الباحث القرآني

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ أحْكامٍ كُلِّيَّةٍ شامِلَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ كافَّةً يَنْدَرِجُ فِيها حُكْمُ المُسْتَأْذِنِينَ عِنْدَ دُخُولِهِمُ البُيُوتِ انْدِراجًا أوَّلِيًّا. وتَلْوِينُ الخِطابِ وتَوْجِيهُهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَفْوِيضُ ما في حَيِّزِهِ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قِيلَ لِأنَّها تَكالِيفُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ كَثِيرَةِ الوُقُوعِ حُرِّيَّةً بِأنْ يَكُونَ الآمِرُ بِها والمُتَصَدِّي لِتَدْبِيرِها حافِظًا ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لَمّا أنَّ بَعْضَ المُؤْمِنِينَ جاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كالمُسْتَدْعِي لِأنْ يَقُولَ لَهُ ما في حَيِّزِ القَوْلِ. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهَ عَنْ عَلَيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في طَرِيقٍ مِن طُرُقاتِ المَدِينَةِ فَنَظَرَ إلى امْرَأةٍ ونَظَرَتْ إلَيْهِ فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ أنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أحَدُهُما إلى الآخَرِ إلّا إعْجابًا بِهِ فَبَيْنَما الرَّجُلُ يَمْشِي إلى جَنْبِ حائِطٍ وهو يَنْظُرُ إلَيْها إذِ اسْتَقْبَلَهُ الحائِطُ فَشَقَّ أنْفَهُ فَقالَ: واللَّهِ لا أغْسِلُ الدَّمَ حَتّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُخْبِرُهُ أمْرِي فَأتاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَذا عُقُوبَةُ ذَنْبِكَ وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ﴾» ومَفْعُولُ القَوْلِ مُقَدَّرٌ، ( ويَغُضُّوا ) جَوابٌ لَقَلَّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى حَرْفِ الشَّرْطِ كَأنَّهُ قِيلَ: إنْ تَقُلْ لَهم غَضُّوا يَغُضُّوا، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّهم لِفَرْطِ مُطاوَعَتِهِمْ لا يَنْفَكُّ فِعْلُهم عَنْ أمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّهُ كالسَّبَبِ المُوجِبِ لَهُ وهَذا هو المَشْهُورُ. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ ﴿يَغُضُّوا﴾ جَوابًا لِلْأمْرِ المُقَدِّرِ المَقُولِ لِلْقَوْلِ. وتَعَقَّبَ بِأنَّ الجَوابَ لا بُدَّ أنْ يُخالِفَ المُجابَ إمّا في الفِعْلِ والفاعِلِ نَحْوِ ائْتِنِي أُكْرِمْكَ أوْ في الفِعْلِ نَحْوِ أسْلِمْ تَدَخُّلِ الجَنَّةَ أوْ في الفاعِلِ نَحْوِ قُمْ أقُمْ ولا يَجُوزُ أنْ يَتَوافَقا فِيهِ، وأيْضًا الأمْرُ لِلْمُواجَهَةِ ( ويَغُضُّوا ) غائِبٌ ومِثْلُهُ لا يَجُوزُ، وقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن قُبَيْلِ «مَن كانَتْ هِجْرَتُهُ» الحَدِيثُ ولا نُسَلِّمُ أنَّهُ لا يُجابُ الأمْرُ بِلَفْظِ الغِيبَةِ إذا كانَ مَحْكِيًّا بِالقَوْلِ لِجَوازِ التَّلْوِينِ حِينَئِذٍ وفِيهِ بَحْثٌ، ومَن أنْصَفَ لا يَرى هَذا الوَجْهَ وجِيهًا وهو عَلى ما فِيهِ خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا، وجَوَّزَ الطَّبَرْسِيُّ. وغَيْرُهُ أنْ يَكُونَ ﴿يَغُضُّوا﴾ مَجْزُومًا بِلامِ أمْرٍ مُقَدِّرَةٍ لِدَلالَةٍ ﴿قُلْ﴾ أيْ قُلْ لَهم لِيَغُضُّوا والجُمْلَةُ نَصْبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِلْقَوْلِ، وغَضُّ البَصَرِ إطْباقُ الجَفْنِ عَلى الجَفْنِ، ( ومِن ) قِيلَ صِلَةٌ وسِيبَوَيْهُ يَأْبى ذَلِكَ في مِثْلِ هَذا الكَلامِ والجَوازِ مَذْهَبُ الأخْفَشِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِن لِبَيانِ الجِنْسِ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ الغايَةِ. وتَعْقُبُهُ في البَحْرِ بِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ لِتَكُونَ مَن لِبَيانِ الجِنْسِ عَلى أنَّ الصَّحِيحَ أنَّها لَيْسَ مِن مَوْضُوعاتِها أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ انْتَهى، والجُلُّ عَلى أنَّها هُنا تَبْعِيضِيَّةٌ والمُرادُ غَضُّ البَصَرِ عَمّا يَحْرُمُ والِاقْتِصارُ بِهِ عَلى ما يَحُلُّ، وجَعْلُ الغَضِّ عَنْ بَعْضِ المُبْصِرِ غَضُّ بَعْضِ البَصَرِ وفِيهِ كَما في الكَشْفِ كِنايَةً حَسَنَةً ثُمَّ إنَّ غَضَّ البَصَرِ عَمّا يُحَرِّمُ النَّظَرَ إلَيْهِ واجِبٌ ونَظْرَةُ الفَجْأةِ الَّتِي لا تَعْمِدُ فِيها مَعْفُوٌّ عَنْها، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُما عَنْ بِرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (p-139)««لا تَتْبَعِ النَّظْرَةُ النَّظْرَةَ فَإنَّ لَكَ الأوْلى ولَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ»» وبَدَأ سُبْحانَهُ بِالإرْشادِ إلى غَضِّ البَصَرِ لِما في ذَلِكَ مِن سَدِّ بابِ الشَّرِّ فَإنَّ النَّظَرَ بابٌ إلى كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ وهو بَرِيدُ الزِّنا وراءَ الفُجُورِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: ؎كُلُّ الحَوادِثِ مُبْداها مِنَ النَّظَرِ ومُعْظَمُ النّارِ مِن مُسْتَصْغِرِ الشَّرَرِ ؎والمَرْءُ ما دامَ ذا عَيْنٍ يُقَلِّبُها ∗∗∗ في أعْيُنِ العَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلى الخَطَرِ ؎كَمْ نَظْرَةٍ فَعَلَتْ في قَلْبِ فاعِلِها ∗∗∗ فِعْلَ السِّهامِ بِلا قَوْسٍ ولا وتَرٍ ؎يَسُرُّ ناظِرَهُ ما ضَرَّ خاطِرَهُ ∗∗∗ لا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عادَ بِالضَّرَرِ والظّاهِرُ أنَّ الإرْشادَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ ولَفْظُ الجَمْعِ لا يَأْبى ذَلِكَ، والظّاهِرُ أيْضًا أنَّ المُؤْمِنِينَ أعَمُّ مِنَ العِبادِ وغَيْرِهِمْ، وزَعَمَ بَعْضُهم جَوازَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِمُ العِبادَ والمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ عَلى أنْ يَكُونَ المَعْنى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ الكامِلِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ ﴿ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ أيْ عَمّا لا يَحِلُّ لَهم مِنَ الزِّنا واللُّواطَةِ، ولَمْ يُؤْتَ هُنا بِمَنِ التَّبْعِيضِيَّةِ كَما أتى بِها فِيما تَقَدَّمَ لِما أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حُسْنُ كِنايَةٍ كَما في ذَلِكَ. وفي الكَشّافِ دَخَلَتْ ﴿مِن﴾ في غَضِّ البَصَرِ دُونَ حِفْظِ الفَرْجِ دَلالَةً عَلى أنَّ أمْرَ النَّظَرِ أوْسَعُ ألا تَرى أنَّ المَحارِمَ لا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلى شُعُورِهِنَّ وصُدُورِهِنَّ وثَدْيِهِنَّ وأعْضادِهِنَّ وسُوقِهِنَّ وأقْدامِهِنَّ وكَذَلِكَ الجَوارِي المُسْتَعْرِضاتِ لِلْبَيْعِ والأجْنَبِيَّةِ يَنْظُرُ إلى وجْهِها وكَفَّيْها وقَدَمَيْها في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ وأمّا أمْرُ الفَرْجٍ فَمُضَيَّقٌ، وكَفاكَ فَرْقًا أنْ أُبِيحَ النَّظَرَ إلّا ما اسْتُثْنِيَ مِنهُ وحَظْرُ الجِماعِ إلّا ما اسْتَثْنى مِنهُ انْتَهى، وقالَ صاحِبُ الفَرائِدِ: يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: المُرادُ غَضُّ البَصَرِ عَنِ الأجْنَبِيَّةِ والأجْنَبِيَّةُ يَحُلُّ النَّظَرُ إلى بَعْضِها وأمّا الفَرَجُ فَلا طَرِيقَ إلى الحَلِّ فِيهِ أصْلًا بِالنِّسْبَةِ إلى الأجْنَبِيَّةِ فَلا وجْهَ لِدُخُولِ ﴿مِن﴾ فِيهِ وفِيهِ تَأمُّلٌ، وقِيلَ: لَمْ يُؤْتَ بِمَن هُنا لِأنَّ المُرادَ مِن حِفْظِ الفُرُوجِ سَتْرُها. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وجَماعَةٌ عَنْ أبِي العالِيَةِ أنَّهُ قالَ: كُلُّ آيَةٍ يُذْكَرُ فِيها حِفْظُ الفَرْجِ فَهو مِنَ الزِّنا إلّا هَذِهِ الآيَةُ في النُّورِ ﴿ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ ﴿ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ فَهو أنْ لا يَراها أحَدٌ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أبِي زَيْدٍ، والسَّتْرُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا. وتَعَقَّبَ بِأنَّهُ يَجُوزُ الكَشْفُ في مَواضِعَ فَلَوْ جِيءَ بِمَن لَكانَ فِيهِ إشارَةٌ إلى ذَلِكَ، وتَفْسِيرُ حَفْظِ الفُرُوجِ هُنا خاصَّةً بِسَتْرِها قِيلَ لا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ لِمُخالَفَتِهِ لِما وقَعَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ كَما اعْتَرَفَ بِهِ مَن فَسَّرَهُ بِما ذَكَرَ. واخْتارَ بَعْضُ المُدَقِّقِينَ أنَّ المُرادَ مِن ذَلِكَ حِفْظُ الفُرُوجِ عَنِ الإفْضاءِ إلى ما لا يَحِلُّ وحِفْظُها عَنِ الإبْداءِ لِأنَّ الحِفْظَ لِعَدَمِ ذِكْرِ صِلَتِهِ يَتَناوَلُ القِسْمَيْنِ، وذَكَرَ أنَّ الحِفْظَ عَنِ الإبْداءِ يَسْتَلْزِمُ الآخَرَ مِن وجْهَيْنِ عَدَمُ خُلُوِّهِ عَنِ الإبْداءِ عادَةً وكَوْنُ الحِفْظِ عَنِ الإبْداءِ بَلِ الأمْرُ بِالتَّسَتُّرِ مُطْلَقًا لِلْحِفْظِ عَنِ الإفْضاءِ، ومِن هُنا تَعْلَمُ أنَّ مِن ضَعْفِ ما رُوِيَ عَنْ أبِي العالِيَةِ. وابْنُ زَيْدٍ بِعَدَمِ تَعَرُّضِ الآيَةِ عَلَيْهِ بِحِفْظِ الفَرْجِ عَنِ الزِّنا لَمْ يَصُبِ المَحَزَّ. ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ ما ذَكَرَ مِنَ الغَضِّ والحِفْظِ ﴿أزْكى لَهُمْ﴾ أيْ أطْهَرَ مِن دَنَسِ الرِّيبَةِ أوْ أنْفَعَ مِن حَيْثُ الدِّينِ والدُّنْيا فَإنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنا وفِيهِ مِنَ المَضارِّ الدِّينِيَّةِ أوِ الدُّنْيَوِيَّةِ ما لا يَخْفى وأفْعَلُ لِلْمُبالَغَةِ دُونَ التَّفْضِيلِ. وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ عَلى مَعْنى أزْكى مِن كُلِّ شَيْءٍ نافِعٍ أوْ مُبْعِدٍ عَنِ الرِّيبَةِ، وقِيلَ عَلى مَعْنى أنَّهُ أنْفَعُ مِنَ الزِّنا والنَّظَرِ الحَرامِ فَإنَّهم يَتَوَهَّمُونَ لَذَّةَ ذَلِكَ نَفْعًا ﴿إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا يَصْدُرُ عَنْهم مِنَ الأفاعِيلِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها إجالَةُ النَّظَرِ واسْتِعْمالُ سائِرِ الحَواسِّ وتَحْرِيكُ الجَوارِحِ وما يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ (p-140)فَلْيَكُونُوا عَلى حَذَرٍ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ في كُلِّ ما يَأْتُونَ وما يَذْرُوَنَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب