الباحث القرآني

الفَصْلُ الخامِسُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وفِيهِ فَوائِدُ الفائِدَةُ الأُولى: العِبادَةُ عِبارَةٌ عَنِ الفِعْلِ الَّذِي يُؤْتى بِهِ لِغَرَضِ تَعْظِيمِ الغَيْرِ، وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أيْ مُذَلَّلٌ واعْلَمْ أنَّ قَوْلَكَ إيّاكَ نَعْبُدُ مَعْناهُ لا أعْبُدُ أحَدًا سِواكَ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى هَذا الحَصْرِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ العِبادَةَ عِبارَةٌ عَنْ نِهايَةِ التَّعْظِيمِ، وهي لا تَلِيقُ إلّا بِمَن صَدَرَ عَنْهُ غايَةُ الإنْعامِ، وأعْظَمُ وُجُوهِ الإنْعامِ الحَياةُ الَّتِي تُفِيدُ المُكْنَةَ مِنَ الِانْتِفاعِ، وخَلْقُ المُنْتَفِعِ بِهِ، فالمَرْتَبَةُ الأُولى - وهي الحَياةُ الَّتِي تُفِيدُ المُكْنَةَ مِنَ الِانْتِفاعِ - وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: ٩] وقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٨] والمَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ - وهي خَلْقُ المُنْتَفِعِ بِهِ - وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] ولَمّا كانَتِ المَصالِحُ الحاصِلَةُ في هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ إنَّما تَنْتَظِمُ بِالحَرَكاتِ الفَلَكِيَّةِ عَلى سَبِيلِ إجْراءِ العادَةِ لا جَرَمَ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ كُلَّ النِّعَمِ حاصِلٌ بِإيجادِ اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ أنْ لا تُحْسِنَ العِبادَةَ إلّا لِلَّهِ تَعالى، فَلِهَذا المَعْنى قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ، فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ. الوَجْهُ الثّانِي: في دَلائِلِ هَذا الحَصْرِ والتَّعْيِينِ: وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى سَمّى نَفْسَهُ هَهُنا بِخَمْسَةِ أسْماءٍ: اللَّهُ، والرَّبُّ، والرَّحْمَنُ، والرَّحِيمُ، ومالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، ولِلْعَبْدِ أحْوالٌ ثَلاثَةٌ: الماضِي والحاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ؛ أمّا الماضِي فَقَدْ كانَ مَعْدُومًا مَحْضًا كَما قالَ تَعالى: ﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٩] وكانَ مَيِّتًا فَأحْياهُ اللَّهُ تَعالى كَما قالَ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] وكانَ جاهِلًا فَعَلَّمَهُ اللَّهُ كَما (p-١٩٧)قالَ: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ [النحل: ٧٨] والعَبْدُ إنَّما انْتَقَلَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ ومِنَ المَوْتِ إلى الحَياةِ ومِنَ العَجْزِ إلى القُدْرَةِ ومِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَدِيمًا أزَلِيًّا، فَبِقُدْرَتِهِ الأزَلِيَّةِ وعِلْمِهِ الأزَلِيِّ أحْدَثَهُ ونَقَلَهُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ فَهو إلَهٌ لِهَذا المَعْنى، وأمّا الحالُ الحاضِرَةُ لِلْعَبْدِ فَحاجَتُهُ شَدِيدَةٌ لِأنَّهُ كُلَّما كانَ مَعْدُومًا كانَ مُحْتاجًا إلى الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أمّا لَمّا دَخَلَ في الوُجُوهِ انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ أبْوابُ الحاجاتِ وحَصَلَتْ عِنْدَهُ أسْبابُ الضَّرُوراتِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: أنا إلَهٌ لِأجْلِ أنِّي أخْرَجْتُكَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ. أمّا بَعْدَ أنْ صِرْتَ مَوْجُودًا فَقَدْ كَثُرَتْ حاجاتُكَ إلَيَّ فَأنا رَبٌّ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ، وأمّا الحالُ المُسْتَقْبِلَةُ لِلْعَبْدِ فَهي حالُ ما بَعْدَ المَوْتِ والصِّفَةُ المُتَعَلِّقَةُ بِتِلْكَ الحالَةِ هي قَوْلُهُ ”﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾“، فَصارَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ الخَمْسُ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى مُتَعَلِّقَةً بِهَذِهِ الأحْوالِ الثَّلاثَةِ لِلْعَبْدِ فَظَهَرَ أنَّ جَمِيعَ مَصالِحِ العَبْدِ في الماضِي والحاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ لا يَتِمُّ ولا يَكْتَمِلُ إلّا بِاللَّهِ وفَضْلِهِ وإحْسانِهِ، فَلَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يَشْتَغِلَ العَبْدُ بِعِبادَةِ شَيْءٍ إلّا بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَلا جَرَمَ قالَ العَبْدُ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ عَلى سَبِيلِ الحَصْرِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: في دَلِيلِ هَذا الحَصْرِ، وهو أنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى وُجُوبِ كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عالِمًا مُحْسِنًا جَوادًا كَرِيمًا حَلِيمًا، وأمّا كَوْنُ غَيْرِهِ كَذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ؛ لِأنَّهُ لا أثَرَ يُضافُ إلى الطَّبْعِ والفَلَكِ والكَواكِبِ والعَقْلِ والنَّفْسِ إلّا ويُحْتَمَلُ إضافَتُهُ إلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، ومَعَ هَذا الِاحْتِمالِ صارَ ذَلِكَ الِانْتِسابُ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَثَبَتَ أنَّ العِلْمَ بِكَوْنِ الإلَهِ تَعالى مَعْبُودًا لِلْخَلْقِ أمْرٌ يَقِينِيٌّ، وأمّا كَوْنُ غَيْرِهِ مَعْبُودًا لِلْخَلْقِ فَهو أمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، والأخْذُ بِاليَقِينِ أوْلى مِنَ الأخْذِ بِالشَّكِّ، فَوَجَبَ طَرْحُ المَشْكُوكِ والأخْذُ بِالمَعْلُومِ وعَلى هَذا لا مَعْبُودَ إلّا اللَّهُ تَعالى فَلِهَذا المَعْنى قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ العُبُودِيَّةَ ذِلَّةٌ ومَهانَةٌ إلّا أنَّهُ كُلَّما كانَ المَوْلى أشْرَفَ وأعْلى كانَتِ العُبُودِيَّةُ بِهِ أهْنَأ وأمْرَأ ولَمّا كانَ اللَّهُ تَعالى أشْرَفَ المَوْجُوداتِ وأعْلاها فَكانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أوْلى مِن عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ، وأيْضًا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعالى أعْلى مِن قُدْرَةِ غَيْرِهِ، وعِلْمُهُ أكْمَلُ مِن عِلْمِ غَيْرِهِ، وجُودُهُ أفْضَلُ مِن جُودِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ عُبُودِيَّتَهُ أوْلى مِن عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ كُلَّ ما سِوى الواجِبِ لِذاتِهِ يَكُونُ مُمْكِنًا لِذاتِهِ وكُلَّ ما كانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ كانَ مُحْتاجًا فَقِيرًا والمُحْتاجُ مَشْغُولٌ بِحاجَةِ نَفْسِهِ فَلا يُمْكِنُهُ القِيامُ بِدَفْعِ الحاجَةِ عَنِ الغَيْرِ، والشَّيْءُ ما لَمْ يَكُنْ في ذاتِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلى دَفْعِ الحاجَةِ عَنْ غَيْرِهِ، والغَنِيُّ لِذاتِهِ هو اللَّهُ تَعالى، فَدافِعُ الحاجاتِ هو اللَّهُ تَعالى، فَمُسْتَحِقُّ العِباداتِ هو اللَّهُ تَعالى، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ. الوَجْهُ السّادِسُ: اسْتِحْقاقُ العِبادَةِ يَسْتَدْعِي قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى بِأنْ يُمْسِكَ سَماءً بِلا عَلاقَةٍ، وأرْضًا بِلا دِعامَةٍ، ويُسَيِّرُ الشَّمْسَ والقَمَرَ، ويُسَكِّنُ القُطْبَيْنِ، ويُخْرِجُ مِنَ السَّحابِ تارَةً النّارَ وهو البَرْقُ، وتارَةً الهَواءَ وهي الرِّيحُ، وتارَةً الماءَ وهو المَطَرُ، وأمّا في الأرْضِ فَتارَةً يُخْرِجُ الماءَ مِنَ الحَجَرِ وهو ظاهِرٌ، وتارَةً يُخْرِجُ الحَجَرَ مِنَ الماءِ وهو الجَمْدُ، ثُمَّ جَعَلَ في الأرْضِ أجْسامًا مُقِيمَةً لا تُسافِرُ وهي الجِبالُ؛ وأجْسامًا مُسافِرَةً لا تُقِيمُ وهي الأنْهارُ، وخَسَفَ بِقارُونَ فَجَعَلَ الأرْضَ فَوْقَهُ، ورَفَعَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَجُعِلَ قابَ قَوْسَيْنِ تَحْتَهُ، وجَعَلَ الماءَ نارًا عَلى قَوْمِ فِرْعَوْنَ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا، وجَعَلَ النّارَ بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ، ورَفَعَ مُوسى فَوْقَ الطُّورِ، وقالَ لَهُ ”اخْلَعْ نَعْلَيْكَ“ ورَفَعَ الطُّورَ عَلى مُوسى وقَوْمِهِ ﴿ورَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ (p-١٩٨)[النساء: ١٥٤] وغَرَّقَ الدُّنْيا مِنَ التَّنُّورِ اليابِسَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿وفارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: ٤٠] وجَعَلَ البَحْرَ يَبَسًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَمَن كانَتْ قُدْرَتُهُ هَكَذا كَيْفَ يُسَوّى في العِبادَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الجَماداتِ أوِ النَّباتِ أوِ الحَيَوانِ أوِ الإنْسانِ أوِ الفَلَكِ أوِ المَلِكِ، فَإنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ النّاقِصِ والكامِلِ والخَسِيسِ والنَّفِيسِ تَدُلُّ عَلى الجَهْلِ والسَّفَهِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا مَعْبُودَ إلّا اللَّهُ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يَدُلُّ عَلى التَّوْحِيدِ المَحْضِ. واعْلَمْ أنَّ المُشْرِكِينَ طَوائِفُ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ مَنِ اتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ، فَذَلِكَ الشَّرِيكُ إمّا أنْ يَكُونَ جِسْمًا وإمّا أنْ لا يَكُونَ، أمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا شَرِيكًا جُسْمانِيًّا فَذَلِكَ الشَّرِيكُ إمّا أنْ يَكُونَ مِنَ الأجْسامِ السُّفْلِيَّةِ أوْ مِنَ الأجْسامِ العُلْوِيَّةِ، أمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الأجْسامِ السُّفْلِيَّةِ فَذَلِكَ الجِسْمُ إمّا أنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا أوْ بَسِيطًا، أمّا المُرَكَّبُ فَإمّا أنْ يَكُونَ مِنَ المَعادِنِ أوْ مِنَ النَّباتِ أوْ مِنَ الحَيَوانِ أوْ مِنَ الإنْسانِ، أمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الأجْسامِ المَعْدِنِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الأصْنامَ إمّا مِنَ الأحْجارِ أوْ مِنَ الذَّهَبِ أوْ مِنَ الفِضَّةِ ويَعْبُدُونَها، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الأجْسامِ النَّباتِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شَجَرَةً مُعَيَّنَةً مَعْبُودًا لِأنْفُسِهِمْ، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الحَيَوانِ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ مَعْبُودًا لِأنْفُسِهِمْ، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ النّاسِ فَهُمُ الَّذِينَ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، والمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الأجْسامِ البَسِيطَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النّارَ وهُمُ المَجُوسُ، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ مِنَ الأجْسامِ العُلْوِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ والقَمَرَ وسائِرَ الكَواكِبِ ويُضِيفُونَ السَّعادَةَ والنُّحُوسَةَ إلَيْها وهُمُ الصّابِئَةُ وأكْثَرُ المُنَجِّمِينَ، وأمّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكاءَ لِلَّهِ مِن غَيْرِ الأجْسامِ فَهم أيْضًا طَوائِفُ: الطّائِفَةُ الأُولى: الَّذِينَ قالُوا: مُدَبِّرُ العالَمِ هو النُّورُ والظُّلْمَةُ، وهَؤُلاءِ هُمُ المانَوِيَّةُ والثَّنَوِيَّةُ. والطّائِفَةُ الثّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ قالُوا: المَلائِكَةُ عِبارَةٌ عَنِ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ، ولِكُلِّ إقْلِيمٍ رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، ولِكُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ هَذا العالَمِ رُوحٌ فَلَكِيٌّ يُدَبِّرُهُ، ويَتَّخِذُونَ لِتِلْكَ الأرْواحِ صُوَرًا وتَماثِيلَ ويَعْبُدُونَها، وهَؤُلاءِ عَبَدَةُ المَلائِكَةِ. والطّائِفَةُ الثّالِثَةُ: الَّذِينَ قالُوا لِلْعالَمِ إلَهانِ: أحَدُهُما خَيْرٌ، والآخَرُ شَرٌّ، وقالُوا: مُدَبِّرُ هَذا العالَمِ هو اللَّهُ تَعالى وإبْلِيسُ وهُما أخَوانِ، فَكُلُّ ما في العالَمِ مِنَ الخَيْراتِ فَهو مِنَ اللَّهِ، وكُلُّ ما فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَهو مِن إبْلِيسَ. إذا عَرَفْتَ هَذِهِ التَّفاصِيلَ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلى عِبادَةِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ؛ إمّا طَلَبًا لِنَفْعِهِ أوْ هَرَبًا مِن ضَرَرِهِ، وأمّا الَّذِينَ أصَرُّوا عَلى التَّوْحِيدِ وأبْطَلُوا القَوْلَ بِالشُّرَكاءِ والأضْدادِ ولَمْ يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلى غَيْرِ اللَّهِ فَكانَ رَجاؤُهم مِنَ اللَّهِ وخَوْفُهم مِنَ اللَّهِ ورَغْبَتُهم في اللَّهِ ورَهْبَتُهم مِنَ اللَّهِ فَلا جَرَمَ لَمْ يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ ولَمْ يَسْتَعِينُوا إلّا بِاللَّهِ؛ فَلِهَذا قالُوا إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، فَكانَ قَوْلُهُ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ قائِمًا مُقامَ قَوْلِهِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. واعْلَمْ أنَّ الذِّكْرَ المَشْهُورَ هو أنْ تَقُولَ سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ قَوْلَنا الحَمْدُ لِلَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْنى قَوْلِنا سُبْحانَ اللَّهِ لِأنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ كامِلًا تامًّا في ذاتِهِ، وقَوْلَهُ الحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا مُتَمِّمًا لِغَيْرِهِ، والشَّيْءُ لا يَكُونُ مُكَمِّلًا مُتَمِّمًا لِغَيْرِهِ إلّا إذا كانَ قَبْلَ ذَلِكَ تامًّا كامِلًا في ذاتِهِ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَنا الحَمْدُ لِلَّهِ دَخَلَ فِيهِ مَعْنى قَوْلِنا (p-١٩٩)سُبْحانَ اللَّهِ، ولَمّا قالَ الحَمْدُ لِلَّهِ فَأثْبَتَ جَمِيعَ أنْواعِ الحَمْدِ ذَكَرَ ما يَجْرِي مَجْرى العِلَّةِ لِإثْباتِ جَمِيعِ أنْواعِ الحَمْدِ لِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِالصِّفاتِ الخَمْسِ وهي الَّتِي لِأجْلِها تَتِمُّ مَصالِحُ العَبْدِ في الأوْقاتِ الثَّلاثَةِ عَلى ما بَيَّناهُ، ولَمّا بَيَّنَ ذَلِكَ ثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِنا سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَوْلَهُ إيّاكَ نَعْبُدُ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّهُ قائِمٌ مُقامَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، ومَعْناهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلى وأجَلُّ وأكْبَرُ مِن أنْ يَتِمَّ مَقْصُودٌ مِنَ المَقاصِدِ وغَرَضٌ مِنَ الأغْراضِ إلّا بِإعانَتِهِ وتَوْفِيقِهِ وإحْسانِهِ، وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِنا ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، فَثَبَتَ أنَّ سُورَةَ الفاتِحَةِ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها مُنْطَبِقَةٌ عَلى ذَلِكَ الذِّكْرِ، وآياتُ هَذِهِ السُّورَةِ جارِيَةٌ مَجْرى الشَّرْحِ والتَّفْصِيلِ لِلْمَراتِبِ الخَمْسِ المَذْكُورَةِ في ذَلِكَ الذِّكْرِ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: قالَ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ إيّاكَ عَلى قَوْلِهِ نَعْبُدُ ولَمْ يَقُلْ نَعْبُدُكَ، وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى قَدَّمَ ذِكْرَ نَفْسِهِ لِيَتَنَبَّهُ العابِدُ عَلى أنَّ المَعْبُودَ هو اللَّهُ الحَقُّ، فَلا يَتَكاسَلُ في التَّعْظِيمِ ولا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وشِمالًا؛ يُحْكى أنَّ واحِدًا مِنَ المُصارِعِينَ الأُسْتاذِينَ صارَعَ رُسْتاقِيًّا جِلْفًا فَصَرَعَ الرُّسْتاقِيُّ ذَلِكَ الأُسْتاذَ مِرارًا فَقِيلَ لِلرُّسْتاقِيِّ: إنَّهُ فُلانٌ الأُسْتاذُ، فانْصَرَعَ في الحالِ مِنهُ، وما ذاكَ إلّا لِاحْتِشامِهِ مِنهُ، فَكَذا هَهُنا: عَرَّفَهُ ذاتَهُ أوَّلًا حَتّى تَحْصُلَ العِبادَةُ مَعَ الحِشْمَةِ فَلا تَمْتَزِجَ بِالغَفْلَةِ. وثانِيها: أنَّهُ إنْ ثَقُلَتْ عَلَيْكَ الطّاعاتُ وصَعُبَتْ عَلَيْكَ العِباداتُ مِنَ القِيامِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ فاذْكُرْ أوَّلًا قَوْلَهُ إيّاكَ نَعْبُدُ لِتَذْكُرَنِي وتَحْضُرَ في قَلْبِكَ مَعْرِفَتِي، فَإذا ذَكَرْتَ جَلالِي وعَظَمَتِي وعِزَّتِي وعَلِمْتَ أنِّي مَوْلاكَ وأنَّكَ عَبْدِي سَهَّلْتُ عَلَيْكَ تِلْكَ العِباداتِ، ومِثالُهُ أنَّ مَن أرادَ حَمْلَ الجِسْمِ الثَّقِيلِ تَناوَلَ قَبْلَ ذَلِكَ ما يَزِيدُهُ قُوَّةً وشِدَّةً، فالعَبْدُ لَمّا أرادَ حَمْلَ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَناوَلَ أوَّلًا مَعْجُونَ مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مِن بُسْتُوقَةِ قَوْلِهِ إيّاكَ حَتّى يَقْوى عَلى حَمْلِ ثِقَلِ العُبُودِيَّةِ، ومِثالٌ آخَرُ وهو أنَّ العاشِقَ الَّذِي يُضْرَبُ لِأجْلِ مَعْشُوقِهِ في حَضْرَةِ مَعْشُوقِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الضَّرْبُ، فَكَذا هَهُنا: إذا شاهَدَ جَمالَ إيّاكَ سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ ثِقَلِ العُبُودِيَّةِ. وثالِثُها: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١] فالنَّفْسُ إذا مَسَّها طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ مِنَ الكَسَلِ والغَفْلَةِ والبِطالَةِ تَذَكَّرُوا حَضْرَةَ جَلالِ اللَّهِ مِن مَشْرِقِ قَوْلِهِ إيّاكَ نَعْبُدُ فَيَصِيرُونَ مُبْصِرِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِأداءِ العِباداتِ والطّاعاتِ. ورابِعُها: أنَّكَ إذا قُلْتَ نَعْبُدُكَ فَبَدَأْتَ أوَّلًا بِذِكْرِ عِبادَةِ نَفْسِكَ ولَمْ تَذْكُرْ أنَّ تِلْكَ العِبادَةَ لِمَن، فَيُحْتَمَلُ أنْ إبْلِيسَ يَقُولُ هَذِهِ العِبادَةُ لِلْأصْنامِ أوْ لِلْأجْسامِ أوْ لِلشَّمْسِ أوِ القَمَرِ، أمّا إذا غَيَّرْتَ هَذا التَّرْتِيبَ وقُلْتَ أوَّلًا إيّاكَ ثُمَّ قُلْتَ ثانِيًا نَعْبُدُ كانَ قَوْلُكَ أوَّلًا إيّاكَ صَرِيحًا بِأنَّ المَقْصُودَ والمَعْبُودَ هو اللَّهُ تَعالى، فَكانَ هَذا أبْلَغَ في التَّوْحِيدِ وأبْعَدَ عَنِ احْتِمالِ الشِّرْكِ. وخامِسُها: وهو أنَّ القَدِيمَ الواجِبَ لِذاتِهِ مُتَقَدِّمٌ في الوُجُودِ عَلى المُحْدَثِ المُمْكِنِ لِذاتِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ مُتَقَدِّمًا عَلى جَمِيعِ الأذْكارِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمَ قَوْلَهُ إيّاكَ عَلى قَوْلِهِ نَعْبُدُ لِيَكُونَ ذِكْرُ الحَقِّ مُتَقَدِّمًا عَلى ذِكْرِ الخَلْقِ. وسادِسُها: قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: مَن كانَ نَظَرُهُ في وقْتِ النِّعْمَةِ إلى المُنْعِمِ لا إلى النِّعْمَةِ كانَ نَظَرُهُ في وقْتِ البَلاءِ إلى المُبْتَلِي لا إلى البَلاءِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ غَرِقًا في كُلِّ الأحْوالِ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ سُبْحانَهُ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ كانَ أبَدًا في أعْلى مَراتِبِ السِّعاداتِ، أمّا مَن كانَ نَظَرُهُ في وقْتِ النِّعْمَةِ إلى النِّعْمَةِ لا إلى المُنْعِمِ كانَ نَظَرُهُ في وقْتِ البَلاءِ إلى البَلاءِ لا إلى المُبْتَلِي فَكانَ غَرِقًا في كُلِّ الأوْقاتِ في الِاشْتِغالِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَكانَ أبَدًا في الشَّقاوَةِ، لِأنَّ في وقْتِ وِجْدانِ النِّعْمَةَ يَكُونُ خائِفًا مِن زَوالِها فَكانَ في العَذابِ، وفي وقْتِ فَواتِ النِّعْمَةِ كانَ مُبْتَلًى بِالخِزْيِ والنَّكالِ فَكانَ في مَحْضِ السَّلاسِلِ والأغْلالِ، ولِهَذا التَّحْقِيقِ قالَ لِأُمَّةِ مُوسى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ، وقالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: اذْكُرُونِي أذْكُرْكم، (p-٢٠٠)إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّما قَدَّمَ قَوْلَهُ إيّاكَ عَلى قَوْلِهِ نَعْبُدُ لِيَكُونَ مُسْتَغْرِقًا في مُشاهَدَةِ نُورِ جَلالِ إيّاكَ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ في وقْتِ أداءِ العِبادَةِ مُسْتَقِرًّا في عَيْنِ الفِرْدَوْسِ، كَما قالَ تَعالى: ”«لا يَزالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وبَصَرًا» “ . وسابِعُها: لَوْ قِيلَ نَعْبُدُكَ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ عِبادَتِهِمْ لِغَيْرِهِ، لِأنَّهُ لا امْتِناعَ في أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ ويَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ كَما هو دَأْبُ المُشْرِكِينَ، أمّا لَمّا قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ أفادَ أنَّهم يَعْبُدُونَهُ ولا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ. وثامِنُها: أنَّ هَذِهِ النُّونَ نُونُ العَظَمَةِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ مَتّى كَنْتَ خارِجَ الصَّلاةِ فَلا تَقُلْ نَحْنُ ولَوْ كُنْتَ في ألْفِ ألْفٍ مِنَ العَبِيدِ، أمّا لَمّا اشْتَغَلْتَ بِالصَّلاةِ وأظْهَرْتَ العُبُودِيَّةَ لَنا فَقُلْ نَعْبُدُ لِيَظْهَرَ لِلْكُلِّ أنَّ كُلَّ مَن كانَ عَبْدًا لَنا كانَ مَلِكَ الدُّنْيا والآخِرَةِ. وتاسِعُها: لَوْ قالَ إيّاكَ أعْبُدُ لَكانَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا ومَعْناهُ أنِّي أنا العابِدُ، أمّا لَمّا قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ كانَ مَعْناهُ أنِّي واحِدٌ مِن عَبِيدِكَ، فالأوَّلُ تَكَبُّرٌ، والثّانِي تَواضُعٌ، ومَن تَواضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ ومَن تَكَبَّرَ وضَعَهُ اللَّهُ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: جَمِيعُ ما ذَكَرْتُمْ قائِمٌ في قَوْلِهِ الحَمْدُ لِلَّهِ مَعَ أنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الحَمْدِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ. فالجَوابُ أنَّ قَوْلَهُ الحَمْدُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ ولِغَيْرِ اللَّهِ، فَإذا قُلْتَ لِلَّهِ فَقَدْ تَقَيَّدَ الحَمْدُ بِأنْ يَكُونَ لِلَّهِ، أمّا لَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ ”نَعْبُدُ“ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ وذَلِكَ كُفْرٌ؛ والنُّكْتَةُ أنَّ الحَمْدَ لَمّا جازَ لِغَيْرِ اللَّهِ في ظاهِرِ الأمْرِ كَما جازَ لِلَّهِ، لا جَرَمَ حَسُنَ تَقَدُّمُ الحَمْدِ أمّا هَهُنا فالعِبادَةُ لَمّا لَمْ تَجُزْ لِغَيْرِ اللَّهِ لا جَرَمَ قَدَّمَ قَوْلَهُ إيّاكَ عَلى نَعْبُدُ، فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ لِلْعِبادَةِ فَلا يَبْقى في الكَلامِ احْتِمالُ أنْ تَقَعَ العِبادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ. الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: النُّونُ في قَوْلِهِ نَعْبُدُ إمّا أنْ تَكُونَ نُونَ الجَمْعِ أوْ نُونَ التَّعْظِيمِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الشَّخْصَ الواحِدَ لا يَكُونُ جَمْعًا، والثّانِي باطِلٌ لِأنَّ عِنْدَ أداءِ العِبادَةِ فاللّائِقُ بِالإنْسانِ أنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ بِالعَجْزِ والذِّلَّةِ لا بِالعَظَمَةِ والرِّفْعَةِ. واعْلَمْ أنَّهُ يُمْكِنُ الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ، كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الوُجُوهِ يَدُلُّ عَلى حِكْمَةٍ بالِغَةٍ: فالوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ النُّونِ نُونُ الجَمْعِ وهو تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الأوْلى بِالإنْسانِ أنْ يُؤَدِّيَ الصَّلاةَ بِالجَماعَةِ، واعْلَمْ أنَّ فائِدَةَ الصَّلاةِ بِالجَماعَةِ مَعْلُومَةٌ في مَوْضِعِها ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«التَّكْبِيرَةُ الأُولى في صَلاةِ الجَماعَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها» “، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ الإنْسانَ لَوْ أكَلَ الثُّومَ أوِ البَصَلَ فَلَيْسَ لَهُ أنْ يَحْضُرَ الجَماعَةَ لِئَلّا يَتَأذّى مِنهُ إنْسانٌ فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: هَذِهِ الطّاعَةُ الَّتِي لَها هَذا الثَّوابُ العَظِيمُ لا يَفِي ثَوابُها بِأنْ يَتَأذّى واحِدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ بِرائِحَةِ الثُّومِ والبَصَلِ، فَإذا كانَ هَذا الثَّوابُ لا يَفِي بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَفِي بِإيذاءِ المُسْلِمِ، وكَيْفَ يَفِي بِالنَّمِيمَةِ والغِيبَةِ والسِّعايَةِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الرَّجُلَ إذا كانَ يُصَلِّي بِالجَماعَةِ فَيَقُولُ نَعْبُدُ، والمُرادُ مِنهُ ذَلِكَ الجَمْعُ، وإنْ كانَ يُصَلِّي وحْدَهُ كانَ المُرادُ أنِّي أعْبُدُكَ والمَلائِكَةُ مَعِي في العِبادَةِ. فَكانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ نَعْبُدُ هو وجَمِيعُ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ المُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ فَلَوْ قالَ إيّاكَ أعْبُدُ لَكانَ قَدْ ذَكَرَ عِبادَةَ نَفْسِهِ ولَمْ يَذْكُرْ عِبادَةَ غَيْرِهِ، أمّا لَمّا قالَ إيّاكَ نَعْبُدُ كانَ قَدْ ذَكَرَ عِبادَةَ نَفْسِهِ وعِبادَةَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ شَرْقًا وغَرْبًا فَكَأنَّهُ سَعى في إصْلاحِ مُهِمّاتِ سائِرِ المُؤْمِنِينَ، وإذا فَعَلَ ذَلِكَ قَضى اللَّهُ مُهِمّاتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن قَضى لِمُسْلِمٍ حاجَةً قَضى اللَّهُ لَهُ جَمِيعَ حاجاتِهِ» “ . (p-٢٠١)الوَجْهُ الرّابِعُ: كَأنَّهُ تَعالى قالَ لِلْعَبْدِ لَمّا أثْنَيْتَ عَلَيْنا بِقَوْلِكَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وفَوَّضْتَ إلَيْنا جَمِيعَ مَحامِدِ الدُّنْيا والآخِرَةِ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَنا وتَمَكَّنَتْ مَنزِلَتُكَ في حَضْرَتِنا، فَلا تَقْتَصِرُ عَلى إصْلاحِ مُهِمّاتِكَ وحْدَكَ، ولَكِنْ أصْلِحْ حَوائِجَ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ فَقُلْ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ. الوَجْهُ الخامِسُ: كَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: إلَهِي ما بَلَغَتْ عِبادَتِي إلى حَيْثُ أسْتَحِقُّ أنْ أذْكُرَها وحْدَها؛ لِأنَّها مَمْزُوجَةٌ بِجِهاتِ التَّقْصِيرِ، ولَكِنِّي أخْلِطُها بِعِباداتِ جَمِيعِ العابِدِينَ، وأذْكُرُ الكُلَّ بِعِبارَةٍ واحِدَةٍ وأقُولُ إيّاكَ نَعْبُدُ. وهَهُنا مَسْألَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وهي أنَّ الرَّجُلَ إذا باعَ مِن غَيْرِهِ عَشَرَةً مِنَ العَبِيدِ فالمُشْتَرِي إمّا أنْ يَقْبَلَ الكُلَّ، أوْ لا يَقْبَلَ واحِدًا مِنها، ولَيْسَ لَهُ أنْ يَقْبَلَ البَعْضَ دُونَ البَعْضِ في تِلْكَ الصَّفْقَةِ فَكَذا هُنا إذا قالَ العَبْدُ إيّاكَ نَعْبُدُ فَقَدْ عَرَضَ عَلى حَضْرَةِ اللَّهِ جَمِيعَ عِباداتِ العابِدِينَ، فَلا يَلِيقُ بِكَرَمِهِ أنْ يُمَيِّزَ البَعْضَ عَنِ البَعْضِ ويَقْبَلَ البَعْضَ دُونَ البَعْضِ، فَإمّا أنْ يَرُدَّ الكُلَّ وهو غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّ قَوْلَهُ إيّاكَ نَعْبُدُ دَخَلَ فِيهِ عِباداتُ المَلائِكَةِ وعِباداتُ الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ، وإمّا أنْ يَقْبَلَ الكُلَّ، وحِينَئِذٍ تَصِيرُ عِبادَةُ هَذا القائِلِ مَقْبُولَةً بِبَرَكَةِ قَبُولِ عِبادَةِ غَيْرِهِ، والتَّقْدِيرُ كَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: إلَهِي إنْ لَمْ تَكُنْ عِبادَتِي مَقْبُولَةً فَلا تَرُدَّنِي لِأنِّي لَسْتُ بِوَحِيدٍ في هَذِهِ العِبادَةِ بَلْ نَحْنُ كَثِيرُونَ فَإنْ لَمْ أسْتَحِقَّ الإجابَةَ والقَبُولَ فَأتَشَفَّعُ إلَيْكَ بِعِباداتِ سائِرِ المُتَعَبِّدِينَ فَأجِبْنِي. الفائِدَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ مَن عَرَفَ فَوائِدَ العِبادَةِ طابَ لَهُ الِاشْتِغالُ بِها؛ وثَقُلَ عَلَيْهِ الِاشْتِغالُ بِغَيْرِها، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الكَمالَ مَحْبُوبٌ بِالذّاتِ، وأكْمَلُ أحْوالِ الإنْسانِ وأقْواها في كَوْنِها سَعادَةً اشْتِغالُهُ بِعِبادَةِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَسْتَنِيرُ قَلْبُهُ بِنُورِ الإلَهِيَّةِ، ويَتَشَرَّفُ لِسانُهُ بِشَرَفِ الذِّكْرِ والقِراءَةِ، وتَتَجَمَّلُ أعْضاؤُهُ بِجَمالِ خِدْمَةِ اللَّهِ، وهَذِهِ الأحْوالُ أشْرَفُ المَراتِبِ الإنْسانِيَّةِ والدَّرَجاتِ البَشَرِيَّةِ، فَإذا كانَ حُصُولُ هَذِهِ الأحْوالِ أعْظَمَ السَّعاداتِ الإنْسانِيَّةِ في الحالِ، وهي مُوجِبَةٌ أيْضًا لِأكْمَلِ السَّعاداتِ في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ، فَمَن وقَفَ عَلى هَذِهِ الأحْوالِ زالَ عَنْهُ ثِقَلُ الطّاعاتِ وعَظُمَتْ حَلاوَتُها في قَلْبِهِ. الثّانِي: أنَّ العِبادَةَ أمانَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٧٢] وأداءُ الأمانَةِ واجِبٌ عَقْلًا وشَرْعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨] وأداءُ الأمانَةِ صِفَةٌ مِن صِفاتِ الكَمالِ مَحْبُوبَةٌ بِالذّاتِ؛ ولِأنَّ أداءَ الأمانَةِ مِن أحَدِ الجانِبَيْنِ سَبَبٌ لِأداءِ الأمانَةِ مِنَ الجانِبِ الثّانِي، قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: رَأيْتُ أعْرابِيًّا أتى بابَ المَسْجِدِ فَنَزَلَ عَنْ ناقَتِهِ وتَرَكَها ودَخَلَ المَسْجِدَ وصَلّى بِالسَّكِينَةِ والوَقارِ ودَعا بِما شاءَ، فَتَعَجَّبْنا، فَلَمّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْ ناقَتَهُ فَقالَ: إلَهِي أدَّيْتُ أمانَتَكَ فَأيْنَ أمانَتِي ؟ قالَ الرّاوِي فَزِدْنا تَعَجُّبًا، فَلَمْ يَمْكُثْ حَتّى جاءَ رَجُلٌ عَلى ناقَتِهِ وقَدْ قُطِعَ يَدُهُ وسَلَّمَ النّاقَةَ إلَيْهِ، والنُّكْتَةُ أنَّهُ لَمّا حَفِظَ أمانَةَ اللَّهِ حَفِظَ اللَّهُ أمانَتَهُ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِابْنِ عَبّاسٍ: ”«يا غُلامُ احْفَظِ اللَّهَ في الخَلَواتِ يَحْفَظْكَ في الفَلَواتِ» “ . الثّالِثُ: أنَّ الِاشْتِغالَ بِالعِبادَةِ انْتِقالٌ مِن عالَمِ الغُرُورِ إلى عالَمِ السُّرُورِ، ومِنَ الِاشْتِغالِ بِالخَلْقِ إلى حَضْرَةِ الحَقِّ، وذَلِكَ يُوجِبُ كَمالَ اللَّذَّةِ والبَهْجَةِ. يُحْكى عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ حَيَّةً سَقَطَتْ مِنَ السَّقْفِ، وتَفَرَّقَ النّاسُ، وكانَ أبُو حَنِيفَةَ في الصَّلاةِ ولَمْ يَشْعُرْ بِها. ووَقَعَتِ الآكِلَةُ في بَعْضِ أعْضاءِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، واحْتاجُوا إلى قَطْعِ ذَلِكَ العُضْوِ، فَلَمّا شَرَعَ في الصَّلاةِ قَطَعُوا مِنهُ ذَلِكَ العُضْوَ فَلَمْ يَشْعُرْ عُرْوَةَ بِذَلِكَ القَطْعِ. وعَنْ رَسُولِ (p-٢٠٢)اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ حِينَ يَشْرَعُ في الصَّلاةِ كانُوا يَسْمَعُونَ مِن صَدْرِهِ أزِيزًا كَأزِيزِ المِرْجَلِ، ومَنِ اسْتَبْعَدَ هَذا فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ [يوسف: ٣١] فَإنَّ النِّسْوَةَ لَمّا غَلَبَ عَلى قُلُوبِهِنَّ جَمالُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وصَلَتْ تِلْكَ الغَلَبَةُ حَيْثُ قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وما شَعَرْنَ بِذَلِكَ، فَإذا جازَ هَذا في حَقِّ البَشَرِ فَلَأنْ يَجُوزَ عِنْدَ اسْتِيلاءِ عَظَمَةِ اللَّهِ عَلى القَلْبِ أوْلى، ولَأنَّ مَن دَخَلَ عَلى مَلِكٍ مَهِيبٍ فَرُبَّما مَرَّ بِهِ أبَواهُ وبَنُوهُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ولا يَعْرِفُهم لِأجْلِ أنَّ اسْتِيلاءَ هَيْبَةِ ذَلِكَ تَمْنَعُ القَلْبَ عَنِ الشُّعُورِ بِهِمْ، فَإذا جازَ هَذا في حَقِّ مَلِكٍ مَخْلُوقٍ مُجازى فَلَأنْ يَجُوزَ في حَقِّ خالِقِ العالَمِ أوْلى. ثُمَّ قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: العِبادَةُ لَها ثَلاثُ دَرَجاتٍ: الدَّرَجَةُ الأُولى: أنْ يَعْبُدَ اللَّهَ طَمَعًا في الثَّوابِ أوْ هَرَبًا مِنَ العِقابِ، وهَذا هو المُسَمّى بِالعِبادَةِ، وهَذِهِ الدَّرَجَةُ نازِلَةٌ ساقِطَةٌ جِدًّا؛ لِأنَّ مَعْبُودَهُ في الحَقِيقَةِ هو ذَلِكَ الثَّوابُ، وقَدْ جَعَلَ الحَقَّ وسِيلَةً إلى نَيْلِ المَطْلُوبِ، ومَن جَعَلَ المَطْلُوبَ بِالذّاتِ شَيْئًا مِن أحْوالِ الخَلْقِ وجَعَلَ الحَقَّ وسِيلَةً إلَيْهِ؛ فَهو خَسِيسٌ جِدًّا. والدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: أنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأجْلِ أنْ يَتَشَرَّفَ بِعِبادَتِهِ، أوْ يَتَشَرَّفَ بِقَبُولِ تَكالِيفِهِ، أوْ يَتَشَرَّفَ بِالِانْتِسابِ إلَيْهِ، وهَذِهِ الدَّرَجَةُ أعْلى مِنَ الأُولى؛ إلّا أنَّها أيْضًا لَيْسَتْ كامِلَةً؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالذّاتِ غَيْرُ اللَّهِ. والدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: أنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِكَوْنِهِ إلَهًا وخالِقًا، ولِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ، والإلَهِيَّةُ تُوجِبُ الهَيْبَةَ والعِزَّةَ، والعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الخُضُوعَ والذِّلَّةَ، وهَذا أعْلى المَقاماتِ وأشْرَفُ الدَّرَجاتِ، هَذا هو المُسَمّى بِالعُبُودِيَّةِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِ المُصَلِّي في أوَّلِ الصَّلاةِ: أُصَلِّي لِلَّهِ؛ فَإنَّهُ لَوْ قالَ أصُلِّي لِثَوابِ اللَّهِ، أوْ لِلْهَرَبِ مِن عِقابِهِ؛ فَسَدَتْ صَلاتُهُ. واعْلَمْ أنَّ العِبادَةَ والعُبُودِيَّةَ مَقامٌ عالٍ شَرِيفٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ آياتٌ: الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ سُورَةِ الحِجْرِ: ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٧] والِاسْتِدْلالُ بِها مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ قالَ: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ فَأمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالمُواظَبَةِ عَلى العِبادَةِ إلى أنْ يَأْتِيَهُ المَوْتُ، ومَعْناهُ أنَّهُ لا يَجُوزُ الإخْلالُ بِالعِبادَةِ في شَيْءٍ مِنَ الأوْقاتِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى غايَةِ جَلالَةِ أمْرِ العِبادَةِ. وثانِيهِما: أنَّهُ قالَ: ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾؛ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِأرْبَعَةِ أشْياءَ: التَّسْبِيحُ: وهو قَوْلُه فَسَبِّحْ؛ والتَّحْمِيدُ: وهو قَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ؛ والسُّجُودُ: وهو قَوْلُهُ: وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ؛ والعِبادَةُ: وهي قَوْلُهُ: واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ العِبادَةَ تُزِيلُ ضِيقَ القَلْبِ، وتُفِيدُ انْشِراحَ الصَّدْرِ، وما ذاكَ إلّا لِأنَّ العِبادَةَ تُوجِبُ الرُّجُوعَ مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، وذَلِكَ يُوجِبُ زَوالَ ضِيقِ القَلْبِ. الآيَةُ الثّانِيَةُ في شَرَفِ العُبُودِيَّةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] ولَوْلا أنَّ العُبُودِيَّةَ أشْرَفُ المَقاماتِ، وإلّا لَما وصَفَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ في أعْلى مَقاماتِ المِعْراجِ، ومِنهم مَن قالَ: العُبُودِيَّةُ أشْرَفُ مِنَ الرِّسالَةِ؛ لِأنَّ بِالعُبُودِيَّةِ يَنْصَرِفُ مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، وبِالرِّسالَةِ يَنْصَرِفُ مِنَ الحَقِّ إلى الخَلْقِ، وأيْضًا بِسَبَبِ العُبُودِيَّةِ يَنْعَزِلُ عَنِ التَّصَرُّفاتِ، وبِسَبَبِ الرِّسالَةِ يُقْبِلُ عَلى التَّصَرُّفاتِ، واللّائِقُ بِالعَبْدِ الِانْعِزالُ عَنِ التَّصَرُّفاتِ، وأيْضًا العَبْدُ يَتَكَفَّلُ المَوْلى بِإصْلاحِ مُهِمّاتِهِ، والرَّسُولُ هو المُتَكَفِّلُ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِ الأُمَّةِ، وشَتّانَ ما بَيْنَهُما. (p-٢٠٣)الآيَةُ الثّالِثَةُ في شَرَفِ العُبُودِيَّةِ: أنَّ عِيسى أوَّلَ ما نَطَقَ قالَ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠] وصارَ ذِكْرُهُ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ سَبَبًا لِطَهارَةِ أُمِّهِ، ولِبَراءَةِ وُجُودِهِ عَنِ الطَّعْنِ، وصارَ مِفْتاحًا لِكُلِّ الخَيْراتِ، ودافِعًا لِكُلِّ الآفاتِ، وأيْضًا لَمّا كانَ أوَّلُ كَلامِ عِيسى ذِكْرَ العُبُودِيَّةِ كانَتْ عاقِبَتُهُ الرِّفْعَةَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥]، والنُّكْتَةُ أنَّ الَّذِي ادَّعى العُبُودِيَّةَ بِالقَوْلِ رُفِعَ إلى الجَنَّةِ، والَّذِي يَدَّعِيها بِالعَمَلِ سَبْعِينَ سَنَةً؛ كَيْفَ يَبْقى مَحْرُومًا عَنِ الجَنَّةِ ؟ . الآيَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنَّنِي أنا اللَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدْنِي﴾ [طه: ١٤] أمَرَهُ بِعْدَ التَّوْحِيدِ بِالعُبُودِيَّةِ؛ لِأنَ التَّوْحِيدَ أصْلٌ والعُبُودِيَّةَ فَرْعٌ، والتَّوْحِيدُ شَجَرَةٌ والعُبُودِيَّةُ ثَمَرَةٌ، ولا قِوامَ لِأحَدِهِما إلّا بِالآخَرِ، فَهَذِهِ الآياتُ دالَّةٌ عَلى شَرَفِ العُبُودِيَّةِ. وأمّا المَعْقُولُ فَظاهِرٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ العَبْدَ مُحْدَثٌ مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، فَلَوْلا تَأْثِيرُ قُدْرَةِ الحَقِّ فِيهِ لَبَقِيَ في ظُلْمَةِ العَدَمِ وفي فَناءِ الفَناءِ ولَمْ يَحْصُلْ لَهُ الوُجُودُ فَضْلًا عَنْ كَمالاتِ الوُجُودِ، فَلَمّا تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ الحَقِّ بِهِ وفاضَتْ عَلَيْهِ آثارُ جُودِهِ وإيجادِهِ حَصَلَ لَهُ الوُجُودُ وكَمالاتُ الوُجُودِ ولا مَعْنى لِكَوْنِهِ مَقْدُورَ قُدْرَةِ الحَقِّ، ولِكَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ إيجادِ الحَقِّ إلّا العُبُودِيَّةُ، فَكُلُّ شَرَفٍ وكَمالٍ وبَهْجَةٍ وفَضِيلَةٍ ومَسَرَّةٍ ومَنقَبَةٍ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ فَإنَّما حَصَلَتْ بِسَبَبِ العُبُودِيَّةِ، فَثَبَتَ أنَ العُبُودِيَّةَ مِفْتاحُ الخَيْراتِ، وعُنْوانُ السَّعاداتِ، ومَطْلَعُ الدَّرَجاتِ، ويَنْبُوعُ الكَراماتِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ العَبْدُ: إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، وكانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ يَقُولُ: كَفى بِي فَخْرًا أنْ أكُونَ لَكَ عَبْدًا، وكَفى بِي شَرَفًا أنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، اللَّهُمَّ إنِّي وجَدْتُكَ إلَهًا كَما أرَدْتَ فاجْعَلْنِي عَبْدًا كَما أرَدْتَ. الفائِدَةُ السّادِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ المَقاماتِ مَحْصُورَةٌ في مَقامَيْنِ: مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ ومَعْرِفَةُ العُبُودِيَّةِ، وعِنْدَ اجْتِماعِهِما يَحْصُلُ العَهْدُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] أمّا مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكَمالُها مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فَكَوْنُ العَبْدِ مُنْتَقِلًا مِنَ العَدَمِ السّابِقِ إلى الوُجُودِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ إلَهًا، وحُصُولُ الخَيْراتِ والسَّعاداتِ لِلْعَبْدِ حالَ وُجُودِهِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ رَبًّا رَحْمانًا رَحِيمًا، وأحْوالُ مَعادِ العَبْدِ تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، وعِنْدَ الإحاطَةِ بِهَذِهِ الصِّفاتِ حَصَلَتْ مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ عَلى أقْصى الغاياتِ، وبَعْدَها جاءَتْ مَعْرِفَةُ العُبُودِيَّةِ، ولَها مَبْدَأٌ وكَمالٌ وأوَّلُ وآخِرُ، أمّا مَبْدَؤُها وأوَّلُها فَهو الِاشْتِغالُ بِالعُبُودِيَّةِ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ وأمّا كَمالُها فَهو أنْ يَعْرِفَ العَبْدُ أنْ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِاللَّهِ في تَحْصِيلِ كُلِّ المَطالِبِ، وذَلِكَ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ولَمّا تَمَّ الوَفاءُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وبِعَهْدِ العُبُودِيَّةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الفائِدَةِ والثَّمَرَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ وهَذا تَرْتِيبٌ شَرِيفٌ رَفِيعٌ عالٍ يَمْتَنِعُ في العُقُولِ حُصُولُ تَرْتِيبٍ آخَرَ أشْرَفَ مِنهُ. الفائِدَةُ السّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كُلُّهُ مَذْكُورٌ عَلى لَفْظِ الغَيْبَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ انْتِقالٌ مِن لَفْظِ الغَيْبَةِ إلى لَفْظِ الخِطابِ، فَما الفائِدَةُ فِيهِ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُصَلِّيَ كانَ أجْنَبِيًّا عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلاةِ، فَلا جَرَمَ أثْنى عَلى اللَّهِ بِألْفاظِ المُغايَبَةِ إلى قَوْلِهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى كَأنَّهُ يَقُولُ لَهُ حَمِدْتَنِي وأقْرَرْتَ بِكَوْنِي إلَهًا رَبًّا رَحْمانًا رَحِيمًا (p-٢٠٤)مالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، فَنِعْمَ العَبْدُ أنْتَ قَدْ رَفَعْنا الحِجابَ وأبْدَلْنا البُعْدَ بِالقُرْبِ فَتَكَلَّمْ بِالمُخاطَبَةِ وقُلْ إيّاكَ نَعْبُدُ. الوَجْهُ الثّانِي: إنَّ أحْسَنَ السُّؤالِ ما وقَعَ عَلى سَبِيلِ المُشافَهَةِ، ألا تَرى أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَمّا سَألُوا رَبَّهم شافَهُوهُ بِالسُّؤالِ فَقالُوا: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ [الأعراف: ٢٣] ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا﴾ [الحشر: ١٠]، ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ [الشعراء: ٨٣]، ﴿رَبِّ أرِنِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ الرَّدَّ مِنَ الكَرِيمِ عَلى سَبِيلِ المُشافَهَةِ والمُخاطَبَةِ بَعِيدٌ، وأيْضًا العِبادَةُ خِدْمَةٌ والخِدْمَةُ في الحُضُورِ أوْلى. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثَناءً، والثَّناءُ في الغَيْبَةِ أوْلى، ومِن قَوْلِهِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ دُعاءٌ، والدُّعاءُ في الحُضُورِ أوْلى. الوَجْهُ الرّابِعُ: العَبْدُ لَمّا شَرَعَ في الصَّلاةِ وقالَ نَوَيْتُ أنْ أُصَلِّيَ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ فَيَنْوِي حُصُولَ القُرْبَةِ، ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ النِّيَّةِ أنْواعًا مِنَ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ، فاقْتَضى كَرَمُ اللَّهِ إجابَتَهُ في تَحْصِيلِ تِلْكَ القُرْبَةِ، فَنَقَلَهُ مِن مَقامِ الغَيْبَةِ إلى مَقامِ الحُضُورِ، فَقالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . * * * الفَصْلُ السّادِسُ فِي قَوْلِهِ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ أنَّهُ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنَ العَقْلِ والنَّقْلِ، أمّا العَقْلُ فَمِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ القادِرَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الفِعْلِ والتَّرْكِ عَلى السَّوِيَّةِ، فَما لَمْ يَحْصُلِ المُرَجَّحُ لَمْ يَحْصُلِ الرُّجْحانُ، وذَلِكَ المُرَجَّحُ لَيْسَ مِنَ العَبْدِ، وإلّا لَعادَ في الطَّلَبِ، فَهو مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ الإقْدامُ عَلى الفِعْلِ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ. الثّانِي: أنَّ جَمِيعَ الخَلائِقِ يَطْلُبُونَ الدِّينَ الحَقَّ والِاعْتِقادَ الصِّدْقَ مَعَ اسْتِوائِهِمْ في القُدْرَةِ والعَقْلِ والجِدِّ والطَّلَبِ، فَفَوْزُ البَعْضِ بِدَرْكِ الحَقِّ لا يَكُونُ إلّا بِإعانَةِ مُعِينٍ، وما ذاكَ المُعِينُ إلّا اللَّهُ تَعالى، لِأنَّ ذَلِكَ المُعِينَ لَوْ كانَ بَشَرًا أوْ مَلَكًا لَعادَ الطَّلَبُ فِيهِ. الثّالِثُ: أنَّ الإنْسانَ قَدْ يُطالَبُ بِشَيْءٍ مُدَّةً مَدِيدَةً ولا يَأْتِي بِهِ، ثُمَّ في أثْناءِ حالٍ أوْ وقْتٍ يَأْتِي بِهِ ويُقْدِمُ عَلَيْهِ، ولا يَتَّفِقُ لَهُ تِلْكَ الحالَةُ إلّا إذا وقَعَتْ داعِيَةٌ جازِمَةٌ في قَلْبِهِ تَدْعُوهُ إلى ذَلِكَ الفِعْلِ، فَإلْقاءُ تِلْكَ الدّاعِيَةِ في القَلْبِ وإزالَةُ الدَّواعِي المُعارِضَةِ لَها لَيْسَتْ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى، ولا مَعْنى لِلْإعانَةِ إلّا ذَلِكَ. وأمّا النَّقْلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ آياتٌ: أُولاها: قَوْلُهُ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . وثانِيتُها: قَوْلُهُ ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، وقَدِ اضْطَرَبَتِ الجَبْرِيَّةُ والقَدَرِيَّةُ في هَذِهِ الآيَةِ: أمّا الجَبْرِيَّةُ فَقالُوا: لَوْ كانَ العَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالفِعْلِ لَما كانَ لِلِاسْتِعانَةِ عَلى الفِعْلِ فائِدَةٌ، وأمّا القَدَرِيَّةُ فَقالُوا الِاسْتِعانَةُ إنَّما تَحْسُنُ لَوْ كانَ العَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِن أصْلِ الفِعْلِ، فَتَبْطُلُ الإعانَةُ مِنَ الغَيْرِ، أمّا إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى الفِعْلِ لَمْ تَكُنْ لِلِاسْتِعانَةِ فائِدَةٌ. وعِنْدِي أنَّ القُدْرَةَ لا تُؤَثِّرُ في الفِعْلِ إلّا مَعَ الدّاعِيَةِ الجازِمَةِ، فالإعانَةُ المَطْلُوبَةُ عِبارَةٌ عَنْ خَلْقِ الدّاعِيَةِ الجازِمَةِ وإزالَةِ الدّاعِيَةِ الصّارِفَةِ. ولْنَذْكُرْ ما في هَذِهِ الكَلِمَةِ مِنَ اللَّطائِفِ والفَوائِدِ: الفائِدَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الِاسْتِعانَةُ عَلى العَمَلِ إنَّما تَحْسُنُ قَبْلَ الشُّرُوعِ في العَمَلِ وهَهُنا ذَكَرَ قَوْلَهُ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فَما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ الجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: كَأنَّ المُصَلِّيَ يَقُولُ: شَرَعْتُ في العِبادَةِ فَأسْتَعِينُ بِكَ في إتْمامِها، فَلا تَمْنَعْنِي مِن إتْمامِها بِالمَوْتِ ولا بِالمَرَضِ ولا بِقَلْبِ الدَّواعِي وتَغَيُّرِها. الثّانِي: كَأنَّ الإنْسانَ يَقُولُ: يا إلَهِي إنِّي أتَيْتُ بِنَفْسِي إلّا أنَّ لِي قَلْبًا يَفِرُّ مِنِّي، فَأسْتَعِينُ (p-٢٠٥)بِكَ في إحْضارِهِ وكَيْفَ وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «قَلْبُ المُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ»، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الإنْسانَ لا يُمْكِنُهُ إحْضارُ القَلْبِ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ. الثّالِثُ: لا أُرِيدُ في الإعانَةِ غَيْرَكَ لا جِبْرِيلَ ولا مِيكائِيلَ بَلْ أُرِيدُكَ وحْدَكَ وأقْتَدِي في هَذا المَذْهَبِ بِالخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ لَمّا قَيَّدَ نُمْرُوذُ رِجْلَيْهِ ويَدَيْهِ ورَماهُ في النّارِ جاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وقالَ لَهُ: هَلْ لَكَ مِن حاجَةٍ ؟ فَقالَ: أمّا إلَيْكَ فَلا، فَقالَ: سَلْهُ، فَقالَ: حَسْبِي مِن سُؤالِي عِلْمُهُ بِحالِي، بَلْ رُبَّما أزِيدُ عَلى الخَلِيلِ في هَذا البابِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ قُيِّدَ رِجْلاهُ ويَداهُ لا غَيْرَ، وأمّا أنا فَقُيِّدَتْ رِجْلَيَّ فَلا أسِيرُ، ويَدَيَّ فَلا أُحَرِّكُهُما، وعَيْنَيَّ فَلا أنْظُرُ بِهِما، وأُذُنَيَّ فَلا أسْمَعُ بِهِما، ولِسانِي فَلا أتَكَلَّمُ بِهِ، وكانَ الخَلِيلُ مُشْرِفًا عَلى نارِ نُمْرُوذَ وأنا مُشْرِفٌ عَلى نارِ جَهَنَّمَ، فَكَما لَمْ يَرْضَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِغَيْرِكَ مُعِينًا فَكَذَلِكَ لا أُرِيدُ مُعِينًا غَيْرَكَ، فَإيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: أتَيْتَ بِفِعْلِ الخَلِيلِ وزِدْتَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَزِيدُ أيْضًا في الجَزاءِ لِأنّا ثَمَّتَ قُلْنا: ﴿يانارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] وأمّا أنْتَ فَقَدْ نَجَّيْناكَ مِنَ النّارِ، وأوْصَلْناكَ إلى الجَنَّةِ، وزِدْناكَ سَماعَ الكَلامِ القَدِيمِ، ورُؤْيَةَ المَوْجُودِ القَدِيمِ، وكَما أنّا قُلْنا لِنارِ نُمْرُوذَ ”﴿يانارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾“ فَكَذَلِكَ تَقُولُ لَكَ نارُ جَهَنَّمَ: «جُزْ يا مُؤْمِنُ قَدْ أطْفَأ نُورُكَ لَهَبِي» . الرّابِعُ: إيّاكَ نَسْتَعِينُ: أيْ: لا أسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ، وذَلِكَ لِأنَّ ذَلِكَ الغَيْرَ لا يُمْكِنُهُ إعانَتِي إلّا إذا أعَنْتَهُ عَلى تِلْكَ الإعانَةِ، فَإذا كانَتْ إعانَةُ الغَيْرِ لا تَتِمُّ إلّا بِإعانَتِكَ فَلْنَقْطَعْ هَذِهِ الواسِطَةَ ولْنَقْتَصِرْ عَلى إعانَتِكَ. الوَجْهُ الخامِسُ: قَوْلُهُ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ يَقْتَضِي حُصُولَ رُتْبَةٍ عَظِيمَةٍ لِلنَّفْسِ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يُورِثُ العُجْبَ فَأرْدَفَ بِقَوْلِهِ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الحاصِلَةَ بِسَبَبِ العِبادَةِ ما حَصَلَتْ مِن قُوَّةِ العَبْدِ، بَلْ إنَّما حَصَلَتْ بِإعانَةِ اللَّهِ فالمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ قَوْلِهِ ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إزالَةُ العُجْبِ، وإفْناءُ تِلْكَ النَّخْوَةِ والكِبْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب