الباحث القرآني

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فَعَبَّرَ بِالوَصْفِ إشارَةً إلى عَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الِاحْتِرازِ مِنَ المُخالِطِ بَعْدَ الخُلْطَةِ، وأنَّهُ لا يَعْفُ فِيها إلّا مَن رَسَخَ الإيمانُ في قَلْبِهِ (p-٢٥٤)لِخَفاءِ الخِيانَةِ حِينَئِذٍ بِخِلافِ ما سَبَقَ في المَنعِ مِنَ الدُّخُولِ حَيْثُ كانَ التَّعْبِيرُ بِ ”الَّذِينَ آمَنُوا“ ﴿يَغُضُّوا﴾ أيْ يَخْفِضُوا ولا يَرْفَعُوا، بَلْ يَكُفُّوا عَمّا نُهُوا عَنْهُ. ولَمّا كانَ الأمْرُ في غايَةِ العُسْرِ، قالَ: ﴿مِن أبْصارِهِمْ﴾ بِإثْباتِ ”مِن“ التَّبْعِيضِيَّةِ إشارَةً إلى العَفْوِ عَنِ النَّظْرَةِ الأُولى، وأنَّ المَأْخُوذَ بِهِ إنَّما هو التَّمادِي، ولَمّا كانَ البَصَرُ بَرِيدَ الزِّنى قَدَّمَهُ. ولَمّا كانَ حِفْظُ الفَرْجِ لِخَطَرِ المُواقَعَةِ أسْهَلَ مِن حِفْظِ البَصَرِ، ولِأنَّهُ لا يَفْعَلُ بِهِ مِن غَيْرِ اخْتِبارٍ، حَذَفَ ”مِن“ لِقَصْدِ العُمُومِ فَقالَ: ﴿ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ أيْ عَنْ كُلِّ حَرامٍ مِن كَشْفٍ وغَيْرِهِ ولَمْ يَسْتَثْنَ الزَّوْجَةَ ومِلْكَ اليَمِينِ اسْتِغْناءً عَنْهُ بِما سَبَقَ في المُؤْمِنُونَ، ولِأنَّ المَقامَ لِلتَّهْوِيلِ في أمْرٍ لِلْحِفْظِ والتَّشْدِيدِ، ورَغَّبَ في ذَلِكَ بِتَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرُ العالِي العَظِيمُ مِن كُلٍّ مِنَ الغَضِّ والحِفْظِ الَّذِي أمَرْتُهم بِهِ ﴿أزْكى لَهُمْ﴾ أيْ أقْرَبُ إلى أنْ يَنْمُوا ويُكْثِرُوا ويُطَهَّرُوا حِسًّا ومَعْنًى، ويُبارِكَ لَهُمْ، أمّا الحِسِّيُّ فَهو أنَّ الزِّنى مَجْلَبَةٌ لِلْمَوْتِ بِالطّاعُونِ، ويُورِثُ الفَقْرَ وغَيْرَهُما مِنَ البَلايا «ما مِن قَوْمٍ ظَهَرَ فِيهِمُ الزِّنى إلّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ» رَواهُ أحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (p-٢٥٥)ورَواهُ عَنْهُ أبُو القاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في كِتابِ الفُتُوحِ ولَفْظُهُ «ما مِن قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الزِّنى إلّا أُخِذُوا بِالفَنا وما مِن قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّبا إلّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ، وما مِن قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشا إلّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ الزِّنى يُورِثُ الفَقْرَ» رَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وإذا ظَهَرَ الزِّنى ظَهَرَ الفَقْرُ والمَسْكَنَةُ وراهَ ابْنُ ماجَّةَ والبَزّارُ وهَذا لَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - والبَيْهَقِيُّ ولَفْظُهُ: «الزِّنى يُورِثُ الفَقْرَ» وفي رِوايَةٍ لَهُ «ما ظَهَرَتِ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ يُعْمَلُ بِها فِيهِمْ عَلانِيَةً إلّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطّاعُونُ والأوْجاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ في أسْلافِهِمْ» ورَواهُ عَنْهُ ابْنُ إسْحاقَ في السِّيرَةِ في سَرِيَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى دَوْمَةِ الجَنْدَلِ ولَفْظُهُ: «إنَّهُ لَمْ تَظْهَرِ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتّى يُعْلِنُوا بِها إلّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطّاعُونُ والأوْجاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ في أسْلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ولَمْ يَنْقُضُوا المِكْيالَ والمِيزانَ إلّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وشِدَّةِ المَؤُونَةِ وجَوْرِ السُّلْطانِ، ولَمْ يَمْنَعُوا الزَّكاةَ مِن أمْوالِهِمْ إلّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّماءِ، فَلَوْلا البَهائِمُ ما مُطِرُوا، وما نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ وعَهْدَ رَسُولِهِ إلّا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن غَيْرِهِمْ، فَأخَذَ بَعْضَ ما كانَ في أيْدِيهِمْ، وما (p-٢٥٦)لَمْ يَحْكم أئِمَّتُهم بِكِتابِ اللَّهِ وتَجَبَّرُوا فِيما أنْزَلَ اللَّهُ إلّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهم بَيْنَهُمْ» وفي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ عَنِ ابْنِ ماجَةَ والبَزّارِ والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ هَذا اللَّفْظِ، وفي آخِرِ السِّيرَةِ عَنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خُطْبَتِهِ عِنْدَما ولِيَ الخِلافَةَ: لا يَدَعُ قَوْمٌ الجِهادَ في سَبِيلِ اللَّهِ إلّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، ولا تَشِيعُ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ إلّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالبَلاءِ. وفِي المُوَطَّأِ عَنْ مالِكٍ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ أنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ ”ما ظَهَرَ الغُلُولُ في قَوْمٍ قَطُّ إلّا ألْقى في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، ولا فَشا الزِّنى في قَوْمٍ قَطُّ إلّا كَثُرَ فِيهِمُ المَوْتُ، ولا نَقْصَ قَوْمٌ قَطُّ المِكْيالَ والمِيزانَ إلّا قَطَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ، ولا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الحَقِّ إلّا فَشا فِيهِمُ الدَّمُ، ولا خَتَرَ قَوْمٌ بِالعَهْدِ إلّا سَلَّطَ عَلَيْهِمُ العَدُوَّ“ . ورَوى الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا كَثُرَتِ الفاحِشَةُ كَثُرَ الفَسادُ، وجارَ السُّلْطانُ”وفِيهِ:“أُمَثِّلُهم في ذَلِكَ الزَّمانِ المُداهِنَ. إذا ظَهَرَ الرِّبا والزِّنى في قَرْيَةٍ آذَنَ اللَّهُ في هَلاكِها» . رَواهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. (p-٢٥٧)وأمّا المَعْنَوِيُّ فَرَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي أُمامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «ما مِن مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلى مَحاسِنِ امْرَأةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلّا أخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عِبادَةً يَجِدُ حَلاوَتَها» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ورُوِيَ هَذا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وحُذَيْفَةَ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ولَكِنْ في أسانِيدِها ضَعْفٌ. وساقَ لَهُ شاهِدًا مِنَ الطَّبَرانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «إنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِن سِهامِ إبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَن تَرَكَها مَخافَتِي أبْدَلْتُهُ إيمانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ في قَلْبِهِ» فَعُلِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ مَن تَخَلَّقَ بِما أمَرَهُ اللَّهُ هُنا كانَ قَلْبُهُ مَوْضِعًا لِلْحِكْمَةِ، وفِعْلُهُ أهْلًا لِلنَّجْحِ، وذِكْرُهُ مَقْرُونًا بِالقَبُولِ. ولَمّا كانَ الزَّكاءُ يَتَضَمَّنُ التَّكْثِيرَ والتَّطْهِيرَ، وكانَ الكَلامُ هُنا في غَضِّ البَصَرِ، وكانَ ظاهِرًا جِدًّا في الطَّهارَةِ، لَمْ يَدْعُ داعٍ إلى التَّأْكِيدِ بِالتَّصْرِيحِ بِالطَّهارَةِ، وأمّا آيَةُ البَقَرَةِ فَلَمّا كانَتْ في العَضْلِ، وكانَ لا يَكُونُ إلّا عَنْ ضَغائِنَ وإحَنٍ فَكانَ الوَلِيُّ رُبَّما ظَنَّ أنَّ مَنعَها عَمَّنْ عَضَلَها عَنْهُ أطْهَرُ لَهُ ولَها. أكَّدَ العِبارَةَ بِفِعْلِ الزَّكاءِ بِالتَّصْرِيحِ بِما (p-٢٥٨)أفْهَمَهُ مِنَ الطَّهارَةِ. ولَمّا كانَ المَقامُ صَعْبًا لِمَيْلِ النُّفُوسِ إلى الدَّنايا واتِّباعِها لِلشَّهَواتِ، عَلَّلَ هَذا الأمْرَ مُرَغِّبًا ومُرَهِّبًا بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِما لَهُ مِنَ الإحاطَةِ الكامِلَةِ ﴿خَبِيرٌ﴾ ولَمّا كانَ وازِعُ الحَياءِ مَعَ ذَلِكَ مانِعًا عَظِيمًا فَلا يُخالِفُ إلّا بِمُعالَجَةٍ وتَدَرُّبٍ، عَبَّرَ بِالصَّنْعَةِ فَقالَ: ﴿بِما يَصْنَعُونَ﴾ أيْ وإنْ تَناهَوْا في إخْفائِهِ، ودَقَّقُوا في تَدْبِيرِ المَكْرِ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب