الباحث القرآني
﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ مِن مَقُولِ المَلائِكَةِ أيْضًا وصَّوْها بِالمُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ بَعْدَ أنْ أخْبَرُوها بِعُلُوِّ دَرَجَتِها وكَمالِ قُرْبِها إلى اللَّهِ تَعالى لِئَلّا تَفْتُرَ ولا تَغْفُلَ عَنِ العِبادَةِ، وتَكْرِيرُ النِّداءِ لِلْإشارَةِ إلى الِاعْتِناءِ بِما يَرِدُ بَعْدُ، كَأنَّهُ هو المَقْصُودُ بِالذّاتِ وما قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ.
والقُنُوتُ إطالَةُ القِيامِ في الصَّلاةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ إدامَةُ الطّاعَةِ، قالَهُ قَتادَةُ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الرّاغِبُ، أوِ الإخْلاصُ في العِبادَةِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أوْ أصْلُ القِيامِ في الصَّلاةِ، قالَهُ بَعْضُهُمْ، والتَّعَرُّضِ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ (p-157)وُجُوبِ اِمْتِثالِ الأوامِرِ.
﴿واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [ 43 ] يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ الأمْرَ بِالصَّلاةِ إلّا أنَّهُ أمَرَ سُبْحانَهُ بِها بِذِكْرِ أرْكانِها مُبالَغَةً في إيجابِ المُحافَظَةِ عَلَيْها لِما أنَّ في ذِكْرِ الشَّيْءِ تَفْصِيلًا تَقْرِيرًا لَيْسَ في الإجْمالِ، ولَعَلَّ تَقْدِيمَ السُّجُودِ عَلى الرُّكُوعِ لِأنَّهُ كَذَلِكَ في صَلاتِهِمْ، وقِيلَ: لِأنَّهُ أفْضَلُ أرْكانِ الصَّلاةِ وأقْصى مَراتِبِ الخُضُوعِ، وفي الخَبَرِ: «”أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ“،» أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الواوَ لا تُوجِبِ التَّرْتِيبَ أوْ لِيَقْتَرِنَ ”ارْكَعِي“ بِالرّاكِعِينَ لِلْإيذانِ بِأنَّ مَن لَيْسَ في صَلاتِهِمْ رُكُوعٌ لَيْسُوا مُصَلِّينَ، وكُلٌّ مِن هَذِهِ الأوْجُهِ لا يَخْلُو عَنْ دَغْدَغَةٍ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّهُ إنَّما يَتِمُّ عَلى القَوْلِ بِأنَّ القِيامَ لَيْسَ أفْضَلَ مِنَ السُّجُودِ كَما نُقِلَ عَنِ الإمامِ الشّافِعِيِّ، وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ خِطابَ القُرْآنِ مَعَ مَن يَعْلَمُ لُغَةَ العَرَبِ لا مَعَ مَن يَتَعَلَّمُ مِنهُ اللُّغَةَ، وأمّا الثّالِثُ: فَلِأنَّ تَمامِيَّتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلى بَيانِ وجْهِ أنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ بِالسّاجِدِينَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن لا سَجْدَةَ في صِلاتِهِ لَيْسَ مِنَ المُصَلِّينَ؟ وكَأنَّ وجْهَ ذَلِكَ ما يُسْتَفادُ مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ قالَ: ((ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في زَمانِها مَن كانَ يَقُومُ ويَسْجُدُ في صَلاتِهِ ولا يَرْكَعُ، وفِيهِ مَن يَرْكَعُ، فَأُمِرَتْ بِأنْ تَرْكَعَ مَعَ الرّاكِعِينَ ولا تَكُونَ مَعَ مَن لا يَرْكَعُ))، فالنُّكْتَةُ في التَّعْبِيرِ ما جُعِلَتْ نُكْتَةً في ذِكْرِ ﴿وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ واعْتَرَضَهُ أيْضًا بَعْضُهم بِأنَّهُ إذا قُدِّمَ الرُّكُوعُ، وقِيلَ: (وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ واسْجُدِي) يَحْصُلُ ذَلِكَ المَقْصُودُ، ولا مَدْخَلَ لِلتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ في إفادَةِ ذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ بِالسُّجُودِ وحْدَهُ الصَّلاةُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأدْبارَ السُّجُودِ﴾ والتَّعْبِيرُ عَنِ الصَّلاةِ بِذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالجُزْءِ عَنِ الكُلِّ، ويُرادُ بِالرُّكُوعِ الخُشُوعُ والتَّواضُعُ وكَأنَّ أمْرَها بِذَلِكَ حِفْظًا لَها مِنَ الوُقُوعِ في مَهاوِي التَّكَبُّرِ والِاسْتِعْلاءِ بِما لَها مِن عُلُوِّ الدَّرَجَةِ، والِاحْتِمالُ الأوَّلُ هو الظّاهِرُ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنِ الأوْزاعِيِّ، قالَ: «كانَتْ تَقُومُ حَتّى يَسِيلَ القَيْحُ مِن قَدَمَيْها» وما أخْرَجَهُ اِبْنُ عَساكِرَ في الآيَةِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ، قالَ: «كانَتْ مَرْيَمُ تُصَلِّي حَتّى تَوَرَّمَ قَدَماها».
والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ فائِدَةَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ الإرْشادُ إلى صَلاةِ الجَماعَةِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ، وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ عَلى أنَّ نُكْتَةَ التَّعْبِيرِ بِذَلِكَ في المَقامِ دُونَ واسْجُدِي مَعَ السّاجِدِينَ الإشارَةُ إلى أنَّ مَن أدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَ الإمامِ فَقَدْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، وعُورِضَ بِأنَّهُ لَوْ قِيلَ: واسْجُدِي مَعَ السّاجِدِينَ لَرُبَّما كانَ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ مَن أدْرَكَ السُّجُودَ مَعَ الإمامِ فَقَدْ أدْرَكَ الجَماعَةَ، ولَعَلَّ هَذِهِ الإشارَةَ أوْلى مِنَ الأُولى في هَذا المَقامِ، واسْتِلْزامُ ذَلِكَ أنَّ مَن أدْرَكَ ما بَعْدَ السُّجُودِ مَعَهُ لا يُدْرِكُ الجَماعَةَ في حَيِّزِ المَنعِ، ولا يَخْفى أنَّ المُعارِضَ والمُعارَضَ لَيْسا بِشَيْءٍ عِنْدَ المُنْصِفِينَ، وأحْسَنُ مِنهُما ما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ «اَلْكَشّافِ»، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ (مَعَ) مَجازٌ عَنِ المُوافَقَةِ في الفِعْلِ فَقَطْ دُونَ اِجْتِماعٍ، أيِ اِفْعَلِي كَفِعْلِ الرّاكِعِينَ وإنْ لَمْ تُوقِعِي الصَّلاةَ مَعَهُمْ، قالَ: لِأنَّها كانَتْ تُصَلِّي في مِحْرابِها، وأيْضًا أنَّها كانَتْ شابَّةً وصَلاةُ الشَّوابِّ في الجَماعَةِ مَكْرُوهَةٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ اِرْتِكابٌ لِلتَّجَوُّزِ الَّذِي هو خِلافُ الأصْلِ مِن غَيْرِ داعٍ، وكَوْنُها كانَتْ تُصَلِّي في مِحْرابِها أحْيانًا مُسَلَّمٌ لَكِنْ لا يَدُلُّ عَلى المُدَّعى، ودائِمًا مِمّا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وبِفَرْضِهِ لا يَدُلُّ عَلى المُدَّعى أيْضًا لِجَوازِ اِقْتِدائِها وهي في المِحْرابِ، وكَراهَةُ صَلاةِ الشّابَّةِ في الجَماعَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَنا ثُبُوتُها في شَرْعِ مَن قَبْلَنا، عَلى أنَّ الماتُرِيدِيَّ نَفى كَراهَةَ صَلاةِ مَرْيَمَ في الجَماعَةِ وإنْ كانَتْ شابَّةً، وقُلْنا بِكَراهَةِ صَلاةِ الشَّوابِّ في شَرْعِهِمْ أيْضًا، وعَلَّلَهُ بِكَوْنِ القَوْمِ الَّذِينَ كانَتْ تُصَلِّي مَعَهم كانُوا ذَوِي قَرابَةٍ مِنها ورَحِمٍ، ولِذَلِكَ اِخْتَصَمُوا في ضَمِّها وإمْساكِها، ورُبَّما يُعَلَّلُ بِعَدَمِ خَشْيَةِ الفِتْنَةِ وإنْ كانُوا أجانِبَ، ويَسْتَأْنِسُ لِهَذا بِذَهابِها مَعَ يُوسُفَ لِمَلْءِ القُلَّةِ في المَغارَةِ، ولَعَلَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَرْكَعُ مَعَهم مِن هَذا القَبِيلِ، وإنْ قُلْنا: إنَّها تَقْتَدِي وهي في مِحْرابِها إمّا وحْدَها أوْ مَعَ نِسْوَةٍ زالَ الإشْكالُ.
وجاءَ ﴿مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ دُونَ الرّاكِعاتِ (p-158)لِأنَّ هَذا الجَمْعَ أعَمُّ إذْ يَشْمَلُ الرِّجالَ والنِّساءَ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، ولِمُناسَبَةِ رُؤُوسِ الآيِ، ولِأنَّ الِاقْتِداءَ بِالرِّجالِ أفْضَلُ إنْ قُلْنا: إنَّها مَأْمُورَةٌ بِصَلاةِ الجَماعَةِ، وادَّعى بَعْضُهم أنَّ في التَّعْبِيرِ بِذَلِكَ مَدْحًا ضِمْنِيًّا لِمَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ ولَمْ يُقَيِّدِ الأمْرَيْنِ الأخِيرَيْنِ بِما قَيَّدَ بِهِ الأمْرَ الأوَّلَ اِكْتِفاءً بِالتَّقْيِيدِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: ((إنَّ تَجْرِيدَ الأمْرِ بِالرُّكْنَيْنِ الأخِيرَيْنِ عَمّا قَيَّدَ بِهِ الأوَّلَ لِما أنَّ المُرادَ تَقْيِيدُ الأمْرِ بِالصَّلاةِ بِذَلِكَ، وقَدْ فَعَلَ حَيْثُ قَيَّدَ بِهِ الرُّكْنَ الأوَّلَ مِنها))، ولَعَلَّ ما ذَكَرْناهُ أوْلى لِأنَّهُ مُطَّرِدٌ عَلى سائِرِ الأقْوالِ في القُنُوتِ، وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي داوُدَ في «اَلْمَصاحِفِ» عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ (وارْكَعِي واسْجُدِي في السّاجِدِينَ).
{"ayah":"یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق