(إياك نعبد وإياك نستعين) أي نخصك بالعبادة ونوحدك ونطيعك خاضعين لك ومنك نطلب المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا، وفي هذه الآية إبطال الجبر والقدر معاً كما أشار إليه الثعلبي في تفسيره، و " إيَّا " عند سيبويه اسم مضمر والكاف حرف خطاب ولا محل له من الإعراب وهو الأصح وقد ارتضاه القاضي، وعند الخليل اسم مضمر أضيف " إيَّا " إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل، وقال الكوفيون إياك بكمالها اسم، وجملة الأقوال فيه سبعة عد منها الخفاجي خمسة فقط، وتقديم المفعول على الفعل لقصد الاختصاص والحصر والقصر، وقيل للاهتمام، والصواب أنه لهما، ولا تزاحم بين المقتضيات.
والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل، والعبودية أدنى منها، وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده ولا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، قال ابن كثير: وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، والاستعانة طلب المعونة، وهي ضرورية وغير ضرورية.
والعدول عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الإلتفاف وتلوين النظم من باب إلى باب، وفيه الترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ومن المعقول إلى المحسوس، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر، وقد يكون من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) أي بكم وقوله (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه) أي فساقه، وقد يكون من التكلم إلى الغيبة، فهذه أربعة أقسام ذكرها البيضاوي، والتحقيق أنها ستة وهي ظاهرة لأن الملتفت منه والملتفت إليه اثنان وكل منهما إما غيبة أو خطاب أو تكلم، والعرب يستكثرون منه لفوائد تستدعيه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب آخر كان أدخل في القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأُ لاستلذاذ إصغائه وأكثر إيقاظاً له كما تقرر في علم المعاني، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة وقليل ما هم.
ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء وأجرى عليه تلك الصفات، تعلق العلم بمعلوم على الذات، سمى الصفات، حري بالثناء وغاية التذلل والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم للتميز بتلك الأوصاف، فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك، والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد أو عن سائر الموحدين، وفيه إشعار على التزام الجماعة، وقدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي ولكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، وإطلاق العبادة والاستعانة لقصد التعميم لتتناول كل معبود به ومستعان فيه، وإستحسنه الزمخشري وقال لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجزة بعض، وتكرير الضمير للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة منهما ولإبراز الالتذاذ بالمناجاة والخطاب.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي [[مسلم/395.]]، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، وربما قال فوض إليّ عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم الخ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".
وعن أبي طلحة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة نلقى العدو فسمعته يقول يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين قال: فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها. أخرجه البغوي والماوردي معاً في معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل.
{"ayah":"إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ"}