الباحث القرآني

هذا مما قدم بالفضل، لأن السجود أفضل، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض. والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع؟ الجواب أن يقال: انتبه لمعنى الآية، من قوله ﴿ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها. ثم قال لها «ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ» أي صلى مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده، دون أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات، تريد الصلاة، لا الركوع بمجرده. فصارت الآية متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود. لأن السجود أفضل حالات العبد. وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع. لأنه في الفضل دون السجود. وكذلك صلاتها مع المصلين، دون صلاتها في بيتها وحدها في محرابها. وهذا نظم بديع، وفقه دقيق. وأما قوله تعالى: ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ فقد أبعد السهيلي: النجعة فيما تعسفه من فائدة التقديم وأتى بما ينبو اللفظ عنه. وقال غيره السجود كان في دينهم قبل الركوع وهذا قائل ما لا علم له به، والذي يظهر في الآية والله أعلم بمراده من كلامه أنها اشتملت على مطلق العبادة وتفصيلها فذكر الأعم ثم ما هو أخص منه ثم ما هو أخص من الأخص فذكر القنوت أولا وهو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يشرع وحده كسجود الشكر والتلاوة ويشرع في الصلاة فهو أخص من مطلق القنوت ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة فلا يسن الإتيان به منفردا فهو أخص مما قبله. ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه وهما طريقتان معروفتان في الكلام النزول من الأعم إلى الأخص وعكسها وهو الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه إلى ما هو أعم ونظيرها: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكم وافْعَلُوا الخَيْرَ﴾ فذكر أربعة أشياء أخصها الركوع ثم السجود أعم منه ثم العبادة أعم من السجود ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله والذي يزيد هذا وضوحا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج وهو أعم من الطواف لأنه يكون في كل مسجد ويختص بالمساجد لا يتعداها ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثني شرعا. وإن شئت قلت ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد ثم الصلاة التي تكون في البلد كله بل في كل بقعة. فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله رحمه الله مزيد السبق وفضل التقدم. * (فائدة) مَواضِعُ السَّجَداتِ في القُرْآنِ نَوْعانِ: إخْبارٌ، وأمْرٌ؛ فالإخْبارُ خَبَرٌ مِن اللَّهِ تَعالى عَنْ سُجُودِ مَخْلُوقاتِهِ لَهُ عُمُومًا أوْ خُصُوصًا، فَسُنَّ لِلتّالِي والسّامِعِ وُجُوبًا أوْ اسْتِحْبابًا أنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ عِنْدَ تِلاوَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أوْ سَماعِها، وآياتُ الأوامِرِ بِطَرِيقِ الأوْلى. وهَذا لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أمْرٍ وأمْرٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ الأمْرُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢]: مُقْتَضِيًا لِلسُّجُودِ دُونَ الأمْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ [الحج: ٧٧] فالسّاجِدُ إمّا مُتَشَبِّهٌ بِمَن أُخْبِرَ عَنْهُ، أوْ مُمْتَثِلٌ لِما أُمِرَ بِهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ في آخِر الحَجِّ كَما يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ في أوَّلِها؛ فَلَمّا سَوَّتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُما سَوّى القِياسُ الصَّحِيحُ والِاعْتِبارُ الحَقُّ بَيْنَهُما. وَهَذا السُّجُودُ شَرَعَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ عُبُودِيَّةً عِنْدَ تِلاوَةِ هَذِهِ الآياتِ واسْتِماعِها، وقُرْبَةً إلَيْهِ، وخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وتَذَلُّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، واقْتِرانُ الرُّكُوعِ بِبَعْضِ آياتِهِ مِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، ويُقَوِّيه، لا يُضْعِفُهُ ويُوهِيه، واللَّهُ المُسْتَعانُ. وَأمّا قَوْله تَعالى: ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: ٤٣] فَإنَّما لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ لِأنَّهُ خَبَرٌ خاصٌّ عَنْ قَوْلِ المَلائِكَةِ لِامْرَأةٍ بِعَيْنِها أنْ تُدِيمَ العِبادَةَ لِرَبِّها بِالقُنُوتِ وتُصَلِّيَ لَهُ بِالرُّكُوعِ والسُّجُودِ؛ فَهو خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ المَلائِكَةِ لَها ذَلِكَ، وإعْلامٌ مِن اللَّهِ تَعالى لَنا أنَّ المَلائِكَةَ قالَتْ ذَلِكَ لِمَرْيَمَ. فَسِياقُ ذَلِكَ غَيْرُ سِياقِ آياتِ السَّجَداتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب