الباحث القرآني
﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ .
الأظْهَرُ أنَّ (الَّذِينَ) عَطْفٌ عَلى (المُهاجِرِينَ) أيْ والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ. (p-٩٠)والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ هُمُ الأنْصارُ.
والدّارُ تُطْلَقُ عَلى البِلادِ، وأصْلُها مَوْضِعُ القَبِيلَةِ مِنَ الأرْضِ. وأُطْلِقَتْ عَلى القَرْيَةِ قالَ تَعالى في ذِكْرِ ثَمُودَ ﴿فَأصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ [الأعراف: ٧٨]، أيْ في مَدِينَتِهِمْ وهي حِجْرُ ثَمُودَ. والتَّعْرِيفُ هُنا لِلْعَهْدِ لِأنَّ المُرادَ بِالدّارِ: يَثْرِبُ والمَعْنى الَّذِينَ هم أصْحابُ الدّارِ. هَذا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ﴾ .
والتَّبَوُّءُ: اتِّخاذُ المَباءَةِ وهي البُقْعَةُ الَّتِي يَبُوءُ إلَيْها صاحِبُها، أيْ يَرْجِعُ إلَيْها بَعْدَ انْتِشارِهِ في أعْمالِهِ. وفي مَوْقِعِ قَوْلِهِ (والإيمانَ) غُمُوضٌ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَفْعُولا لِفِعْلِ تَبَوَّءُوا، فَتَأوَّلَهُ المُفَسِّرُونَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُجْعَلَ الكَلامُ اسْتِعارَةً مَكْنِيَّةً بِتَشْبِيهِ الإيمانِ بِالمَنزِلِ وجَعْلِ إثْباتِ التَّبَوُّءِ تَخْيِيلًا فَيَكُونُ فِعْلُ تَبَوَّءُوا مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ.
وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ جَعَلُوا المَعْطُوفَ عامِلًا مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ، وتَقْدِيرُهُ: وأخْلَصُوا الإيمانَ عَلى نَحْوِ قَوْلِ الرّاجِزِ الَّذِي لا يُعْرَفُ:
؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا
وقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرى:
؎يا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدا ∗∗∗ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا
أيْ ومُمْسِكًا رُمْحًا وهو الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الكَشّافُ. وقِيلَ الواوُ لِلْمَعِيَّةِ.
والإيمانُ مَفْعُولٌ مَعَهُ.
(p-٩١)وعِنْدِي أنَّ هَذا أحْسَنُ الوُجُوهِ، وإنْ قَلَّ قائِلُوهُ. والجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ النَّصْبَ عَلى المَفْعُولِ مَعَهُ سَماعِيًّا فَهو عِنْدَهم قَلِيلُ الِاسْتِعْمالِ فَتَجَنَّبُوا تَخَرِيجَ آياتِ القُرْآنِ عَلَيْهِ حَتّى ادَّعى ابْنُ هِشامٍ في مُغْنِي اللَّبِيبِ أنَّهُ غَيْرُ واقِعٍ في القُرْآنِ بِيَقِينٍ. وتَأْوِيلُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١]، ذَلِكَ لِأنَّ البَصَرَيْنِ يَشْتَرِطُونَ أنْ يَكُونَ العامِلُ في المَفْعُولِ مَعَهُ هو العامِلَ في الِاسْمِ الَّذِي صاحَبَهُ ولا يَرَوْنَ واوَ المَعِيَّةِ ناصِبَةَ المَفْعُولِ مَعَهُ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ فَإنَّ الواوَ عِنْدَهم بِمَعْنى مَعَ. وقالَ عَبْدُ القاهِرِ: مَنصُوبٌ بِالواوِ.
والحَقُّ عَدَمُ التِزامِ أنْ يَكُونَ المَفْعُولُ مَعَهُ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ، ألا تَرى صِحَّةَ قَوْلِ القائِلِ: اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةُ. وقَوْلُهم: سِرْتُ والنِّيلُ، وهو يُفِيدُ الثَّناءَ عَلَيْهِمْ بِأنَّ دارَ الهِجْرَةِ دارُهم آوَوْا إلَيْها المُهاجِرِينَ لِأنَّها دارُ مُؤْمِنِينَ لا يُماثِلُها يَوْمَئِذٍ غَيْرُها.
وبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أنَّ مُتَعَلِّقَ (مِن قَبْلِهِمْ) فِعْلُ تَبَوَّءُوا بِمُفْرَدِهِ، وأنَّ المَجْرُورَ المُتَعَلِّقَ بِهِ قُيِّدَ فِيهِ دُونَ ما ذِكْرٍ بَعْدَ الواوِ لِأنَّ الواوَ لَيْسَتْ واوَ عَطْفٍ فَلِذَلِكَ لا تَكُونُ قائِمَةً مَقامَ الفِعْلِ السّابِقِ لِأنَّ واوَ المَعِيَّةِ في مَعْنى ظَرْفٍ فَلا يُعَلَّقُ بِها مَجْرُورٌ.
وفِي ذِكْرِ الدّارِ وهي المَدِينَةِ مَعَ ذِكْرِ الإيمانِ إيماءٌ إلى فَضِيلَةِ المَدِينَةِ بِحَيْثُ جَعَلَ تَبَوُّءَهُمُ المَدِينَةَ قَرِينَ الثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِالإيمانِ ولَعَلَّ هَذا هو الَّذِي عَناهُ مالِكٌ رَحْمَهُ اللَّهُ فِيما رَواهُ عَنْهُ ابْنُ وهْبٍ قالَ: سَمِعْتُ مالِكًا يَذْكُرُ فَضْلَ المَدِينَةِ عَلى غَيْرِها مِنَ الآفاقِ. فَقالَ: إنَّ المَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالإيمانِ والهِجْرَةِ وإنَّ غَيْرَها مِنَ القُرى افْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأ ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ﴾ الآيَةَ.
وجُمْلَةُ ﴿يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ﴾ حالٌ مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا، وهَذا ثَناءٌ عَلَيْهِمْ بِما تَقَرَّرَ في نُفُوسِهِمْ مِن أُخُوَّةِ الإسْلامِ إذْ أحَبُّوا المُهاجِرِينَ، وشَأْنُ القَبائِلِ أنْ يَتَحَرَّجُوا مِنَ الَّذِينَ يُهاجِرُونَ إلى دِيارِهِمْ لِمُضايَقَتِهِمْ.
ومِن آثارِ هَذِهِ المَحَبَّةِ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن خَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إذْ عَرَضَ سَعْدٌ عَلَيْهِ أنْ يُقاسِمَهُ مالَهُ وأنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْ إحْدى زَوْجَتَيْهِ، وقَدْ أسْكَنُوا المُهاجِرِينَ مَعَهم في بُيُوتِهِمْ ومَنَحُوهم مِن نَخِيلِهِمْ، وحَسْبُكَ الأُخُوَّةُ الَّتِي آخى النَّبِيءُ ﷺ بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ.
(p-٩٢)وقَوْلُهُ ﴿ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا﴾ أُرِيدَ بِالوُجْدانِ الإدْراكُ العَقْلِيُّ، وكَنّى بِانْتِفاءِ وُجْدانِ الحاجَةِ مِنَ انْتِفاءِ وُجُودِها لِأنَّها لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً لَأدْرَكُوها في نُفُوسِهِمْ وهَذا مِن بابِ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ولا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرُ
.
والحاجَةُ في الأصْلِ: اسْمُ مَصْدَرِ الحَوْجِ وهو الِاحْتِياجُ، أيْ الِافْتِقارُ إلى شَيْءٍ، وتُطْلَقُ عَلى الأمْرِ المُحْتاجِ إلَيْهِ مِن إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى اسْمِ المَفْعُولِ، وهي هُنا مَجازٌ في المَأْرَبِ والمُرادِ، وإطْلاقُ الحاجَةِ إلى المَأْرَبِ مَجازٌ مَشْهُورٌ ساوى الحَقِيقَةَ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً في صُدُورِكُمْ﴾ [غافر: ٨٠]، أيْ لِتَبْلُغُوا في السَّفَرِ عَلَيْها المَأْرَبَ الَّذِي تُسافِرُونَ لِأجْلِهِ، وكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا حاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها﴾ [يوسف: ٦٨] أيْ مَأْرَبًا مُهِمًّا وقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎أيّامَ تُخْبِرْنِي نُعْمُ وأُخْبِرُها ∗∗∗ ما أكْتُمُ النّاسَ مِن حاجِي وإسْرارِي
وعَلَيْهِ فَتَكُونُ (مِن) في قَوْلِهِ مِمّا أُوتُوا ابْتِدائِيَّةً، أيْ مَأْرَبًا أوْ رَغْبَةً ناشِئَةً مِن فَيْءٍ أُعْطِيَهُ المُهاجِرُونَ. والصُّدُورُ مُرادٌ بِها النُّفُوسُ جَمْعُ الصَّدْرِ وهو الباطِنُ الَّذِي فِيهِ الحَواسُّ الباطِنَةُ وذَلِكَ كَإطْلاقِ القَلْبِ عَلى ذَلِكَ.
وما أُوتُوا هو فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ.
وضَمِيرُ (صُدُورِهِمْ) عائِدٌ إلى الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ وضَمِيرُ أُوتُوا عائِدٌ إلى مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ، لِأنَّ مَن هاجَرَ جَماعَةٌ مِنَ المُهاجِرِينَ فَرُوعِيَ في ضَمِيرِ مَعْنى (مِن) بِدُونِ لَفْظِها. وهَذانَ الضَّمِيرانِ وإنْ كانا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ وكانا مُقْتَرِبَيْنِ فالسّامِعُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إلى مُعادِهِ بِحَسَبِ السِّياقِ مِثْلَ ما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها﴾ [الروم: ٩] في سُورَةِ الرُّومِ. وقَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ يَذْكُرُ انْتِصارَ المُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ عَلى هَوازِنَ:
؎عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ∗∗∗ بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَعُوا
أيْ أحْرَزَ جَيْشُ هَوازِنَ ما جَمَعَهُ جَيْشُ المُسْلِمِينَ.
والمَعْنى: أنَّهم لا يُخامِرُ نُفُوسَهم تَشَوُّفٌ إلى أخْذِ شَيْءٍ مِمّا أُوتِيَهُ المُهاجِرُونَ مِن فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ.
(p-٩٣)ويَجُوزُ وجْهٌ آخَرُ بِأنْ يُحْمَلَ لَفْظُ حاجَةٍ عَلى اسْتِعْمالِهِ الحَقِيقِيِّ (اسْمُ مَصْدَرِ الِاحْتِياجِ) فَإنَّ الحاجَّةَ بِهَذا المَعْنى يَصِحُّ وُقُوعُها في الصُّدُورِ لِأنَّها مِنَ الوِجْدانِيّاتِ والِانْفِعالاتِ. ومَعْنى نَفْيِ وُجْدانِ الِاحْتِياجِ في صُدُورِهِمْ أنَّهم لِفَرْطِ حُبِّهِمْ لِلْمُهاجِرِينَ صارُوا لا يُخامِرُ نُفُوسَهم أنَّهم مُفْتَقِرُونَ إلى شَيْءٍ ما يُؤْتاهُ المُهاجِرُونَ، أيْ فَهم أغْنِياءُ عَمّا يُؤْتاهُ المُهاجِرُونَ فَلا تَسْتَشْرِفُ نُفُوسُهم إلى شَيْءٍ مِمّا يُؤْتاهُ المُهاجِرُونَ بَلْهَ أنْ يَتَطَلَّبُوهُ.
وتَكُونُ (مِن) في قَوْلِهِ تَعالى مِمّا أُوتُوا لِلتَّعْلِيلِ، أيْ حاجَةٌ لِأجْلِ ما أُوتِيَهُ المُهاجِرُونَ، أوِ ابْتِدائِيَّةٌ، أيْ حاجَةٌ ناشِئَةٌ عَمّا أُوتِيَهُ المُهاجِرُونَ فَيُفِيدُ انْتِفاءَ وُجْدانِ الحاجَةِ في نُفُوسِهِمْ وانْتِفاءِ أسْبابِ ذَلِكَ الوُجْدانِ ومَناشِئِهِ المُعْتادَةِ في النّاسِ تَبَعًا لِلْمُنافَسَةِ والغِبْطَةِ، وقَدْ دَلَّ انْتِفاءُ أسْبابِ الحاجَةِ عَلى مُتَعَلِّقِ حاجَةِ المَحْذُوفِ إذِ التَّقْدِيرُ: ولا يَجِدُونَ في نُفُوسِهِمْ حاجَةً لِشَيْءٍ أُوتِيَهُ المُهاجِرُونَ.
والإيثارُ: تَرْجِيحُ شَيْءٍ عَلى غَيْرِهِ بِمَكْرَمَةٍ أوْ مَنفَعَةٍ.
والمَعْنى: يُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ في ذَلِكَ اخْتِيارًا مِنهم وهَذا أعْلى دَرَجَةً مِمّا أفادَهُ قَوْلُهُ ﴿ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا﴾ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ ولَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يُؤْثِرُونَ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ مِمّا أُوتُوا عَلَيْهِ.
ومِن إيثارِهِمُ المُهاجِرِينَ ما رُوِيَ في الصَّحِيحِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا الأنْصارَ لِيَقْطَعَ لَهم قَطائِعَ بِنَخْلِ البَحْرَيْنِ فَقالُوا: لا إلّا أنْ تَقْطَعَ لِإخْوانِنا مِنَ المُهاجِرِينَ مِثْلَها» .
وإمّا إيثارُ الواحِدِ مِنهم عَلى غَيْرِهِ مِنهم فَما رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «أتى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أصابَنِيَ الجَهْدُ. فَأرْسَلَ في نِسائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقالَ النَّبِيءُ ﷺ: ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقامَ رَجُلٌ مَنِ الأنْصارِ هو أبُو طَلْحَةَ فَقالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبَ إلى أهْلِهِ فَقالَ لِامْرَأتِهِ: هَذا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ لا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، فَقالَتْ: واللَّهِ ما عِنْدِي إلّا قُوتُ الصِّبْيَةِ. قالَ: فَإذا أرادَ الصِّبْيَةُ العَشاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وتَعالَيْ فَأطْفِئِي السِّراجَ ونَطْوِي بُطُونَنا اللَّيْلَةَ. فَإذا دَخَلَ الضَّيْفُ فَإذا أهْوى لِيَأْكُلَ فَقَوْمِي إلى السِّراجِ تُرِي أنَّكِ تُصْلِحِينَهُ فَأطْفِئِيهِ وأرِيهِ أنّا نَأْكُلُ. فَقَعَدُوا وأكَلَ الضَّيْفُ» .
(p-٩٤)وذُكِرَتْ قَصَصٌ مِن هَذا القَبِيلِ في التَّفاسِيرِ، قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في قِصَّةِ أبِي طَلْحَةَ وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وجُمْلَةُ ﴿ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ.
و(لَوْ) وصْلِيَةٌ وهي الَّتِي تَدُلُّ عَلى مُجَرَّدِ تَعْلِيقِ جَوابِها بِشَرْطٍ يُفِيدُ حالَةً لا يُظَنُّ حُصُولَ الجَوابِ عِنْدَ حُصُولِها. والتَّقْدِيرُ: لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ لَآثَرُوا عَلى أنْفُسِهِمْ فَيُعْلَمُ أنَّ إيثارَهم في الأحْوالِ الَّتِي دُونَ ذَلِكَ بِالأحْرى دُونَ إفادَةِ الِامْتِناعِ. وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والخَصاصَةُ: شِدَّةُ الِاحْتِياجِ.
وتَذْكِيرُ فِعْلِ (كانَ) لِأجْلِ كَوْنِ تَأْنِيثِ الخَصاصَةِ لَيْسَ حَقِيقِيًّا، ولِأنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ كانَ واسْمِها بِالمَجْرُورِ. والباءُ لِلْمُلابَسَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ تَذْيِيلٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، فَإنَّ التَّذْيِيلَ مِن قَبِيلِ الِاعْتِراضِ في آخِرِ الكَلامِ عَلى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ. وتَذْيِيلُ الكَلامِ بِذِكْرِ فَضْلِ مَن يُوقَوْنَ شُحَّ أنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ يُشِيرُ إلى أنَّ إيثارَهم عَلى أنْفُسِهِمْ حَتّى في حالَةِ الخَصاصَةِ هو سَلامَةٌ مِن شُحِّ الأنْفُسِ فَكَأنَّهُ قِيلَ لِسَلامَتِهِمْ مِن شُحِّ الأنْفُسِ ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ .
والشُّحُّ بِضَمِّ الشِّينِ وكَسْرِها: غَرِيزَةٌ في النَّفْسِ بِمَنعِ ما هو لَها، وهو قَرِيبٌ مِن مَعْنى البُخْلِ. وقالَ الطِّيبِي: الفَرْقُ بَيْنَ الشُّحِّ والبُخْلِ عَسِيرٌ جِدًّا وقَدْ أشارَ في الكَشّافِ إلى الفَرْقِ بَيْنَهُما بِما يَقْتَضِي أنَّ البُخْلَ أثَرُ الشُّحِّ وهو أنْ يَمْنَعَ أحَدٌ ما يُرادُ مِنهُ بَذْلُهُ وقَدْ قالَ تَعالى ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] أيْ جُعِلَ الشُّحُّ حاضِرًا مَعَها لا يُفارِقُها، وأُضِيفَ في هَذِهِ الآيَةِ إلى النَّفْسِ لِذَلِكَ فَهو غَرِيزَةٌ لا تَسْلَمُ مِنها نَفْسٌ.
وفِي الحَدِيثِ في بَيانِ أفْضَلِ الصَّدَقَةِ «أنْ تَصَّدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشى الفَقْرَ وتَأْمُلُ الغِنى» . ولَكِنَّ النُّفُوسَ تَتَفاوَتُ في هَذا المِقْدارِ فَإذا غَلَبَ (p-٩٥)عَلَيْها بِمَنعِ المَعْرُوفِ والخَيْرِ فَذَلِكَ مَذْمُومٌ ويَتَفاوَتُ ذَمُّهُ بِتَفاوُتِ ما يَمْنَعُهُ. قالَ وقَدْ أحْسَنَ وصْفَهُ مَن قالَ، لَمْ أقِفْ عَلى قايِلِهِ:
؎يُمارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ∗∗∗ إذا هَمَّ بِالمَعْرُوفِ قالَتْ لَهُ مَهْلا
فَمَن وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ، أيْ وُقِيَ مِن أنْ يَكُونَ الشُّحُّ المَذْمُومُ خُلُقًا لَهُ، لِأنَّهُ إذا وُقِيَ هَذا الخُلُقَ سَلِمَ مِن كُلِّ مَواقِعِ ذَمِّهِ. فَإنْ وُقِيَ مِن بَعْضِهِ كانَ لَهُ مِنَ الفَلاحِ بِمَقْدارِ ما وُقِيَهِ.
واسْمُ الإشارَةِ لِتَعْظِيمِ هَذا الصِّنْفِ مِنَ النّاسِ.
وصِيغَةُ القَصْرِ المُؤَدّاةُ بِضَمِيرِ الفَصْلِ لِلْمُبالَغَةِ لِكَثْرَةِ الفَلاحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلى وِقايَةِ شُحِّ النَّفْسِ حَتّى كَأنَّ جِنْسَ المُفْلِحِ مَقْصُورٌ عَلى ذَلِكَ المُوقى.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن جَعَلَ ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ﴾ ابْتِداءَ كَلامٍ لِلثَّناءِ عَلى الأنْصارِ بِمُناسَبَةِ الثَّناءِ عَلى المُهاجِرِينَ وهَؤُلاءِ لَمْ يَجْعَلُوا لِلْأنْصارِ حَظًّا في ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى وقَصَرُوا قَوْلَهُ ﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى﴾ [الحشر: ٧] عَلى قُرًى خاصَّةٍ هي: قُرَيْظَةُ. وفَدَكُ، وخَيْبَرُ. والنَّفْعُ، وعُرَيْنَةُ، ووادِي القُرى، ورَوَوْا «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيْئَها قالَ لِلْأنْصارِ: إنْ شِئْتُمْ قاسَمْتُمُ المُهاجِرِينَ مِن أمْوالِكم ودِيارِكم وشارَكْتُمُوهم في هَذِهِ الغَنِيمَةِ وإنَّ شِئْتُمْ أمْسَكْتُمْ أمْوالَكم وتَرَكْتُمْ لَهم هَذِهِ ؟ فَقالُوا: بَلْ نَقْسِمُ لَهم مِن أمْوالِنا ونَتْرُكُ لَهم هَذِهِ الغَنِيمَةَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ ﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى﴾ [الحشر: ٧] الآيَةَ» .
ومِنهم مَن قَصَرَ هَذِهِ الآيَةَ عَلى فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وكُلُّ ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ انْتِظامِ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضِها مَعَ بَعْضٍ وتَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الكَلامِ وتَناسُبِهِ مَعَ وهْنِ الأخْبارِ الَّتِي رَوَوْها في ذَلِكَ فَلا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ. وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَطْفُ ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ﴾ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ، واسْمُ المَوْصُولِ مُبْتَدَأً وجُمْلَةُ ﴿يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ﴾ خَبَرًا عَنِ المُبْتَدَأِ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ یُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَیۡهِمۡ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمۡ حَاجَةࣰ مِّمَّاۤ أُوتُوا۟ وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق