الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أزْكى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: ٣٠].
أمَرَ اللهُ المؤمِنينَ بغضِّ البصرِ، قبلَ أمرِهم بحِفْظِ الفروجِ، لبيانِ أنّ إطلاقَ البصرِ جالِبٌ للفاحشةِ وبابٌ لها، وحبلٌ مِن حبالِ الشيطانِ الموصِّلةِ إليها، فقدَّمَ الوسيلةَ على الغايةِ، وجعَلَ اللهُ ذلك ﴿أزْكى لَهُمْ﴾، يعني: أنّه أطهَرُ للنفوسِ وأطيَبُ لها.
الحِكْمةُ مِن تقديمِ أمرِ الرِّجالِ على أمرِ النِّساءِ بغضِّ البصرِ:
وإنّما قدَّمَ اللهُ أمرَ الرِّجالِ بغضِّ البصرِ قبلَ أمرِ النِّساءِ بذلك، لأمورٍ:
منها: أنّ الرِّجالَ أكثَرُ عُرْضةً لرؤيةِ العَوْراتِ، لكثرةِ خروجِهم وكَسْبِهم وتعرُّضِهم للتعامُلِ مع الناسِ، فالأصلُ في الرجالِ: الخروجُ والكسبُ، والأصلُ في النساءِ: القَرارُ والكفايةُ، ولهذا نَهى النبيُّ ﷺ الرجالَ عن الجلوسِ في الطُّرُقاتِ، حتى لا يتعرَّضوا لرؤيةِ العَوْراتِ، فلمّا أبْدَوْا حاجتَهم بها، أمَرَهم بغضِّ البصرِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، قال: (إيّاكُمْ والجُلُوسَ فِي الطُّرُقاتِ)، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، ما لَنا بُدٌّ مِن مَجالِسِنا نَتَحَدَّثُ فِيها، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (فَإذا أبَيْتُمْ إلاَّ المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)، قالُوا: وما حَقُّهُ؟ قالَ: (غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأَذى، ورَدُّ السَّلامِ، والأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ)[[أخرجه البخاري (٢٤٦٥)، ومسلم (٢١٢١).]].
ومنهـا: أنّ أثرَ النظرِ على الرجالِ أشَدُّ مِن أثرِهِ على النساءِ، وفتنةَ النساءِ للرِّجالِ أشَدُّ مِن فتنةِ الرجالِ للنساءِ، كما قال ﷺ في «الصحيحَيْنِ»: (ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ) [[أخرجه البخاري (٥٠٩٦)، ومسلم (٢٧٤٠).]]، فناسَبَ تقديمَ أمرِهم بغضِّ البصرِ قبلَ أمرِ النساءِ.
ومنهـا: أنّ الرجالَ أجسَرُ على مَدِّ البصرِ مِن النساءِ، فإنّ الرجلَ إنْ كان ضعيفَ الإيمانِ مريضَ القلبِ فهو أجسَرُ على مدِّ البصرِ وإطالتِه، بخلافِ نظرِ المرأةِ إلى الرجُلِ، فهي أضعَفُ، لِما جُبِلَتْ عليه مِن حياءٍ وضَعْفٍ وخوفٍ.
ومنها: أنّ الرجالَ أجسَرُ على ما يَتْبَعُ البصرَ مِن تتبُّعِ الفاحشةِ، بخلافِ المرأةِ، فإنّ الرجلَ قد يُتْبِعُ البصرَ مِن مَناهي الكلامِ كالفُحْشِ والتغزُّلِ ما لا تفعلُهُ المرأةُ، فإنّها تُطلِقُ البصرَ وتتهيَّبُ الإقدامَ على ما وراءَهُ، وقد سمّى النبيُّ ﷺ نظرَ العينِ زِناها، وجعَلَ النظرَ أُولى خُطُواتِ الرجُلِ إلى الزِّنى، يَبدأُ به ثمَّ يُتْبِعُهُ بكلامٍ ثمَّ مشيِ القدَمِ والمسِّ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ: (كُتِبَ عَلى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنى، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحالَةَ، فالعَيْنانِ زِناهُما النَّظَرُ، والأُذُنانِ زِناهُما الاِسْتِماعُ، واللِّسانُ زِناهُ الكَلامُ، واليَدُ زِناها البَطْشُ، والرِّجْلُ زِناها الخُطا، والقَلْبُ يَهْوى ويَتَمَنّى، ويُصَدِّقُ ذَلِكَ الفَرْجُ ويُكَذِّبُهُ)[[أخرجه البخاري (٦٢٤٣)، ومسلم (٢٦٥٧).]].
لا تلازُمَ بينَ غضِّ البصرِ وسُفُورِ النساءِ:
ولمّا كان النهيُ عامًّا في الآيةِ: ﴿يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ﴾، دَلَّ على أنّ المرادَ تحريمُ النظرِ إلى جميعِ العَوْراتِ ولو في غيرِ النساءِ كالنظرِ إلى الأَمْرَدِ، وكذلك في النساءِ، فَنَظَرُهُنَّ بَعْضِهِنَّ إلى بعضٍ بشهوةٍ داخلٌ في هذا البابِ.
وأمّا ما يحتجُّ به بعضُ أهلِ الأهواءِ على جوازِ سفورِ المرأةِ لأنّ اللهَ أمَرَ الرجالَ بغضِّ البصرِ، لأنّه لو لم يَكُنَّ كاشفاتٍ، لم يأمُرِ الرجالَ بغضِّ أبصارِهم، فهذا غلطٌ، وذلك لأنّ اللهَ نَهى عن نظرِ الرجلِ لا إلى موضعٍ معيَّنٍ مِن المرأةِ، وإنّما نَهى نهيًا عامًّا لكلِّ ما يحرُمُ النظرُ إليه، وما لم يحرُمِ النظرُ إليه إذا كان فيه فِتْنةٌ كنظرِهِ إلى لِباسِها وشَخْصِها طُولًا وعَرْضًا، وكذلك في نظرِ الرجُلِ إلى الرجلِ الذي مِثلُهُ يُفتَنُ به، فلو قيل بذلك، لجاز القولُ: إنّ الرجالَ والنساءَ يجوزُ لهم كشفُ ما يشاؤونَ مِن أبدانِهم، لأنّ اللهَ أمَرَ بغضِّ البصرِ، ولا يأمُرُ بغضِّ البصرِ إلاَّ عن شيءٍ مكشوفِ السترِ، فلا تلازُمَ عندَ العلماءِ بينَ عَوْرةِ السَّتْرِ وعورةِ النَّظَرِ، فقد يأمُرُ اللهُ بغضِّ البصرِ عن شيءٍ أمَرَ بسَتْرِه، كسَتْرِ المرأةِ عن غيرِ مَحْرَمِها، وعورةِ الرجالِ عن الرجالِ، وقد يأمُرُ بغضِّ البصرِ عن شيءٍ لم يأمُرْ بسَتْرِه، كشاخصِ المرأةِ، وكما قد يُوجَدُ في بعضِ النفوسِ المريضةِ مِن ميلٍ إلى بعضِ نسائِه مِن مَحارِمِهِ، كأُخْتِهِ وعمَّتِهِ وخالتِهِ وبنتِه، فاللهُ أمَرَهُ بغضِّ بصرِهِ عمّا يَفتِنُهُ منهنَّ ممّا أجازَ لهُنَّ إظهارَهُ، ولا تناقُضَ بينَ نصوصِ الكشفِ ونصوصِ النظرِ، فلكلٍّ جهتُهُ وموضعُهُ، ولهذا قال ﷺ: (لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، ولا المَرْأَةُ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ)، رواهُ مسلمٌ عن أبي سعيدٍ[[أخرجه مسلم (٣٣٨).]]، فنَهى اللهُ الرجُلَ عن النظرِ إلى عورةِ الرجلِ، مع أمرِهِ الرجلَ بسَتْرِ عورتِهِ، كما في الحديثِ عند أحمد وأهلِ السُّننِ: (احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلاَّ مِن زَوْجَتِكَ أوْ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) [[أخرجه أحمد (٥ /٣)، وأبو داود (٤٠١٧)، والترمذي (٢٧٦٩)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٩٢٣)، وابن ماجه (١٩٢٠).]]، فذاك حُكْمُ الناظرِ، وهذا حُكْمُ المنظورِ.
حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ إلى المرأةِ:
لا يختلِفُ العلماءُ أنّ نظرَ الرجلِ إلى ما يجوزُ للمرأةِ إظهارُهُ بشهوةٍ، أو عَلِمَ أنّ نظرَهُ إليها يُثِيرُ فتنةً فيه: أنّه حرامٌ، سواءٌ كانتْ شابَّةً أو قاعدًا، وسواءٌ كانتِ المرأةُ على الحقيقةِ أو صُورةً لها، ولو لم يكنْ يَعرِفُها، لأنّ اللهَ حَرَّمَ النظرَ إلى المرأةِ لعِلَلٍ كثيرةٍ، مِن أجَلِّها ما يَتْبَعُ النظرَ مِن إثارةِ الفتنةِ في الناظرِ وتشوُّفِهِ إلى الفاحشةِ، فالنظرُ يُحبِّبُ الحرامَ ولو في غيرِ المنظورِ إليها، وجُلُّ مَن وقَعُوا في النظرِ الحرامِ لم يقَعُوا في الزِّنى بِجُلِّ مَن نظَروا إليهِنَّ، وإنّما في أُخْرَياتٍ غيرِهن، فالنظرُ الحرامُ وقُودُ الزِّنى.
والأصلُ: أنّ نظرَ الرجلِ إلى المرأةِ يُثِيرُ فتنةً، ولهذا جاء الأصلُ بالنهيِ عنه مِن غيرِ تقييدٍ، فإنّ الفتنةَ قد لا تُوجَدُ مِن أولِ نظرةٍ ولا ثانِيها ولا ثالثِها، وإنّما تَحْيا بالقلبِ مع إدامةِ النظرِ، فجاء النهيُ عن أولِه، حتى لا ينتهيَ بصاحِبِهِ إلى فتنةٍ في آخِرِه، ولمّا كانتِ الفتنةُ غالبةً في النظرِ ـ خاصَّةً المتكرِّرَ ـ جاء النهيُ عامًّا، ويشتدُّ الإثمُ بمقدارِ ورودِ الفتنةِ في صاحِبِه، وقد يكونُ النظرُ المحرَّمُ سهلًا في أولِه، لعدمِ قيامِ الفتنةِ فيه، ولكنَّه مع إدامتِهِ يكونُ كالقَيْدِ الذي يُفتَلُ ويُوثِقُ صاحِبَهُ، والعينُ تَفتِلُ قيدَ القلبِ بإدامةِ النظرِ حتى يتقيَّدَ ولا يستطيعَ صَرْفَ البصرِ، ولذا لمّا سأَل جريرٌ رضي الله عنه رسولَ اللهِ ﷺ عن نظرِ الفَجْأَةِ، قال له: (اصْرِفْ بَصَرَكَ)[[أخرجه مسلم (٢١٥٩)، وأحمد (٤ /٣٦١)، وأبو داود (٢١٤٨)، واللفظ لهما.]].
ويجوزُ نظرُ الرجُلِ إلى المرأةِ للضرورةِ، كنظرِ القاضي في الخُصُوماتِ والحقوقِ إلى وجهِ المرأةِ عندَ استشكالِهِ لحقيقتِها، إنْ لم يُوجَدْ مَن ينوبُ عنه في ذلك مِن النساءِ.
{"ayah":"قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّوا۟ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ وَیَحۡفَظُوا۟ فُرُوجَهُمۡۚ ذَ ٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا یَصۡنَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق