الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ﴾ لَيْسَ هَذا تَكْرِيرًا لِما قَبْلَهُ فَإنَّ الأوَّلَ مُقَيَّدٌ بِإرادَةِ الخَدْعِ ﴿وإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ ( الأنْفالِ: ٦٢ ) فَهَذِهِ كِفايَةٌ خاصَّةٌ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ كِفايَةٌ عامَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ، أيْ حَسْبُكَ اللَّهُ في كُلِّ حالٍ. والواوُ في قَوْلِهِ: ﴿ومَنِ اتَّبَعَكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلى الِاسْمِ الشَّرِيفِ. والمَعْنى: حَسْبُكَ اللَّهُ وحَسْبُكَ المُؤْمِنُونَ: أيْ كافِيكَ اللَّهُ وكافِيكَ المُؤْمِنُونَ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى " مَعَ " كَما تَقُولُ: حَسْبُكَ وزَيْدًا دِرْهَمٌ، والمَعْنى: كافِيكَ وكافِي المُؤْمِنِينَ اللَّهُ؛ لِأنَّ عَطْفَ الظّاهِرِ عَلى المُضْمَرِ في مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمْتَنِعٌ كَما تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ، وأجازَهُ الكُوفِيُّونَ. قالَ الفَرّاءُ: لَيْسَ بِكَثِيرٍ في كَلامِهِمْ أنْ تَقُولَ حَسْبُكَ وأخِيكَ، بَلِ المُسْتَعْمَلُ أنْ يُقالَ: حَسْبُكَ وحَسْبُ أخِيكَ بِإعادَةِ الجارِّ، فَلَوْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿ومَنِ اتَّبَعَكَ﴾ مَجْرُورًا لَقِيلَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ، واخْتارَ النَّصْبَ عَلى المَفْعُولِ مَعَهُ النَّحّاسُ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ حَسْبُهُمُ اللَّهُ فَحَذَفَ الخَبَرَ. قَوْلُهُ: ﴿حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ﴾ أيْ حِثَّهم وحُضَّهم، والتَّحْرِيضُ في اللُّغَةِ: المُبالَغَةُ في الحَثِّ وهو كالتَّحْضِيضِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحَرَضِ، وهو أنْ يُنْهِكَهُ المَرَضُ ويَتَبالَغَ فِيهِ حَتّى يُشْفِيَ عَلى المَوْتِ كَأنَّهُ يَنْسُبُهُ إلى الهَلاكِ لَوْ تَخَلَّفَ عَنِ المَأْمُورِ بِهِ، ثُمَّ بَشَّرَهم تَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمْ وتَسْكِينًا لِخَواطِرِهِمْ بِأنَّ الصّابِرِينَ مِنهم في القِتالِ يَغْلِبُونَ عَشْرَةً أمْثالَهم مِنَ الكُفّارِ، فَقالَ: ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ ثُمَّ زادَ هَذا إيضاحًا مُفِيدًا لِعَدَمِ اخْتِصاصِ هَذِهِ البِشارَةِ بِهَذا العَدَدِ، بَلْ هي جارِيَةٌ في كُلِّ عَدَدٍ فَقالَ: ﴿وإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفًا﴾ وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّ الجَماعَةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَلِيلًا كانُوا أوْ كَثِيرًا لا يَغْلِبُهم عَشْرَةُ أمْثالِهِمْ مِنَ الكُفّارِ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ، وقَدْ وُجِدَ في الخارِجِ ما يُخالِفُ ذَلِكَ، فَكَمْ مِن طائِفَةٍ مِن طَوائِفِ الكُفّارِ يَغْلِبُونَ مَن هو مِثْلُ عُشْرِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، بَلْ مِثْلُ نِصْفِهِمْ بَلْ مِثْلُهم. وأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ وُجُودَ هَذا في الخارِجِ لا يُخالِفُ ما في الآيَةِ لِاحْتِمالِ أنْ لا تَكُونَ الطّائِفَةُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مُتَّصِفَةً بِصِفَةِ الصَّبْرِ، وقِيلَ: إنَّ هَذا الخَبَرَ الواقِعَ في الآيَةِ هو في مَعْنى الأمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ﴾ ( البَقَرَةِ: ٢٣٣ ) ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ ( البَقَرَةِ: ٢٢٨ ) فالمُؤْمِنُونَ كانُوا مَأْمُورِينَ مِن جِهَةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - بِأنْ تَثْبُتَ الجَماعَةُ مِنهم لِعَشَرَةِ أمْثالِهِمْ، ثُمَّ لَمّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ واسْتَعْظَمُوهُ خَفَّفَ عَنْهم ورَخَّصَ لَهم لِما عَلِمَهُ - سُبْحانَهُ - مِن وُجُودِ الضَّعْفِ فِيهِمْ فَقالَ: ﴿فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَأوْجَبَ عَلى الواحِدِ أنْ يَثْبُتَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الكُفّارِ. وقَرَأ حَمْزَةُ عَنْ عاصِمٍ " ضَعْفًا " بِفَتْحِ الضّادِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَغْلِبُوا﴾ أيْ إنَّ هَذا الغَلَبَ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ وعَدَمِ فِقْهِهِمْ، وأنَّهم يُقاتِلُونَ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، ومَن كانَ هَكَذا فَهو مَغْلُوبٌ في الغالِبِ. وقَدْ قِيلَ: في نُكْتَةِ التَّنْصِيصِ عَلى غَلَبِ العِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ، والمِائَةِ لِلْألْفِ أنَّ سَراياهُ الَّتِي كانَ بَعَثَها ﷺ كانَ لا يَنْقُصُ عَدَدُها عَنِ العِشْرِينَ ولا يُجاوِزُ المِائَةَ، وقِيلَ: في التَّنْصِيصِ فِيما بَعْدُ ذَلِكَ عَلى غَلَبِ المِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ والألِفِ لِلْألْفَيْنِ عَلى أنَّهُ بِشارَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأنَّ عَساكِرَ الإسْلامِ سَيُجاوِزُ عَدَدُها العَشَراتِ والمِئاتِ إلى الأُلُوفِ. ثُمَّ أخْبَرَهم بِأنَّ هَذا الغَلَبَ هو بِإذْنِ اللَّهِ وتَسْهِيلِهِ وتَيْسِيرِهِ لا بِقُوَّتِهِمْ وجَلادَتِهِمْ، ثُمَّ بَشَّرَهم بِأنَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ، وفِيهِ التَّرْغِيبُ إلى الصَّبْرِ، والتَّأْكِيدُ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِهِ والتَّوْصِيَةِ بِهِ، وأنَّهُ مِن أعْظَمِ أسْبابِ النَّجاحِ والفَلاحِ والنَّصْرِ والظَّفَرِ؛ لِأنَّ مَن كانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأحَدٍ أنْ يَغْلِبَهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ هَذا التَّخْفِيفُ نَسْخٌ أمْ لا ؟ ولا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فائِدَةٍ. وقَدْ أخْرَجَ البَزّارُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: لَمّا أسْلَمَ عُمَرُ قالَ المُشْرِكُونَ: قَدِ انْتَصَفَ القَوْمُ مِنّا اليَوْمَ، وأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ . وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «لَمّا أسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ تِسْعَةٌ وثَلاثُونَ رَجُلًا وامْرَأةٌ، ثُمَّ إنْ عُمَرَ أسْلَمَ صارُوا أرْبَعِينَ فَنَزَلَ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: «لَمّا أسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثَلاثَةٌ وثَلاثُونَ وسِتُّ نِسْوَةٍ ثُمَّ أسْلَمَ عُمَرُ نَزَلَتْ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ في الآيَةِ قالَ: نَزَلَتْ في الأنْصارِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، في تارِيخِهِ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ قالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يَفِرَّ واحِدٌ مِن عَشَرَةٍ، وأنْ لا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِن مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآيَةَ فَكَتَبَ أنْ لا يَفِرَّ مِائَةٌ مِن مِائَتَيْنِ قالَ سُفْيانُ وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وأرى الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِثْلَ هَذا، (p-٥٥٠)إنْ كانا رَجُلَيْنِ أمَرَهُما وإنْ كانُوا ثَلاثَةً فَهو في سِعَةٍ مِن تَرْكِهِمْ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، والنَّحّاسُ، في ناسِخِهِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يَفِرَّ واحِدٌ مِن عَشَرَةٍ، فَجاءَ التَّخْفِيفُ ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآيَةَ قالَ: فَلَمّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهم مِنَ العِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ ما خَفَّفَ عَنْهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب