﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّوا۟ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ وَیَحۡفَظُوا۟ فُرُوجَهُمۡۚ ذَ ٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا یَصۡنَعُونَ﴾ [النور ٣٠]
* [فصل: في مَنافِعُ غَضِّ البَصَرِ]
النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهامِ إبْلِيسَ، ومَن أطْلَقَ لَحَظاتِهِ دامَتْ حَسَراتُهُ، وفي غَضِّ البَصَرِ عِدَّةُ مَنافِعَ:
أحَدُها: أنَّهُ امْتِثالٌ لِأمْرِ اللَّهِ الَّذِي هو غايَةُ سَعادَةِ العَبْدِ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ في دُنْياهُ وآخِرَتِهِ أنْفَعُ مِنَ امْتِثالِ أوامِرِهِ، وما شَقِيَ مَن شَقِيَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ إلّا بِتَضْيِيعِ أوامِرِهِ.
الثّانِيَةُ: أنَّهُ يَمْنَعُ مِن وُصُولِ أثَرِ السَّهْمِ المَسْمُومِ - الَّذِي لَعَلَّ فِيهِ هَلاكَهُ - إلى قَلْبِهِ.
الثّالِثَةُ: أنَّهُ يُورِثُ القَلْبَ أُنْسًا بِاللَّهِ وجَمْعِيَّةً عَلَيْهِ، فَإنَّ إطْلاقَ البَصَرِ يُفَرِّقُ القَلْبَ ويُشَتِّتُهُ، ويُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، ولَيْسَ عَلى القَلْبِ شَيْءٌ أضَرُّ مِن إطْلاقِ البَصَرِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الوَحْشَةَ بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ.
الرّابِعَةُ: أنَّهُ يُقَوِّي القَلْبَ ويُفْرِحُهُ، كَما أنَّ إطْلاقَ البَصَرِ يُضْعِفُهُ ويُحْزِنُهُ.
الخامِسَةُ: أنَّهُ يُكْسِبُ القَلْبَ نُورًا، كَما أنَّ إطْلاقَهُ يُلْبِسُهُ ظُلْمَةً، ولِهَذا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ آيَةَ النُّورِ عُقَيْبَ الأمْرِ بِغَضِّ البَصَرِ، فَقالَ:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: ٣٠].
ثُمَّ قالَ إثْرَ ذَلِكَ:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾ [النور: ٣٥].
أيْ مَثَلُ نُورِهِ في قَلْبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ الَّذِي امْتَثَلَ أوامِرَهُ واجْتَنَبَ نَواهِيَهُ، وإذا اسْتَنارَ القَلْبُ أقْبَلَتْ وُفُودُ الخَيْراتِ إلَيْهِ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ، كَما أنَّهُ إذا أظْلَمَ أقْبَلَتْ سَحائِبُ البَلاءِ والشَّرِّ عَلَيْهِ مِن كُلِّ مَكانٍ، فَما شِئْتَ مِن بِدَعٍ وضَلالَةٍ، واتِّباعِ هَوًى، واجْتِنابِ هُدًى، وإعْراضٍ عَنْ أسْبابِ السَّعادَةِ، واشْتِغالٍ بِأسْبابِ الشَّقاوَةِ، فَإنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكْشِفُهُ لَهُ النُّورُ الَّذِي في القَلْبِ، فَإذا نَفَذَ ذَلِكَ النُّورُ بَقِيَ صاحِبُهُ كالأعْمى الَّذِي يَجُوسُ في حَنادِسِ الظَّلامِ.
السّادِسَةُ: أنَّهُ يُورِثُ فِراسَةً صادِقَةً يُمَيَّزُ بِها بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والصّادِقِ والكاذِبِ،
وَكانَ شُجاعٌ الكِرْمانِيُّ يَقُولُ: مَن عَمَّرَ ظاهِرَهُ بِاتِّباعِ السُّنَّةِ، وباطِنَهُ بِدَوامِ المُراقَبَةِ، وغَضَّ بَصَرَهُ عَنِ المَحارِمِ، وكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبَهاتِ، واغْتَذى بِالحَلالِ، لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِراسَةٌ وكانَ شُجاعًا لا تُخْطِئُ لَهُ فِراسَةٌ.
واللَّهُ سُبْحانَهُ يَجْزِي العَبْدَ عَلى عَمَلِهِ بِما هو مِن جِنْسِ عَمَلِهِ، ومَن تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنهُ، فَإذا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ بِأنْ يُطْلِقَ نُورَ بَصِيرَتِهِ، عِوَضًا عَنْ حَبْسِ بَصَرِهِ لِلَّهِ، ويَفْتَحُ عَلَيْهِ بابَ العِلْمِ والإيمانِ، والمَعْرِفَةِ والفِراسَةِ الصّادِقَةِ المُصِيبَةِ الَّتِي إنَّما تُنالُ بِبَصِيرَةٍ، فَقالَ تَعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٢٧].
فَوَصَفَهم بِالسَّكْرَةِ الَّتِي هي فَسادُ العَقْلِ، والعَمَهِ الَّذِي هو فَسادُ البَصِيرَةِ، فالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسادَ العَقْلِ، وعَمَهَ البَصِيرَةِ، وسُكْرَ القَلْبِ، كَما قالَ القائِلٌ:
سَكْرانُ سُكْرُ هَوًى وسُكْرُ مُدامَةٍ ∗∗∗ ومَتّى إفاقَةُ مَن بِهِ سُكْرانِ
وَقالَ الآخَرُ:
قالُوا جُنِنْتَ بِمَن تَهْوى فَقُلْتُ لَهم ∗∗∗ العِشْقُ أعْظَمُ مِمّا بِالمَجانِينِ
العِشْقُ لا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ∗∗∗ وإنَّما يُصْرَعُ المَجْنُونُ في الحِينِ
السّابِعَةُ: أنَّهُ يُورِثُ القَلْبَ ثَباتًا وشَجاعَةً وقُوَّةً، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سُلْطانِ النُّصْرَةِ والحُجَّةِ، وسُلْطانُ القُدْرَةِ والقُوَّةِ، كَما في الأثَرِ: " الَّذِي يُخالِفُ هَواهُ، يَفِرُّ الشَّيْطانُ مِن ظِلِّهِ ".
وَضِدُّ هَذا تَجِدُ في المُتَّبِعِ لِهَواهُ - مِن ذُلِّ النَّفْسِ ووَضاعَتِها ومَهانَتِها وخِسَّتِها وحَقارَتِها - ما جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ فِيمَن حَصاهُ.
كَما قالَ الحَسَنُ: " إنَّهم وإنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ البِغالُ، وهَمْلَجَتْ بِهِمُ البَراذِينُ، إنَّ ذُلَّ المَعْصِيَةِ في رِقابِهِمْ، أبى اللَّهُ إلّا أنْ يُذِلَّ مَن عَصاهُ ".
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ العِزَّ قَرِينَ طاعَتِهِ، والذُّلَّ قَرِينَ مَعْصِيَتِهِ، فَقالَ تَعالى:
﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨].
وَقالَ تَعالى:
﴿وَلا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩].
والإيمانُ قَوْلٌ وعَمَلٌ، ظاهِرٌ وباطِنٌ، وقالَ تَعالى:
﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠].
أيْ مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلْيَطْلُبْها بِطاعَةِ اللَّهِ وذِكْرِهِ مِنَ الكَلِمِ الطَّيِّبِ والعَمَلِ الصّالِحِ.
وَفِي دُعاءِ القُنُوتِ: " إنَّهُ لا يَذِلُّ مَن والَيْتَ، ولا يَعِزُّ مَن عادَيْتَ " ومَن أطاعَ اللَّهَ فَقَدْ والاهُ فِيما أطاعَهُ فِيهِ، ولَهُ مِنَ العِزِّ بِحَسَبِ طاعَتِهِ، ومَن عَصاهُ فَقَدْ عاداهُ فِيما عَصاهُ فِيهِ، ولَهُ مِنَ الذُّلِّ بِحَسَبِ مَعْصِيَتِهِ.
الثّامِنُ: أنَّهُ يُسْدَلُ عَلى الشَّيْطانِ مَدْخَلُهُ مِنَ القَلْبِ، فَإنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ النَّظْرَةِ ويَنْفُذُ مَعَها إلى القَلْبِ أسْرَعَ مِن نُفُوذِ الهَواءِ في المَكانِ الخالِي، فَيُمَثِّلُ لَهُ صُورَةَ المَنظُورِ إلَيْهِ ويُزَيِّنُها، ويَجْعَلُها صَنَمًا يَعْكُفُ عَلَيْهِ القَلْبُ ثُمَّ يَعِدُهُ ويُمَنِّيهِ، ويُوقِدُ عَلى القَلْبِ نارَ الشَّهْوَةِ، ويُلْقِي عَلَيْها حَطَبَ المَعاصِي الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُتَوَصَّلُ إلَيْها بِدُونِ تِلْكَ الصُّورَةِ، فَيَصِيرُ القَلْبُ في اللَّهَبِ.
فَمِن ذَلِكَ اللَّهَبِ تِلْكَ الأنْفاسُ الَّتِي يَجِدُ فِيها وهَجَ النّارِ، وتِلْكَ الزَّفَراتُ والحَرْقاتُ، فَإنَّ القَلْبَ قَدْ أحاطَتْ بِهِ النِّيرانُ بِكُلِّ جانِبٍ، فَهو في وسَطِها كالشّاةِ في وسَطِ التَّنُّورِ، ولِهَذا كانَتْ عُقُوبَةُ أصْحابِ الشَّهَواتِ لِلصُّوَرِ المُحَرَّمَةِ: أنْ جُعِلَ لَهم في البَرْزَخِ تَنُّورٌ مِنَ النّارِ، وأُودِعَتْ أرْواحُهم فِيهِ إلى يَوْمِ حَشْرِ أجْسادِهِمْ، كَما أراها اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ في المَنامِ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِهِ.
التّاسِعَةُ: أنَّهُ يُفَرِّغُ القَلْبَ لِلْفِكْرَةِ في مَصالِحِهِ والِاشْتِغالِ بِها، وإطْلاقُ البَصَرِ يُنْسِيهِ ذَلِكَ ويَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، فَيَنْفَرِطُ عَلَيْهِ أمْرُهُ ويَقَعُ في اتِّباعِ هَواهُ وفي الغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، قالَ تَعالى:
﴿وَلا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨].
وَإطْلاقُ النَّظَرِ يُوجِبُ هَذِهِ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ بِحَسَبِهِ.
العاشِرَةُ: أنَّ بَيْنَ العَيْنِ والقَلْبِ مَنفَذًا وطَرِيقًا يُوجِبُ انْتِقالَ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ، وأنْ يَصْلُحَ بِصَلاحِهِ، ويَفْسُدَ بِفَسادِهِ، فَإذا فَسَدَ القَلْبُ؛ فَسَدَ النَّظَرُ، وإذا فَسَدَ النَّظَرُ؛ فَسَدَ القَلْبُ، وكَذَلِكَ في جانِبِ الصَّلاحِ، فَإذا خَرِبَتِ العَيْنُ وفَسَدَتْ؛ خَرِبَ القَلْبُ وفَسَدَ، وصارَ كالمَزْبَلَةِ الَّتِي هي مَحَلُّ النَّجاساتِ والقاذُوراتِ والأوْساخِ، فَلا يَصْلُحُ لِسُكْنى مَعْرِفَةِ اللَّهِ ومَحَبَّتِهِ والإنابَةِ إلَيْهِ، والأُنْسِ بِهِ والسُّرُورِ بِقُرْبِهِ فِيهِ، وإنَّما يَسْكُنُ فِيهِ أضْدادُ ذَلِكَ.
* (فصل: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما)
لما كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذة الرؤية وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه
فقال القلب للعين أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات ونزهت طرفك في تلك الرياض وطلبت الشفاء من الحدق المراض وخالفت قول أحكم الحاكمين
﴿قل للمؤمنين﴾وقول رسوله "النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله عز وجل أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه" رواه الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة
وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي حدثنا أبو الحسن المدني حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ
"نظر الرجل في محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره "
فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم أو ما علمت أنه ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان فما عطب أكثر من عطب إلا بهما وما هلك أكثر من هلك إلا بسببهما فلله كم من مورد هلكة أورداه ومصدر ردى عنه أصدراه فمن أحب أن يحيا سعيدا أو يعيش حميدا فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر فإنه كامن في فضول الكلام وفضول النظر وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين تزنيان وهما أصل زنى الفرج فإنهما له رائدان وإليه داعيان وقد سئل رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة فأمر السائل أن يصرف بصره فأرشده إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره وقال لابن عمه علي رضي الله عنه محذرا له مما يوقع في الفتنة ويورث الحسرة "لا تتبع النظرة النظرة " أوما سمعت قول العقلاء من سرح ناظره أتعب خاطره ومن كثرت لحظاته دامت حسراته وضاعت عليه أوقاته وفاضت عبراته وقول الناظم
نظر العيون إلى العيون هو الذي ∗∗∗ جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحظات تغزو قلبه ∗∗∗ حتى تشحط فيهن قتيلا
وقال آخر
تمتعتما يا مقلتي بنظرة ∗∗∗ وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ∗∗∗ من الظلم سعى اثنين في قتل واحد
* (فصل)
قالت العين ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا وما أنا
إلا رسولك الداعي إليك ورائدك الدال عليك
وإذا بعثت برائد نحو الذي ∗∗∗ تهوى وتعتبه ظلمت الرائدا
فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع أركبتني في حاجتك خيل البريد ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد فلو أمرتني أن أغلق علي بابي وأرخي علي حجابي لسمعت وأطعت ولما رعيت في الحمى ورتعت أرسلتني لصيد قد نصيت لك حبائله وأشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه فغدوت أسيرا بعد أن كنت أميرا وأصبحت مملوكا بعد أن كنت مليكا هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام حيث يقول "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" وقال أبو هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك وصلاحها ورشدها برشادك ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك وحملت على العين الضعيفة خطيئتك وأصل بليتك أنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته وأقبلت على غيره وأعرضت عنه وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاما بطعام أدنى منه فذمهم على ذلك ونعاه عليهم
وقال
﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور ولا فرحة ولا نجاة إلا بأن يوحده في الحب ويكون أحب إليه مما سواه فانظر بالله بمن استبدلت وبمحبة من تعوضت رضيت لنفسك بالحبس في الحش وقلوب محبيه تجول حول العرش فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب ولأمنت من المتالف والمعاطب أوما علمت أنه خص بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم أي سليم مما سواه ليس فيه غير حبه واتباع رضاه قالت وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس وقد قال من بيده أزمة الأمور
﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمىالقلوب التي في الصدور﴾* (فصل)
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت أنتما على هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما ولقد أنصف من حكى مناظرتكما وعلى لساني متظلما منكما
يقول:
طرفي لقلبي هجت لي سقما ∗∗∗ والعين تزعم أن القلب أنكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبة ∗∗∗ وهي التي هيجت للقلب بلواها
لولا العيون وما يجنين من سقم ∗∗∗ ما كنت مطرحا من بعض قتلاها
فقالت الكبد المظلومة اتئدا ∗∗∗ قطعتماني وما راقبتما الله
وقال آخر
يقول قلبي لطرفي إن بكى جزعا ∗∗∗ تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه ∗∗∗ بل أنت حملتني الآمال والطمعا
حتى إذا ما خلا كل بصاحبه ∗∗∗ كلاهما بطويل السقم قد قنعا
نادتهما كبدي لا تبعدا فلقد ∗∗∗ قطعتماني بما لاقيتما قطعا
وقال آخر
عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلا
فألزم القلب طرفي ... وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي ∗∗∗ بل كنت أنت الدليلا
فقلت كفا جميعا ... تركتماني قتيلا
ثم قالت أنا أتولى الحكم بينكما أنتما في البلية شريكا عنان كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي ولهذا قال فيكما القائل
ولما سلوت الحب بشر ناظري ∗∗∗ لقلبي فقال القلب لي ولك الهنا
تخلصت من إحياء ليلك ساهرا ∗∗∗ وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مهنا بالبقاء فإن تعد ∗∗∗ فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا
وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار قال الشاعر
فوالله ما أدري أنفسي ألومها ∗∗∗ على الحب أم عيني المشومة أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت ∗∗∗ وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي ∗∗∗ فيا رب كن عونا على العين والقلب
قالت هذه ولما سقيت القلب ماء المحبة بكؤوسك أوقدت عليه نار الشوق فارتفع إليك البخار فتقاطر منك فشرقت بشربه أولا وشرقت بحر ناره ثانيا قال
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ∗∗∗ ضنى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ∗∗∗ ولكنها روح تذوب فتقطر
قالت والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما بين يديه فإن في الأثر المشهور لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول الجسد للروح أنت الذي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل بدونك فتقول الروح له وأنت ألذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه إليهما ملكا يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال الأعمى أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول عليهما قال فكذلك أنتما.
وبالله التوفيق.
* (فصل)
قوله تعالى:
﴿قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِن أبْصارِهْمِ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهم ذلِكَ أزْكى لَهم إنّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يصْنَعُونَ﴾فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.
ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وَكُنْتَ مَتى أرْسَلْتَ طَرْفَكَ رائِدًا ∗∗∗ لِقلبكَ يَوْمًا أتْعَبَتْكَ المناظِرُ
رَأيْتَ الَّذِي لا كُلَّهُ أنْتَ قادِرٌ ∗∗∗ عَلَيْه ولا عَنْ بَعْضِهِ أنْتَ صابرُ
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته.
ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط.
ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيمًا.
والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له.
وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتنى.
وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره.
قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:
﴿كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤].
فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.
الفائدة الثانية في غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة. قال أبو شجاع الكرمانى: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة" وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك:
﴿إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥].
وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:
﴿اللهُ نُورُ السَّمواتِ والأرْضِ﴾ [النور: ٣٥].
وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هي عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.
الفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر:
"إنّ الّذِي يُخالِفُ هَواهُ يَفْرَقُ الشَّيْطانُ مِن ظِلِّهِ".
ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨]وقال تعالى:
﴿وَلا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩]وقال تعالى:
﴿مَن كانَ يُريِدُ العِزَّةَ فَللَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠].
أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح.
وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله"
وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفى قلوبهم، أبي الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت:
"إنَّهُ لا يَذِلُّ مَن والَيْتَ ولا يَعِزُّ مَن عادَيْتَ".
والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى:
﴿وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكى مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا ولكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَن يَشاءُ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢١].
وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكي هو باجتناب ذلك.
وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت:
﴿وَإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فارجِعُوا هو أزْكى لَكُمْ﴾ [النور: ٢٨].
فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطَّلع عليها كان ذلك أزكى لهم، كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه، وقال تعالى:
﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكى وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى﴾ [الأعلى: ١٤-١٥].
وقال تعالى عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون:
﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ [النازعات: ١٨].
* (فصل: في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه)
قال الله تعالى
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهم ذَلِكَ أزْكى لَهم إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ الآية.
فلما كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة.
لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه.
وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه.
وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته
وفي الصحيح أن الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رديف رسول الله ﷺ يوم النحر من مزدلفة إلى منى فمرت ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فحول رسول الله ﷺ رأسه إلى الشق الآخر.
وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه.
وفي الصحيح عنه أنه قال "إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر واللسان يزني وزناه النطق والرجل تزني وزناها الخطى واليد تزني وزناها البطش والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب ولافرج ونبه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقبل وجعل الفرج مصدقا لذلك إن حقق الفعل أو مكذبا له إن لم يحققه وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر أن ذلك زناها ففيه رد على من أباح النظر مطلقا وثبت عنه أنه قال يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية.
ووقعت مسألة ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر فقالت له نفسه هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعنى
فكان الجواب الحمد لله لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
أحدها أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد
الثاني أن النبي ﷺ سئل عن نظر الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له
الرابع أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه والتجربة شاهدة به والظاهر
أن الأمر كما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة
الخامس أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه
السادس أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية
السابع أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة
الثامن أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ومعلوم أن الثانية أشد سما فكيف يتداوى من السم بالسم
التاسع أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه فإن لم يكن مرضيا تركه فإذا يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله.
العاشر يتبين بضرب مثل مطابق للحال وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج، فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج صاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقي القلب في التلف والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ولو أنه غض أولا لاستراح قلبه وسلم.
وتأمل قول النبي ﷺ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم فإن بادر استفرغه وإلا قتله ولا بد
قال المروذي قلت لأحمد الرجل ينظر إلى المملوكة قال أخاف عليه الفتنة كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل
وقال ابن عباس الشيطان من الرجل في ثلاثة:
في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة في بصرها وقلبها وعجزها.
* فصل: ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلة إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن النبي ﷺ أنه قال:"النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة يجدها إلى يوم يلقاه"
أو كما قال.
وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنهما سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر فما لم يعتمده القلب لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمدا أثم فأمره النبي ﷺ عند نظرة الفجأة أن يصرف بصره ولا يستديم النظر، فإن استدامته كتكريره وأرشد من ابتلي بنظرة الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته.
وقال: "إن معها مثل الذي معها"
فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه.
والثاني أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله، ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال
"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ
"اتقوا الدنيا واتقوا النساء"
وفي مسند محمد بن إسحاق السراج من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ
"أخوف ما أخاف على أمتي النساء والخمر"
وقال ابن عباس رضي الله عنهما "لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء، وكفر من بقي من قبل النساء"
* [فَصْلٌ: حُكْمُ النَّظَرِ إلى الحُرَّةِ وإلى الأمَةِ]
وَأمّا تَحْرِيمُ النَّظَرِ إلى العَجُوزِ الحُرَّةِ الشَّوْهاءِ القَبِيحَةِ وإباحَتُهُ إلى الأمَةِ البارِعَةِ الجَمالِ فَكَذِبٌ عَلى الشّارِعِ، فَأيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ هَذا وأباحَ هَذا؟
واللَّهُ سُبْحانَهُ إنّما قالَ:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠]لَمْ يُطْلِقْ اللَّهُ ورَسُولُهُ لِلْأعْيُنِ النَّظَرَ إلى الإماءِ البارِعاتِ الجَمالِ، وإذا خَشِيَ الفِتْنَةَ بِالنَّظَرِ إلى الأمَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ بِلا رَيْبٍ، وإنَّما نَشَأتْ الشُّبْهَةُ أنَّ الشّارِعَ شَرَعَ لِلْحَرائِرِ أنْ يَسْتُرْنَ وُجُوهَهُنَّ عَنْ الأجانِبِ، وأمّا الإماءُ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذا في إماءِ الِاسْتِخْدامِ والِابْتِذالِ، وأمّا إماءُ التَّسَرِّي اللّاتِي جَرَتْ العادَةُ بِصَوْنِهِنَّ وحَجْبِهِنَّ فَأيْنَ أباحَ اللَّهُ ورَسُولُهُ لَهُنَّ أنْ يَكْشِفْنَ وُجُوهَهُنَّ في الأسْواقِ والطُّرُقاتِ ومَجامِعِ النّاسِ وأذِنَ لِلرِّجالِ في التَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِنَّ؟
فَهَذا غَلَطٌ مَحْضٌ عَلى الشَّرِيعَةِ، وأكَّدَ هَذا الغَلَطَ أنَّ بَعْضَ الفُقَهاءِ، سَمِعَ قَوْلَهُمْ: إنّ الحُرَّةَ كُلَّها عَوْرَةٌ إلّا وجْهَها وكَفَّيْها، وعَوْرَةُ الأمَةِ ما لا يَظْهَرُ غالِبًا كالبَطْنِ والظَّهْرِ والسّاقِ؛ فَظَنَّ أنَّ ما يَظْهَرُ غالِبًا حُكْمُهُ حُكْمُ وجْهِ الرَّجُلِ، وهَذا إنّما هو في الصَّلاةِ لا في النَّظَرِ، فَإنَّ العَوْرَةَ عَوْرَتانِ: عَوْرَةٌ في النَّظَرِ وعَوْرَةٌ في الصَّلاةِ، فالحُرَّةُ لَها أنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الوَجْهِ والكَفَّيْنِ، ولَيْسَ لَها أنْ تَخْرُجَ في الأسْواقِ ومَجامِعِ النّاسِ كَذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: مَدْخَلُ المَعاصِي النَّظْرَةُ]
وَأكْثَرُ ما تَدْخُلُ المَعاصِي عَلى العَبْدِ مِن هَذِهِ الأبْوابِ الأرْبَعَةِ، فَنَذْكُرُ في كُلِّ بابٍ مِنها فَصْلًا يَلِيقُ بِهِ.
النَّظْرَةُ
فَأمّا اللَّحَظاتُ: فَهي رائِدُ الشَّهْوَةِ ورَسُولُها، وحِفْظُها أصْلُ حِفْظِ الفَرْجِ، فَمَن أطْلَقَ بَصَرَهُ أوْرَدَ نَفْسَهُ مَوارِدَ المُهْلِكاتِ.
وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإنَّما لَكَ الأُولى ولَيْسَتْ لَكَ الأُخْرى».
وَفِي المُسْنَدِ عَنْهُ ﷺ:
«النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهامِ إبْلِيسَ، فَمَن غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحاسِنِ امْرَأةٍ لِلَّهِ، أوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلاوَةً إلى يَوْمِ يَلْقاهُ»هَذا مَعْنى الحَدِيثِ.
وَقالَ:
«غُضُّوا أبْصارَكُمْ، واحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ»وَقالَ:
«إيّاكم والجُلُوسَ عَلى الطُّرُقاتِ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ مَجالِسُنا ما لَنا بُدٌّ مِنها، قالَ: فَإنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ فاعِلِينَ، فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قالُوا: وما حَقُّهُ؟ قالَ: غَضُّ البَصَرِ وكَفُّ الأذى ورَدُّ السَّلامِ».
والنَّظَرُ أصْلُ عامَّةِ الحَوادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الإنْسانَ، فالنَّظْرَةُ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إرادَةً، ثُمَّ تَقْوى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جازِمَةً، فَيَقَعُ الفِعْلُ ولا بُدَّ، ما لَمْ يَمْنَعْ مِنهُ مانِعٌ.
وَفِي هَذا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلى غَضِّ البَصَرِ أيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلى ألَمِ ما بَعْدَهُ.
قالَ الشّاعِرُ:
كُلُّ الحَوادِثِ مَبْداها مِنَ النَّظَرِ ∗∗∗ ومُعْظَمُ النّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ في قَلْبِ صاحِبِها ∗∗∗ كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ القَوْسِ والوَتَرِ
والعَبْدُ ما دامَ ذا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ ∗∗∗ في أعْيُنِ العِينِ مَوْقُوفٌ عَلى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ ∗∗∗ لا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عادَ بِالضَّرَرِ
وَمِن آفاتِ النَّظَرِ: أنَّهُ يُورِثُ الحَسَراتِ والزَّفَراتِ والحَرَقاتِ، فَيَرى العَبْدُ ما لَيْسَ قادِرًا عَلَيْهِ ولا صابِرًا عَنْهُ، وهَذا مِن أعْظَمِ العَذابِ، أنْ تَرى ما لا صَبْرَ لَكَ عَنْ بَعْضِهِ، ولا قُدْرَةَ عَلى بَعْضِهِ.
قالَ الشّاعِرُ:
وَكُنْتُ مَتى أرْسَلْتَ طَرْفَكَ رائِدًا ∗∗∗ لِقَلْبِكَ يَوْمًا أتْعَبَتْكَ المَناظِرُ
رَأيْتَ الَّذِي لا كُلُّهُ أنْتَ قادِرٌ ∗∗∗ عَلَيْهِ ولا عَنْ بَعْضِهِ أنْتَ صابِرُ
وَهَذا البَيْتُ يَحْتاجُ إلى شَرْحٍ، ومُرادُهُ: أنَّكَ تَرى ما لا تَصْبِرُ عَنْ شَيْءٍ مِنهُ ولا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإنَّ قَوْلَهُ: " لا كُلُّهُ أنْتَ قادِرٌ عَلَيْهِ " نَفْيٌ لِقُدْرَتِهِ عَلى الكُلِّ الَّذِي لا يَنْتَفِي إلّا بِنَفْيِ القُدْرَةِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ.
وَكَمْ مَن أرْسَلَ لَحَظاتِهِ فَما قَلَعَتْ إلّا وهو يَتَشَحَّطُ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا، كَما قِيلَ:
يا ناظِرًا ما أقْلَعَتْ لَحَظاتُهُ ∗∗∗ حَتّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلا
وَلِي مِن أبْياتٍ:
مَلَّ السَّلامَةَ فاغْتَدَتْ لَحَظاتُهُ ∗∗∗ وقْفًا عَلى طَلَلٍ يَظُنُّ جَمِيلًا
ما زالَ يُتْبِعُ إثْرَهُ لَحَظاتِهِ ∗∗∗ حَتّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا
وَمِنَ العَجَبِ: أنَّ لَحْظَةَ النّاظِرِ سَهْمٌ لا يَصِلُ إلى المَنظُورِ إلَيْهِ حَتّى يَتَبَوَّأ مَكانًا مِن قَلْبِ النّاظِرِ، ولِي مِن قَصِيدَةٍ:
يا رامِيًا بِسِهامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا ∗∗∗ أنْتَ القَتِيلُ بِما تَرْمِي فَلا تُصِبِ
يا باعِثَ الطَّرْفِ يَرْتادُ الشِّفاءَ لَهُ ∗∗∗ احْبِسْ رَسُولَكَ لا يَأْتِيكَ بِالعَطَبِ
وَأعْجَبُ مِن ذَلِكَ: أنَّ النَّظْرَةَ تَجْرَحُ القَلْبَ جُرْحًا، فَيَتْبَعُها جُرْحٌ عَلى جُرْحٍ، ثُمَّ لا يَمْنَعُهُ ألَمُ الجِراحَةِ مِنِ اسْتِدْعاءِ تَكْرارِها، ولِي أيْضًا في هَذا المَعْنى:
ما زِلْتَ تُتْبِعُ نَظْرَةً في نَظْرَةٍ ∗∗∗ في إثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ ومَلِيحِ
وَتَظُنُّ ذاكَ دَواءَ جُرْحِكَ وهو في ال ∗∗∗ تَحْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلى تَجْرِيحِ
فَذَبَحْتَ طَرْفَكَ بِاللِّحاظِ وبِالبُكا ∗∗∗ فالقَلْبُ مِنكَ ذَبِيحٌ أيُّ ذَبِيحِ
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ حَبْسَ اللَّحَظاتِ أيْسَرُ مِن دَوامِ الحَسَراتِ.
* [فَصْلٌ: الخَطْرَةُ]
وَأمّا الخَطَراتُ: فَشَأْنُها أصْعَبُ، فَإنَّها مَبْدَأُ الخَيْرِ والشَّرِّ، ومِنها تَتَوَلَّدُ الإراداتُ والهِمَمُ والعَزائِمُ، فَمَن راعى خَطَراتِهِ مَلَكَ زِمامَ نَفْسِهِ وقَهَرَ هَواهُ، ومَن غَلَبَتْهُ خَطَراتُهُ فَهَواهُ ونَفْسُهُ لَهُ أغْلَبُ، ومَنِ اسْتَهانَ بِالخَطَراتِ قادَتْهُ قَهْرًا إلى الهَلَكاتِ، ولا تَزالُ الخَطَراتُ تَتَرَدَّدُ عَلى القَلْبِ حَتّى تَصِيرَ مُنًى باطِلَةً.
﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ [النور: ٣٩].
وَأخَسُّ النّاسِ هِمَّةً وأوْضَعُهم نَفْسًا، مَن رَضِيَ مِنَ الحَقائِقِ بِالأمانِي الكاذِبَةِ، واسْتَجْلَبَها لِنَفْسِهِ وتَجَلّى بِها، وهي لَعَمْرُ اللَّهِ رُءُوسُ أمْوالِ المُفْلِسِينَ، ومَتاجِرُ البَطّالِينَ، وهي قُوتُ النَّفْسِ الفارِغَةِ، الَّتِي قَدْ قَنَعَتْ مِنَ الوَصْلِ بِزَوْرَةِ الخَيالِ، ومِنَ الحَقائِقِ بِكَواذِبِ الآمالِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
أمانِيَّ مِن سُعْدى رِواءٌ عَلى الظَّما ∗∗∗ سَقَتْنا بِها سُعْدى عَلى ظَمَأٍ بَرْدا
مُنًى إنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أحْسَنَ المُنى ∗∗∗ وإلّا فَقَدْ عِشْنا بِها زَمَنًا رَغْدا
وَهِيَ أضَرُّ شَيْءٍ عَلى الإنْسانِ، ويَتَوَلَّدُ مِنها العَجْزُ والكَسَلُ، وتُوَلِّدُ التَّفْرِيطَ والحَسْرَةَ والنَّدَمَ، والمُتَمَنِّي لَمّا فاتَتْهُ مُباشَرَةُ الحَقِيقَةِ بِجِسْمِهِ حَوَّلَ صُورَتَها في قَلْبِهِ، وعانَقَها وضَمَّها إلَيْهِ، فَقَنَعَ بِوِصالِ صُورَةٍ وهْمِيَّةٍ خَيالِيَّةٍ صَوَّرَها فِكْرُهُ.
وَذَلِكَ لا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وإنَّما مَثَلُهُ مَثَلُ الجائِعِ والظَّمْآنِ، يُصَوِّرُ في وهْمِهِ صُورَةَ الطَّعامِ والشَّرابِ، وهو لا يَأْكُلُ ولا ويَشْرَبُ.
والسُّكُونُ إلى ذَلِكَ واسْتِجْلابُهُ يَدُلُّ عَلى خَسارَةِ النَّفْسِ ووَضاعَتِها، وإنَّما شَرَفُ النَّفْسِ وزَكاؤُها، وطَهارَتُها وعُلُوُّها بِأنْ يَنْفِيَ عَنْها كُلَّ خَطْرَةٍ لا حَقِيقَةَ لَها، ولا يَرْضى أنْ يُخْطِرَها بِبالِهِ، ويَأْنَفَ لِنَفْسِهِ مِنها.
ثُمَّ الخَطَراتُ بَعْدُ أقْسامٌ تَدُورُ عَلى أرْبَعَةِ أُصُولٍ:
خَطَراتٌ يَسْتَجْلِبُ بِها العَبْدُ مَنافِعَ دُنْياهُ.
وَخَطَراتٌ يَسْتَدْفِعُ بِها مَضارَّ دُنْياهُ.
وَخَطَراتٌ يَسْتَجْلِبُ بِها مَصالِحَ آخِرَتِهِ.
وَخَطَراتٌ يَسْتَدْفِعُ بِها مَضارَّ آخِرَتِهِ.
فَلْيَحْصُرِ العَبْدُ خَطَراتِهِ وأفْكارَهُ وهُمُومَهُ في هَذِهِ الأقْسامِ الأرْبَعَةِ، فَإذا انْحَصَرَتْ لَهُ فِيها أمْكَنَ اجْتِماعُهُ مِنها ولَمْ يَتْرُكْهُ لِغَيْرِهِ، وإذا تَزاحَمَتْ عَلَيْهِ الخَطَراتُ لِتَزاحُمِ مُتَعَلِّقاتِها، قَدَّمَ الأهَمَّ فالأهَمَّ الَّذِي يَخْشى فَوْتَهُ، وأخَّرَ الَّذِي لَيْسَ بِأهَمَّ ولا يَخافُ فَوْتَهُ.
(بَقِيَ قِسْمانِ آخَرانِ)
أحَدُهُما: مُهِمٌّ لا يَفُوتُ.
والثّانِي: غَيْرُ مُهِمٍّ ولَكِنَّهُ يَفُوتُ.
فَفِي كُلٍّ مِنهُما ما يَدْعُو إلى تَقْدِيمِهِ، فَهُنا يَقَعُ التَّرَدُّدُ والحَيْرَةُ، فَإنْ قَدَّمَ المُهِمَّ؛ خَشِيَ فَواتَ ما دُونَهُ، وإنْ قَدَّمَ ما دُونَهُ فاتَهُ الِاشْتِغالُ بِهِ عَنِ المُهِمِّ، وكَذَلِكَ يَعْرِضُ لَهُ أمْرانِ لا يُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَهُما، ولا يَحْصُلُ أحَدُهُما إلّا بِتَفْوِيتِ الآخَرِ.
فَهُوَ مَوْضِعُ اسْتِعْمالِ العَقْلِ والفِقْهِ والمَعْرِفَةِ، ومِن هاهُنا ارْتَفَعَ مَنِ ارْتَفَعَ وأنْجَحَ مَن أنْجَحَ، وخابَ مَن خابَ، فَأكْثَرُ مَن تَرى مِمَّنْ يَعْظُمُ عَقْلُهُ ومَعْرِفَتُهُ، يُؤْثِرُ غَيْرَ المُهِمِّ الَّذِي لا يَفُوتُ عَلى المُهِمِّ الَّذِي يَفُوتُ، ولا تَجِدُ أحَدًا يَسْلَمُ مِن ذَلِكَ، ولَكِنْ مُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ.
والتَّحْكِيمُ في هَذا البابِ لِلْقاعِدَةِ الكُبْرى الَّتِي عَلَيْها مَدارُ الشَّرْعِ والقَدَرِ، وإلَيْها مَرْجِعُ الخَلْقِ والأمْرِ، وهي إيثارُ أكْبَرِ المَصْلَحَتَيْنِ وأعْلاهُما، وإنْ فاتَتِ المَصْلَحَةُ الَّتِي هي دُونَها، والدُّخُولُ في أدْنى المَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ ما هو أكْبَرُ مِنها.
فَيُفَوِّتُ مَصْلَحَةً لِتَحْصِيلِ ما هو أكْبَرُ مِنها، ويَرْتَكِبُ مَفْسَدَةً لِدَفْعِ ما هو أعْظَمُ مِنها.
فَخَطَراتُ العاقِلِ وفِكْرُهُ لا يُجاوِزُ ذَلِكَ، وبِذَلِكَ جاءَتِ الشَّرائِعُ، ومَصالِحُ الدُّنْيا والآخِرَةِ لا تَقُومُ إلّا عَلى ذَلِكَ، وأعْلى الفِكَرِ وأجَلُّها وأنْفَعُها: ما كانَ لِلَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ، فَما كانَ لِلَّهِ فَهو أنْواعٌ:
أحَدُها: الفِكْرَةُ في آياتِهِ المُنَزَّلَةِ وتَعَقُّلُها، وفَهْمُها وفَهْمُ مُرادِهِ مِنها، ولِذَلِكَ أنْزَلَها اللَّهُ تَعالى، لا لِمُجَرَّدِ تِلاوَتِها، بَلِ التِّلاوَةُ وسِيلَةٌ.
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أُنْزِلَ القُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فاتَّخَذُوا تِلاوَتَهُ عَمَلًا.
الثّانِي: الفِكْرَةُ في آياتِهِ المَشْهُودَةِ والِاعْتِبارُ بِها، والِاسْتِدْلالُ بِها عَلى أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وحِكْمَتِهِ وإحْسانِهِ، وبِرِّهِ وجُودِهِ، وقَدْ حَضَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عِبادَهُ عَلى التَّفَكُّرِ في آياتِهِ وتَدَبُّرِها وتَعَقُّلِها، وذَمَّ الغافِلَ عَنْ ذَلِكَ.
الثّالِثُ: الفِكْرَةُ في آلائِهِ وإحْسانِهِ، وإنْعامِهِ عَلى خَلْقِهِ بِأصْنافِ النِّعَمِ، وسَعَةِ رَحْمَتِهِ ومَغْفِرَتِهِ وحِلْمِهِ.
وَهَذِهِ الأنْواعُ الثَّلاثَةُ تَسْتَخْرِجُ مِنَ القَلْبِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ ومَحَبَّتَهُ وخَوْفَهُ ورَجاءَهُ. ودَوامُ الفِكْرَةِ في ذَلِكَ مَعَ الذِّكْرِ يَصْبُغُ القَلْبَ في المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ صِبْغَةً تامَّةً.
الرّابِعُ: الفِكْرَةُ في عُيُوبِ النَّفْسِ وآفاتِها، وفي عُيُوبِ العَمَلِ، وهَذِهِ الفِكْرَةُ عَظِيمَةُ النَّفْعِ، وهَذا بابٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وتَأْثِيرُها في كَسْرِ النَّفْسِ الأمّارَةِ بِالسُّوءِ، ومَتى كُسِرَتْ عاشَتِ النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ وانْبَعَثَتْ وصارَ الحُكْمُ لَها، فَحَيِيَ القَلْبُ، ودارَتْ كَلِمَتُهُ في مَمْلَكَتِهِ، وبَثَّ أُمَراءَهُ وجُنُودَهُ في مَصالِحِهِ.
الخامِسُ: الفِكْرَةُ في واجِبِ الوَقْتِ ووَظِيفَتِهِ وجَمْعُ الهَمِّ كُلِّهِ عَلَيْهِ، فالعارِفُ ابْنُ وقْتِهِ، فَإنْ أضاعَهُ ضاعَتْ عَلَيْهِ مَصالِحُهُ كُلُّها، فَجَمِيعُ المَصالِحِ إنَّما تَنْشَأُ مِنَ الوَقْتِ، وإنْ ضَيَّعَهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ أبَدًا.
قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ فَلَمْ أسْتَفِدْ مِنهم سِوى حَرْفَيْنِ: أحَدُهُما قَوْلُهُمْ: الوَقْتُ سَيْفٌ، فَإنْ قَطَعْتَهُ وإلّا قَطَعَكَ ".
وَذَكَرَ الكَلِمَةَ الأُخْرى: " ونَفْسُكَ إنْ لَمْ تَشْغَلْها بِالحَقِّ وإلّا شَغَلَتْكَ بِالباطِلِ ".
فَوَقْتُ الإنْسانِ هو عُمُرُهُ في الحَقِيقَةِ، وهو مادَّةُ حَياتِهِ الأبَدِيَّةِ في النَّعِيمِ المُقِيمِ، ومادَّةُ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ في العَذابِ الألِيمِ، وهو يَمُرُّ أسْرَعَ مِنَ السَّحابِ، فَما كانَ مِن وقْتِهِ لِلَّهِ وبِاللَّهِ فَهو حَياتُهُ وعُمُرُهُ، وغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِن حَياتِهِ، وإنْ عاشَ فِيهِ عاشَ عَيْشَ البَهائِمِ، فَإذا قَطَعَ وقْتَهُ في الغَفْلَةِ والسَّهْوِ والأمانِيِّ الباطِلَةِ، وكانَ خَيْرَ ما قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ والبِطالَةُ، فَمَوْتُ هَذا خَيْرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ.
وَإذا كانَ العَبْدُ - وهو في الصَّلاةِ - لَيْسَ لَهُ مِن صَلاتِهِ إلّا ما عَقَلَ مِنها فَلَيْسَ لَهُ مِن عُمُرِهِ إلّا ما كانَ فِيهِ بِاللَّهِ ولِلَّهِ.
وَما عَدا هَذِهِ الأقْسامِ مِنَ الخَطَراتِ والفِكَرِ، فَإمّا وساوِسُ شَيْطانِيَّةٌ وإمّا أمانِيُّ باطِلَةٌ، وخِدَعٌ كاذِبَةٌ، بِمَنزِلَةِ خَواطِرِ المُصابِينَ في عُقُولِهِمْ مِنَ السُّكارى والمَحْشُوشِينَ والمُوَسْوِسِينَ، ولِسانُ حالِ هَؤُلاءِ يَقُولُ عِنْدَ انْكِشافِ الحَقائِقِ:
إنْ كانَ مَنزِلَتِي في الحَشْرِ عِنْدَكم ∗∗∗ ما قَدْ لَقِيتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أيّامِي
أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِها زَمَنًا ∗∗∗ واليَوْمَ أحْسَبُها أضْغاثَ أحْلامِ
واعْلَمْ أنَّ وُرُودَ الخاطِرِ لا يَضُرُّ، وإنَّما يَضُرُّ اسْتِدْعاؤُهُ ومُحادَثَتُهُ، فالخاطِرُ كالمارِّ عَلى الطَّرِيقِ، فَإنْ تَرَكْتَهُ مَرَّ وانْصَرَفَ عَنْكَ، وإنِ اسْتَدْعَيْتَهُ سَحَرَكَ بِحَدِيثِهِ وغُرُورِهِ، وهو أخَفُّ شَيْءٍ عَلى النَّفْسِ الفارِغَةِ الباطِلَةِ، وأثْقَلُ شَيْءٍ عَلى القَلْبِ والنَّفْسِ الشَّرِيفَةِ السَّماوِيَّةِ المُطْمَئِنَّةِ.
وَقَدْ رَكَّبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ في الإنْسانِ نَفْسَيْنِ: نَفْسًا أمّارَةً ونَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، وهُما مُتَعادِيَتانِ، فَكُلُّ ما خَفَّ عَلى هَذِهِ ثَقُلَ عَلى هَذِهِ، وكُلُّ ما التَذَّتْ بِهِ هَذِهِ تَألَّمَتْ بِهِ الأُخْرى، فَلَيْسَ عَلى النَّفْسِ الأمّارَةِ أشَقُّ مِنَ العَمَلِ لِلَّهِ وإيثارِ رِضاهُ عَلى هَواها، ولَيْسَ لَها أنْفَعُ مِنهُ، ولَيْسَ عَلى النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ أشَقُّ مِنَ العَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وما جاءَ بِهِ داعِي الهَوى.
وَلَيْسَ عَلَيْها شَيْءٌ أضَرُّ مِنهُ، والمَلَكُ مَعَ هَذِهِ عَنْ يَمْنَةِ القَلْبِ، والشَّيْطانُ مَعَ تِلْكَ عَنْ يَسْرَةِ القَلْبِ، والحُرُوبُ مُسْتَمِرَّةٌ لا تَضَعُ أوْزارَها إلّا أنْ يُسْتَوْفى أجَلُها مِنَ الدُّنْيا، والباطِلُ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ الشَّيْطانِ والأمّارَةِ، والحَقُّ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ المَلَكِ والمُطْمَئِنَّةِ، والحَرْبُ دُوَلٌ وسِجالٌ، والنَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ، ومَن صَبَرَ وصابَرَ ورابَطَ واتَّقى اللَّهَ فَلَهُ العاقِبَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعالى حُكْمًا لا يُبَدَّلُ أبَدًا: أنَّ العاقِبَةَ لِلتَّقْوى، والعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فالقَلْبُ لَوْحٌ فارِغٌ، والخَواطِرُ نُقُوشٌ تُنْقَشُ فِيهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ أنْ يَكُونَ نُقُوشُ لَوْحِهِ ما بَيْنَ كَذِبٍ وغُرُورٍ وخُدَعٍ، وأمانِيِّ باطِلَةٍ، وسَرابٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ؟ فَأيُّ حِكْمَةٍ وعِلْمٍ وهُدًى يَنْتَقِشُ مَعَ هَذِهِ النُّقُوشِ؟ وإذا أرادَ أنْ يَنْتَقِشَ ذَلِكَ في لَوْحِ قَلْبِهِ كانَ بِمَنزِلَةِ كِتابَةِ العِلْمِ النّافِعِ في مَحِلٍّ مَشْغُولٍ بِكِتابَةِ ما لا مَنفَعَةَ فِيهِ، فَإنْ لَمْ يُفْرِغِ القَلْبَ مِنَ الخَواطِرِ الرَّدِيَّةِ، لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ الخَواطِرُ النّافِعَةُ، فَإنَّها لا تَسْتَقِرُّ إلّا في مَحِلٍّ فارِغٍ، كَما قِيلَ:
أتانِي هَواها قَبْلَ أنْ أعْرِفَ الهَوى ∗∗∗ فَصادَفَ قَلْبًا فارِغًا فَتَمَكَّنا
وَهَذا كَثِيرٌ مِن أرْبابِ السُّلُوكِ بَنَوْا سُلُوكَهم عَلى حِفْظِ الخَواطِرِ، وأنْ لا يُمَكِّنُوا خاطِرًا يَدْخُلُ قُلُوبَهم حَتّى تَصِيرَ القُلُوبُ فارِغَةً قابِلَةً لِلْكَشْفِ وظُهُورِ حَقائِقِ العُلْوِيّاتِ فِيها، وهَؤُلاءِ حَفِظُوا شَيْئًا وغابَتْ عَنْهم أشْياءُ، فَإنَّهم أخْلَوُا القُلُوبَ مِن أنْ يَطْرُقَها خاطِرٌ فَبَقِيَتْ فارِغَةً لا شَيْءَ فِيها، فَصادَفَها الشَّيْطانُ خالِيَةً، فَبَذَرَ فِيها الباطِلَ في قَوالِبَ أوْهَمَهم أنَّها أعْلى الأشْياءِ وأشْرَفُها، وعَوَّضَهم بِها عَنِ الخَواطِرِ الَّتِي هي مادَّةُ العِلْمِ والهُدى، وإذا خَلا القَلْبُ عَنْ هَذِهِ الخَواطِرِ جاءَ الشَّيْطانُ فَوَجَدَ المَحِلَّ خالِيًا، فَيَشْغَلُهُ بِما يُناسِبُ حالَ صاحِبِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَشْغَلَهُ بِالخَواطِرِ السُّفْلِيَّةِ، فَشَغَلَهُ بِإرادَةِ التَّجْرِيدِ والفَراغِ مِنَ الإرادَةِ الَّتِي لا صَلاحَ لِلْعَبْدِ ولا فَلاحَ إلّا أنْ تَكُونَ هي المُسْتَوْلِيَةَ عَلى قَلْبِهِ، وهي إرادَةُ مُرادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الأمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، وشُغْلُ القَلْبِ واهْتِمامُهُ بِمَعْرِفَتِهِ عَلى التَّفْصِيلِ بِهِ، والقِيامِ بِهِ، وتَنْفِيذِهِ في الخَلْقِ، والتَّطَرُّقِ إلى ذَلِكَ، والتَّوَسُّلِ إلَيْهِ بِالدُّخُولِ في الخَلْقِ لِتَنْفِيذِهِ، فَيُضِلُّهُمُ الشَّيْطانُ عَنْ ذَلِكَ بِأنْ دَعاهم إلى تَرْكِهِ وتَعْطِيلِهِ مِن بابِ الزُّهْدِ في خَواطِرِ الدُّنْيا وأسْبابِها.
وَأوْهَمَهم أنَّ كَمالَهم في ذَلِكَ التَّجْرِيدِ والفَراغِ، وهَيْهاتَ هَيْهاتَ، إنَّما الكَمالُ في امْتِلاءِ القَلْبِ مِنَ الخَواطِرِ والإراداتِ والفِكْرِ في تَحْصِيلِ مَراضِي الرَّبِّ تَعالى مِنَ العَبْدِ ومِنَ النّاسِ، والفِكْرِ في طُرُقِ ذَلِكَ والتَّوَصُّلِ إلَيْهِ، فَأكْمَلُ النّاسِ أكْثَرُهم خَواطِرَ وفِكْرًا وإراداتٍ لِذَلِكَ، كَما أنَّ أنْقَصَ النّاسِ أكْثَرُهم خَواطِرَ وفِكْرًا وإراداتٍ لِحُظُوظِهِ وهَواهُ أيْنَ كانَتْ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَهَذا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَتْ تَتَزاحَمُ عَلَيْهِ الخَواطِرُ في مَراضِي الرَّبِّ تَعالى، فَرُبَّما اسْتَعْمَلَها في صَلاتِهِ، فَكانَ يُجَهِّزُ جَيْشَهُ وهو في الصَّلاةِ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الجِهادِ والصَّلاةِ، وهَذا مِن بابِ تَداخُلِ العِباداتِ في العِبادَةِ الواحِدَةِ، وهو مِن بابٍ عَزِيزٍ شَرِيفٍ، لا يَدْخُلُ مِنهُ إلّا صادِقٌ حاذِقُ الطَّلَبِ، مُتَضَلِّعٌ مِنَ العِلْمِ، عالِي الهِمَّةِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ في عِبادَةٍ يَظْفَرُ فِيها بِعِباداتٍ شَتّى، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ.