الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ ۝﴾ [آل عمران: ٤٣]. أمَرَ اللهُ مريمَ بالصلاةِ له، لِتَقْوى صِلتُها به، ويَعظُمَ ثباتُها، ويَثقُلَ ميزانُها، فإنّ الصلاةَ أعظمُ أعمالِ الجوارحِ، والقنوتُ في الآيةِ: طولُ الركوعِ والسكونُ والخشوعُ فيها، قال مجاهدٌ: ﴿اقْنُتِي﴾، أيْ: أطِيلِي الرُّكُودَ[[«تفسير الطبري» (٥/٣٩٨).]]. ومعناهُ: طولُ الانْتِصابِ بينَ يدَيِ اللهِ، وبه قال أبو العاليةِ والربيعُ والأوزاعيُّ. وقيل: المرادُ به الطاعةُ، وبه قال قتادةُ وغيرُه[[«تفسير الطبري» (٥/٣٩٩).]]. صلاةُ بني إسرائيل: وصلاةُ بني إسرائيلَ ذاتُ ركوعٍ وسجودٍ، ولكنْ قيل: إنّها تَختلِفُ عن صلاةِ أهلِ الإسلامِ في عددِ الركعاتِ والصلواتِ والمواقيتِ. وقال بعضُهم: إنّ اللهَ أمَرَها بالركوعِ مع الراكعينَ، والمرادُ: شهودُ حضورِ أماكنِ الصلاةِ في الكنائسِ. وفي هذا المعنى في هذه الآيةِ نظرٌ، فإنّ اللهَ أمَرَها أنْ تَشْرَكَ العامِلِينَ في عملِها ممَّن سبَقَها وحضَرَها مِن الصالحينَ، وهو كقولِ اللهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ۝﴾ [التوبة: ١١٩]، أيْ: في الاتِّصافِ بصفتِهِمُ الظاهرةِ والباطنةِ، مع أنّ صلاةَ النساءِ للجماعةِ كانت في بَني إسرائيلَ أوَّلَ الأمرِ، ثمَّ مُنِعْنَ من ذلك، لِما جاء مِن حديثِ عائشةَ، قالتْ: «لَوْ أدْرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ما أحْدَثَ النِّساءُ، لَمَنَعَهُنَّ كَما مُنِعَتْ نِساءُ بَنِي إسْرائِيلَ»، متَّفَقٌ عليه[[أخرجه البخاري (٨٦٩) (١/١٧٣)، ومسلم (٤٤٥) (١/٣٢٨).]]. ومُنِعْنَ الجماعةَ، لأنّهُنَّ تَشَرَّفْنَ إلى الرجالِ، والبروزِ لهم، كما روى عبدُ الرزّاقِ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ، قالتْ: «كانَ نِساءُ بَنِي إسْرائِيلَ يَتَّخِذْنَ أرْجُلًا مِن خَشَبٍ، يَتَشَرَّفْنَ لِلرِّجالِ فِي المَساجِدِ، فَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِنَّ المَساجِدَ، وسُلِّطَتْ عَلَيْهِنَّ الحَيْضَةُ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٥١١٤) (٣/١٤٩).]]. حضورُ النساءِ للمساجِدِ، وفضل صلاتهنَّ بالبيوتِ: وحضورُ النساءِ للمساجدِ في الإسلامِ جائزٌ، وصَلاتُهنَّ في بُيُوتِهنَّ أفْضَلُ، وصلاةُ الليلِ منهنَّ أخَفُّ مِن صلاةِ النهارِ، لأنّها أستَرُ، ويتَّفِقُ السلفُ على أنّ صلاةَ المرأةِ في بيتِها أفضلُ مِن صلاتِها جماعةً، وظاهرُ الأصولِ: أنّ أجْرَها في بيتِها ولو منفردةً كأجرِ الرجُلِ في جماعةٍ، كما في الحديثِ: (بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً) [[أخرجه البخاري (٦٤٥) (١/١٣١)، ومسلم (٦٥٠) (١/٤٥٠).]]، لأمرينِ: الأولُ: أنّ مقتضى تفضيلِ النبيِّ ﷺ لهنَّ الصلاةَ في البيوتِ: يُفِيدُ فضلَ صلاةِ البيوتِ على المساجدِ جماعةً، وهنَّ لا يُدْفَعْنَ إلى عملٍ ويكونُ غيرُهُ المأمورُ بتركِهِ أعظمَ أجرًا منه. الثاني: أنّ الأصلَ في عملِ الرجلِ والمرأةِ التَّساوِي في الثوابِ والعقابِ، فالحسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سبعِ مِئةِ ضعفٍ، والسيئةُ بمِثلِها، وكلُّ عملٍ يعملُهُ الجنسانِ يتساويانِ في الثوابِ فيه، إذا أتَيا بالصورةِ المشروعةِ لكلِّ واحدٍ منهما. وهذا مُقتضى العدلِ الإلـهيِّ في الجزاءِ، وكذلك فإنّ مُقتضى العدلِ الإلـهيِّ في التشريعِ: أنّ كلَّ عملٍ يختصُّ به الرجلُ، ولا يُناسِبُ فِطْرةَ المرأةِ، إلا وجعَلَ اللهُ مُقابلَهُ عملًا آخَرَ للمرأةِ لو عمِلتْهُ، لَنالَتْ ثوابَ الرجلِ في عملِه، كما في الجهادِ شُرِعَ للرِّجالِ، وجُعِلَ الحجُّ للنساءِ، ففي البخاريِّ عن عائشةَ، قالتِ: استأذنتُ النبيَّ ﷺ في الجهادِ، فقال: (جِهادُكُنَّ الحَجُّ) [[أخرجه البخاري (٢٨٧٥) (٤/٣٢).]]. وأظهَرُ منه: ما في البخاريِّ عنها، قالتْ: يا رسولَ اللهِ، نَرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نُجاهِدُ؟ قال: (لا، لَكُنَّ أفْضَلُ الجِهادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) [[أخرجه البخاري (١٥٢٠) (٢/١٣٣).]]. مع أنّ الجهادَ المفروضَ أعظمُ مِن فريضةِ الحجِّ، ونافلةَ الجهادِ أعظمُ مِن نافلةِ الصلاةِ للرِّجالِ، فمَن تَعَيَّنَ عليه الجهادُ العاجِلُ لا يجوزُ له الانصرافُ إلى الحَجِّ، ولو كانَتْ حَجَّةَ الإسلامِ. ومِن عدلِ اللهِ في عبادِهِ: أنّ اللهَ لا يجعلُ في أحدِ عبادِهِ سببًا قدريًّا ينالُ به الأجرَ العظيمَ، ولا يكونُ للمحرومِ مِن ذلك السببِ ما يُماثِلُهُ أو يُقابِلُهُ ولو مِن غيرِ جِنسِهِ لو عَمِلَ به لَماثَلَ غيرَهُ في الأجرِ، كالمالِ، فاللهُ يرزُقُ عبادَهُ ولو بلا سببٍ، كمَن يَرِثُ خيرًا، أو يُهدى إليه الرِّزْقُ فيَغْتَنِي، لا يُقالُ: إنّ الفقيرَ ليس لدَيْهِ مِن العملِ ما لو فعَلَهُ لا يُساوي الغنيَّ، فاللهُ لا يُعطِّلُ الأسبابَ في العِبادِ، ثمَّ يُحاسِبُهم على ذلك، فاللهُ تعالى جعَلَ للفقراءِ الذِّكْرَ يَلْحَقُونَ به أهلَ الغِنى، ففي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أنَّ فُقَراءَ المُهاجِرِينَ أتَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقالُوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجاتِ العُلا، والنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقالَ: (وما ذاكَ؟)، قالُوا: يُصَلُّونَ كَما نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كَما نَصُومُ، ويَتَصَدَّقُونَ ولا نَتَصَدَّقُ، ويُعْتِقُونَ ولا نُعْتِقُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (أفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَن سَبَقَكُمْ، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَن بَعْدَكُمْ، ولا يَكُونُ أحَدٌ أفْضَلَ مِنكُمْ إلاَّ مَن صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ؟)، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ! قالَ: (تُسَبِّحُونَ، وتُكَبِّرُونَ، وتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ مَرَّةً)، قالَ أبُو صالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَراءُ المُهاجِرِينَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالُوا: سَمِعَ إخْوانُنا أهْلُ الأَمْوالِ بِما فَعَلْنا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (ذلك فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ) [[أخرجه البخاري (٨٤٣) (١/١٦٨)، ومسلم (٥٩٥) (١/٤١٦).]]. فإنْ سبَقَ الغنيُّ بالمالِ فيُسابِقُهُ الفقيرُ بالذِّكْرِ، وإنْ أكثَرَ الغنيُّ يُكثِرُ الفقيرُ، فالأسبابُ بينَ أيدِيهِم، والمحرومُ مَن ترَكَ العملَ وقد تهيَّأتْ له أسبابُه. بل لو تمنّى العاجزُ أنْ يكونَ غنيًّا، فيُنفِقَ كما يُنفِقُ الغنيُّ صادقًا مِن قلبِهِ، لآتاهُ اللهُ أجْرَهُ ولو لم يَعمَلْ. صلاةُ المرأةِ في بيتها أفضل من صلاتِها في المسجِدِ: ولا أرى أنّ السلفَ يَختلِفونَ في أنّ صلاةَ المرأةِ في بيتِها أفضلُ مِن صلاتِها في الجماعةِ، وقد روى الطبرانيُّ، عن النخَعيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: «صَلاةُ المَرْأَةِ فِي البَيْتِ خَيْرٌ مِن صَلاتِها فِي الدّارِ، وصَلاتُها فِي الدّارِ خَيْرٌ مِن صَلاتِها خارِجَهُ»[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٩٤٨٣) (٩/٢٩٥).]]، ولا أعلمُ مَن قال بخلافِه مِن الصحابةِ والتابعِين. وقد نقَلَ إجماعَ العلماءِ على ذلك ابنُ عبدِ البرِّ. وقولُه ﷺ: (لا تَمْنَعُوا إماءَ اللهِ مَساجِدَ اللهِ) [[أخرجه البخاري (٩٠٠) (٢/٦)، ومسلم (٤٤٢) (١/٣٢٧).]]: خطابٌ للأولياءِ، لا حثٌّ للنساءِ، وغايتُهُ لهنَّ الجوازُ، فلا يجوزُ للأولياءِ أنْ يَمْنَعُوهُنَّ إذا أرَدْنَ الصلاةَ في المساجدِ بلا رِيبةِ حقٍّ، إلا صلاةَ النهارِ، فلهم مَنعُهُنَّ منها، فقد جاء النهيُ مقيَّدًا في البخاريِّ بصلاةِ الليلِ، فعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ، قال: (إذا اسْتَأْذَنَكُمْ نِساؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلى المَسْجِدِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ) [[أخرجه البخاري (٨٦٥) (١/١٧٢).]]. وتقييدُ الإذنِ بالليلِ دليلٌ على أنّ أصلَ شهودِ الجماعةِ للنساءِ في المساجدِ مفضولٌ. وأمّا الزيادةُ في حديثِ ابنِ عمرَ: «وبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»، فقد رواها أبو داودَ في «سُنَنِه»، مِن حديثِ حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن ابنِ عمرَ[[أخرجه أبو داود (٥٦٧) (١/١٥٥).]]، وقد روى الحديثَ عنه نافعٌ وسالمٌ ومجاهدٌ، ولم يذكُرُوها. وروى الحديثَ عن النبيِّ ﷺ: عائشةُ، وزيدُ بنُ خالدٍ الجُهَنِيُّ، وأبو هريرةَ، ولم يَذْكُرُوها، وهي زيادةٌ غيرُ محفوظةٍ في حديثِ ابنِ عمرَ. وقد جاء معناها عندَ أحمدَ مِن حديثِ أُمِّ حُمَيْدٍ امرأةِ أبي حُمَيْدٍ الساعديِّ: «أنَّها جاءَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أُحِبُّ الصَّلاةَ مَعَكَ، قالَ: (قَدْ عَلِمْتُ أنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلاةَ مَعِي، وصَلاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِن صَلاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وصَلاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِن صَلاتِكِ فِي دارِكِ، وصَلاتُكِ فِي دارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِن صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وصَلاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِن صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِي)، قالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَها مَسْجِدٌ فِي أقْصى شَيْءٍ مِن بَيْتِها وأَظْلَمِهِ، فَكانت تُصَلِّي فِيهِ حَتّى لَقِيَتِ اللهَ عزّ وجل»[[أخرجه أحمد (٢٧٠٩٠) (٦/٣٧١).]]. وروى الطبرانيُّ نحوَهُ مِن حديثِ أمِّ سَلَمةَ. وروى أحمدُ مِن حديثِ درّاجٍ أبي السَّمْحِ، عن السائبِ، عن أمِّ سلمةَ، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: (خَيْرُ مَساجِدِ النِّساءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ) [[أخرجه أحمد (٢٦٥٤٢) (٦/٢٩٧).]]. وخروجُ المرأةِ بلا حاجةٍ غيرُ مندوبٍ إليه في الشريعةِ، والصلواتُ الخمسُ دائمةٌ في كلِّ يومٍ، ولو خُوطِبَتْ بفضلِ الجماعةِ كالرَّجُلِ، ما كان لأمرِ حثِّها على القَرارِ في بيتِها معنًى، وهي تَغْدُو وتَرُوحُ في اليومِ عشرَ مراتٍ: خمسًا في الذَّهابِ، وخمسًا في الإيابِ، وإنْ لم تَفْتِنْ غيرَها، فتَنَتْ نفسَها، والمرأةُ مجبولةٌ على القناعةِ بتأثيرِها في الرجلِ أكثرَ مِن قناعةِ الرجلِ بتأثيرِهِ في المرأةِ، فلا تخلُو مِن فتنةِ الرجلِ أو فتنةِ نفسِها، فقد روى أبو الأحوصِ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: «إنَّ المَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وإنَّها إذا خَرَجَتْ مِن بَيْتِها، اسْتَشْرَفَها الشَّيْطانُ، فَتَقُولُ: ما رَآنِي أحَدٌ إلاَّ أعْجَبْتُهُ، وأَقْرَبُ ما تَكُونُ إلى اللهِ إذا كانت فِي قَعْرِ بَيْتِها»[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٩٤٨١) (٩/٢٩٥).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب