الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا ما ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللهَ ألَّفَ بَيْنَهم إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها النَبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا﴾ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: ﴿وَإنْ جَنَحُوا﴾ [الأنفال: ٦١]، وقَوْلُهُ: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ﴾ يُرِيدُ: بِأنْ يُظْهِرُوا لَهُ السَلْمَ ويُبْطِنُوا الغَدْرَ والخِيانَةَ، أيْ فاجْنَحْ وما عَلَيْكَ مِن نِيّاتِهِمُ الفاسِدَةِ. ﴿فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ أيْ كافِيكَ ومُعْطِيكَ نُصْرَةً وإظْهارًا، وهَذا وعْدٌ مَحْضٌ. و﴿أيَّدَكَ﴾ مَعْناهُ: قَوّاكَ، ﴿وَبِالمُؤْمِنِينَ﴾ يُرِيدُ: بِالأنْصارِ بِقَرِينَةِ قَوْلُهُ: ﴿وَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ الآيَةُ، وهَذِهِ إشارَةٌ إلى العَداوَةِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ الأوسِ والخَزْرَجِ في حُرُوبِ بُعاثٍ، فَألَّفَ اللهُ تَعالى قُلُوبَهم عَلى الإسْلامِ، ورَدَّهم مُتَحابِّينَ في اللهِ، وعُدِّدَتْ هَذِهِ النِعْمَةُ تَأْنِيسًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ: كَما لَطَفَ بِكَ رَبُّكَ أوَّلًا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ آخِرًا. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في المُتَحابِّينَ في اللهِ، وقالَ مُجاهِدٌ: إذا تَراءى المُتَحابّانِ فَتَصافَحا وتَضاحَكا، تَحاتَّتْ خَطاياهُمْ، فَقالَ لَهُ عَبْدَةُ بْنُ أبِي لُبابَةَ: إنَّ هَذا لَيَسِيرٌ، فَقالَ لَهُ: لا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا ما ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، قالَ عَبَدَةُ: فَعَرَفْتُ أنَّهُ أفْقَهُ مِنِّي. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ تَمَثُّلٌ حَسَنٌ بِالآيَةِ، لا أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ، بَلْ تَظاهَرَتْ أقْوالُ (p-٢٣٣)المُفَسِّرِينَ أنَّها في الأوسِ والخَزْرَجِ كَما ذَكَرْنا، ولَوْ ذَهَبَ ذاهِبٌ إلى عُمُومِ المُؤْمِنِينَ في المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وجَعَلَ التَأْلِيفَ ما كانَ مِن جَمِيعِهِمْ مِنَ التَحابِّ حَتّى تَكُونَ أُلْفَةُ الأوسِ والخَزْرَجِ جُزْءًا مِن ذَلِكَ لَساغَ ذَلِكَ، وكُلُّ تَأْلُّفٍ في اللهِ فَتابِعٌ لِذَلِكَ التَألُّفِ الكائِنِ في صَدْرِ الإسْلامِ، وقَدْ رَوى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: « "المُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، لا خَيْرَ فِيمَن لا يَأْلَفُ ولا يُؤْلَفُ"». قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والتَشابُهُ هو سَبَبُ الأُلْفَةِ، فَمَن كانَ مِن أهْلِ الخَيْرِ ألِفَ أشْباهَهُ وألِفُوهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾. قالَ النَقّاشُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِالبَيْداءِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ القِتالِ، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّها نَزَلَتْ في الأوسِ والخَزْرَجِ خاصَّةً، قالَ: ويُقالُ: إنَّها نَزَلَتْ حِينَ أسْلَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ وكَمُلَ المُسْلِمُونَ أرْبَعِينَ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وأنَسٌ، فَهي -عَلى هَذا- مَكِّيَّةٌ. و﴿حَسْبُكَ﴾ في كَلامِ العَرَبِ، و"شَرْعُكَ" بِمَعْنى: كافِيكَ ويَكْفِيكَ، والمُحْسِبُ: الكافِي، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: يَكْفِيكَ اللهُ ويَكْفِيكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَـ "مَن" -فِي هَذا التَأْوِيلِ- رَفْعٌ عَطْفًا عَلى اسْمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ عامِرٌ الشَعْبِيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: حَسْبُكَ اللهُ وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَـ "مَنِ" -فِي هَذا التَأْوِيلِ- في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ الكافِ، لِأنَّ مَوْضِعَها نَصَبَ عَلى المَعْنى لِـ"يَكْفِيكَ" الَّتِي سَدَّتْ "حَسْبُكَ" مَسَدَّها، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "مَن" في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ كَأنَّهُ قالَ: وحَسْبُ، وهَذا كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ أكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ∗∗∗ ونارٍ تَوَقَّدُ بِاللَيْلِ نارا؟ (p-٢٣٤)التَقْدِيرُ: "وَكُلَّ نارٍ"، وهَذا الوَجْهُ مِن حَذْفِ المُضافِ مَكْرُوهٌ، بابُهُ ضَرُورَةُ الشَعْرِ، ويُرْوى البَيْتُ "وَنارًا"، ومِن نَحْوِ هَذا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ إذا كانَتِ الهَيْجاءُ وانْشَقَّتِ العَصا ∗∗∗ ∗∗∗ فَحَسْبُكَ والضَحّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ يُرْوى " الضَحّاكُ " مَرْفُوعًا، و" الضَحّاكَ " مَنصُوبًا، و" الضَحّاكِ " مَخْفُوضًا، فالرَفْعُ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "سَيْفٌ" بِنِيَّةِ التَأْخِيرِ، كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ ................. ∗∗∗ ∗∗∗ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللهِ السَلامُ ويَكُونُ " الضَحّاكُ " -عَلى هَذا- مُحْسِبًا لِلْمُخاطَبِ، والنَصْبُ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ الكافِ مِن قَوْلِهِ: "حَسْبُكَ"، والمُهَنَّدُ -عَلى هَذا- مُحْسِبٌ لِلْمُخاطَبِ، و" الضَحّاكِ " عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قالَ: "فَحَسْبُكَ وحَسْبُ الضَحّاكِ ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب