الباحث القرآني

﴿إيّاكَ﴾ إيّا تَلْحَقُهُ ياءُ المُتَكَلِّمِ وكافُ المُخاطَبِ وهاءُ الغائِبِ وفُرُوعُها، فَيَكُونُ ضَمِيرَ نَصْبٍ مُنْفَصِلًا لا اسْمًا ظاهِرًا أُضِيفَ، خِلافًا لِزاعِمِهِ، وهَلِ الضَّمِيرُ هو مَعَ لَواحِقِهِ أوْ هو وحْدَهُ ؟ واللَّواحِقُ حُرُوفٌ، أوْ هو واللَّواحِقٌ أسْماءٌ أُضِيفَ هو إلَيْها، أوِ اللَّواحِقُ وحْدَها وإيّا زائِدَةٌ لِتَتَّصِلَ بِها الضَّمائِرُ، أقْوالٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. وأمّا لُغاتُهُ فَبِكَسْرِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ الياءِ، وبِها قَرَأ الجُمْهُورُ، وبِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ الياءِ، وبِها قَرَأ الفَضْلُ الرَّقاشِيُّ، وبِكَسْرِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ الياءِ، وبِها قَرَأ عَمْرُو بْنُ فائِدٍ عَنْ أُبَيٍّ، وبِإبْدالِ الهَمْزَةِ المَكْسُورَةِ هاءً، وبِإبْدالِ الهَمْزَةِ المَفْتُوحَةِ هاءً، وبِذَلِكَ قَرَأ ابْنُ السَّوّارِ الغَنَوِيُّ، وذَهابُ أبِي عُبَيْدَةَ إلى أنَّ إيّا مُشْتَقٌّ ضَعِيفٌ، وكانَ أبُو عُبَيْدَةَ لا يُحْسِنُ النَّحْوَ، وإنْ كانَ إمامًا في اللُّغاتِ وأيّامِ العَرَبِ. وإذا قِيلَ بِالِاشْتِقاقِ فاشْتِقاقُهُ مِن لَفْظِ ”آوِ“ مِن قَوْلِهِ: ؎فَآوِ لِذِكْراها إذا ما ذَكَرْتَها فَتَكُونُ مِن بابِ قُوَّةٍ أوْ مِنَ الآيَةِ فَتَكُونُ عَيْنُها ياءً كَقَوْلِهِ: ؎لَمْ يُبْقِ هَذا الدَّهْرُ مِن إيّائِهِ قَوْلانِ، وهَلْ وزْنُهُ افْعَلْ وأصْلُهُ إأْوَوْ أوْ إأْوى، أوْ فَعِيلٌ فَأصْلُهُ إوْيَوْ أوْ إوْيَي، أوْ فَعُولٌ وأصْلُهُ إوْوَوْ أوْ إوْيى، أوْ فَعْلى فَأصْلُهُ أوْوى أوِ أوْيا، أقاوِيلُ كُلَّها ضَعِيفَةٌ، والكَلامُ عَلى تَصارِيفِها حَتّى صارَتْ إيّا تُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ، وإضافَةُ إيّا لِظاهِرٍ نادِرٌ نَحْوُ: وإيّا الشَّوابِّ، أوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ: دَعْنِي وإيّا خالِدٍ، واسْتِعْمالُهُ تَحْذِيرًا مَعْرُوفٌ فَيَتَحَمَّلُ ضَمِيرًا مَرْفُوعًا يَجُوزُ أنْ يُتْبَعَ بِالرَّفْعِ نَحْوَ: إيّاكَ أنْتَ نَفْسَكَ. ﴿نَعْبُدُ﴾ العِبادَةُ: التَّذَلُّلُ، قالَهُ الجُمْهُورُ، أوِ التَّجْرِيدُ، قالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وتَعَدِّيهِ بِالتَّشْدِيدِ مُغايِرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّخْفِيفِ، نَحْوَ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ ذَلَّلْتُهُ، وعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو مِجْلِزٍ وأبُو المُتَوَكِّلِ: إيّاكَ يُعْبَدُ بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وعَنْ بَعْضِ أهْلِ مَكَّةَ نَعْبُدْ بِإسْكانِ الدّالِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: نَعْبُدُ بِكَسْرِ النُّونِ. ﴿نَسْتَعِينُ﴾ الِاسْتِعانَةُ طَلَبُ العَوْنِ، والطَّلَبُ أحَدُ مَعانِي اسْتَفْعَلَ، وهي اثْنا عَشَرَ مَعْنًى، وهي: الطَّلَبُ، والِاتِّحادُ، والتَّحَوُّلُ، وإلْقاءُ الشَّيْءِ بِمَعْنى ما صِيغَ مِنهُ وعَدُّهُ كَذَلِكَ، ومُطاوَعَةُ أفْعَلَ ومُوافَقَتُهُ، ومُوافَقَةُ تَفَعَّلَ وافْتَعَلَ والفِعْلِ المُجَرَّدِ، والإغْناءُ عَنْهُ وعَنْ فَعَلَ، مِثْلُ ذَلِكَ اسْتَطْعَمَ، واسْتَعْبَدَهُ واسْتَنْسَرَ واسْتَعْظَمَهُ واسْتَحْسَنَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، واسْتَشْلى مُطاوِعُ أشْلى، واسْتَبَلَّ مُوافِقٌ مُطاوِعٌ أبَلَّ، واسْتَكْبَرَ مُوافِقُ تَكَبَّرَ، واسْتَعْصَمَ مُوافِقُ اعْتَصَمَ، واسْتَغْنى مُوافِقُ غِنًى، واسْتَنْكَفَ واسْتَحْيا مُغْنِيانِ عَنِ المُجَرَّدِ، واسْتَرْجَعَ واسْتَعانَ حَلَقَ عانَتَهُ، مُغْنِيانِ عَنْ فَعَلَ، فاسْتَعانَ طَلَبَ العَوْنَ كاسْتَغْفَرَ واسْتَعْظَمَ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: وقَدْ جاءَ فِيهِ وِيّاكَ أبْدَلَ الهَمْزَةَ واوًا، فَلا أدْرِي أذَلِكَ عَنِ الفَرّاءِ أمْ عَنِ العَرَبِ ؟ وهَذا عَلى العَكْسِ مِمّا فَرُّوا إلَيْهِ في نَحْوِ أشاحَ فِيمَن هَمَزَ لِأنَّهم فَرُّوا مِنَ الواوِ المَكْسُورَةِ إلى الهَمْزَةِ، واسْتِثْقالًا لِلْكَسْرَةِ عَلى الواوِ. وُفي ويّاكَ فَرُّوا مِنَ الهَمْزَةِ إلى الواوِ، وعَلى لُغَةِ مَن يَسْتَثْقِلُ الهَمْزَةَ جُمْلَةٌ لِما فِيها مِن شَبَهِ التَّهَوُّعِ، وبِكَوْنِ اسْتَفْعَلَ أيْضًا لِمُوافَقَةِ تَفاعَلَ وفَعَلَ. حَكى أبُو الحَسَنِ بْنُ سِيدَهْ في المُحْكَمِ: تَماسَكْتُ بِالشَّيْءِ ومَسَكْتُ بِهِ واسْتَمْسَكَ بِهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، أيِ احْتَبَسْتُ بِهِ، قالَ ويُقالُ: مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وأمْسَكْتُ وتَمَسَّكْتُ احْتَبَسْتُ، انْتَهى. فَتَكُونُ مَعانِي اسْتَفْعَلَ حِينَئِذٍ أرْبَعَةَ عَشَرَ لِزِيادَةِ مُوافَقَةِ تَفاعَلَ وتَفَعَّلَ. وفَتْحُ نُونِ نَسْتَعِينُ قَرَأ بِها الجُمْهُورُ، وهي لُغَةُ الحِجازِ، وهي الفُصْحى. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ والنَّخَعِيُّ والأعْمَشُ بِكَسْرِها، وهي لُغَةُ قَيْسٍ وتَمِيمٍ وأسَدٍ ورَبِيعَةَ، وكَذَلِكَ حُكْمُ حَرْفِ المُضارَعَةِ في هَذا الفِعْلِ وما (p-٢٤)أشْبَهَهُ. وقالَ أبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: هي لُغَةُ هَذِيلٍ، وانْقِلابُ الواوِ ألِفًا في اسْتَعانَ ومُسْتَعانٍ، وياءً في نَسْتَعِينُ ومُسْتَعِينٍ، والحَذْفُ في الِاسْتِعانَةِ مَذْكُورٌ في عِلْمِ التَّصْرِيفِ، ويُعَدّى اسْتَعانَ بِنَفْسِهِ وبِالباءِ. إيّاكَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، والزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أنَّهُ لا يُقَدَّمُ عَلى العامِلِ إلّا لِلتَّخْصِيصِ، فَكَأنَّهُ قالَ: ما نَعْبُدُ إلّا إيّاكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ في تَقْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّهِ أتْلُوا، وذَكَرْنا نَصَّ سِيبَوَيْهِ هُناكَ. فالتَّقْدِيمُ عِنْدَنا إنَّما هو لِلِاعْتِناءِ والِاهْتِمامِ بِالمَفْعُولِ. وسَبَّ أعْرابِيٌّ آخَرَ فَأعْرَضَ عَنْهُ وقالَ: إيّاكَ أعْنِي، فَقالَ لَهُ: وعَنْكَ أُعْرِضُ، فَقَدَّما الأهَمَّ، وإيّاكَ التِفاتٌ لِأنَّهُ انْتِقالٌ مِنَ الغَيْبَةِ، إذْ لَوْ جَرى عَلى نَسَقٍ واحِدٍ لَكانَ إيّاهُ. والِانْتِقالُ مِن فُنُونِ البَلاغَةِ، وهو الِانْتِقالُ مِنَ الغَيْبَةِ لِلْخِطابِ أوِ التَّكَلُّمِ، ومِنَ الخِطابِ لِلْغَيْبَةِ أوِ التَّكَلُّمِ، ومِنَ التَّكَلُّمِ لِلْغَيْبَةِ أوِ الخِطابِ. والغَيْبَةُ تارَةً تَكُونُ بِالظّاهِرِ، وتارَةً بِالمُضْمَرِ، وشَرْطُهُ أنْ يَكُونَ المَدْلُولُ واحِدًا. ألا تَرى أنَّ المُخاطَبَ بِإيّاكَ هو اللَّهُ - تَعالى - ؟ وقالُوا: فائِدَةُ هَذا الِالتِفاتِ إظْهارُ المَلَكَةِ في الكَلامِ والِاقْتِدارِ عَلى التَّصَرُّفِ فِيهِ. وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهم مَزِيدًا عَلى هَذا، وهو إظْهارُ فائِدَةٍ تَخُصُّ كُلَّ مَوْضِعٍ، ونَتَكَلَّمُ عَلى ذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ لَنا مِنهُ شَيْءٌ، وفائِدَتُهُ في ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ المُتَّصِفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ والرَّحْمَةِ والمُلْكِ والمَلِكِ لِلْيَوْمِ المَذْكُورِ، أقْبَلَ الحامِدُ مُخْبِرًا بِأثَرِ ذِكْرِهِ الحَمْدَ المُسْتَقِرَّ لَهُ مِنهُ ومِن غَيْرِهِ، أنَّهُ وغَيْرُهُ يَعْبُدُهُ ويَخْضَعُ لَهُ. وكَذَلِكَ أتى بِالنُّونِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ ولِغَيْرِهِ، فَكَما أنَّ الحَمْدَ يَسْتَغْرِقُ الحامِدِينَ، كَذَلِكَ العِبادَةُ تَسْتَغْرِقُ المُتَكَلِّمَ وغَيْرَهُ. ونَظِيرُ هَذا أنَّكَ تَذْكُرُ شَخْصًا مُتَّصِفًا بِأوْصافٍ جَلِيلَةٍ، مُخْبِرًا عَنْهُ إخْبارَ الغائِبِ، ويَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ حاضِرًا مَعَكَ، فَتَقُولُ لَهُ: إيّاكَ أقْصِدُ، فَيَكُونُ في هَذا الخِطابِ مِنَ التَّلَطُّفِ عَلى بُلُوغِ المَقْصُودِ ما لا يَكُونُ في لَفْظِ إيّاهُ، ولِأنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِلدُّعاءِ في قَوْلِهِ اهْدِنا. ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ مَلِكَ مُنادًى فَلا يَكُونُ إيّاكَ التِفاتًا لِأنَّهُ خِطابٌ بَعْدَ خِطابٍ وإنْ كانَ يَجُوزُ بَعْدَ النِّداءِ الغَيْبَةُ، كَما قالَ: ؎يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ∗∗∗ أقْوَتْ وطالَ عَلَيْها سالِفُ الأبَدِ. ومِنَ الخِطابِ بَعْدَ النِّداءِ: ؎ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى ∗∗∗ ولا زالَ مُنْهَلًا بِجَرْعائِكِ القَطْرُ. ودَعْوى الزَّمَخْشَرِيُّ في أبْياتِ امْرِئِ القَيْسِ الثَّلاثَةِ أنَّ فِيهِ ثَلاثَةَ التِفاتاتٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُما التِفاتانِ: الأوَّلُ: خُرُوجٌ مِنَ الخِطابِ المُفْتَتَحِ بِهِ في قَوْلِهِ: ؎تَطاوَلَ لَيْلُكَ بِالإثْمِدِ ∗∗∗ ونامَ الخَلِيُّ ولَمْ تَرْقُدِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ: ؎وباتَ وباتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ∗∗∗ كَلَيْلَةِ ذِي العائِرِ الأرْمَدِ الثّانِي: خُرُوجٌ مِن هَذِهِ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ: ؎وذَلِكَ مِن نَبَأٍ جاءَنِي. ∗∗∗ وخَبَّرْتُهُ عَنْ أبِي الأسْوَدِ وتَأْوِيلُ كَلامِهِ أنَّها ثَلاثٌ خَطَأٌ وتَعْيِينُ أنَّ الأوَّلَ هو الِانْتِقالُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الحُضُورِ أشَدُّ خَطَأً لِأنَّ هَذا الِالتِفاتَ هو مِن عَوارِضِ الألْفاظِ لا مِنَ التَّقادِيرِ المَعْنَوِيَّةِ، وإضْمارُ قُولُوا قَبْلَ الحَمْدِ لِلَّهِ، وإضْمارُها أيْضًا قَبْلَ إيّاكَ لا يَكُونُ مَعَهُ التِفاتٌ، وهو قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وقَدْ عَقَدَ أرْبابُ عِلْمِ البَدِيعِ بابًا لِلِالتِفاتِ في كَلامِهِمْ، ومِن أجْلِهِمْ كَلامًا فِيهِ ابْنُ الأثِيرِ الجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - . وقِراءَةُ مَن قَرَأ إيّاكَ يُعْبَدُ بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشْكِلَةٌ؛ لِأنَّ إيّاكَ ضَمِيرُ نَصْبٍ ولا ناصِبَ لَهُ وتَوْجِيهُها أنَّ فِيها اسْتِعارَةً والتِفاتًا، فالِاسْتِعارَةُ إحْلالُ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ، فَكَأنَّهُ قالَ أنْتَ، ثُمَّ التَفَتَ فَأخْبَرَ عَنْهُ إخْبارَ الغائِبِ لَمّا كانَ إيّاكَ هو الغائِبَ مِن حَيْثُ المَعْنى فَقالَ يُعْبَدُ، وغَرابَةُ هَذا الِالتِفاتِ كَوْنُهُ في جُمْلَةٍ واحِدَةٍ، وهو يَنْظُرُ إلى قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎أأنْتَ الهِلالِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً ∗∗∗ سَمِعْنا بِهِ والأرْحَبِيُّ المُغَلِّبُ وإلى قَوْلِ أبِي كَثِيرٍ الهُذَلِيِّ:(p-٢٥) ؎يا لَهْفَ نَفْسِيَ كانَ جِدَّةُ خالِدٍ ∗∗∗ وبَياضُ وجْهِكَ للتُّرابِ الأعْفَرِ. وفُسِّرَتِ العِبادَةُ في إيّاكَ نَعْبُدُ بِأنَّها التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ، وهو أصْلُ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أوِ الطّاعَةِ، كَقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ﴾ [مريم: ٤٤]، أوِ التَّقَرُّبُ بِالطّاعَةِ أوِ الدُّعاءِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي﴾ [غافر: ٦٠]، أيْ عَنْ دُعائِي، أوِ التَّوْحِيدِ ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، أيْ لِيُوَحِّدُونِ، وكُلُّها مُتَقارِبَةُ المَعْنى. وقُرِنَتِ الِاسْتِعانَةُ بِالعِبادَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ ما يَتَقَرَّبُ بِهِ العَبْدُ إلى اللَّهِ - تَعالى - وبَيْنَ ما يَطْلُبُهُ مِن جِهَتِهِ. وقُدِّمَتِ العِبادَةُ عَلى الِاسْتِعانَةِ لِتَقْدِيمِ الوَسِيلَةِ قَبْلَ طَلَبِ الحاجَةِ لِتَحْصُلَ الإجابَةُ إلَيْها، وأطْلَقَ العِبادَةَ والِاسْتِعانَةَ لِتَتَناوَلَ كُلَّ مَعْبُودٍ بِهِ وكُلَّ مُسْتَعانٍ عَلَيْهِ. وكَرَّرَ إيّاكَ لِيَكُونَ كُلٌّ مِنَ العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ سِيقا في جُمْلَتَيْنِ، وكُلٌّ مِنهُما مَقْصُودَةٌ، ولِلتَّنْصِيصِ عَلى طَلَبِ العَوْنِ مِنهُ بِخِلافِ لَوْ كانَ إيّاكَ نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ، فَإنَّهُ كانَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا بِطَلَبِ العَوْنِ، أيْ ولِيَطْلُبَ العَوْنَ مِن غَيْرِ أنْ يُعَيِّنَ مِمَّنْ يَطْلُبُ. ونُقِلَ عَنِ المُنْتَمِينَ لِلصَّلاحِ تَقْيِيداتٌ مُخْتَلِفَةٌ في العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إيّاكَ نَعْبُدُ بِالعِلْمِ، وإيّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِالمَعْرِفَةِ، ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. وفي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ قالُوا رَدٌّ عَلى الجَبْرِيَّةِ، وفي نَسْتَعِينُ رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ، ومَقامُ العِبادَةِ شَرِيفٌ، وقَدْ جاءَ الأمْرُ بِهِ في مَواضِعَ، قالَ تَعالى: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ﴾ [الحجر: ٩٩] ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١]، والكِنايَةُ عَنْ أشْرَفِ المَخْلُوقِينَ ﷺ . قالَ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١]، ﴿وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [الأنفال: ٤١]، وقالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ عِيسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ -: ﴿قالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠]، وقالَ تَعالى وتَقَدَّسَ: ﴿لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدْنِي﴾ [طه: ١٤] فَذَكَرَ العِبادَةَ عَقِيبَ التَّوْحِيدِ؛ لِأنَّ التَّوْحِيدَ هو الأصْلُ والعِبادَةُ فَرْعُهُ. وقالُوا في قَوْلِهِ إيّاكَ رَدٌّ عَلى الدَّهْرِيَّةِ والمُعَطِّلَةِ والمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصّانِعِ، فَإنَّهُ خِطابٌ لِمَوْجُودٍ حاضِرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب