الوَسْواسُ في صَلاتِهِ، فَأوْجَبَها ابْنُ حامِدٍ مِن أصْحابِ أحْمَدَ، وأبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ في إحْيائِهِ، ولَمْ يُوجِبْها أكْثَرُ الفُقَهاءِ.
واحْتَجُّوا بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ مَن سَها في صَلاتِهِ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ ولَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعادَةِ مَعَ قَوْلِهِ
«إنَّ الشَّيْطانَ يَأْتِي أحَدَكم في صِلاتِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذا، اذْكُرْ كَذا لِما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتّى يَضِلَّ الرَّجُلُ أنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلّى» ولَكِنْ لا نِزاعَ أنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يُثابُ عَلى شَيْءٍ مِنها إلّا بِقَدْرِ حُضُورِ قَلْبِهِ وخُضُوعِهِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ
«إنَّ العَبْدَ لِيَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلاةِ ولَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلّا نِصْفُها، ثُلْثُها، رُبْعُها حَتّى بَلَغَ عُشْرَها» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَيْسَ لَكَ مِن صَلاتِكَ إلّا ما عَقَلْتَ مِنها، فَلَيْسَتْ صَحِيحَةً بِاعْتِبارِ تَرَتُّبِ كَمالِ مَقْصُودِها عَلَيْها، وإنْ سُمِّيَتْ صَحِيحَةً بِاعْتِبارِ أنّا لا نَأْمُرُهُ بِالإعادَةِ ولا يَنْبَغِي أنْ يُعَلَّقَ لَفْظُ الصِّحَّةِ عَلَيْها، فَيُقالُ صَلاةٌ صَحِيحَةٌ مَعَ أنَّهُ لا يُثابُ عَلَيْها فاعِلُها.
والقَصْدُ أنَّ هَذِهِ الأعْمالَ واجِبَها ومُسْتَحَبَّها هي عُبُودِيَّةُ القَلْبِ، فَمَن عَطَّلَها فَقَدْ عَطَّلَ عُبُودِيَّةَ المَلِكِ، وإنْ قامَ بِعُبُودِيَّةِ رَعِيَّتِهِ مِنَ الجَوارِحِ.
والمَقْصُودُ أنْ يَكُونَ مَلِكُ الأعْضاءِ وهو القَلْبُ قائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، هو ورَعِيَّتُهُ.
وَأمّا المُحَرَّماتُ الَّتِي عَلَيْهِ: فالكِبْرُ، والرِّياءُ، والعُجْبُ، والحَسَدُ، والغَفْلَةُ، والنِّفاقُ، وهي نَوْعانِ: كُفْرٌ، ومَعْصِيَةٌ:
فالكُفْرُ: كالشَّكِّ، والنِّفاقِ، والشِّرْكِ، وتَوابِعِها.
والمَعْصِيَةُ نَوْعانِ: كَبائِرُ، وصَغائِرُ.
فالكَبائِرُ: كالرِّياءِ، والعُجْبِ، والكِبْرِ، والفَخْرِ، والخُيَلاءِ، والقُنُوطِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، واليَأْسِ مِن رَوْحِ اللَّهِ، والأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ، والفَرَحِ والسُّرُورِ بِأذى المُسْلِمِينَ، والشَّماتَةِ بِمُصِيبَتِهِمْ، ومَحَبَّةِ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِيهِمْ، وحَسَدِهِمْ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، وتَمَنِّي زَوالِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وتَوابِعِ هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي هي أشَدُّ تَحْرِيمًا مِنَ الزِّنا، وشُرْبِ الخَمْرِ وغَيْرِهِما مِنَ الكَبائِرِ الظّاهِرَةِ، ولا صَلاحَ لِلْقَلْبِ ولا لِلْجَسَدِ إلّا بِاجْتِنابِها، والتَّوْبَةِ مِنها، وإلّا فَهو قَلْبٌ فاسِدٌ، وإذا فَسَدَ القَلْبُ فَسَدَ البَدَنُ.
وَهَذِهِ الآفاتُ إنَّما تَنْشَأُ مِنَ الجَهْلِ بِعُبُودِيَّةِ القَلْبِ، وتَرْكِ القِيامِ بِها.
فَوَظِيفَةُ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " عَلى القَلْبِ قَبْلَ الجَوارِحِ، فَإذا جَهِلَها وتَرَكَ القِيامَ بِها امْتَلَأ بِأضْدادِها ولا بُدَّ، وبِحَسَبِ قِيامِهِ بِها يَتَخَلَّصُ مِن أضْدادِها.
وَهَذِهِ الأُمُورُ ونَحْوُها قَدْ تَكُونُ صَغائِرَ في حَقِّهِ، وقَدْ تَكُونُ كَبائِرَ، بِحَسَبِ قُوَّتِها وغِلَظِها، وخِفَّتِها ودِقَّتِها.
وَمِنَ الصَّغائِرِ أيْضًا: شَهْوَةُ المُحَرَّماتِ وتَمَنِّيها، وتَفاوُتُ دَرَجاتِ الشَّهْوَةِ في الكِبَرِ والصِّغَرِ بِحَسَبِ تَفاوُتِ دَرَجاتِ المُشْتَهى، فَشَهْوَةُ الكُفْرِ والشِّرْكِ كُفْرٌ، وشَهْوَةُ البِدْعَةِ فِسْقٌ، وشَهْوَةُ الكَبائِرِ مَعْصِيَةٌ، فَإنْ تَرَكَها لِلَّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْها أُثِيبَ، وإنْ تَرَكَها عَجْزًا بَعْدَ بَذْلِهِ مَقْدُورِهِ في تَحْصِيلِها اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الفاعِلِ، لِتَنْزِيلِهِ مَنزِلَتَهُ في أحْكامِ الثَّوابِ
والعِقابِ، وإنْ لَمْ يَنْزِلْ مَنزِلَتَهُ في أحْكامِ الشَّرْعِ، ولِهَذا قالَ النَّبِيُّ ﷺ "
«إذا تَواجَهَ المُسْلِمانِ بِسَيْفَيْهِما، فالقاتِلُ والمَقْتُولُ في النّارِ، قالُوا: هَذا القاتِلُ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَما بالُ المَقْتُولِ؟ قالَ: إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ» " فَنَزَّلَهُ مَنزِلَةَ القاتِلِ، لِحِرْصِهِ عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ، في الإثْمِ دُونَ الحُكْمِ، ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في الثَّوابِ والعِقابِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِهَذا مُسْتَحَبُّ القَلْبِ ومُباحُهُ.
* [فَصْلٌ: عِبادَةُ اللِّسانِ]
وَأمّا عُبُودِيّاتُ اللِّسانِ الخَمْسُ، فَواجِبُها النُّطْقُ بِالشَّهادَتَيْنِ، وتِلاوَةُ ما يَلْزَمُهُ تِلاوَتُهُ مِنَ القُرْآنِ، وهو ما تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ صَلاتِهِ عَلَيْهِ، وتَلَفُّظُهُ بِالأذْكارِ الواجِبَةِ في الصَّلاةِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بِها ورَسُولُهُ، كَما أمَرَ بِالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وأمَرَ بِقَوْلِ " رَبَّنا ولَكَ الحَمْدُ " بَعْدَ الِاعْتِدالِ، وأمَرَ بِالتَّشَهُّدِ، وأمَرَ بِالتَّكْبِيرِ.
وَمِن واجِبِهِ رَدُّ السَّلامِ، وفي ابْتِدائِهِ قَوْلانِ.
وَمِن واجِبِهِ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وتَعْلِيمُ الجاهِلِ، وإرْشادُ الضّالِّ، وأداءُ الشَّهادَةِ المُتَعَيِّنَةِ، وصِدْقُ الحَدِيثِ.
وَأمّا مُسْتَحَبُّهُ فَتِلاوَةُ القُرْآنِ، ودَوامُ ذِكْرِ اللَّهِ، والمُذاكَرَةُ في العِلْمِ النّافِعِ، وتَوابِعُ ذَلِكَ.
وَأمّا مُحَرَّمُهُ فَهو النُّطْقُ بِكُلِّ ما يُبْغِضُهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، كالنُّطْقِ بِالبِدَعِ المُخالِفَةِ لِما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، والدُّعاءِ إلَيْها، وتَحْسِينِها وتَقْوِيَتِها، وكالقَذْفِ وسَبِّ المُسْلِمِ وأذاهُ بِكُلِّ قَوْلٍ، والكَذِبِ، وشَهادَةِ الزُّورِ، والقَوْلِ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، وهو أشَدُّها تَحْرِيمًا.
وَمَكْرُوهُهُ التَّكَلُّمُ بِما تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنَ الكَلامِ بِهِ، مَعَ عَدَمِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ في حَقِّهِ كَلامٌ مُباحٌ، مُتَساوِي الطَّرَفَيْنِ؟ عَلى قَوْلَيْنِ، ذَكَرَهُما ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ، أحَدُهُما: أنَّهُ لا يَخْلُو كُلُّ ما يَتَكَلَّمُ بِهِ إمّا أنْ يَكُونَ لَهُ أوْ عَلَيْهِ، ولَيْسَ في حَقِّهِ شَيْءٌ لا لَهُ ولا عَلَيْهِ.
واحْتَجُّوا بِالحَدِيثِ المَشْهُورِ، وهو "
«كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ، إلّا ما كانَ مِن ذِكْرِ اللَّهِ وما والاهُ» ".
واحْتَجُّوا بِأنَّهُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ كَلامُهُ كُلُّهُ، ولا يُكْتَبُ إلّا الخَيْرُ والشَّرُّ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ: بَلْ هَذا الكَلامُ مُباحٌ، لا لَهُ ولا عَلَيْهِ، كَما في حَرَكاتِ الجَوارِحِ.
قالُوا: لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الكَلامِ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ أمْرٌ ولا نَهْيٌ، وهَذا شَأْنُ المُباحِ.
والتَّحْقِيقُ: أنَّ حَرَكَةَ اللِّسانِ بِالكَلامِ لا تَكُونُ مُتَساوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ إمّا راجِحَةً وإمّا مَرْجُوحَةً، لِأنَّ لِلِّسانِ شَأْنًا لَيْسَ لِسائِرِ الجَوارِحِ، وإذا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإنَّ الأعْضاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإنَّما نَحْنُ بِكَ، فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وإنَّ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا، وأكْثَرُ ما يَكُبُّ النّاسَ عَلى مِناخِرِهِمْ في النّارِ حَصائِدُ ألْسِنَتِهِمْ، وكُلُّ ما يَتَلَفَّظُ بِهِ اللِّسانُ فَإمّا أنْ يَكُونَ مِمّا يُرْضِي اللَّهَ ورَسُولَهُ أوْ لا، فَإنْ كانَ كَذَلِكَ فَهو الرّاجِحُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهو المَرْجُوحُ، وهَذا بِخِلافِ حَرَكاتِ سائِرِ الجَوارِحِ، فَإنَّ صاحِبَها يَنْتَفِعُ بِتَحْرِيكِها في المُباحِ المُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، لِما لَهُ في ذَلِكَ مِنَ الرّاحَةِ والمَنفَعَةِ، فَأُبِيحَ لَهُ اسْتِعْمالُها فِيما فِيهِ مَنفَعَةٌ لَهُ، ولا مَضَرَّةَ عَلَيْهِ فِيهِ في الآخِرَةِ، وأمّا حَرَكَةُ اللِّسانِ بِما لا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلا يَكُونُ إلّا مَضَرَّةً، فَتَأمَّلْهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ يَتَحَرَّكُ بِما فِيهِ مَنفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُباحَةٌ مُسْتَوِيَةُ الطَّرَفَيْنِ، فَيَكُونُ حُكْمُ حَرَكَتِهِ حُكْمَ ذَلِكَ الفِعْلِ.
قِيلَ: حَرَكَتُهُ بِها عِنْدَ الحاجَةِ إلَيْها راجِحَةٌ، وعِنْدَ عَدَمِ الحاجَةِ إلَيْها مَرْجُوحَةٌ لا تُفِيدُهُ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ لا لَهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ الفِعْلُ مُتَساوِيَ الطَّرَفَيْنِ، كانَتْ حَرَكَةُ اللِّسانِ الَّتِي هي الوَسِيلَةُ إلَيْهِ كَذَلِكَ، إذِ الوَسائِلُ تابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ في الحُكْمِ.
قِيلَ: لا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُباحًا، بَلْ واجِبًا، ووَسِيلَتُهُ مَكْرُوهَةٌ كالوَفاءِ بِالطّاعَةِ المَنذُورَةِ هو واجِبٌ، مَعَ أنَّ وسِيلَتَهُ وهو النَّذْرُ مَكْرُوهٌ مَنهِيٌّ عَنْهُ، وكَذَلِكَ الحَلِفُ المَكْرُوهُ مَرْجُوحٌ، مَعَ وُجُوبِ الوَفاءِ بِهِ أوِ الكَفّارَةِ، وكَذَلِكَ سُؤالُ الخَلْقِ عِنْدَ الحاجَةِ مَكْرُوهٌ، ويُباحُ لَهُ الِانْتِفاعُ بِما أخْرَجَتْهُ لَهُ المَسْألَةُ، وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا، فَقَدْ تَكُونُ الوَسِيلَةُ مُتَضَمِّنَةً مَفْسَدَةً تُكْرَهُ أوْ تُحَرَّمُ لِأجْلِها، وما جُعِلَتْ وسِيلَةً إلَيْهِ لَيْسَ بِحَرامٍ ولا مَكْرُوهٍ.
* [فَصْلٌ: عِبادَةُ الجَوارِحِ]
وَأمّا العُبُودِيّاتُ الخَمْسُ عَلى الجَوارِحِ فَعَلى خَمْسٍ وعِشْرِينَ مَرْتَبَةً أيْضًا، إذِ الحَواسُّ خَمْسَةٌ، وعَلى كُلِّ حاسَّةٍ خَمْسُ عُبُودِياتٍ.
فَعَلى السَّمْعِ وُجُوبُ الإنْصاتِ والِاسْتِماعِ لِما أوْجَبَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ عَلَيْهِ، مِنَ اسْتِماعِ الإسْلامِ والإيمانِ وفُرُوضِهِما، وكَذَلِكَ اسْتِماعُ القِراءَةِ في الصَّلاةِ إذا جَهَرَ بِها الإمامُ، واسْتِماعُ الخُطْبَةِ لِلْجُمْعَةِ في أصَحِّ قَوْلَيِ العُلَماءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِماعُ الكُفْرِ والبِدَعِ، إلّا حَيْثُ يَكُونُ في اسْتِماعِهِ مَصْلَحَةٌ راجِحَةٌ مِن رَدِّهِ، أوِ الشَّهادَةِ عَلى قائِلِهِ، أوْ زِيادَةِ قُوَّةِ الإيمانِ والسُّنَّةِ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِما مِنَ الكُفْرِ والبِدْعَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وكاسْتِماعِ أسْرارِ مَن يَهْرُبُ عَنْكَ بِسِرِّهِ، ولا يُحِبُّ أنْ يُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، ما لَمْ يَكُنْ مُتَضَمِّنًا لَحِقَّ لِلَّهِ يَجِبُ القِيامُ بِهِ، أوْ لِأذى مُسْلِمٍ يَتَعَيَّنُ نُصْحُهُ، وتَحْذِيرُهُ مِنهُ.
وَكَذَلِكَ اسْتِماعُ أصْواتِ النِّساءِ الأجانِبِ الَّتِي تُخْشى الفِتْنَةُ بِأصْواتِهِنَّ، إذا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حاجَةٌ مِن شَهادَةٍ، أوْ مُعامَلَةٍ، أوِ اسْتِفْتاءٍ، أوْ مُحاكَمَةٍ، أوْ مُداواةٍ ونَحْوِها.
وَكَذَلِكَ اسْتِماعُ المَعازِفِ، وآلاتِ الطَّرَبِ واللَّهْوِ، كالعُودِ والُنْبُورِ واليَراعِ ونَحْوَها، ولا يَجِبُ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ إذا سَمِعَ الصَّوْتَ، وهو لا يُرِيدُ اسْتِماعَهُ، إلّا إذا خافَ السُّكُونَ إلَيْهِ والإنْصاتَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِتَجَنُّبِ سَماعِها وُجُوبُ سَدِّ الذَّرائِعِ.
وَنَظِيرُ هَذا المُحْرِمُ لا يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطَّيبِ، وإذا حَمَلَتِ الرِّيحُ رائِحَتَهُ وألْقَتْها في مَشامِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أنْفِهِ.
وَنَظِيرُ هَذا نَظْرَةُ الفُجاءَةِ لا تَحْرُمُ عَلى النّاظِرِ، وتَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظْرَةُ الثّانِيَةُ إذا تَعَمَّدَها.
وَأمّا السَّمْعُ المُسْتَحَبُّ فَكاسْتِماعِ المُسْتَحَبِّ مِنَ العِلْمِ، وقِراءَةِ القُرْآنِ، وذِكْرِ اللَّهِ، واسْتِماعِ كُلِّ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ، ولَيْسَ بِفَرْضٍ.
والمَكْرُوهُ عَكْسُهُ، وهو اسْتِماعُ كُلِّ ما يُكْرَهُ ولا يُعاقَبُ عَلَيْهِ.
والمُباحُ ظاهِرٌ.
وَأمّا النَّظَرُ الواجِبُ: فالنَّظَرُ في المُصْحَفِ وكُتُبِ العِلْمِ عِنْدَ تَعَيُّنِ تَعَلُّمِ الواجِبِ مِنها، والنَّظَرُ إذا تَعَيَّنَ لِتَمْيِيزِ الحَلالِ مِنَ الحَرامِ في الأعْيانِ الَّتِي يَأْكُلُها أوْ يُنْفِقُها أوْ يَسْتَمْتِعُ بِها، والأماناتِ الَّتِي يُؤَدِّيها إلى أرْبابِها لِيُمَيِّزَ بَيْنَها، ونَحْوِ ذَلِكَ.
والنَّظَرُ الحَرامُ النَّظَرُ إلى الأجْنَبِيّاتِ بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، وبِغَيْرِها إلّا لِحاجَةٍ، كَنَظَرِ الخاطِبِ، والمُسْتامِ والمَعامِلِ، والشّاهِدِ، والحاكِمِ، والطَّبِيبِ، وذِي المَحْرَمِ.
والمُسْتَحَبُّ النَّظَرُ في كُتُبِ العِلْمِ والدِّينِ الَّتِي يَزْدادُ بِها الرَّجُلُ إيمانًا وعِلْمًا، والنَّظَرُ في المُصْحَفِ، ووُجُوهِ العُلَماءِ الصّالِحِينَ والوالِدَيْنِ، والنَّظَرُ في آياتِ اللَّهِ المَشْهُودَةِ لِيُسْتَدَلَّ بِها عَلى تَوْحِيدِهِ ومَعْرِفَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
والمَكْرُوهُ فُضُولُ النَّظَرِ الَّذِي لا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَإنَّ لَهُ فُضُولًا كَما لِلِّسانِ فُضُولًا، وكَمْ قادَ فُضُولُها إلى فُضُولٍ عَزَّ التَّخَلُّصُ مِنها، وأعْيى دَواؤُها، وقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ، كَما يَكْرَهُونَ فُضُولَ الكَلامِ.
والمُباحُ النَّظَرُ الَّذِي لا مَضَرَّةَ فِيهِ في العاجِلِ والآجِلِ ولا مَنفَعَةَ.
وَمِنَ النَّظَرِ الحَرامِ: النَّظَرُ إلى العَوْراتِ، وهي قِسْمانِ:
عَوْرَةٌ وراءَ الثِّيابِ، وعَوْرَةٌ وراءَ الأبْوابِ.
وَلَوْ نَظَرَ في العَوْرَةِ الَّتِي وراءَ الأبْوابِ فَرَماهُ صاحِبُ العَوْرَةِ فَفَقَأ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وذَهَبَتْ هَدْرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِهِ، وإنْ ضَعَفَّهُ بَعْضُ الفُقَهاءِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ، أوْ تَأوَّلَهُ.
وَهَذا إذا لَمْ يَكُنْ لِلنّاظِرِ سَبَبٌ يُباحُ النَّظَرُ لِأجْلِهِ، كَعَوْرَةٍ لَهُ هُناكَ يَنْظُرُها، أوْ رِيبَةٍ هو مَأْمُورٌ أوْ مَأْذُونٌ لَهُ في الِاطِّلاعِ عَلَيْها.
وَأمّا الذَّوْقُ: الواجِبُ فَتَناوُلُ الطَّعامِ والشَّرابِ عِنْدَ الِاضْطِرارِ إلَيْهِ وخَوْفِ المَوْتِ، فَإنْ تَرَكَهُ حَتّى ماتَ، ماتَ عاصِيًا قاتِلًا لِنَفْسِهِ، قالَ الإمامُ أحْمَدُ وطاوُسٌ: مَنِ اضْطُرَّ إلى أكْلِ المَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتّى ماتَ، دَخَلَ النّارَ.
وَمِن هَذا تَناوُلُ الدَّواءِ إذا تَيَقَّنَ النَّجاةَ بِهِ مِنَ الهَلاكِ، عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ، وإنْ ظَنَّ الشِّفاءَ بِهِ، فَهَلْ هو مُسْتَحَبٌّ مُباحٌ، أوِ الأفْضَلُ تَرْكُهُ؟ فِيهِ نِزاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ والخَلَفِ.
والذَّوْقُ الحَرامُ: كَذَوْقِ الخَمْرِ، والسُّمُومِ القاتِلَةِ، والذَّوْقِ المَمْنُوعِ مِنهُ لِلصَّوْمِ الواجِبِ.
وَأمّا المَكْرُوهُ: فَكَذَوْقِ المُشْتَبِهاتِ، والأكْلِ فَوْقَ الحاجَةِ، وذَوْقِ طَعامِ الفُجاءَةِ، وهو الطَّعامُ الَّذِي تَفَجَّأ آكِلُهُ ولَمْ يُرِدْ أنْ يَدْعُوَكَ إلَيْهِ، وكَأكْلِ أطْعِمَةِ المُرائِينَ في الوَلائِمِ والدَّعَواتِ ونَحْوِها، وفي السُّنَنِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ "
«نَهى عَنْ طَعامِ المُتَبارِينَ»، وذَوْقُ طَعامِ مَن يُطْعِمُكَ حَياءً مِنكَ لا بِطِيبَةِ نَفْسٍ.
والذَّوْقُ المُسْتَحَبُّ: أكْلُ ما يُعِينُكَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مِمّا أذِنَ اللَّهُ فِيهِ، والأكْلُ مَعَ الضَّيْفِ لِيَطِيبَ لَهُ الأكْلُ، فَيَنالَ مِنهُ غَرَضَهُ، والأكْلُ مِن طَعامِ صاحِبِ الدَّعْوَةِ الواجِبِ إجابَتُها أوِ المُسْتَحَبِّ.
وَقَدْ أوْجَبَ بَعْضُ الفُقَهاءِ الأكْلَ مِنَ الوَلِيمَةِ الواجِبِ إجابَتُها لِلْأمْرِ بِهِ عَنِ الشّارِعِ.
والذَّوْقُ المُباحُ: ما لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ ولا رُجْحانٌ.
وَأمّا تَعَلُّقُ العُبُودِيّاتِ الخَمْسِ بِحاسَّةِ الشَّمِّ، فالشَّمُّ الواجِبُ: كُلُّ شَمٍّ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ، كالشَّمِّ الَّذِي تُعْلَمُ بِهِ هَذِهِ العَيْنُ هَلْ هي خَبِيثَةٌ أوْ طَيِّبَةٌ؟ وهَلْ هي سُمٌّ قاتِلٌ أوْ لا مَضَرَّةَ فِيهِ؟ أوْ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ ما يَمْلِكُ الِانْتِفاعَ بِهِ، وما لا يَمْلِكُ؟ ومِن هَذا شَمُّ المُقَوِّمِ، ورَبِّ الخِبْرَةِ عِنْدَ الحُكْمِ بِالتَّقْوِيمِ، وشَمُّ العَبِيدِ ونَحْوُ ذَلِكَ.
وَأمّا الشَّمُّ الحَرامُ: فالتَّعَمُّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ في الإحْرامِ، وشَمِّ الطِّيبِ المَغْصُوبِ والمَسْرُوقِ، وتَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ مِنَ النِّساءِ الأجْنَبِيّاتِ خَشْيَةَ الِافْتِتانِ بِما وراءَهُ.
وَأمّا الشَّمُّ المُسْتَحَبُّ: فَشَمُّ ما يُعِينُكَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ، ويُقَوِّي الحَواسَّ، ويَبْسُطُ النَّفْسَ لِلْعِلْمِ والعَمَلِ، ومِن هَذا هَدِيَّةُ الطِّيبِ والرَّيْحانِ إذا أُهْدِيَتْ لَكَ، فَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«مَن عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحانٌ فَلا يَرُدَّهُ، فَإنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ، خَفِيفُ المَحْمَلِ».
والمَكْرُوهُ: كَشَمِّ طِيَبِ الظَّلَمَةِ، وأصْحابِ الشُّبُهاتِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
والمُباحُ: ما لا مَنعَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ ولا تَبِعَةَ، ولا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، ولا تَعَلُّقُ لَهُ بِالشَّرْعِ.
وَأمّا تَعَلُّقُ هَذِهِ الخَمْسَةِ بِحاسَّةِ اللَّمْسِ: فاللَّمْسُ الواجِبُ كَلَمْسِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَجِبُ جِماعُها، والأمَةِ الواجِبِ إعْفافُها.
والحَرامُ: لَمْسُ ما لا يَحِلُّ مِنَ الأجْنَبِيّاتِ.
والمُسْتَحَبُّ: إذا كانَ فِيهِ غَضُّ بَصَرِهِ، وكَفُّ نَفْسِهِ عَنِ الحَرامِ، وإعْفافُ أهْلِهِ.
والمَكْرُوهُ: لَمْسُ الزَّوْجَةِ في الإحْرامِ لِلَذَّةٍ، وكَذَلِكَ في الِاعْتِكافِ، وفي الصِّيامِ إذا لَمْ يَأْمَن عَلى نَفْسِهِ.
وَمِن هَذا لَمْسُ بَدَنِ المَيِّتِ لِغَيْرِ غاسِلِهِ لِأنَّ بَدَنَهُ قَدْ صارَ بِمَنزِلَةِ عَوْرَةِ الحَيِّ تَكْرِيمًا لَهُ، ولِهَذا يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ عَنِ العُيُونِ وتَغْسِيلُهُ في قَمِيصِهِ في أحَدِ القَوْلَيْنِ، ولَمْسُ فَخْذِ الرَّجُلِ إذا قُلْنا هي عَوْرَةٌ.
والمُباحُ ما لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ولا مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ.
وَهَذِهِ المَراتِبُ أيْضًا مُرَتَّبَةٌ عَلى البَطْشِ بِاليَدِ، والمَشْيِ بِالرِّجْلِ، وأمْثِلَتُها لا تَخْفى.
فالتَّكَسُّبُ المَقْدُورُ لِلنَّفَقَةِ عَلى نَفْسِهِ وأهْلِهِ وعِيالِهِ واجِبٌ، وفي وُجُوبِهِ لِقَضاءِ دَيْنِهِ خِلافٌ، والصَّحِيحُ وُجُوبُهُ لِيُمَكِّنَهُ مِن أداءِ دَيْنِهِ، ولا يَجِبُ لِإخْراجِ الزَّكاةِ، وفي وُجُوبِهِ لِأداءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ نَظَرٌ، والأقْوى في الدَّلِيلِ وجُوبُهُ لِدُخُولِهِ في الِاسْتِطاعَةِ وتَمَكُّنِهِ بِذَلِكَ مِن أداءِ النُّسُكِ، والمَشْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِهِ.
وَمِنَ البَطْشِ الواجِبِ: إعانَةُ المُضْطَرِّ، ورَمْيُ الجِمارِ، ومُباشَرَةُ الوُضُوءِ والتَّيَمُّمِ.
والحَرامُ: كَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَها، ونَهْبُ المالِ المَعْصُومِ، وضَرْبُ مِن لا يَحِلُّ ضَرْبُهُ، ونَحْوُ ذَلِكَ، وكَأنْواعِ اللَّعِبِ المُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كالنَّرْدِ، أوْ ما هو أشَدُّ تَحْرِيمًا مِنهُ عِنْدَ أهْلِ المَدِينَةِ كالشِّطْرَنْجِ، أوْ مِثْلِهِ عِنْدَ فُقَهاءِ الحَدِيث كَأحْمَدَ وغَيْرِهِ، أوْ دُونَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، ونَحْوِ كِتابَةِ البِدَعِ المُخالِفَةِ لِلسُّنَّةِ تَصْنِيفًا أوْ نَسْخًا، إلّا مَقْرُونًا بِرَدِّها ونَقْضِها، وكِتابَةِ الزُّورِ والظُّلْمِ، والحُكْمِ الجائِرِ، والقَذْفِ والتَّشْبِيبِ بِالنِّساءِ الأجانِبِ، وكِتابَةِ ما فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلى المُسْلِمِينَ في دِينِهِمْ أوْ دُنْياهُمْ، ولاسِيَّما إنْ كَسَبْتَ عَلَيْهِ مالًا
﴿فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهم مِمّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩] وكَذَلِكَ كِتابَةُ المُفْتِي عَلى الفَتْوى ما يُخالِفُ حُكْمَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلّا أنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فالإثْمُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ.
وَأمّا المَكْرُوهُ فَكالعَبَثِ واللَّعِبِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرامٍ، وكِتابَةِ ما لا فائِدَةَ في كِتابَتِهِ، ولا مَنفَعَةَ فِيهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
والمُسْتَحَبُّ كِتابَةُ كُلِّ ما فِيهِ مَنفَعَةٌ في الدِّينِ، أوْ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ، والإحْسانُ بِيَدِهِ بِأنْ يَعِينَ صانِعًا، أوْ يَصْنَعَ لِأخْرَقَ، أوْ يُفْرِغَ مِن دَلْوِهِ في دَلْوِ المُسْتَسْقِي، أوْ يَحْمِلَ لَهُ عَلى دابَّتِهِ، أوْ يُمْسِكَها حَتّى يُحْمَلَ عَلَيْها، أوْ يُعاوِنَهُ بِيَدِهِ فِيما يَحْتاجُ إلَيْهِ ونَحْوُ ذَلِكَ، ومِنهُ لَمْسُ الرُّكْنِ بِيَدِهِ في الطَّوافِ، وفي تَقْبِيلِها بَعْدَ اللَّمْسِ قَوْلانِ.
والمُباحُ ما لا مَضَرَةَ فِيهِ ولا ثَوابَ.
وَأمّا المَشْيُ الواجِبُ: فالمَشْيُ إلى الجُمْعاتِ والجَماعاتِ في أصَحِّ القَوْلَيْنِ لِبِضْعَةٍ وعِشْرِينَ دَلِيلًا مَذْكُورَةٍ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، والمَشْيُ حَوْلَ البَيْتِ لِلطَّوافِ الواجِبِ، والمَشْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِنَفْسِهِ أوْ بِمَرْكُوبِهِ، والمَشْيُ إلى حُكْمِ اللَّهِ ورَسُولِهِ إذا دُعِيَ إلَيْهِ، والمَشْيُ إلى صِلَةِ رَحِمِهِ، وبِرِّ والِدَيْهِ، والمَشْيُ إلى مَجالِسِ العِلْمِ الواجِبِ طَلَبُهُ وتَعَلُّمُهُ، والمَشْيُ إلى الحَجِّ إذا قَرُبَتِ المَسافَةُ ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ.
والحَرامُ: المَشْيُ إلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وهو مِن رَجِلِ الشَّيْطانِ، قالَ تَعالى
﴿وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤] قالَ مُقاتِلٌ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبانِ جُنْدِكَ ومُشاتِهِمْ، فَكُلُّ راكِبٍ وماشٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهو مِن جُنْدِ إبْلِيسَ.
وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الأحْكامُ الخَمْسُ بِالرُّكُوبِ أيْضًا.
فَواجِبُهُ في الرُّكُوبِ في الغَزْوِ، والجِهادِ، والحَجِّ الواجِبِ.
وَمُسْتَحَبُّهُ في الرُّكُوبِ المُسْتَحَبِّ مِن ذَلِكَ، ولِطَلَبِ العِلْمِ، وصِلَةِ الرَّحِمِ، وبِرِّ الوالِدَيْنِ، وفي الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ نِزاعٌ هَلِ الرُّكُوبُ فِيهِ أفْضَلُ، أمْ عَلى الأرْضِ؟ والتَّحْقِيقُ أنَّ الرُّكُوبَ أفْضَلُ إذا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِن تَعْلِيمٍ لِلْمَناسِكِ، واقْتِداءٍ بِهِ، وكانَ أعْوَنَ عَلى الدُّعاءِ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلى الدّابَّةِ.
وَحَرامُهُ: الرُّكُوبُ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
وَمَكْرُوهُهُ الرُّكُوبُ لِلَّهْوِ واللَّعِبِ، وكُلُّ ما تَرْكُهُ خَيْرٌ مِن فِعْلِهِ.
وَمُباحُهُ الرُّكُوبُ لِما لَمْ يَتَضَمَّنْ فَوْتَ أجْرٍ، ولا تَحْصِيلَ وِزْرٍ.
فَهَذِهِ خَمْسُونَ مَرْتَبَةً عَلى عَشَرَةِ أشْياءَ: القَلْبُ، واللِّسانُ، والسَّمْعُ، والبَصَرُ، والأنْفُ، والفَمُ، واليَدُ، والرِّجْلُ، والفَرْجُ، والِاسْتِواءُ عَلى ظَهْرِ الدّابَّةِ.
* [فَصْلٌ: نِهايَةُ السّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ العُبُودِيَّةِ صَرْفًا]
فَإنْ لَمْ يَسْمَحْ قَلْبُكَ بِكَوْنِ التَّوْبَةِ غايَةَ مَقاماتِ السّالِكِينَ، ولَمْ تُصْغِ إلى شَيْءٍ مِمّا ذَكَرْنا، وأبَيْتَ إلّا أنْ يَكُونَ تَلاشِي نِهايَةِ الِاتِّصالِ في عَيْنِ الوُجُودِ مَحْقًا، وتَلاشِي عُلُومِ الشَّواهِدِ في العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وجَمْعُ الوُجُودِ وجَمْعُ العَيْنِ: هو نِهايَةُ مَقاماتِ السّالِكِينَ إلى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ في ذَلِكَ كُلُّ سالِكٍ، فاعْلَمْ أنَّ هَذا الجَمْعَ المَذْكُورَ بِمُجَرَّدٍ لا يُعْطِي عُبُودِيَّةً ولا إيمانًا، فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ غايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ ووَلِيٍّ وعارِفٍ، فَإنَّ هَذا الجَمْعَ يَحْصُلُ لِلصِّدِّيقِ والزِّنْدِيقِ، ولِلْمَلاحِدَةِ والِاتِّحادِيَّةِ مِنهُ حَظٌّ كَبِيرٌ، وحَوْلَهُ يُدَنْدِنُونَ، وهو عِنْدَهم نِهايَةُ التَّحْقِيقِ، فَأيْنَ تَحْقِيقُ العُبُودِيَّةِ، والقِيامُ بِأعْبائِها، واحْتِمالُ فَرائِضِها وسُنَنِها وأدائِها، والجِهادُ لِأعْداءِ اللَّهِ، والدَّعْوَةُ إلى اللَّهِ، والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وتَحَمُّلُ الأذى في اللَّهِ في هَذا الجَمْعِ؟! وأيْنَ مَعْرِفَةُ الأسْماءِ والصِّفاتِ فِيهِ مُفَصَّلًا؟ وأيْنَ مَعْرِفَةُ ما يُحِبُّهُ الرَّبُّ تَعالى، ويَكْرَهُهُ مُفَصَّلًا؟ وأيْنَ مَعْرِفَةُ خَيْرِ الخَيْرَيْنِ وشَرِّ الشَّرَّيْنِ فِيهِ؟ وأيْنَ العِلْمُ بِمَراتِبِ العُبُودِيَّةِ ومَنازِلِها فِيهِ؟!.
فالحَقُّ أنَّ نِهايَةَ السّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ العُبُودِيَّةِ صَرْفًا، وهَذا مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ لِبَنِي الطَّبِيعَةِ، وإنَّما خُصَّ بِذَلِكَ الخَلِيلانِ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِن بَيْنِ سائِرِ الخَلْقِ، أمّا إبْراهِيمُ الخَلِيلُ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ شَهِدَ لَهُ بِأنَّهُ وفّى، وأمّا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - فَإنَّهُ كَمَّلَ مَرْتَبَةَ العُبُودِيَّةِ، فاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلى سائِرِ الخَلائِقِ، فَكانَ صاحِبَ الوَسِيلَةِ والشَّفاعَةِ الَّتِي يَتَأخَّرُ عَنْها جَمِيعُ الرُّسُلِ، ويَقُولُ هُوَ: أنا لَها، ولِهَذا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالعُبُودِيَّةِ في أعْلى مَقاماتِهِ، وأشْرَفِ أحْوالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] وقَوْلِهِ:
﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ١٩] وقَوْلِهِ:
﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البقرة: ٢٣] وقَوْلِهِ:
﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] ولِهَذا يَقُولُ المَسِيحُ، حِينَ يُرْغَبُ إلَيْهِ في الشَّفاعَةِ: اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، فاسْتَحَقَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ العُلْيا بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وبِكَمالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ.
فَرَجَعَ الأمْرُ إلى أنَّ غايَةَ المَقاماتِ ونِهايَتَها: هو التَّوْبَةُ والعُبُودِيَّةُ المَحْضَةُ، لا جَمْعُ العَيْنِ، ولا جَمْعُ الوُجُودِ، ولا تَلاشِي الِاتِّصالِ.
فَإنْ قُلْتَ: فَهَذا الجَمْعُ إنَّما يَحْصُلُ لِمَن قامَ بِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ والعُبُودِيَّةِ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَن قامَ بِذَلِكَ: هو جَمْعُ الرُّسُلِ وخُلَفائِهِمْ، وهو جَمْعُ الهِمَّةِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ؛ مَحَبَّةً وإنابَةً وتَوَكُّلًا، وخَوْفًا ورَجاءً ومُراقَبَةً، وجَمْعُ الهِمَّةِ عَلى تَنْفِيذِ أوامِرِ اللَّهِ في الخَلْقِ دَعْوَةً وجِهادًا، فَهُما جَمْعانِ: جَمْعُ القَلْبِ عَلى المَعْبُودِ وحْدَهُ، وجَمْعُ الهَمِّ لَهُ عَلى مَحْضِ عُبُودِيَّتِهِ.
فَإنْ قُلْتَ: فَأيْنَ شاهِدُ هَذَيْنِ الجَمْعَيْنِ؟ قُلْتُ: في القُرْآنِ كُلِّهِ، فَخُذْهُ مِن فاتِحَةِ الكِتابِ في قَوْلِهِ:
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] وتَأمَّلْ ما في قَوْلِهِ " إيّاكَ ": التَّخْصِيصُ لِذاتِهِ المُقَدَّسَةِ بِالعِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ، وما في قَوْلِهِ: " نَعْبُدُ " الَّذِي هو لِلْحالِ والِاسْتِقْبالِ، ولِلْعِبادَةِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ مِنِ اسْتِيفاءِ أنْواعِ العِبادَةِ، حالًا واسْتِقْبالًا، قَوْلًا وعَمَلًا، ظاهِرًا وباطِنًا، والِاسْتِعانَةُ عَلى ذَلِكَ بِهِ لا بِغَيْرِهِ، ولِهَذا كانَتِ الطَّرِيقُ كُلُّها في هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ، وهي مَعْنى قَوْلِهِمْ: الطَّرِيقُ فِي: إيّاكَ أُرِيدُ بِما تُرِيدُ، فَجَمَعَ المُرادَ في واحِدٍ، والإرادَةَ في مُرادِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، فَإلى هَذا دَعَتِ الرُّسُلُ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، وإلَيْهِ شَخَصَ العامِلُونَ، وتَوَجَّهَ المُتَوَجِّهُونَ، وكُلُّ الأحْوالِ والمَقاماتِ - مِن أوَّلِها إلى آخِرِها - مُنْدَرِجَةٌ في ضِمْنِ ذَلِكَ، ومِن ثَمَراتِهِ ومُوجِباتِهِ.
فالعُبُودِيَّةُ تَجْمَعُ كَمالَ الحُبِّ في كَمالِ الذُّلِّ، وكَمالَ الِانْقِيادِ لِمَراضِي المَحْبُوبِ وأوامِرِهِ، فَهي الغايَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَها غايَةٌ، وإذا لَمْ يَكُنْ إلى القِيامِ بِحَقِيقَتِها - كَما يَجِبُ - سَبِيلٌ، فالتَّوْبَةُ هي المِعْوَلُ والآخِيَّةُ، وقَدْ عَرَفْتَ - بِهَذا وبِغَيْرِهِ - أنَّ الحاجَةَ إلَيْها في النِّهايَةِ أشَدُّ مِنَ الحاجَةِ إلَيْها في البِدايَةِ، ولَوْلا تَنَسُّمُ رُوحِها لَحالَ اليَأْسُ بَيْنَ ابْنِ الماءِ والطِّينِ وبَيْنَ الوُصُولِ إلى رَبِّ العالَمِينَ، هَذا لَوْ قامَ بِما يَنْبَغِي عَلَيْهِ أنْ يَقُومَ بِهِ لِسَيِّدِهِ مِن حُقُوقِهِ، فَكَيْفَ والغَفْلَةُ والتَّقْصِيرُ والتَّفْرِيطُ والتَّهاوُنُ، وإيثارُ حُظُوظِهِ في كَثِيرٍ مِنَ الأوْقاتِ عَلى حُقُوقِ رَبِّهِ لا يَكادُ يَتَخَلَّصُ مِنها، ولاسِيَّما السّالِكُ عَلى دَرْبِ الفَناءِ والجَمْعِ؟ لِأنَّ رَبَّهُ يُطالِبُهُ بِالعُبُودِيَّةِ، ونَفْسُهُ تُطالِبُهُ بِالجَمْعِ والفَناءِ، ولَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ مَعَ نَفْسِهِ وحاسَبَها حِسابًا صَحِيحًا لَتَبَيَّنَ لَهُ أنَّ حَظَّهُ يُرِيدُ، ولَذَّتَهُ يَطْلُبُ، نَعَمْ كُلُّ أحَدٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّأْنَ في الفَرْقِ بَيْنَ مَن صارَ حَظُّهُ نَفْسَ مَرْضاةِ اللَّهِ ومَحابِّهِ، أحَبَّتْ ذَلِكَ نَفْسُهُ أوْ كَرِهَتْهُ، وبَيْنَ مَن حَظُّهُ ما يُرِيدُ مِن رَبِّهِ، فالأوَّلُ: حَظُّهُ مُرادُ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ مِنهُ، وهَذا حَظُّهُ مُرادُهُ مِن رَبِّهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإنْ قِيلَ: هَذا البابُ مُسَلَّمٌ لِأهْلِ الذَّوْقِ، وأنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِلِسانِ العِلْمِ لا بِلِسانِ الذَّوْقِ، والذّائِقُ واجِدٌ، والواجِدُ لا يُمْكِنُهُ إنْكارُ مَوْجُودِهِ، فَلا يَرْجِعُ إلى صاحِبِ العِلْمِ، بَلْ يَدْعُوهُ إلى ذَوْقِ ما ذاقَهُ، ويَقُولُ:
أقُولُ لِلّائِمِ المُهْدِي مَلامَتَهُ ∗∗∗ ذُقِ الهَوى وإنِ اسْطَعْتَ المَلامَ لُمْ
قِيلَ: لَمْ يُنْصِفْ مَن أحالَ عَلى الذَّوْقِ، فَإنَّها حِوالَةٌ عَلى مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لا عَلى حاكِمٍ، وعَلى مَشْهُودٍ لَهُ، لا عَلى شاهِدٍ، وعَلى مَوْزُونٍ، لا عَلى مِيزانٍ.
وَيا سُبْحانَ اللَّهِ! هَلْ يَدُلُّ مُجَرَّدُ ذَوْقِ الشَّيْءِ عَلى حُكْمِهِ، وأنَّهُ حَقٌّ أوْ باطِلٌ؟ وهَلْ جَعَلَ اللَّهُ ورَسُولُهُ الأذْواقَ والمَواجِيدَ حُجَجًا وأدِلَّةً، يُمَيَّزُ بِها بَيْنَ ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، وبَيْنَ ما يَكْرَهُهُ ويَسْخَطُهُ؟ ولَوْ كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: لاحْتَجَّ كُلُّ مُبْطِلٍ عَلى باطِلِهِ بِالذَّوْقِ والوَجْدِ، كَما تَجِدُهُ في كَثِيرٍ مِن أهْلِ الباطِلِ والإلْحادِ، فَهَؤُلاءِ الِاتِّحادِيَّةُ - وهم أكْفَرُ الخَلْقِ - يَحْتَجُّونَ بِالذَّوْقِ والوَجْدِ عَلى كُفْرِهِمْ وإلْحادِهِمْ حَتّى لَيَقُولُ قائِلُهُمْ:
يا صاحِبِي أنْتَ تَنْهانِي وتَأْمُرُنِي ∗∗∗ والوَجْدُ أصْدَقُ نَهّاءٍ وأمّارِ
فَإنْ أُطِعْكَ وأعْصِ الوَجْدَ رُحْتُ عَمٍ ∗∗∗ عَنِ اليَقِينِ إلى أوْهامِ أخْبارِ
وَعَيْنُ ما أنْتَ تَدْعُونِي إلَيْهِ إذا ∗∗∗ حَقَّقْتُهُ بَدَّلَ المَنهِيَّ يا جارِ
وَيَقُولُ هَذا القائِلُ: ثَبَتَ عِنْدَنا - بِالكَشْفِ والذَّوْقِ - ما يُناقِضُ صَرِيحَ العَقْلِ، وكُلُّ مُعْتَقِدٍ لِأمْرٍ جازِمٍ بِهِ، مُسْتَحْسِنٌ لَهُ: يَذُوقُ طَعْمَهُ، فالمُلْحِدُ يَذُوقُ طَعْمَ الِاتِّحادِ والِانْحِلالِ مِنَ الدِّينِ، والرّافِضِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ الرَّفْضِ، ومُعاداةِ خِيارِ الخَلْقِ، والقَدَرِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ إنْكارِ القَدَرِ، ويَعْجَبُ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ، والجَبْرِيُّ عَكْسُهُ، والمُشْرِكُ يَذُوقُ طَعْمَ الشِّرْكِ، حَتّى إنَّهُ لِيَسْتَبْشِرُ إذا ذُكِرَ إلَهُهُ ومَعْبُودُهُ مِن دُونِ اللَّهِ، ويَشْمَئِزُّ قَلْبُهُ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ.
وَهَذا الِاحْتِجاجُ قَدْ سَلَكَهُ أرْبابُ السَّماعِ المُحْدَثِ الشَّيْطانِيِّ، الَّذِي هو مَحْضُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وهَواها، واحْتَجُّوا عَلى إباحَةِ هَذا السَّماعِ بِما فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ والوَجْدِ واللَّذَّةِ، وأنْتَ تَجِدُ النَّصْرانِيَّ لَهُ في تَثْلِيثِهِ ذَوْقٌ، ووَجْدٌ وحَنِينٌ، بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ أشَدُّ العَذابِ لاخْتارَهُ، دُونَ أنْ يُفارِقَ تَثْلِيثَهُ، لِما لَهُ فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ.
وَحِينَئِذٍ، فَيُقالُ: هَبْ أنَّ الأمْرَ كَما تَقُولُ، وأنَّ المُتَكَلِّمَ المُنْكِرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسانِ الذَّوْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ذَوْقُ الذّائِقِ لِذَلِكَ حُجَّةً صَحِيحَةً نافِعَةً لَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ؟ ولَوْ فَرَضْنا أنَّ هَذا المُنْكِرَ قالَ: نَعَمْ، أنا مَحْجُوبٌ عَنِ الوُصُولِ إلى ما أنْكَرْتُهُ، غَيْرُ ذائِقٍ لَهُ، وأنْتَ ذائِقٌ واصِلٌ، فَما عَلامَةُ ما ذُقْتَهُ، ووَصَلْتَ إلَيْهِ؟ وما الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وأنا لا أُنْكِرُ ذَوْقَكَ لَهُ ووَجْدَكَ بِهِ، ولَكِنَّ الشَّأْنَ في المَذُوقِ لا في الذَّوْقِ، وإذا ذاقَ المُحِبُّ العاشِقُ طَعْمَ مَحَبَّتِهِ وعِشْقِهِ لِمَحْبُوبِهِ، ما كانَ غايَةَ ذَلِكَ: إلّا أنْ يَدُلَّ عَلى وُجُودِ مَحَبَّتِهِ وعِشْقِهِ، لا عَلى كَوْنِ ذَلِكَ نافِعًا لَهُ أوْ ضارًّا، أوْ مُوجِبًا لِكَمالِهِ أوْ نَقْصِهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* [فَصْلٌ الجَمْعُ الصَّحِيحُ هو جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وجَمْعُ تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ]
فَيَشْهَدُ صاحِبُهُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبَّ تَعالى فَوْقَ عَرْشِهِ، يُدَبِّرُ أمْرَ عِبادِهِ وحْدَهُ، فَلا خالِقَ ولا رازِقَ، ولا مُعْطِيَ ولا مانِعَ، ولا مُمِيتَ ولا مُحْيِيَ، ولا مُدَبِّرَ لِأمْرِ المَمْلَكَةِ - ظاهِرًا وباطِنًا - غَيْرُهُ، فَما شاءَ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إلّا بِإذْنِهِ، ولا يَجْرِي حادِثٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ ولا تَسْقُطُ ورَقَةٌ إلّا بِعِلْمِهِ، ولا يَغْرُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلّا أحْصاها عِلْمُهُ، وأحاطَتْ بِها قُدْرَتُهُ، ونَفَذَتْ بِها مَشِيئَتُهُ، واقْتَضَتْها حِكْمَتُهُ، فَهَذا جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَأمّا جَمْعُ تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ، فَهُوَ: أنْ يَجْمَعَ قَلْبَهُ وهَمَّهُ وعَزْمَهُ عَلى اللَّهِ، وإرادَتَهُ، وحَرَكاتَهُ عَلى أداءِ حَقِّهِ تَعالى، والقِيامِ بِعُبُودِيَّتِهِ سُبْحانَهُ، فَتَجْتَمِعُ شُئُونُ إرادَتِهِ عَلى مُرادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ.
وَهَذانِ الجَمْعانِ: هُما حَقِيقَةُ
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فَإنَّ العَبْدَ يَشْهَدُ مِن قَوْلِهِ " إيّاكَ " الذّاتَ الجامِعَةَ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ، الَّتِي لَها كُلُّ الأسْماءِ الحُسْنى، ثُمَّ يَشْهَدُ مِن قَوْلِهِ " نَعْبُدُ " جَمِيعَ أنْواعِ العِبادَةِ ظاهِرًا وباطِنًا، قَصْدًا وقَوْلًا وعَمَلًا وحالًا واسْتِقْبالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ مِن قَوْلِهِ "
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ " جَمِيعَ أنْواعِ الِاسْتِعانَةِ، والتَّوَكُّلِ والتَّفْوِيضِ، فَيَشْهَدُ مِنهُ جَمْعَ الرُّبُوبِيَّةِ، ويَشْهَدُ مِن "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] " جَمْعَ الإلَهِيَّةِ، ويَشْهَدُ مِن " إيّاكَ " الذّاتَ الجامِعَةَ لِكُلِّ الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلى.
* [فَصْلُ: خاصِّيَّةِ التَّعَبُّدِ]
وَخاصِّيَّةُ التَّعَبُّدِ: الحُبُّ مَعَ الخُضُوعِ، والذُّلِّ لِلْمَحْبُوبِ، فَمَن أحَبَّ مَحْبُوبًا وخَضَعَ لَهُ فَقَدْ تَعَبَّدَ قَلْبَهُ لَهُ، بَلِ التَّعَبُّدُ آخِرُ مَراتِبِ الحُبِّ، ويُقالُ لَهُ التَّتَيُّمُ أيْضًا، فَإنَّ أوَّلَ مَراتِبِهِ العَلاقَةُ، وسُمِّيَتْ عَلاقَةً لِتَعَلُّقِ المُحِبِّ بِالمَحْبُوبِ.
قالَ الشّاعِرُ:
وَعُلِّقْتُ لَيْلى وهْيَ ذاتُ تَمائِمِ ∗∗∗ ولَمْ يَبْدُ لِلْأتْرابِ مِن ثَدْيِها حَجْمُ
وَقالَ الآخَرُ:
أعَلاقَةٌ أُمَّ الوَلِيدِ بُعَيْدَ ما ∗∗∗ أفْنانُ رَأْسِكَ كالثِّغامِ المُخْلِسِ
ثُمَّ بَعْدَها الصَّبابَةُ، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِانْصِبابِ القَلْبِ إلى المَحْبُوبِ، قالَ الشّاعِرُ:
تَشَكّى المُحِبُّونَ الصَّبابَةَ لَيْتَنِي ∗∗∗ تَحَمَّلْتُ ما يَلْقَوْنَ مِن بَيْنِهِمْ وحْدِي
فَكانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الحُبِّ كُلُّها ∗∗∗ فَلَمْ يَلْقَها قَبْلِي مُحِبٌّ ولا بَعْدِي
ثُمَّ الغَرامُ، وهو لُزُومُ الحُبِّ لِلْقَلْبِ لُزُومًا لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، ومِنهُ سُمِّيَ الغَرِيمُ غَرِيمًا؛ لِمُلازَمَتِهِ صاحِبَهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا﴾ [الفرقان: ٦٥].
وَقَدْ أُولِعَ المُتَأخِّرُونَ بِاسْتِعْمالِ هَذا اللَّفْظِ في الحُبِّ، وقَلَّ أنْ تَجِدَهُ في أشْعارِ العَرَبِ.
ثُمَّ العِشْقُ وهو إفْراطُ المَحَبَّةِ، ولِهَذا لا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى، ولا يُطْلَقُ في حَقِّهِ.
ثُمَّ الشَّوْقُ وهو سَفَرُ القَلْبِ إلى المَحْبُوبِ أحَثَّ السَّفَرِ، وقَدْ جاءَ إطْلاقُهُ في حَقِّ الرَّبِّ تَعالى كَما في مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ عَنْ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ:
«أنَّهُ صَلّى صَلاةً فَأوْجَزَ فِيها، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ أما إنِّي دَعَوْتُ فِيها بِدَعْواتٍ كانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَدْعُو بِهِنَّ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وقُدْرَتِكَ عَلى الخَلْقِ، أحْيِنِي إذا كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ خَشْيَتَكَ في الغَيْبِ والشَّهادَةِ، وأسْألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ في الغَضَبِ والرِّضا، وأسْألُكَ القَصْدَ في الفَقْرِ والغِنى، وأسْألُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وأسْألُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وأسْألُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وأسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وجْهِكَ، وأسْألُكَ الشَّوْقَ إلى لِقائِكَ، في غَيْرِ ضَرّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنّا بِزِينَةِ الإيمانِ، واجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدِينَ».
وَفِي أثَرٍ آخَرَ: "
«طالَ شَوْقُ الأبْرارِ إلى لِقائِي، وأنا إلى لِقائِهِمْ أشَدُّ شَوْقًا» ".
وَهَذا هو المَعْنى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ ﷺ بِقَوْلِهِ:
«مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ».
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ البَصائِرِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت: ٥].
لَمّا عَلِمَ سُبْحانَهُ شِدَّةَ شَوْقِ أوْلِيائِهِ إلى لِقائِهِ، وأنَّ قُلُوبَهم لا تَهْتَدِي دُونَ لِقائِهِ، ضَرَبَ لَهم أجَلًا ومَوْعِدًا لِلِقائِهِ، وتَسْكُنُ نُفُوسُهم بِهِ، وأطْيَبُ العَيْشِ وألَذُّهُ عَلى الإطْلاقِ عَيْشُ المُحِبِّينَ المُشْتاقِينَ المُسْتَأْنِسِينَ، فَحَياتُهم هي الحَياةُ الطَّيِّبَةُ الحَقِيقِيَّةُ، ولا حَياةَ لِلْقَلْبِ أطْيَبَ ولا أنْعَمَ ولا أهْنَأ مِنها، وهي الحَياةُ الطَّيِّبَةُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧].
لَيْسَ المُرادُ مِنها الحَياةَ المُشْتَرَكَةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ، والأبْرارِ والفُجّارِ، ومِن طِيبِ المَأْكَلِ والمَلْبَسِ والمَشْرَبِ والمَنكَحِ، بَلْ رُبَّما زادَ أعْداءُ اللَّهِ عَلى أوْلِيائِهِ في ذَلِكَ أضْعافًا مُضاعَفَةً، وقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِكُلِّ مَن عَمِلَ صالِحًا أنْ يُحْيِيَهُ حَياةً طَيِّبَةً، فَهو صادِقُ الوَعْدِ الَّذِي لا يُخْلِفُ وعْدَهُ، وأيُّ حَياةٍ أطْيَبُ مِن حَياةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّها وصارَتْ هَمًّا واحِدًا في مَرْضاةِ اللَّهِ؟ ولَمْ يَتَشَعَّبْ قَلْبُهُ، بَلْ أقْبَلَ عَلى اللَّهِ، واجْتَمَعَتْ إرادَتُهُ وأفْكارُهُ الَّتِي كانَتْ مُتَقَسِّمَةً بِكُلِّ وادٍ مِنها شُعْبَةٌ عَلى اللَّهِ، فَصارَ ذِكْرُهُ بِمَحْبُوبِهِ الأعْلى وحُبُّهُ والشَّوْقُ إلى لِقائِهِ، والأُنْسُ بِقُرْبِهِ هو المُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ تَدُورُ هُمُومُهُ وإرادَتُهُ وقُصُودُهُ بِكُلِّ خَطَراتِ قَلْبِهِ، فَإنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، وإنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وإنْ سَمِعَ فَبِهِ يَسْمَعُ، وإنْ أبْصَرَ فَبِهِ يُبْصِرُ، وبِهِ يَبْطِشُ، وبِهِ يَمْشِي، وبِهِ يَسْكُنُ، وبِهِ يَحْيا، وبِهِ يَمُوتُ، وبِهِ يُبْعَثُ، كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْهُ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى، أنَّهُ قالَ: "
«ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي يَمْشِي، ولَئِنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أنا فاعِلُهُ، كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأكْرَهُ مُساءَتَهُ ولا بُدَّ لَهُ مِنهُ "».
فَتَضَمَّنَ هَذا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ الإلَهِيُّ - الَّذِي حَرامٌ عَلى غَلِيظِ الطَّبْعِ كَسِيفِ القَلْبِ فَهْمُ مَعْناهُ والمُرادُ بِهِ - حَصْرَ أسْبابِ مَحَبَّتِهِ في أمْرَيْنِ: أداءِ فَرائِضِهِ، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوافِلِ.
وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ أداءَ فَرائِضِهِ أحَبُّ ما يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْهِ المُتَقَرِّبُونَ، ثُمَّ بَعْدَها النَّوافِلُ، وأنَّ المُحِبَّ لا يَزالُ يُكْثِرُ مِنَ النَّوافِلِ حَتّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ، فَإذا صارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ أوْجَبَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ لَهُ مَحَبَّةً أُخْرى مِنهُ فَوْقَ المَحَبَّةِ الأُولى، فَشَغَلَتْ هَذِهِ المَحَبَّةُ قَلْبَهُ عَنِ الفِكْرَةِ والِاهْتِمامِ بِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، ومَلَكَتْ عَلَيْهِ رُوحَهُ، ولَمْ يَبْقَ فِيهِ سِعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ ألْبَتَّةَ، فَصارَ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ وحُبُّهُ ومَثَلُهُ الأعْلى، ومالِكًا لِزِمامِ قَلْبِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلى رُوحِهِ اسْتِيلاءَ المَحْبُوبِ عَلى مَحَبَّةِ الصّادِقِ في مَحَبَّتِهِ، الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَتْ قُوى مَحَبَّةِ حُبِّهِ كُلُّها لَهُ.
وَلا رَيْبَ أنَّ هَذا المُحِبَّ إنْ سَمِعَ سَمِعَ بِمَحْبُوبِهِ، وإنْ أبْصَرَ أبْصَرَ بِهِ، وإنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وإنْ مَشى مَشى بِهِ، فَهو في قَلْبِهِ ومَعَهُ وأنِيسُهُ وصاحِبُهُ، فالباءُ هاهُنا لِلْمُصاحَبَةِ، وهي مُصاحَبَةٌ لا نَظِيرَ لَها، ولا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الإخْبارِ عَنْها والعِلْمِ بِها، فالمَسْألَةُ حالِيَّةٌ لا عِلْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
وَإذا كانَ المَخْلُوقُ يَجِدُ هَذا في مَحَبَّةِ المَخْلُوقِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَها ولَمْ يُفْطَرْ عَلَيْها، كَما قالَ بَعْضُ المُحِبِّينَ:
خَيالُكَ في عَيْنِي وذِكْرُكَ في فَمِي ∗∗∗ ومَثْواكَ في قَلْبِي فَأيْنَ تَغِيبُ
وَقالَ الآخَرُ:
وَمِن عَجَبٍ أنِّي أحِنُّ إلَيْهِمُ ∗∗∗ فَأسْألُ عَنْهم مَن لَقِيتُ وهم مَعِي
وَتَطْلُبُهم عَيْنِي وهم في سَوادِها ∗∗∗ ويَشْتاقُهم قَلْبِي وهم بَيْنَ أضْلُعِي
وَهَذا ألْطَفُ مِن قَوْلِ الآخَرِ:
إنْ قُلْتُ غِبْتِ فَقَلْبِي لا يُصَدِّقُنِي ∗∗∗ إذْ أنْتَ فِيهِ مَكانَ السِّرِّ لَمْ تَغِبِ
أوْ قُلْتُ ما غِبْتِ قالَ الطَّرْفُ ذا كَذِبٌ ∗∗∗ فَقَدْ تَحَيَّرْتُ بَيْنَ الصِّدْقِ والكَذِبِ
فَلَيْسَ شَيْءٌ أدْنى إلى المُحِبِّ مِن مَحْبُوبِهِ، ورُبَّما تَمَكَّنَتْ مِنهُ المَحَبَّةُ، حَتّى يَصِيرَ أدْنى إلَيْهِ مِن نَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَنْسى نَفْسَهُ ولا يَنْساهُ، كَما قالَ:
أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها فَكَأنَّما ∗∗∗ تُمَثَّلُ لِي لَيْلى بِكُلِّ سَبِيلِ
وَقالَ الآخَرُ:
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكم ∗∗∗ وتَأْبى الطِّباعُ عَلى النّاقِلِ
وَخَصَّ في الحَدِيثِ السَّمْعَ والبَصَرَ واليَدَ والرِّجْلَ بِالذِّكْرِ، فَإنَّ هَذِهِ الآلاتِ آلاتُ الإدْراكِ وآلاتُ الفِعْلِ، والسَّمْعُ والبَصَرُ يُورِدانِ عَلى القَلْبِ الإرادَةَ والكَراهَةَ، ويَجْلِبانِ إلَيْهِ الحُبَّ والبُغْضَ، فَيَسْتَعْمِلُ اليَدَ والرِّجْلَ، فَإذا كانَ سَمْعُ العَبْدِ بِاللَّهِ، وبَصَرُهُ بِاللَّهِ كانَ مَحْفُوظًا في آلاتِ إدْراكِهِ، وكانَ مَحْفُوظًا في حُبِّهِ وبُغْضِهِ، فَحُفِظَ في بَطْشِهِ ومَشْيِهِ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ اكْتَفى بِذِكْرِ السَّمْعِ والبَصَرِ واليَدِ والرِّجْلِ عَنِ اللِّسانِ، فَإنَّهُ إذا كانَ إدْراكُ السَّمْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاخْتِيارِهِ تارَةً، وبِغَيْرِ اخْتِيارِهِ تارَةً، وكَذَلِكَ البَصَرُ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ الِاخْتِيارِ فَجْأةً، وكَذَلِكَ حَرَكَةُ اليَدِ والرِّجْلِ الَّتِي لا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنهُما، فَكَيْفَ بِحَرَكَةِ اللِّسانِ الَّتِي لا تَقَعُ إلّا بِقَصْدٍ واخْتِيارٍ؟ وقَدْ يَسْتَغْنِي العَبْدُ عَنْها إلّا حَيْثُ أُمِرَ بِها.
وَأيْضًا فانْفِعالُ اللِّسانِ عَنِ القَلْبِ أتَمُّ مِنَ انْفِعالِ سائِرِ الجَوارِحِ، فَإنَّهُ تُرْجُمانُهُ ورَسُولُهُ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ حَقَّقَ تَعالى كَوْنَ العَبْدِ بِهِ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ وبَطْشُهُ ومَشْيُهُ بِقَوْلِهِ: "
«كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها» " تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مَعَ عَبْدِهِ، وكَوْنِ عَبْدِهِ في إدْراكاتِهِ، بِسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وحَرَكاتِهِ بِيَدَيْهِ ورِجْلِهِ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ قالَ: " فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ " ولَمْ يَقُلْ: فَلِي يَسْمَعُ، ولِي يُبْصِرُ، ورُبَّما يَظُنُّ الظَّنّانُ أنَّ اللّامَ أوْلى بِهَذا المَوْضِعِ، إذْ هي أدَلُّ عَلى الغايَةِ، ووُقُوعُ هَذِهِ الأُمُورِ لِلَّهِ، وذَلِكَ أخَصُّ مِن وُقُوعِها بِهِ، وهَذا مِنَ الوَهْمِ والغَلَطِ، إذْ لَيْسَتِ الباءُ هاهُنا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعانَةِ، فَإنَّ حَرَكاتِ الأبْرارِ والفُجّارِ وإدْراكاتِهِمْ إنَّما هي بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ، وإنَّ الباءَ هاهُنا لِلْمُصاحَبَةِ، أيْ: إنَّما يَسْمَعُ ويُبْصِرُ ويَبْطِشُ ويَمْشِي وأنا صاحِبُهُ مَعَهُ، كَقَوْلِهِ في الحَدِيثِ الآخَرِ: "
«أنا مَعَ عَبْدِي ما ذَكَرَنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ» " وهَذِهِ هي المَعِيَّةُ الخاصَّةُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠].
وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:
«ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما»، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩].
وَقَوْلِهِ:
﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].
وَقَوْلِهِ:
﴿واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦].
وَقَوْلِهِ:
﴿كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
وَقَوْلِهِ تَعالى لِمُوسى وهارُونَ:
﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦].
فَهَذِهِ الباءُ مُفِيدَةٌ لِمَعْنى هَذِهِ المَعِيَّةِ دُونَ اللّامِ، ولا يَتَأتّى لِلْعَبْدِ الإخْلاصُ والصَّبْرُ والتَّوَكُّلُ، ونُزُولُهُ في مَنازِلِ العُبُودِيَّةِ إلّا بِهَذِهِ الباءِ وهَذِهِ المَعِيَّةِ.
فَمَتى كانَ العَبْدُ بِاللَّهِ هانَتْ عَلَيْهِ المَشاقُّ، وانْقَلَبَتِ المَخاوِفُ في حَقِّهِ، فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، ويَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، ويَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ، وبِاللَّهِ تَزُولُ الهُمُومُ والغُمُومُ والأحْزانُ، فَلا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، ولا غَمَّ ولا حَزَنَ إلّا حَيْثُ يُفَوِّتُهُ العَبْدُ مَعْنى هَذِهِ الباءِ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ كالحُوتِ، إذا فارَقَ الماءَ يَثِبُ ويَنْقَلِبُ حَتّى يَعُودَ إلَيْهِ.
وَلَمّا حَصَلَتْ هَذِهِ المُوافَقَةُ مِنَ العَبْدِ لِرَبِّهِ في مَحابِّهِ؛ حَصَلَتْ مُوافَقَةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ في حَوائِجِهِ ومَطالِبِهِ، فَقالَ:
«وَلَئِنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
أيْ: كَما وافَقَنِي في مُرادِي بِامْتِثالِ أوامِرِي والتَّقَرُّبِ بِمَحابِّي، فَأنا أُوافِقُهُ في رَغْبَتِهِ ورَهْبَتِهِ فِيما يَسْألُنِي أنْ أفْعَلَهُ بِهِ، ويَسْتَعِيذُنِي أنْ يَنالَهُ، وقَوِيَ أمْرُ هَذِهِ المُوافَقَةِ مِنَ الجانِبَيْنِ حَتّى اقْتَضى تَرَدُّدَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ
فِي إماتَةِ عَبْدِهِ؛ لِأنَّهُ يَكْرَهُ المَوْتَ، والرَّبُّ تَعالى يَكْرَهُ ما يَكْرَهُهُ عَبْدُهُ، ويَكْرَهُ مُساءَتَهُ، فَمِن هَذِهِ الجِهَةِ يَقْتَضِي أنْ لا يُمِيتَهُ ولَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ في إماتَتِهِ، فَإنَّهُ ما أماتَهُ إلّا لِيُحْيِيَهُ، ولا أمْرَضَهُ إلّا لِيُصِحَّهُ، ولا أفْقَرَهُ إلّا لِيُغْنِيَهُ، ولا مَنَعَهُ إلّا لِيُعْطِيَهُ، ولَمْ يُخْرَجْ مِنَ الجَنَّةِ في صُلْبِ أبِيهِ إلّا لِيُعِيدَهُ إلَيْها عَلى أحْسَنِ أحْوالِهِ، ولَمْ يَقُلْ لِأبِيهِ اخْرُجْ مِنها إلّا وهو يُرِيدُ أنْ يُعِيدَهُ إلَيْها، فَهَذا هو الحَبِيبُ عَلى الحَقِيقَةِ لا سِواهُ، بَلْ لَوْ كانَ في كُلِّ مَنبَتِ شَعْرَةٍ مِنَ العَبْدِ مَحَبَّةٌ تامَّةٌ لِلَّهِ، لَكانَ بَعْضُ ما يَسْتَحِقُّهُ عَلى عَبْدِهِ.
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوى ∗∗∗ ما الحُبُّ إلّا لِلْحَبِيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتى ∗∗∗ وحَنِينُهُ أبَدًا لِأوَّلِ مَنزِلِ
* [فَصْلٌ: آخِرُ مَراتِبِ الحُبِّ]
ثُمَّ التَّتَيُّمُ، وهو آخِرُ مَراتِبِ الحُبِّ، وهو تَعَبُّدُ المُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، يُقالُ تَيَّمَهُ الحُبُّ، إذا عَبَّدَهُ، ومِنهُ: تَيْمُ اللَّهِ، أيْ عَبْدُ اللَّهِ، وحَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ لِلْمَحْبُوبِ، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أيْ مُذَلَّلٌ، قَدْ ذَلَّلَتْهُ الأقْدامُ، فالعَبْدُ هو الَّذِي ذَلَّلَهُ الحُبُّ والخُضُوعُ لِمَحْبُوبِهِ، ولِهَذا كانْتَ أشْرَفُ أحْوالِ العَبْدِ ومَقاماتِهِ في العُبُودِيَّةِ، فَلا مَنزِلَ لَهُ أشْرَفُ مِنها.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أكْرَمَ الخَلْقِ عَلَيْهِ وأحَبَّهم إلَيْهِ، وهو رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ بِالعُبُودِيَّةِ في أشْرَفِ مَقاماتِهِ، وهي مَقامُ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، ومَقامُ التَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ، ومَقامُ الإسْراءِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: ١٩].
وَقالَ:
﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣].
وَقالَ
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ [الإسراء: ١].
حَدِيثُ الشَّفاعَةِ:
«اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ»، فَنالَ مَقامَ الشَّفاعَةِ بِكَمالِ عُبُودِيَّتِهِ، وكَمالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ، واللَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، الَّتِي هي أكْمَلُ أنْواعِ المَحَبَّةِ مَعَ أكْمَلِ أنْواعِ الخُضُوعِ، وهَذا هو حَقِيقَةُ الإسْلامِ ومِلَّةُ إبْراهِيمَ الَّتِي مَن رَغِبَ عَنْها فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ، قالَ تَعالى:
﴿وَمَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ - إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ - ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يابَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ - أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ إلَهًا واحِدًا ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٠-١٣٣].
وَلِهَذا كانَ أعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ الشِّرْكُ.
[الشِّرْكُ في المَحَبَّةِ]
وَأصْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، والإشْراكِ في المَحَبَّةِ كَما قالَ تَعالى:
﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥].
فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يُشْرِكُ بِهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَما يُحِبُّ اللَّهَ، وأخْبَرَ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِن أصْحابِ الأنْدادِ لِأنْدادِهِمْ.
وَقِيلَ: بَلِ المَعْنى أنَّهم أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، فَإنَّهم وإنْ أحَبُّوا اللَّهَ، لَكِنْ لَمّا شَرِكُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ أنْدادِهِمْ في المَحَبَّةِ ضَعُفَتْ مَحَبَّتُهم لِلَّهِ، والمُوَحِّدُونَ لِلَّهِ لَمّا خَلُصَتْ مَحَبَّتُهم لَهُ كانَتْ أشَدَّ مِن مَحَبَّةِ أُولَئِكَ، والعَدْلُ بِرَبِّ العالَمِينَ، والتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأنْدادِ هو في هَذِهِ المَحَبَّةِ، كَما تَقَدَّمَ.
وَلَمّا كانَ مُرادُ اللَّهِ مِن خَلْقِهِ خُلُوصَ هَذِهِ المَحَبَّةِ لَهُ، أنْكَرَ عَلى مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ ولِيًّا أوْ شَفِيعًا غايَةَ الإنْكارِ، وجَمْعُ ذَلِكَ تارَةً، وإفْرادُ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ، فَقالَ تَعالى:
﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣].
وَقالَ تَعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: ٤].
وَقالَ في الإفْرادِ:
﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ولا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٤٣-٤٤].
وَقالَ تَعالى:
﴿وَأنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِيٌّ ولا شَفِيعٌ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٥١].
وَقالَ تَعالى:
﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [الجاثية: ١٠].
فَإذا والى العَبْدُ رَبَّهُ وحْدَهُ أقامَ لَهُ الشُّفَعاءَ، وعَقَدَ المُوالاةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ فَصارُوا أوْلِياءَهُ في اللَّهِ، بِخِلافِ مَنِ اتَّخَذَ مَخْلُوقًا ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ.
فَهَذا لَوْنٌ وذاكَ لَوْنٌ، كَما أنَّ الشَّفاعَةَ الشَّرِكِيَّةَ الباطِلَةَ لَوْنٌ، والشَّفاعَةَ الحَقَّ الثّابِتَةَ الَّتِي إنَّما تُنالُ بِالتَّوْحِيدِ لَوْنٌ، وهَذا مَوْضِعُ فُرْقانٍ بَيْنَ أهْلِ التَّوْحِيدِ وأهْلِ الإشْراكِ، واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
والمَقْصُودُ: أنَّ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ لا تَحْصُلُ مَعَ الإشْراكِ بِاللَّهِ في المَحَبَّةِ، بِخِلافِ المَحَبَّةِ لِلَّهِ، فَإنَّها مِن لَوازِمِ العُبُودِيَّةِ ومُوجِباتِها، فَإنَّ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ - بَلْ تَقْدِيمُهُ في الحُبِّ عَلى الأنْفُسِ والآباءِ والأبْناءِ - لا يَتِمُّ الإيمانُ إلّا بِها، إذْ مَحَبَّتُهُ مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ، وكَذَلِكَ كَلُّ حُبٍّ في اللَّهِ ولِلَّهِ، كَما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ».
وَفِي لَفْظٍ في الصَّحِيحَيْنِ:
«لا يَجِدُ حَلاوَةَ الإيمانِ إلّا مَن كانَ فِيهِ ثَلاثُ خِصالٍ: أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا لِلَّهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَرْجِعَ في الكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنهُ، كَما يَكْرَهُ أنْ يُلْقى في النّارِ».
وَفِي الحَدِيثِ الَّذِي في السُّنَنِ:
«مَن أحَبَّ لِلَّهِ، وأبْغَضَ لِلَّهِ، وأعْطى لِلَّهِ، ومَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيمانَ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:
«ما تَحابَّ رَجُلانِ في اللَّهِ إلّا كانَ أفْضَلُهُما أشَدَّهُما حُبًّا لِصاحِبِهِ».
فَإنَّ هَذِهِ المَحَبَّةَ مِن لَوازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعالى ومُوجِباتِها، وكُلَّما كانَتْ أقْوى كانَ أصْلُها كَذَلِكَ.
* [فَصْلٌ]
لما كان الإنسان؛ بل وكل حي متحرك بالإرادة، لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب يوصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه، وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحي مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في حصول مراده.
والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه. والثاني: ما هو مراد لغيره.
والمستعان قسمان؛ أحدهما: ما هو مستعان بنفسه، والثاني: ما هو تبع له وآلة.
فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلة وتبعا للمستعان بنفسه.
فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وينتهي إليه محبته. ولا بد له من شيء يتوصل به؛ ويستعين به في حصول مطلوبه، والمستعان مدعو ومسئول، والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه في رزقه ونصره ومنفعته ونفعه خضع له، وذل له، وانقاد له وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به، ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به، فاجتمع له محبته والاستعانة به.
فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه.
فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده. وكل ما سواه فإنما ينبغي أن يحب تبعا لمحبته، ويستعان به لكونه آلة وسببا.
الثاني: محبوب لغيره ومستعان به أيضًا، كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض محبه
الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره
الرابع: مستعان به غير محبوب في نفسه.
فإذا عرف ذلك تبين مَن أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها. والله المستعان وعليه التكلان.
* [فَصْلٌ: المَشْهَدُ السّادِسُ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ]
وَهُوَ أنْ يَشْهَدَ انْفِرادَ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى بِالخَلْقِ والحُكْمِ، وأنَّهُ ما شاءَ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأنَّهُ لا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إلّا بِإذْنِهِ، وأنَّ الخَلْقَ مَقْهُورُونَ تَحْتَ قَبْضَتِهِ، وأنَّهُ ما مِن قَلْبٍ إلّا وهو بَيْنَ إصْبِعَيْنِ مِن أصابِعِهِ، إنْ شاءَ أنْ يُقِيمَهُ أقامَهُ، وإنْ شاءَ أنْ يُزِيغَهُ أزاغَهُ، فالقُلُوبُ بِيَدِهِ، وهو مُقَلِّبُها ومُصَرِّفُها كَيْفَ شاءَ وكَيْفَ أرادَ، وأنَّهُ هو الَّذِي آتى نُفُوسَ المُؤْمِنِينَ تَقْواها، وهو الَّذِي هَداها وزَكّاها، وألْهَمَ نُفُوسَ الفُجّارِ فُجُورَها وأشْقاها، مَن يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، يَهْدِي مَن يَشاءُ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ بِعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ، هَذا فَضْلُهُ وعَطاؤُهُ، وما فَضْلُ الكَرِيمِ بِمَمْنُونٍ، وهَذا عَدْلُهُ وقَضاؤُهُ
﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الإيمانُ بِالقَدَرِ نِظامُ التَّوْحِيدِ، فَمَن كَذَّبَ بِالقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ، ومَن آمَنَ بِالقَدَرِ صَدَّقَ إيمانُهُ تَوْحِيدَهُ.
وَفِي هَذا المَشْهَدِ يَتَحَقَّقُ لِلْعَبْدِ مَقامُ
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ عِلْمًا وحالًا، فَيَثْبُتُ قَدَمُ العَبْدِ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ يَرْقى مِنهُ صاعِدًا إلى تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ، فَإنَّهُ إذا تَيَقَّنَ أنَّ الضُّرَّ والنَّفْعَ، والعَطاءَ والمَنعَ، والهُدى والضَّلالَ، والسَّعادَةَ والشَّقاءَ كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ لا بِيَدِ غَيْرِهِ، وأنَّهُ الَّذِي يُقَلِّبُ القُلُوبَ، ويُصَرِّفُها كَيْفَ يَشاءُ، وأنَّهُ لا مُوَفَّقَ إلّا مَن وفَّقَهُ وأعانَهُ، ولا مَخْذُولَ إلّا مَن خَذَلَهُ وأهانَهُ وتَخَلّى عَنْهُ، وأنَّ أصَحَّ القُلُوبِ وأسْلَمَها وأقْوَمَها، وأرَقَّها وأصْفاها، وأشَدَّها وألْيَنَها مَنِ اتَّخَذَهُ وحْدَهُ إلَهًا ومَعْبُودًا، فَكانَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن كُلِّ ما سِواهُ، وأخْوَفَ عِنْدَهُ مِن كُلِّ ما سِواهُ، وأرْجى لَهُ مِن كُلِّ ما سِواهُ، فَتَتَقَدَّمُ مَحَبَّتُهُ في قَلْبِهِ جَمِيعَ المَحابِّ، فَتَنْساقُ المَحابُّ تَبَعًا لَها كَما يَنْساقُ الجَيْشُ تَبَعًا لِلسُّلْطانِ، ويَتَقَدَّمُ خَوْفُهُ في قَلْبِهِ جَمِيعَ المُخَوِّفاتِ، فَتَنْساقُ المَخاوِفُ كُلُّها تَبَعًا لِخَوْفِهِ، ويَتَقَدَّمُ رَجاؤُهُ في قَلْبِهِ جَمِيعَ الرَّجاءِ، فَيَنْساقُ كُلُّ رَجاءٍ تَبَعًا لِرَجائِهِ.
فَهَذا عَلامَةُ تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ في هَذا القَلْبِ، والبابُ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِ مِنهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، أيْ بابُ تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ هو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.
* [فصل: في أنه لا سعادة للقلب، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه]
معلوم أن كل حَيّ سوى الله سبحانه: من ملك أو إنس أو جن أو حيوان، فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بد له من أمرين: أحدهما معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه، والثاني: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران، أحدهما: مكروه بغيض ضار، والثاني: معين دافع له عنه، فهذه أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.
فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذي يراد وجهه، ويُبتغى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه، والتعلق به: هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه.
فهو المعبود المحبوب المراد. وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أعُوذ بِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ، وأعُوذُ بِمُعافاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ بِكَ مِنكَ" وقال: "اللهُمَّ إنِّي أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، ووَجَّهْتُ وجْهِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وألْجأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأ ولا مَنجى مِنكَ إلا إلَيْكَ".
فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله، أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته.
فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك كله له، والخير كله في يديه، لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه.
ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله:
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب.
فالأول: من معنى ألوهيته، والثاني: من معنى ربوبيته، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب: محبة، وإنابة، وإجلالا، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا ورجاء، وتوكلا. والرب تعالى هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله:
﴿فاعْبُدْهُ وتَوَكّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ١٢٣] وقوله عن نبيه شعيب
﴿وَما تَوْفِيقِي إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: ٨٨] وقوله
﴿وَتَوَكّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بحمدِهِ﴾ [الفرقان: ٥٨] وقوله:
﴿وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتيلًا رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إلهَ إلا هو فاتَّخِذْهُ وكِيلًا﴾ [المزمل: ٨-٩] وقوله
﴿قُلْ هو رَبّي لاَ إلهَ إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ﴾ [الرعد: ٣٠] وقوله عن الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه لسلام
﴿رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنا وإلَيْكَ أنَبْنا وإلَيْكَ المصِيُر﴾ [الممتحنة: ٤].
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيي التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما ألبتة.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئا خيرًا لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة. ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.
وقد جمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي والإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".
فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه.
ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا. ويفتن في الدين قال: "فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة".
ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلمًا لغيره، مرشدا له قال:
"واجْعَلْنا هُداةً مهتدينَ".
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما في المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى".
ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير في المشهد والمغيب، سأله خشيته في الغيب والشهادة.
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضًا رضاه في الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق في الغضب والرضى. ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق.
ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده. ففى الغنى يبسط يده، وفي الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد في الحالين، وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير.
ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما في قوله "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".
ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمانِ".
ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.
والمقصود: أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وأطيب ما في الآخرة.
فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم. ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال
ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر، وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام في كتبهم، فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"، ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن في ذلك أعظم لذة العبد وسعادته ونعيمه، فليس في الكائنات شيء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى:
﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.
الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في حال، وبهذا في حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته. وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت وفي كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما في مقالات من بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشأن، والله المستعان، وعليه التكلان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هي من لوازم هذه النشأة.
فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى:
﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لمِا في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيٌر مِمّا يجمعُونَ﴾ [يونس: ٥٧-٥٨].
قال أبو سعيد الخدري "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف "بالإسلام الذي هداكم إليه. وبالقرآن الذي علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".
والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال:
﴿وَكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ [الشورى: ٥٢].
والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.
فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفا في القرآن كقوله:
﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] وقوله:
﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [الأنعام: ١٥٢].
قيل: نعم، إنما جاء ذلك في جانب النفي، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو ذلك.
الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفي حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبيّ عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين ألبتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى في حق الكفار:
﴿كَلاَّ إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ ثُم إنَّهم لَصالُوا الجحِيمِ﴾ [المطففين: ١٥-١٦].
فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة. ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة فقال في حق الأبرار:
﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين: ٢٢،: ٢٣].
ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون.
﴿ثُمَّ إنّهم لَصالُوا الجحِيمِ﴾ [المطففين: ١٦].
وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار في أعدائهم في الدنيا وسخروا به منهم، بضده في القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم:
﴿وَإذا رَأوْهم قالُوا إنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ [المطففين: ٣٢] فقال تعالى:
﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٣٤] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم، ثم قال: فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه. والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم:
﴿إنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ [المطففين: ٣٢].
فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق، ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك، خصوصا أو عموما.
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة. فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم.
الوجه الخامس: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله، قال الله تعالى:
﴿ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وهو العَزِيزُ الَحْكِيمُ﴾ [فاطر: ٢] وقال تعالى:
﴿وَإنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلا هو وإنْ يُردْكَ بِخَيْر فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وهو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: ١٠٧] وقال تعالى:
﴿إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالبَ لَكم وإنْ يَخْذُلْكم فَمَن ذا الَّذِي يَنْصُرُكم مِن بَعْدِهِ﴾ [آل عمران:١٦٠]. وقال تعالى عن صاحب يس:
﴿أأتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِِّ عَنى شَفاعَتُهم شَيْئًا ولا يُنْقِذُونِ﴾ [يس: ٢٣] وقال تعالى:
﴿يا أيها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكم هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ لا إلَهَ إلا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: ٣] وقال تعالى:
﴿أمَّنْ هذا الّذِي هو جُنْدٌ لَكم يَنْصُرُكم مِن دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الكافِرُونَ إلاَّ في غُرُورٍ أمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكم إنْ أمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا في عُتُوٍّ ونُفُورٍ﴾ [الملك: ٢٠-٢١].
فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب له منافعه برزقه، فلا بد له من ناصر ورازق. والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين. ومن كمال فطنة العبد ومعرفته: أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه. ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه:
"أدْرِكْ لِى لَطِيفَ الفِطْنَةِ، وخَفِي اللُّطْفِ، فَإنِّي أُحِبُّ ذلِكَ. قالَ: يا رب وما لَطِيفُ الفِطْنَةِ؟ قالَ: إنْ وقَعَتْ عَلَيْكَ ذُبابَةٌ فاعْلَمْ أنِّي أنا أوْقَعْتُها فاسْألْنِي أرْفَعْها. قالَ: وما خَفِيُّ اللُّطْفِ؟ قالَ: إذا أتَتْكَ حَبَّةٌ فاعْلَمْ أنِّي أنا ذَكَرْتُكَ بِها" وقد قال تعالى عن السحرة:
﴿وَما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلا بإذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: ١٠٢].
فهو سبحانه وحده الذي يكفي عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله تعالى في بعض كتبه:
"بِعِزَّتى، إنّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِى، فَإنْ كادَتْهُ السَّمواتُ بِمَن فِيهِنَّ، والأرَضُونَ بِمَن فِيهِنَّ، فَإنِّي أجْعَلُ لَهُ مِن ذلِكَ مَخْرَجًا، ومَن لَمْ يَعْتَصِمْ بِى، فَإنِّي أقْطَعُ يَدَيْهِ مِن أسْبابِ السَّماءِ وأخْسِفُ بِهِ مِن تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأرْضَ، فَأجْعَلُهُ في الهَواءِ، ثُمَّ أكِلُهُ إلى نَفْسِهِ، كَفِّى لِعَبْدِي مَلأى، إذا كانَ عَبْدِي في طاعَتِي أعْطِيِه قَبْلَ أنْ يَسْألَنى، وأسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِي، فإنِّي أعْلَمُ بِحاجَتِهِ الَّتى تَرْفُقُ بِهِ مِنهُ".
قال أحمد: وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثنى حديثا أحفظه عنك في مقامى هذا وأوجز، قال نعم:
"أوْحى اللهُ تَبارَكَ وتَعالى إلى داوُدَ: يا داوُدُ، أما وعِزَّتِي وعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ بِي عَبْدٌ مِن عَبِيدِي دُونَ خَلْقِي - أعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيتهِ - فَتَكِيدُهُ السَّمواتُ السَّبْعُ ومَن فِيهِنَّ، والأرَضُونَ السَّبْعُ ومَن فِيهِنَّ إلا جَعَلْتُ لَهُ مِن بَيْنِهنَّ مَخْرَجا؛ أما وعِزَّتِي وعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِن عِبادِي بِمَخْلُوقٍ دُونى - أعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيَّتِهَ - إلا قَطَعْتُ أسبابَ السَّماءِ مِن يدِه، وأسَخْتُ الأرْضَ مِن تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُم لا أُبالِى بِأيِّ وادٍ هَلَكَ".
وهذا الوجه أظهر للعامة من الذي قبله. ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول. وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده
بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضي التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضا: محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول.
ونظير ذلك: من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه، ويشتاق إليه، وفي نحو ذلك قال القائل:
جَزى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإنَّه ∗∗∗ أرانا عَلى عِلاتِهِ أمَّ ثابِتِ
أرانا مَصُوناتِ اْلحِجابِ، ولَمْ نَكُنْ ∗∗∗ نَراهنَّ إلا عِنْدَ نَعْتِ النَّواعِتِ
الوجه السادس: أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب، فلا بد أن يسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه، إما في الدنيا وإما في الآخرة، والغالب أنه يعذب به في الدارين، قال تعالى:
﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفقُونَها في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهم وجُنُوبُهم وظُهُورُهم هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٤-٣٥].
وقال تعالى:
﴿فَلا تُعْجِبْكَ أمْوالُهم ولا أوْلادُهم إنّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهم بِها في الحَياةِ الدُّنْيا وتَزْهَقَ أنْفُسُهم وهُم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥].
الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمله منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها، ويذم من حيث قدر أن يحمد، وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب، قال تعالى:
﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزا كَلا سيَكْفُرُونَ بِعِبادَتهِمْ ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا﴾ [مريم: ٨١-٨٢] وقال تعالى:
﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهم يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهم وهم لَهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٧٤-٧٥].
أي يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَل عليهم. وقال تعالى:
﴿وَما ظَلَمْناهم ولِكنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَما أغْنَتْ عَنْهم آلِهَتُهُمُ الّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لَمّا جاءَ أمْرُ رَبِّكَ وما زادُوهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ [هود: ١٠١]. أي غير تخسير، وقال تعالى:
﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٣]وقال تعالى:
﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢].
فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخذلان والذم.
والمقصود: أن هذين الوجهين في المخلوق وضدهما في الخالق سبحانه. فصلاح القلب
وسعادته وفلاحه في عبادة الله تعالى والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به.
الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:
﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ منْهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ إنّ اللهَ هو الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٦-٥٨]وقال تعالى:
﴿وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في الملْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولِى مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: ١١١].
فهو سبحانه لا يوالي من يواليه من الذل، كما يوالي المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم. وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل:
﴿واللهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [محمد: ٣٨].
الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذي بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك.
الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك، وخوفك بغيره؟ وجماع هذا أن تعلم:
"أنَّ الَخلْقَ كُلّهم لَوِ اجْتَمَعُوا عَلى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعالى لَكَ، ولَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهم عَلى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعالى عَلَيْكَ" قال تعالى:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هو مَولانا وعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١].