الباحث القرآني
(p-٢١٧)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ﴾ ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الراكِعِينَ﴾
قالَ الطَبَرِيُّ: العامِلُ في "إذْ" قَوْلُهُ: "سَمِيعٌ" فَهو عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَتِ امْرَأتُ عِمْرانَ﴾ [آل عمران: ٣٥]، وقالَ كَثِيرٌ مِنَ النُحاةِ: العامِلُ في "إذْ" في هَذِهِ الآيَةِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: "واذْكُرْ" وهَذا هو الراجِحُ لِأنَّ هَذِهِ الآياتِ كُلَّها إنَّما هي إخْباراتٌ بِغَيْبٍ تَدُلُّ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مَقْصِدُ ذِكْرِها هو الأظْهَرُ في حِفْظِ رَوْنَقِ الكَلامِ.
وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وابْنُ مَسْعُودٍ: "وَإذْ قالَ المَلائِكَةُ".
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ - هَلِ المُرادُ هُنا بِالمَلائِكَةِ جِبْرِيلُ وحْدَهُ، أو جَمْعٌ مِنَ المَلائِكَةِ؟ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ عَلى مَعْنى مِثْلِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩].
و"اصْطَفاكِ": مَأْخُوذٌ مِن صَفا يَصْفُو وزْنُهُ "افْتَعَلَ"، وبُدِّلَتْ طاءً لِتُناسِبَ الصادَ. فالمَعْنى: تَخَيَّرَكِ لِطاعَتِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَطَهَّرَكِ " مَعْناهُ: مِن كُلِّ ما يَصِمُ النِساءَ في خَلْقٍ أو خُلُقٍ أو دِينٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ. وقالَ الزَجّاجُ: قَدْ جاءَ في التَفْسِيرِ أنَّ مَعْناهُ: مِنَ الحَيْضِ والنِفاسِ؛ وهَذا يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ قَوِيٍّ وما أحْفَظُهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ﴾ إنْ جَعَلْنا "العالَمِينَ" عامًّا فِيمَن تَقَدَّمَ وتَأخَّرَ جَعَلْنا الِاصْطِفاءَ مَخْصُوصًا في أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ وأنَّها اصْطُفِيَتْ لِتَلِدَ مِن غَيْرِ فَحْلٍ، وإنْ جَعَلْنا الِاصْطِفاءَ عامًّا جَعَلْنا قَوْلَهُ: "العالَمِينَ" مَخْصُوصًا في عالَمِ ذَلِكَ الزَمانِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهُ، وقَدْ رُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "خَيْرُ نِساءِ الجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، خَيْرُ نِساءِ الجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ"،» ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: « "خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وخَيْرُ نِسائِها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ"» فَذَهَبَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ إلى أنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: « "خَيْرُ نِسائِها"» يُرادُ بِهِ الجَنَّةُ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يُرادُ بِهِ الدُنْيا، أيْ كُلُّ امْرَأةٍ في زَمانِها، وقالَ النَبِيُّ ﷺ « "خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صالِحُ نِساءِ (p-٢١٨)قُرَيْشٍ، أحْناهُ عَلى ولَدٍ في صِغَرِهِ، وأرْعاهُ إلى زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ"».قالَ أبُو هُرَيْرَةَ راوِي الحَدِيثِ: ولَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ بَعِيرًا قَطُّ، وهَذِهِ الزِيادَةُ فِيها غَيْبٌ، فَلا يُتَأوَّلُ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَها إلّا عن سَماعٍ مِنَ النَبِيِّ ﷺ ورَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "خَيْرُ نِساءِ العالَمِينَ أرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ".» وقَدْ أسْنَدَ الطَبَرِيُّ «أنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ قالَ لِفاطِمَةَ بِنْتِهِ: "أنْتِ سَيِّدَةُ نِساءِ أهْلِ الجَنَّةِ، إلّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرانَ البَتُولَ"،» وأنَّهُ قالَ: « "فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلى نِساءِ أُمَّتِي، كَما فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلى نِساءِ العالَمِينَ".»
وإذا تَأمَّلْتَ هَذِهِ الأحادِيثَ وغَيْرَها مِمّا هو في مَعْناها، وجَدْتَ مَرْيَمَ فِيها مُتَقَدِّمَةً، فَسائِغٌ أنْ يُتَأوَّلَ عُمُومُ الِاصْطِفاءِ عَلى العالَمِينَ عُمُومًا أيْضًا. وقَدْ قالَ بَعْضُ الناسِ: إنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: كانَتِ المَلائِكَةُ تُقْبِلُ عَلى مَرْيَمَ فَتَقُولُ: ﴿يا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اصْطَفاكِ﴾ الآيَةَ، فَيَسْمَعُ ذَلِكَ زَكَرِيّاءُ فَيَقُولُ: إنَّ لِمَرْيَمَ لَشَأْنًا، فَمِن مُخاطَبَةِ المَلائِكَةِ لَها، جَعَلَها هَذا القائِلُ نَبِيَّةً، وجُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّهُ لَمْ تُنَبَّإ امْرَأةٌ.
و"اقْنُتِي" مَعْناهُ: اعْبُدِي وأطِيعِي، قالَهُ قَتادَةُ والحَسَنُ، ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهو بِمَعْنى طاعَةِ اللهِ"» ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: أطِيلِي القِيامَ في الصَلاةِ، وهَذا هو قَوْلُ الجُمْهُورِ، وهو المُناسِبُ في المَعْنى لِقَوْلِهِ: ﴿واسْجُدِي وارْكَعِي﴾ وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُرَيْجٍ، والرَبِيعُ، ورَوى مُجاهِدٌ أنَّها لَمّا خُوطِبَتْ بِهَذا قامَتْ حَتّى ورِمَتْ قَدَماها. ورَوى الأوزاعِيُّ أنَّها قامَتْ حَتّى سالَ الدَمُ والقَيْحُ مِن قَدَمَيْها. ورُوِيَ أنَّ الطَيْرَ كانَتْ تَنْزِلُ عَلى رَأْسِها، تَظُنُّها جَمادًا لِسُكُونِها في طُولِ قِيامِها.
(p-٢١٩)وَقَدْ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "اقْنُتِي لِرَبِّكِ" مَعْناهُ: أخْلِصِي لِرَبِّكِ.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ: لِمَ قَدَّمَ السُجُودَ عَلى الرُكُوعِ؟ فَقالَ قَوْمٌ: كانَ ذَلِكَ في شَرْعِ زَكَرِيّاءَ وغَيْرِهِ مِنهم وقالَ قَوْمٌ: الواوُ لا تُعْطِي رُتْبَةً، وإنَّما المَعْنى: افْعَلِي هَذا وهَذا، وقَدْ عُلِمَ تَقْدِيمُ الرُكُوعِ، وهَذِهِ الآيَةُ أكْثَرُ إشْكالًا مِن قَوْلِنا: "قامَ زَيْدٌ وعَمْرٌو" لِأنَّ قِيامَ زَيْدٍ وعَمْرٍو لَيْسَ لَهُ رُتْبَةٌ مَعْلُومَةٌ، وهَذِهِ الآيَةُ قَدْ عُلِمَ أنَّ السُجُودَ بَعْدَ الرُكُوعِ، فَكَيْفَ جاءَتِ الواوُ بِعَكْسِ ذَلِكَ؟ فالقَوْلُ عِنْدِي في ذَلِكَ أنَّ مَرْيَمَ أُمِرَتْ بِفَصْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ مِن مَعالِمِ الصَلاةِ، وهُما طُولُ القِيامِ والسُجُودِ، وخُصّا بِالذِكْرِ لِشَرَفِهِما في أرْكانِ الصَلاةِ، إذِ العَبْدُ يَقْرُبُ في وقْتِ سُجُودِهِ مِنَ اللهِ تَعالى، وهَذانِ يَخْتَصّانِ بِصَلاتِها مُفْرَدَةً، وإلّا فَمَن يُصَلِّي وراءَ إمامٍ فَلَيْسَ يُقالُ لَهُ: أطِلْ قِيامَكَ، ثُمَّ أُمِرَتْ - بَعْدُ- بِالصَلاةِ في الجَماعَةِ، فَقِيلَ لَها: ﴿وارْكَعِي مَعَ الراكِعِينَ﴾ وقُصِدَ هُنا مَعْلَمٌ مِن مَعالِمِ الصَلاةِ، لِئَلّا يَتَكَرَّرَ لَفْظٌ، ولَمْ يُرِدْ بِالآيَةِ السُجُودَ والرُكُوعَ الَّذِي هو مُنْتَظَمٌ في رَكْعَةٍ واحِدَةٍ، واللهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":42,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"],"ayah":"یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق