الباحث القرآني
﴿وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ﴾ ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤] ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ وجِيهًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: ٤٥] ﴿ويُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا ومِنَ الصّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٤٦] ﴿قالَتْ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي ولَدٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧] ﴿ويُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٤٨] ﴿ورَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ أنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكم أنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيِي المَوْتى بِإذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكم بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكم إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٤٩] ﴿ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ولِأُحِلَّ لَكم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكم وجِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكم فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ [آل عمران: ٥٠] ﴿إنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: ٥١] . القَلَمُ: مَعْرُوفٌ، وهو الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وجَمْعُهُ: أقْلامٌ، ويَقَعُ عَلى السَّهْمِ الَّذِي يُقْتَرَعُ بِهِ، وهو فِعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ؛ لِأنَّهُ يُقَلَّمُ أيْ: يُبْرى ويُسَوّى. وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ القُلامَةِ، وهي نَبْتٌ ضَعِيفٌ لِتَرْقِيقِهِ، والقُلامَةُ أيْضًا ما سَقَطَ مِنَ الظُّفْرِ إذا قُلِّمَ، وقَلَّمْتُ أظْفارَهُ أخَذْتُ مِنها وسَوَّيْتُها، قالَ زُهَيْرٌ:
؎لَدى أسَدٍ شاكِي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقالَ بَعْضَ المُوَلِّدِينَ:
؎يُشَبَّهُ بِالهِلالِ وذاكَ نَقْصٌ ∗∗∗ قُلامَةُ ظَفْرِهِ شِبْهُ الهِلالِ
الوَحْيُ: إلْقاءُ المَعْنى في النَّفْسِ في خَفاءٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِالمَلَكِ لِلرُّسُلِ، وبِالإلْهامِ كَقَوْلِهِ: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] وبِالإشارَةِ، كَقَوْلِهِ.
لَأوْحَتْ إلَيْنا والأنامِلُ رُسْلُها
﴿فَأوْحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا﴾ [مريم: ١١] وبِالكِتابَةِ: قال زُهَيْرٌ:
أتى العُجْمَ والآفاقَ مِنهُ قَصائِدُ بَقَيْنَ بَقاءَ الوَحْيِ في الحَجَرِ الأصَمْ
والوَحْيُ: الكِتابُ قالَ:
؎فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ∗∗∗ خَلَقًا كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وقِيلَ: الوُحِيُّ جَمْعُ وحْيٍ، وأمّا الفِعْلُ، فَيُقالُ أوْحى، ووَحى.
المَسِيحُ: عِبْرانِيٌّ مُعَرَّبٌ، وأصْلُهُ بِالعِبْرانِيِّ مَشِيحًا، بِالشِّينِ، عُرِّبَ بِالسِّينِ، كَما غُيِّرَتْ في مُوَشى، فَقِيلَ: مُوسى، قالَهُ أبُو عُبَيْدٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْناهُ المُبارَكُ، كَقَوْلِهِ ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَما كُنْتُ﴾ [مريم: ٣١] وهو مِنَ الألْقابِ المُشَرِّفَةِ، كالصِّدِّيقِ، والفارُوقِ، انْتَهى. وقِيلَ: المَسِيحُ عَرَبِيٌّ، واخْتُلِفَ: أهْوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّياحَةِ فَيَكُونُ وزْنُهُ مُفْعِلًا ؟ أوْ مِنَ المَسِيحِ فَيَكُونُ وزْنُهُ فَعِيلًا ؟ وهَلْ يَكُونُ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، أوْ فاعِلٍ خِلافٌ، ويَتَبَيَّنُ في التَّفْسِيرِ لِمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ.
الكَهْلُ: الَّذِي بَلَغَ سِنَّ الكُهُولَةِ، وآخِرُها سِتُّونَ وقِيلَ: خَمْسُونَ، وقِيلَ: اثْنانِ وخَمْسُونَ، ثُمَّ يَدْخُلُ (p-٤٥٥)سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ.
واخْتُلِفَ في أوَّلِها فَقِيلَ: ثَلاثُونَ، وقِيلَ: اثْنانِ وثَلاثُونَ، وقِيلَ: ثَلاثَةٌ وثَلاثُونَ. وقِيلَ: خَمْسَةٌ وثَلاثُونَ، وقِيلَ: أرْبَعُونَ عامًا.
وهُوَ مِنِ اكْتَهَلَ النَّباتُ إذا قَوِيَ وعَلا، ومِنهُ: الكاهِلُ، وقالَ ابْنُ فارِسٍ: اكْتَهَلَ الرَّجُلُ وخَطَّهُ الشَّيْبُ، مِن قَوْلِهِمُ: اكْتَهَلَتِ الرَّوْضَةُ إذا عَمَّها النُّورُ، ويُقالُ لِلْمَرْأةِ: كَهِلَةٌ انْتَهى.
ونُقِلَ عَنِ الأئِمَّةِ في تَرْتِيبِ سَنِّ المَوْلُودِ وتَنَقُّلِ أحْوالِهِ: أنَّهُ في الرَّحِمِ: جَنَيْنٌ، فَإذا وُلِدَ: فَوَلِيدٌ، فَإذا لَمْ يَسْتَتِمَّ الأُسْبُوعَ: فَصَدِيعٌ، وإذا دامَ يَرْضَعُ: فَرَضِيعٌ، وإذا فُطِمَ: فَفَطِيمٌ، وإذا لَمْ يَرْضَعْ: فَجَحُوشٌ، فَإذا دَبَّ ونَما: فَدارِجٌ، فَإذا سَقَطَتْ رَواضِعَهُ: فَمَثْغُورٌ، فَإذا نَبَتَتْ بَعْدَ السُّقُوطِ: فَمُتَّغِرٌ، بِالتّاءِ، والثّاءِ. فَإذا كانَ يُجاوِزُ العَشْرَ: فَمُتَرَعْرِعٌ وناشِئٌ، فَإذا كانَ يَبْلُغُ الحُلُمَ: فَيافِعٌ، ومُراهِقٌ، فَإذا احْتَلَمَ: فَمَحْزُورٌ، وهو في جَمِيعِ هَذِهِ الأحْوالِ: غُلامٌ. فَإذا اخْضَرَّ شارِبُهُ وسالَ عِذارُهُ: فَباقِلٌ، فَإذا صارَ ذاقِنًا: فَفَتى، وشارِخٌ، فَإذا كَمُلَتْ لِحْيَتُهُ: فَمُجْتَمَعٌ، ثُمَّ ما دامَ بَيْنَ الثَّلاثِينَ، والأرْبَعِينَ: فَهو شابٌّ، ثُمَّ هو كَهْلٌ: إلى أنْ يَسْتَوْفِيَ السِتِّينَ. هَذا هو المَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ.
الطِّينُ: مَعْرُوفٌ، ويُقالُ طانَهُ اللَّهُ عَلى كَذا، وطامَهُ بِإبْدالِ النُّونِ مِيمًا، جَبَلَهُ وخَلَقَهُ عَلى كَذا، ومُطَيَّنٌ لَقَبٌ لِمُحَدِّثٍ مَعْرُوفٍ. الهَيْئَةُ: الشَّكْلُ والصُّورَةُ، وأصْلُهُ مَصْدَرٌ، يُقالُ: هاءَ الشَّيْءُ يَهاءُ هَيْأً، وهَيْئَةً إذا تَرَتَّبَ واسْتَقَرَّ عَلى حالٍ ما، وتَعَدِّيهِ بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: هَيَّأْتُهُ، قالَ ﴿ويُهَيِّئْ لَكُمْ﴾ [الكهف: ١٦] .
النَّفْخُ: مَعْرُوفٌ. الإبْراءُ: إزالَةُ العِلَّةِ والمَرَضِ، يُقالُ: بَرِئَ الرَّجُلُ وبَرَأ مِنَ المَرَضِ، وأمّا مِنَ الذَّنْبِ، ومِنَ الدِّينِ فَبَرِيءٌ. الأكْمَهَ: العَمى يُولَدُ بِهِ الإنْسانُ وقَدْ يَعْرِضُ، يُقالُ: كَمَّهُ يُكِمُّهُ كَمَهًا: فَهو أكْمَهُ. وكَمَّهْتُها أنا أعْمَيْتُها قالَ سُوَيْدٌ: .
؎كَمَّهْتُ عَيْناهُ حَتّى ابْيَضَّتا
وقالَ رُؤْبَةُ.
؎فارْتَدَّ عَنْها كارْتِدادِ الأكْمَهِ
البَرَصُ: داءٌ مَعْرُوفٌ وهو بَياضٌ يَعْتَرِي الجِلْدَ، يُقالُ مِنهُ: بَرَصٌ فَهو أبْرَصُ، ويُسَمّى القَمَرُ أبْرَصَ لِبَياضِهِ، والوَزَغُ سامٌّ أبْرَصُ لِلْبَياضِ الَّذِي يَعْلُو جِلْدَهُ. ذَخَرَ: الشَّيْءَ يَذْخَرُهُ خَبَّأهُ، والذُّخْرُ المَذْخُورُ قالَ:
؎لَها أشارِيرُ مِن لَحْمٍ تُثَمِّرُهُ ∗∗∗ مِنَ الثَّعالِي وذُخْرٌ مِن أرانِبِها
﴿وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ﴾ لَمّا فَرَغَ مِن قِصَّةِ زَكَرِيّا، وكانَ قَدِ اسْتَطْرَدَ مِن قِصَّةِ مَرْيَمَ إلَيْها، رَجَعَ إلى قِصَّةِ مَرْيَمَ، وهَكَذا عادَةُ أسالِيبِ العَرَبِ، مَتى ذَكَرُوا شَيْئًا اسْتَطْرَدُوا مِنهُ إلى غَيْرِهِ، ثُمَّ عادُوا إلى الأوَّلِ إنْ كانَ لَهم غَرَضٌ في العَوْدِ إلَيْهِ، والمَقْصُودُ تَبْرِئَةُ مَرْيَمَ عَنْ ما رَمَتْها بِهِ اليَهُودُ، وإظْهارُ اسْتِحالَةِ أنْ يَكُونَ عِيسى إلَهًا، فَذَكَرَ وِلادَتَهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ ”المَلائِكَةُ“ أنَّهُ جَمْعٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: المُرادُ جِبْرِيلُ ومِن مَعَهُ مِنَ المَلائِكَةِ، لِأنَّهُ نُقِلَ أنَّهُ: لا يَنْزِلُ لِأمْرٍ إلّا ومَعَهُ جَماعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: جِبْرِيلُ وحْدَهُ.
وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: وإذْ قالَ المَلائِكَةُ، وفي نِداءِ المَلائِكَةِ لَها بِاسْمِها تَأْنِيسٌ لَها، وتَوْطِئَةٌ لِما تُلْقِيهِ إلَيْها، ومَعْمُولُ القَوْلِ الجُمْلَةُ المُؤَكَّدَةُ: بِـ ”إنَّ“ .
والظّاهِرُ: مُشافَهَةُ المَلائِكَةِ لَها بِالقَوْلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رُوِيَ أنَّهم كَلَّمُوها شِفاهًا مُعْجِزَةً لِزَكَرِيّا، أوْ إرْهاصًا لِنُبُوَّةِ عِيسى انْتَهى. يَعْنِي بِالإرْهاصِ التَّقَدُّمَ، والدَّلالَةُ عَلى نُبُوَّةِ عِيسى، وهَذا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ؛ لِأنَّ الخارِقَ لِلْعادَةِ عِنْدَهم لا يَكُونُ عَلى يَدٍ غَيْرَ نَبِيٍّ إلّا إنْ كانَ في وقْتِهِ نَبِيٌّ، أوِ انْتَظَرَ بَعْثَ نَبِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الخارِقُ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ بَعْثَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ.
﴿وطَهَّرَكِ﴾ التَّطْهِيرُ هُنا مِنَ الحَيْضِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، قالَ السُّدِّيُّ: وكانَتْ مَرْيَمُ لا تَحِيضُ. وقالَ قَوْمٌ: مِنَ الحَيْضِ والنِّفاسِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: مِن مَسِّ الرِّجالِ، وعَنْ مُجاهِدٍ: عَمّا يَصِمُ النِّساءَ في خَلْقٍ وخُلُقٍ ودِينٍ، وعَنْهُ أيْضًا: مِنَ الرَّيْبِ والشُّكُوكِ.
﴿واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ﴾ قِيلَ: كَرَّرَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ والمُبالَغَةِ، وقِيلَ: لا تَوْكِيدَ إذِ المُرادُ بِالِاصْطِفاءِ الأوَّلِ اصْطِفاءُ الوِلايَةِ، وبِالثّانِي اصْطِفاءُ وِلادَةِ عِيسى؛ لِأنَّها بِوِلادَتِهِ حَصَلَ لَها زِيادَةُ اصْطِفاءٍ وعُلُوُّ مَنزِلَةٍ عَلى الأكْفاءِ، وقِيلَ: الِاصْطِفاءُ الأوَّلُ: اخْتِيارٌ، وعُمُومٌ يَدْخُلُ فِيهِ صَوالِحُ مِنَ النِّساءِ، والثّانِي: اصْطِفاءٌ عَلى نِساءِ العالَمِينَ.
(p-٤٥٦)وقِيلَ: لَمّا أُطْلِقَ الِاصْطِفاءُ الأوَّلُ، بَيَّنَ بِالثّانِي أنَّها مُصْطَفاةٌ عَلى النِّساءِ دُونَ الرِّجالِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اصْطَفاكِ أوَّلًا حِينَ تَقَبَّلَكِ مِن أُمِّكِ ورَبّاكِ، واخْتَصَّكِ بِالكَرامَةِ السَّنِيَّةِ، وطَهَّرَكِ مِمّا يُسْتَقْذَرُ مِنَ الأفْعالِ، ومِمّا قَذَفَكِ بِهِ اليَهُودُ، واصْطَفاكِ آخِرًا عَلى نِساءِ العالَمِينَ بِأنْ وهَبَ لَكِ عِيسى مِن غَيْرِ أبٍ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأحَدٍ مِنَ النِّساءِ انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ، ويَكُونُ: نِساءِ العالَمِينَ، عَلى قَوْلِهِ عامًّا، ويَكُونُ الأمْرُ الَّذِي اصْطُفِيَتْ بِهِ مِن أجْلِهِ هو اخْتِصاصُها بِوِلادَةِ عِيسى، وقِيلَ: هو خِدْمَةُ البَيْتِ، وقِيلَ: التَّحْرِيرُ، ولَمْ تُحَرَّرْ أُنْثى غَيْرَ مَرْيَمَ، وقِيلَ: سَلامَتُها مِن نَخْسِ الشَّيْطانِ، وقِيلَ: نُبُوَّتُها، فَإنَّهُ قِيلَ إنَّها نُبِّئَتْ، وكانَتِ المَلائِكَةُ تَظْهَرُ لَها وتُخاطِبُها بِرِسالَةِ اللَّهِ لَها، وكانَ زَكَرِيّا يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: إنَّ لِمَرْيَمَ لَشَأْنًا. والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لَمْ يُنَبَّأِ امْرَأْةٌ، فالمَعْنى الَّذِي اصْطُفِيَتْ لِأجْلِهِ مَرْيَمُ عَلى نِساءِ العالَمِينَ، هو شَيْءٌ يَخُصُّها، فَهو اصْطِفاءٌ خاصٌّ إذْ سَبَبُهُ خاصٌّ، وقِيلَ: نِساءُ العالَمِينَ، خاصٌّ بِنِساءِ عالَمِ زَمانِها، فَيَكُونُ الِاصْطِفاءُ إذْ ذاكَ عامًّا، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
ورُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «خَيْرُ نِساءِ الجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ» . ورُوِيَ: «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ» ورُوِيَ: «خَيْرُ نِساءِ العالَمِينَ أرْبَعُ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ» ورُوِيَ: «فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلى نِساءِ أُمَّتِي كَما فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلى نِساءِ العالَمِينَ» ورُوِيَ: «أنَّها مِنَ الكامِلاتِ مِنَ النِّساءِ» . وقَدْ رُوِيَ في الأحادِيثِ الصِّحاحِ تَفْضِيلُ مَرْيَمَ عَلى نِساءِ العالَمِينَ، فَذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى ظاهِرِ هَذا التَّفْضِيلِ، قالَ بَعْضُ شُيُوخِنا: والَّذِي رَأيْتُ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ العُلَماءِ، أنَّهم يَنْقُلُونَ عَنْ أشْياخِهِمْ: أنَّ فاطِمَةَ أفْضَلُ النِّساءِ المُتَقَدِّماتِ والمُتَأخِّراتِ؛ لِأنَّها بَضْعَةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ.
﴿يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ لا خِلافَ بَيْنِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُنادِيَ لَها بِذَلِكَ المَلائِكَةُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم عَلى الخِلافِ المَذْكُورِ، والمُرادُ بِالقُنُوتِ هُنا: العِبادَةُ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. أوْ: طُولُ القِيامِ في الصَّلاةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُرَيْجٍ، والرَّبِيعُ، أوِ: الطّاعَةُ، أوِ: الإخْلاصُ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وفي قَوْلِهِ: لِرَبِّكِ، إشارَةٌ إلى أنْ تُفْرِدَهُ بِالعِبادَةِ وتُخَصِّصَهُ بِها، والجُمْهُورُ عَلى ما قالَهُ مُجاهِدٌ، وهو المُناسِبُ في المَعْنى لِقَوْلِهِ: ﴿واسْجُدِي وارْكَعِي﴾ ورَوى مُجاهِدٌ أنَّها: لَمّا خُوطِبَتْ بِهَذا قامَتْ حَتّى ورِمَتْ قَدَماها. وقالَ الأوْزاعِيُّ: قامَتْ حَتّى سالَ الدَّمُ والقَيْحُ مِن قَدَمَيْها. ورُوِيَ: أنَّ الطَّيْرَ كانَتْ تَنْزِلُ عَلى رَأْسِها تَظُنُّها جَمادًا لِسُكُونِها في طُولِ قِيامِها.
﴿واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ أمَرَتْها المَلائِكَةُ بِفِعْلِ ثَلاثَةِ أشْياءَ مِن هَيْئاتِ الصَّلاةِ، فَإنْ أُرِيدَ ظاهِرُ الهَيْئاتِ فَهي مَعْطُوفَةٌ بِالواوِ، والواوُ لا تُرَتِّبُ، فَلا يُسْألُ لِمَ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلى الرُّكُوعِ إلّا مِن جِهَةِ عِلْمِ البَيانِ. والجَوابُ: أنَّ السُّجُودَ لَمّا كانَتِ الهَيْئَةُ الَّتِي هي أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ فِيها إلى اللَّهِ قُدِّمَ، وإنْ كانَتْ مُتَأخِّرًا في الفِعْلِ عَلى الرُّكُوعِ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ. وقِيلَ: كانَ السُّجُودُ مُقَدَّمًا عَلى الرُّكُوعِ في شَرْعِ زَكَرِيّا، وغَيْرِهِ مِنهم، ذَكَرَهُ أبُو مُوسى الدِّمَشْقِيُّ. وقِيلَ: في كُلِّ المِلَلِ إلّا مِلَّةَ الإسْلامِ، فَجاءَ التَّقْدِيمُ مِن حَيْثُ الوُقُوعُ في ذَلِكَ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ التَّقْدِيمُ زَمانِيًّا مِن حَيْثُ الوُقُوعُ، وهَذا التَّقْدِيمُ أحَدُ الأنْواعِ الخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَها البَيانِيُّونَ، وكَذَلِكَ التَّقْدِيمُ الَّذِي قَبْلَهُ، وتَوارَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ عَلى أنَّهُ لا يُرادُ ظاهِرُ الهَيْئاتِ.
فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمِرَتْ بِالصَّلاةِ بِذِكْرِ القُنُوتِ والسُّجُودِ لِكَوْنِهِما مِن هَيْئاتِ الصَّلاةِ وأرْكانِها، ثُمَّ قِيلَ لَها ﴿وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ المَعْنى: ولْتَكُنْ صَلاتُكِ مَعَ المُصَلِّينَ أيْ في الجَماعَةِ، أيْ: وانْظُمِي نَفْسَكِ في جُمْلَةِ المُصَلِّينَ، وكُونِي مَعَهم وفي عِدادِهِمْ، ولا تَكُونِي في عِدادِ غَيْرِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: القَوْلُ عِنْدِي في ذَلِكَ أنَّ مَرْيَمَ أُمِرَتْ بِفِعْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ (p-٤٥٧)مِن مَعالِمِ الصَّلاةِ، وهُما: طُولُ القِيامِ والسُّجُودِ، وخُصّا بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِما في أرْكانِ الصَّلاةِ. وهَذانِ يَخْتَصّانِ بِصَلاتِها مُنْفَرِدَةً، وإلّا فَمَن يُصَلِّي وراءَ إمامٍ لا يُقالُ لَهُ: أطِلْ قِيامَكَ، ثُمَّ أُمِرَتْ بَعْدُ بِالصَّلاةِ في الجَماعَةِ، فَقِيلَ لَها: ﴿وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ وقُصِدَ هُنا مَعْلَمٌ آخَرُ مِن مَعالِمِ الصَّلاةِ لِئَلّا يَتَكَرَّرَ لَفْظٌ. ولَمْ يَرِدْ بِالآيَةِ السُّجُودَ والرُّكُوعَ الَّذِي هو مُنْتَظِمٌ في رَكْعَةٍ واحِدَةٍ انْتَهى كَلامُهُ. ولا ضَرُورَةَ بِنا تُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ ظاهِرِهِ.
وقَدْ ذَكَرْنا مُناسِبَةً لِتَقْدِيمِ السُّجُودِ عَلى الرُّكُوعِ، وقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا، فَقالَ: وهَذِهِ الآيَةُ أشَدُّ إشْكالًا مِن قَوْلِنا: قامَ زَيْدٌ وعَمْرٌو، لِأنَّ قِيامَ زَيْدٍ وعَمْرٍو، لَيْسَ لَهُ رُتْبَةٌ مَعْلُومَةٌ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ السُّجُودَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَكَيْفَ جاءَتِ الواوُ بِعَكْسِ ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ ؟ انْتَهى. وهَذا كَلامُ مَن لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ في كِتابِ سِيبَوَيْهِ، فَإنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَ أنَّ الواوَ يَكُونُ مَعَها في العَطْفِ المَعِيَّةُ، وتَقْدِيمُ السّابِقِ، وتَقْدِيمُ اللّاحِقِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ احْتِمالاتٍ سَواءً، فَلا يَتَرَجَّحُ أحَدُ الِاحْتِمالاتِ عَلى الآخَرِ، ولا التِفاتَ لِقَوْلِ بَعْضِ أصْحابِنا المُتَأخِّرِينَ في تَرْجِيحِ المَعِيَّةِ عَلى تَقْدِيمِ السّابِقِ، وعَلى تَقْدِيمِ اللّاحِقِ، ولا في تَرْجِيحِ تَقْدِيمِ السّابِقِ عَلى تَقْدِيمِ اللّاحِقِ. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَوْجِيهًا آخَرَ في تَأْخِيرِ الرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، فَقالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في زَمانِها مَن كانَ يَقُومُ ويَسْجُدُ في صَلاتِهِ، ولا يَرْكَعُ، وفِيهِ مَن يَرْكَعُ، فَأُمِرَتْ بِأنَّ تَرْكَعَ مَعَ الرّاكِعِينَ، ولا تَكُونَ مَعَ مَن لا يَرْكَعُ انْتَهى. فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَقْتَصِرِي عَلى القِيامِ والسُّجُودِ، بَلْ أضِيفِي إلى ذَلِكَ الرُّكُوعَ.
وقِيلَ: المُرادُ: بِاقْنُتِي: أطِيعِي، وبِاسْجُدِي: صَلِّي، ومِنهُ ﴿وأدْبارَ السُّجُودِ﴾ [ق: ٤٠] أيِ: الصَّلَواتِ، وبِـ ”ارْكَعِي“: اشْكُرِي مَعَ الشّاكِرِينَ، ومِنهُ: ﴿وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ [ص: ٢٤] ويُقَوِّي هَذا المَعْنى، ويَرُدُّ عَلى مَن زَعَمَ أنَّهُ لَمْ تُشَرَّعْ صَلاةٌ إلّا والرُّكُوعُ فِيها مُقَدَّمٌ عَلى السُّجُودِ، فَإنَّ المُشاهَدَ مِن صَلاةِ اليَهُودِ والنَّصارى خُلُوُّها مِنَ الرُّكُوعِ، ويَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِالرُّكُوعِ الِانْحِناءُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ مِنهُ إلى السُّجُودِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَرْكُ الرُّكُوعِ مِمّا غَيَّرَتْهُ اليَهُودُ والنَّصارى مِن مَعالِمِ شَرِيعَتِهِمْ. ومَعَ: في قَوْلِهِ: مَعَ الرّاكِعِينَ، تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ والِاجْتِماعَ في إيقاعِ الرُّكُوعِ مَعَ مَن يَرْكَعُ، فَتَكُونُ مَأْمُورَةً بِالصَّلاةِ في جَماعَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُتَجَوَّزَ في: مَعَ، فَتَكُونَ لِلْمُوافَقَةِ لِلْفِعْلِ فَقَطْ دُونَ اجْتِماعٍ، أيِ: افْعَلِي كَفِعْلِهِمْ، وإنْ لَمْ تُوقِعِي الصَّلاةَ مَعَهم، فَإنَّها كانَتْ تُصَلِّي في مِحْرابِها. وجاءَ: مَعَ الرّاكِعِينَ، دُونَ الرّاكِعاتِ؛ لِأنَّ هَذا الجَمْعَ أعَمُّ إذْ يَشْمَلُ الرِّجالَ والنِّساءَ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، ولِمُناسَبَةِ أواخِرِ الآياتِ قَبْلُ وبَعْدُ، ولِأنَّ الِاقْتِداءَ بِالرِّجالِ أفْضَلُ إنْ قُلْنا إنَّها مَأْمُورَةٌ بِصَلاةِ الجَماعَةِ.
قالَ الماتُرِيدِيُّ: ولَمْ تُكْرَهْ لَها الصَّلاةُ في الجَماعَةِ، وإنْ كانَتْ شابَّةً، لِأنَّهم كانُوا ذَوِي قَرابَةٍ مِنها ورَحِمٍ، ولِذَلِكَ اخْتُصُّوا في ضَمِّها وإمْساكِها انْتَهى.
﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] الإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِن قَصَصِ امْرَأةِ عِمْرانَ، وبِنْتِها مَرْيَمَ، وزَكَرِيّا، ويَحْيى، والمَعْنى: أنَّ هَذِهِ القَصَصَ وُصُولُها إلَيْكَ مِن جِهَةِ الوَحْيِ إذْ لَسْتَ مِمَّنْ دارَسَ الكُتُبَ، ولا صَحِبَ مَن يَعْرِفُ ذَلِكَ، وهو مِن قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، فَمُدْرَكُ ذَلِكَ إنَّما هو الوَحْيُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى، وقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ أبْعَدِ النّاسِ زَمانًا مِن زَمانِهِ ﷺ، وهو نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ، واسْتَوْفاها لَهُ في سُورَةِ هُودٍ أكْثَرَ مِمّا اسْتَوْفاها في غَيْرِها ﴿تِلْكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذا﴾ [هود: ٤٩] وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ أخْبَرَ بِغُيُوبٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْها إلّا مَن شاهَدَها، أوْ: مَن قَرَأها في الكُتُبِ السّابِقَةِ، أوْ: مَن أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ بِها، وقَدِ انْتَفى العِيانُ والقِراءَةُ، فَتَعَيَّنَ الثّالِثُ، وهو الوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعالى.
والكافُ في: ذَلِكَ، وإلَيْكَ: خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ والأحْسَنُ في الإعْرابِ أنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، مُبْتَدَأً و”مِن أنْباءِ الغَيْبِ“: خَبَرَهُ. وأنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، ويَكُونَ الضَّمِيرُ في: نُوحِيهِ، عائِدًا عَلى الغَيْبِ، أيْ: شَأْنُنا أنَّنا نُوحِي إلَيْكَ الغَيْبَ (p-٤٥٨)ونُعْلِمُكَ بِهِ، ولِذَلِكَ أتى بِالمُضارِعِ، ويَكُونُ أكْثَرَ فائِدَةً مِن عَوْدِهِ عَلى: ذَلِكَ، إذْ يَشْتَمِلُ ما تَقَدَّمَ مِنَ القَصَصِ، وغَيْرِها الَّتِي يُوحِيها إلَيْهِ في المُسْتَقْبَلِ، إذْ يَصِيرُ نَظِيرَ: زَيْدٌ يُطْعِمُ المَساكِينَ، فَيَكُونُ إخْبارًا بِالحالَةِ الدّائِمَةِ. والمُسْتَعْمَلُ في هَذا المَعْنى إنَّما هو المُضارِعُ، وإذْ يَلْزَمُ مِن عَوْدِهِ عَلى: ذَلِكَ، أنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، بِمَعْنى: أوْحَيْناهُ إلَيْكَ، لِأنَّ الوَحْيَ بِهِ قَدْ وقَعَ وانْفَصَلَ، فَيَكُونُ أبْعَدَ في المَجازِ مِنهُ إذا كانَ شامِلًا لِهَذِهِ القَصَصِ، وغَيْرِها مِمّا سَيَأْتِي، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، خَبَرًا: لِـ ”ذَلِكَ“ و”مِن أنْباءِ“: حالٌ مِنَ الهاءِ، في: نُوحِيهِ، أوْ مُتَعَلِّقًا: بِـ ”نُوحِيهِ“ .
﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] هَذا تَقْرِيرٌ وتَثْبِيتٌ أنَّ ما عَلِمَهُ مِن ذَلِكَ إنَّما هو بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والمُعْلَمُ بِهِ قِصَّتانِ: قِصَّةُ مَرْيَمَ، وقِصَّةُ زَكَرِيّا. فَنَبَّهَ عَلى قِصَّةِ مَرْيَمَ، إذْ هي المَقْصُودَةُ بِالإخْبارِ أوَّلًا، وإنَّما جاءَتْ قِصَّةُ زَكَرِيّا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِطْرادِ، ولِانْدِراجِ بَعْضِ قِصَّةِ زَكَرِيّا في ذِكْرِ مَن يَكْفُلُ، فَما خَلَتْ مِن تَنْبِيهٍ عَلى قِصَّةٍ ومَعْنى: ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ [آل عمران: ٤٤] أيْ: ما كُنْتَ مَعَهم بِحَضْرَتِهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم. ونُفِيَ المُشاهَدَةُ، وإنْ كانَتْ مُنْتَفِيَةً بِالعِلْمِ، ولَمْ تَنْتِفِ القِراءَةُ والتَّلَقِّي، مِن حُفّاظِ الأنْباءِ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ، وقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَقْرَأُ، ولا مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنِ الحُفّاظِ لِلْأخْبارِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِ، ونَظِيرُهُ في قِصَّةِ مُوسى: ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤] ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ﴾ [القصص: ٤٦] وفي قِصَّةِ يُوسُفَ ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ﴾ [يوسف: ١٠٢] .
والضَّمِيرُ، في: لَدَيْهِمْ، عائِدٌ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى، أيْ: وما كُنْتَ لَدى المُتَنازِعِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَأثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾ [العاديات: ٤] أيْ: بِالمَكانِ. والعامِلُ في: إذْ العامِلُ في: لَدَيْهِمْ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: العامِلُ في: إذْ، ”كُنْتَ“ انْتَهى. ولا يُناسِبُ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ في كانَ النّاقِصَةِ؛ لِأنَّهُ يَزْعُمُ أنَّها سَلَبَتِ الدَّلالَةَ عَلى الحَدَثِ، وتَجَرَّدَتْ لِلزَّمانِ وما سَبِيلُهُ هَكَذا، فَكَيْفَ يَعْمَلُ في ظَرْفٍ ؟ لِأنَّ الظَّرْفَ وِعاءٌ لِلْحَدَثِ، ولا حَدَثَ فَلا يَعْمَلُ فِيهِ، والمُضارِعُ بَعْدَ: إذْ في مَعْنى الماضِي، أيْ: إذْ ألْقَوْا أقْلامَهم لِلِاسْتِهامِ عَلى مَرْيَمَ، والظّاهِرُ أنَّها الأقْلامُ الَّتِي لِلْكِتابَةِ. قِيلَ: كانُوا يَكْتُبُونَ بِها التَّوْراةَ، فاخْتارُوها لِلْقُرْعَةِ تَبَرُّكًا بِها. وقِيلَ: الأقْلامُ هُنا الأزْلامُ، وهي: القِداحُ، ومَعْنى الإلْقاءِ هُنا الرَّمْيُ والطَّرْحُ، ولَمْ يَذْكُرْ في الآيَةِ ما الَّذِي ألْقَوْها فِيهِ، ولا كَيْفِيَّةَ حالِ (p-٤٥٩)الإلْقاءِ، وكَيْفَ خَرَجَ قَلَمُ زَكَرِيّا. وقَدْ ذَكَرْنا فِيما سَبَقَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ عَنِ المُفَسِّرِينَ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنها. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: كانَتِ الأُمَمُ يَكْتُبُونَ أسْماءَهم عَلى سِهامٍ عِنْدَ المُنازَعَةِ، فَمَن خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ سُلِّمَ لَهُ الأمْرُ، وهو شَبِيهٌ بِأمْرِ القِداحِ الَّتِي يُتَقاسَمُ بِها الجَزُورُ.
وارْتُفِعَ ﴿أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ، وهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ إمّا عَلى الحِكايَةِ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: يَقُولُونَ أيُّهم يَكْفُلُ، ودَلَّ عَلى المَحْذُوفِ: ﴿يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ﴾ [آل عمران: ٤٤] وقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إثْباتِ القُرْعَةِ، وهي مَسْألَةٌ فِقْهِيَّةٌ تُذْكَرُ في عِلْمِ الفِقْهِ.
{"ayahs_start":42,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"],"ayah":"یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق