الباحث القرآني

أيِ: اللَّهُ وحْدَهُ كافِيكَ، وكافِي أتْباعَكَ، فَلا تَحْتاجُونَ مَعَهُ إلى أحَدٍ. وَهُنا تَقْدِيرانِ، أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ الواوُ عاطِفَةً لِـ" مَن " عَلى الكافِ المَجْرُورَةِ، ويَجُوزُ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ بِدُونِ إعادَةِ الجارِّ عَلى المَذْهَبِ المُخْتارِ، وشَواهِدُهُ كَثِيرَةٌ وشُبَهُ المَنعِ مِنهُ واهِيَةٌ. والثّانِي: أنْ تَكُونَ الواوُ واوَ " مَعَ " وتَكُونَ " مَن " في مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى المَوْضِعِ، فَإنَّ " حَسْبَكَ " في مَعْنى " كافِيكَ " أيِ اللَّهُ يَكْفِيكَ ويَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ كَما تَقُولُ العَرَبُ: حَسْبُكَ وزَيْدًا دِرْهَمٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا كانَتِ الهَيْجاءُ وانْشَقَّتِ العَصا ∗∗∗ فَحَسْبُكَ والضَّحّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَهَذا أصَحُّ التَّقْدِيرَيْنِ. وَفِيها تَقْدِيرٌ ثالِثٌ: أنْ تَكُونَ " مَن " في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، أيْ: ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ. وَفِيها تَقْدِيرٌ رابِعٌ، وهو خَطَأٌ مِن جِهَةِ المَعْنى: وهو أنْ تَكُونَ " مَن " في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلى اسْمِ اللَّهِ، ويَكُونَ المَعْنى: حَسْبُكَ اللَّهُ وأتْباعُكَ، وهَذا وإنْ قالَهُ بَعْضُ النّاسِ فَهو خَطَأٌ مَحْضٌ لا يَجُوزُ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ، فَإنَّ " الحَسْبَ " و" الكِفايَةَ " لِلَّهِ وحْدَهُ، كالتَّوَكُّلِ والتَّقْوى والعِبادَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هو الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٢]. فَفَرَّقَ بَيْنَ الحَسْبِ والتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ وحْدَهُ، وجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وبِعِبادِهِ، وأثْنى اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى أهْلِ التَّوْحِيدِ والتَّوَكُّلِ مِن عِبادِهِ حَيْثُ أفْرَدُوهُ بِالحَسْبِ، فَقالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣]. وَلَمْ يَقُولُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ورَسُولُهُ، فَإذا كانَ هَذا قَوْلَهُمْ، ومَدَحَ الرَّبُّ تَعالى لَهم بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ: اللَّهُ وأتْباعُكَ حَسْبُكَ، وأتْباعُهُ قَدْ أفْرَدُوا الرَّبَّ تَعالى بِالحَسْبِ، ولَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهم وبَيْنَهُ في حَسْبِ رَسُولِهِ؟! هَذا مِن أمْحَلِ المُحالِ وأبْطَلِ الباطِلِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّهم رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ سَيُؤْتِينا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ﴾ [التوبة: ٥٩]. فَتَأمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الإيتاءَ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]. وَجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ وحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وقالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ورَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خالِصَ حَقِّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ﴾. وَلَمْ يَقُلْ: وإلى رَسُولِهِ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَيْهِ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ - وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ﴾ [الشرح: ٧-٨]. فالرَّغْبَةُ والتَّوَكُّلُ والإنابَةُ والحَسْبُ لِلَّهِ وحْدَهُ، كَما أنَّ العِبادَةَ والتَّقْوى والسُّجُودَ لِلَّهِ وحْدَهُ، والنَّذْرُ والحَلِفُ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. وَنَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦]. فالحَسْبُ: هو الكافِي، فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهُ وحْدَهُ كافٍ عَبْدَهُ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ أتْباعَهُ مَعَ اللَّهِ في هَذِهِ الكِفايَةِ؟! والأدِلَّةُ الدّالَّةُ عَلى بُطْلانِ هَذا التَّأْوِيلِ الفاسِدِ أكْثَرُ مِن أنْ تُذْكَرَ هاهُنا. والمَقْصُودُ أنَّ بِحَسَبِ مُتابَعَةِ الرَّسُولِ تَكُونُ العِزَّةُ والكِفايَةُ والنُّصْرَةُ، كَما أنَّ بِحَسَبِ مُتابَعَتِهِ تَكُونُ الهِدايَةُ والفَلاحُ والنَّجاةُ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَّقَ سَعادَةَ الدّارَيْنِ بِمُتابَعَتِهِ، وجَعَلَ شَقاوَةَ الدّارَيْنِ في مُخالَفَتِهِ، فَلِأتْباعِهِ الهُدى والأمْنُ والفَلاحُ والعِزَّةُ والكِفايَةُ والنُّصْرَةُ والوِلايَةُ والتَّأْيِيدُ وطِيبُ العَيْشِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولِمُخالِفِيهِ الذِّلَّةُ والصَّغارُ والخَوْفُ والضَّلالُ والخِذْلانُ والشَّقاءُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقَدْ أقْسَمَ ﷺ بِأنْ «لا يُؤْمِنُ أحَدُكم حَتّى يَكُونَ هو أحَبَّ إلَيْهِ مِن ولَدِهِ ووالِدِهِ والنّاسِ أجْمَعِينَ» وأقْسَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِأنْ لا يُؤْمِنَ مَن لا يُحَكِّمَهُ في كُلِّ ما تَنازَعَ فِيهِ هو وغَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْضى بِحُكْمِهِ، ولا يَجِدَ في نَفْسِهِ حَرَجًا مِمّا حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا ويَنْقادَ لَهُ انْقِيادًا. وقالَ تَعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]. فَقَطَعَ سُبْحانَهُ وتَعالى التَّخْيِيرَ بَعْدَ أمْرِهِ وأمْرِ رَسُولِهِ، فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَخْتارَ شَيْئًا بَعْدَ أمْرِهِ ﷺ، بَلْ إذا أمَرَ فَأمْرُهُ حَتْمٌ، وإنَّما الخِيَرَةُ في قَوْلِ غَيْرِهِ إذا خَفِيَ أمْرُهُ وكانَ ذَلِكَ الغَيْرُ مِن أهْلِ العِلْمِ بِهِ وبِسُنَّتِهِ، فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سائِغَ الِاتِّباعِ، لا واجِبَ الِاتِّباعِ، فَلا يَجِبُ عَلى أحَدٍ اتِّباعُ قَوْلِ أحَدٍ سِواهُ، بَلْ غايَتُهُ أنَّهُ يَسُوغُ لَهُ اتِّباعُهُ، ولَوْ تَرَكَ الأخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عاصِيًا لِلَّهِ ورَسُولِهِ. فَأيْنَ هَذا مِمَّنْ يَجِبُ عَلى جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ اتِّباعُهُ، ويَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخالَفَتُهُ، ويَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلِّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ؟ فَلا حُكْمَ لِأحَدٍ مَعَهُ، ولا قَوْلَ لِأحَدٍ مَعَهُ، كَما لا تَشْرِيعَ لِأحَدٍ مَعَهُ، وكُلُّ مَن سِواهُ، فَإنَّما يَجِبُ اتِّباعُهُ عَلى قَوْلِهِ إذا أمَرَ بِما أمَرَ بِهِ، ونَهى عَمّا نَهى عَنْهُ، فَكانَ مُبَلِّغًا مَحْضًا ومُخْبِرًا لا مُنْشِئًا ومُؤَسِّسًا، فَمَن أنْشَأ أقْوالًا وأسَّسَ قَواعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلى الأُمَّةِ اتِّباعُها، ولا التَّحاكُمُ إلَيْها حَتّى تُعْرَضَ عَلى ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإنْ طابَقَتْهُ ووافَقَتْهُ وشُهِدَ لَها بِالصِّحَّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ، وإنْ خالَفَتْهُ وجَبَ رَدُّها واطِّراحُها، فَإنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيها أحَدُ الأمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً، وكانَ أحْسَنُ أحْوالِها أنْ يَجُوزَ الحُكْمُ والإفْتاءُ بِها وتَرْكُهُ، وأمّا أنَّهُ يَجِبُ ويَتَعَيَّنُ فَكَلّا ولَمّا. * (فائدة) الكفاية والحَسْب تكون بقدر الإيمان، قال تعالى: ﴿يأيُّها النَّبى حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٤]. أي الله حسبك وحسب أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب