الباحث القرآني
* (فائدة)
كان عبد الرحمن بن عوف - أو سعد بن أبي وقاص - يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي.
فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟
فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت.
والفرق بين الشح والبخل أن الشح هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه.
والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره، وذلك هو المفلح ﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾.
* [فصل: الفرق بين الموجدة والحقد]
والفرق بين الموجدة والحقد: أن الوجد الإحساس بالمؤلم والعلم به وتحرك النفس في رفعه فهو كمال. وأما الحقد فهو إضمار الشر وتوقعه كل وقت فيمن وجدت عليه فلا يزايل القلب أثره.
وفرق آخر وهو أن الموجودة لما ينالك منه، والحقد لما يناله منك، فالموجودة وجود ما نالك من أذاه، والحقد توقع وجود ما يناله من المقابلة فالموجودة سريعة الزوال والحقد بطيء الزوال، والحقد يجيء مع ضيق القلب واستيلاء ظلمة النفس ودخانها عليه، بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته وصلابته وقوة نوره وإحساسه.
* (فصل)
قال أبو العباس بن العريف - رحمه الله -:
"وقيل: المحبة إيثار المحبوب على غيره"
وهذا الحد أيضًا من جنس ما قبله، فإن إيثار المحبوب على غيره موجب المحبة ومقتضاها، فإذا استقرت المحبة في القلب استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها، فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محبًا له، وإن زعم أنه محب فإنما هو محب لنفسه ولحظه ممن يحبه، فإذا رأى حظًا آخر هو أحب إليه من حظه الذي يريده من محبوبه آثر ذلك الحظ المحبوب إليه.
فهذا موضع يغلط فيه الناس كثيرًا إذ أكثرهم إنما هو يحب لحظِّه ومراده، فإذا علم أنه عند غيره أحب ذلك الغير حب الوسائل لا حبًا له لذاته، ويظهر هذا عند حالتين:
إحداهما: أنه يرى حظًا له آخر عند غيره فيؤثر ذلك الحظ ويترك محبوبه.
الثانية: أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فترت محبته وسكن قلبه وترحل قاطن المحبة من قلبه، كما قيل: من ودَّك لأمر ولّى عند انقضائه. فهذه محبة مشوبة بالعلل.
بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله، وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته.
وأن الذي يوجب هذه المحبة فناءُ العبد عن إرادته لمراد محبوبه، فيكون عاملًا على مراد محبوبه منه لا على مراده هو من محبوبه.
فهذه هي المحبة الخالصة من درن العلل وشوائب النفس، وهي التي تستلزم إيثار المحبوب على غيره ولا بد وكلما كان سلطان هذه المحبة أقوى كان هذا الإيثار أتم تتزايد، وفي مثل هذا قيل:
؎تعصي الإله وأنت تزعم حبه ∗∗∗ هذا لعمرك في القياس شنيع
؎لو كان حبك صادقًا لأطعته ∗∗∗ إن المحب لمن يحب مطيع
وهاهنا دقيقة ينبغي التفطن لها، وهي أن إيثار المحبوب نوعان:
إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة.
فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلبًا لحظه منه، فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه بخير منه.
والثاني: يؤثره إجابة لداعي محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائمًا إلى إيثار محبوبه، فإيثاره هو أجلّ حظوظه، فحظه في نفس الإيثار لا في العوض المطلوب بالإيثار، وهذا لا تفهمه إلا النفس اللطيفة الورعة المشرقة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فتلدرج.
والدين كله والمعاملة في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى قيل إن من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجًا إليه لكان بذله سخاءً وكرمًا.
وهذا إنما يصح في إيثار المخلوق، والله سبحانه يؤثر عبده على غيره من غير احتياج منه سبحانه فإنه الغني الحميد، وفي الدعاء المرفوع: "اللَّهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا".
وقيل: من آثره الله على غيره آثره الله على غيره.
والفرق بين الإيثار والأثرة أن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك والأثرة اختصاصك به على الغير.
وفي الحديث: "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا".
فإذا عرف هذا، فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق. وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضم لك دينًا ولا يسد عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا.
فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحدًا كائنًا من كان.
وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه.
فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أنفَسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩].
فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذي إذا وقى الرجل الشح به كان من المفلحين، وهذا إنما هو فضول الدنيا لا الأوقات المصروفة في الطاعات.
فإن الفلاح كل الفلاح في الشح بها فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عيانًا مفلسًا، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأْس ماله.
ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها. قال الله تعالى: ﴿وَسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ والأرْضُ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وقال تعالى: ﴿فاسْتَبقُوا الخَيْراتِ﴾ [البقرة: ١٤٨]، وقال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦]
وقال النبي ﷺ:
"لو يعلم الناس ما في النداءِ والصف الأول لكانت قرعة".
والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًا للإيثار، بل محلًا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاءُ: لا يستحب الإيثار بالقربات والسر فيه - والله أعلم - أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثر والمؤثر، بل لا يسع إلا أحدهما، وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم، وإن قدِّر التزاحم في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع - بحيث إذا فعله واحد فات على غيره، فإن في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النبي ﷺ في غير حديث، فإذا قدر فوت مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله.
وأيضًا فإنه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوض منه: إما مساوٍ له، وإما أزيد، وإما دونه.
فمتى أتى بالعوض وعلم الله من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه الله ثوابه وثواب ما تعوض به عنه فجمع له الأمرين.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
وأيضًا فإن المقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه والمنافسة في محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختص به أحدهما فات الآخر، فندب الله سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبرًا على الإيثار به ما لم يخرم عليه دينًا، أو يجلب له مفسدة، أو يقطع عليه طريقًا عزم على سلوكه إلى ربه، أو شوش عليه قلبه، بحيث يجعله متعلقًا بالخلق، فمفسدة إيثار هذا أرجح من مصلحته، فإذا ترجحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمن إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة ضرورة - وليس للمؤثر نظيرها - تعين عليه الإيثار، فإن كان به نظيرها لم يتعين عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان، فإنه من آثر حياة غيره على حياته وضرورته على ضرورته فقد استولى على أمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر الحظ.
وفى هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها.
فإن قيل: فما الذي يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟
قيل: يسهله أُمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل.
وخلق القسمة والتسوية، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم.
فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها، وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حدوره. وهل أزال الممالك وقلعها إلا الاستئثار؟ فإن النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول الله ﷺ أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأْثروا عليهم، لما في طاعة المستأْثر من المشقة والكره.
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده، فإن ذلك عسر جدًا، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله. ومن جرب هذا عرفه، ومن لم يجربه فليستقر أحوال العالم. والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى.
* (فصل)
والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره، فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على غيره ونفسه من أعظم الأغيار. فآثر الله عليها فترك محبوبها لمحبوب الله.
وعلامة هذا الإيثار شيئان:
أحدهما: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه.
الثاني: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه، فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار، ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع، فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به، وأنه ليسير على من يسره الله عليه، فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المنحة، ويحمل فيه خطرًا يسيرًا لملك عظيم وفوز كبير، فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، ويسير منه يرقى العبد ويسيره ما لا يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار.
والذي يسهله على العبد أُمور:
أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة.
الثاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويًا، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته.
الثالث: قوة صبره وثباته.
فبهذه الأمور الثلاثة الأُمور ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه. والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين:
أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك، بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات، فلا يتخلص له رؤيتها وعيانها.
الثاني أن تكون القريحة وقادة دراكة، لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلما ساقه خطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلقت نفسه بشهواته ومأْلوفاته، فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهًا. فإذا رزق العبد قريحة وقادة، وطبيعة منقادة: إذا زجرها انزجرت وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين، وأُيد مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كل جانب.
ولما كانت هذه القرائح والطبائع ثابتة للصحابة رضي الله عنهم، وكملها الله لهم بنور الإسلام وقوة اليقين ومباشرة الإيمان لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين وكان من بعدهم لو أنفق مثل جبل أُحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
ومن تصور هذا الموضع حق تصوره علم من أين يلزمه النقص والتأخر، ومن أين يتقدم ويتأخر ويترقى في درجات السعادة وبالله التوفيق. والله أعلم.
* [فصل: في كَمالُ مَحَبَّةِ الصِّدِّيقِ لَهُ ﷺ]
وَمِنها: كَمالُ مَحَبَّةِ الصِّدِّيقِ لَهُ، وقَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ والتَّحَبُّبَ بِكُلِّ ما يُمْكِنُهُ، ولِهَذا ناشَدَ المغيرة أنْ يَدَعَهُ هو يُبَشِّرُ النَّبِيَّ ﷺ بِقُدُومِ وفْدِ الطّائِفِ، لِيَكُونَ هو الَّذِي بَشَّرَهُ وفَرَّحَهُ بِذَلِكَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أنْ يَسْألَ أخاهُ أنْ يُؤْثِرَهُ بِقُرْبَةٍ مِنَ القُرَبِ، وأنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أنْ يُؤْثِرَ بِها أخاهُ، وقَوْلُ مَن قالَ مِنَ الفُقَهاءِ: لا يَجُوزُ الإيثارُ بِالقُرَبِ لا يَصِحُّ.
وَقَدْ آثَرَتْ عائشة عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ بِدَفْنِهِ في بَيْتِها جِوارَ النَّبِيِّ ﷺ، وسَألَها عمر ذَلِكَ فَلَمْ تَكْرَهْ لَهُ السُّؤالَ، ولا لَها البَذْلَ.
وَعَلى هَذا فَإذا سَألَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ أنْ يُؤْثِرَهُ بِمَقامِهِ في الصَّفِّ الأوَّلِ، لَمْ يُكْرَهُ لَهُ السُّؤالُ، ولا لِذَلِكَ البَذْلُ ونَظائِرُهُ.
وَمَن تَأمَّلَ سِيرَةَ الصَّحابَةِ، وجَدَهم غَيْرَ كارِهِينَ لِذَلِكَ، ولا مُمْتَنِعِينَ مِنهُ، وهَلْ هَذا إلّا كَرَمٌ وسَخاءٌ، وإيثارٌ عَلى النَّفْسِ، بِما هو أعْظَمُ مَحْبُوباتِها، تَفْرِيحًا لِأخِيهِ المُسْلِمِ، وتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وإجابَةً لَهُ إلى ما سَألَهُ، وتَرْغِيبًا لَهُ في الخَيْرِ.
وَقَدْ يَكُونُ ثَوابُ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الخِصالِ راجِحًا عَلى ثَوابِ تِلْكَ القُرْبَةِ، فَيَكُونُ المُؤْثِرُ بِها مِمَّنْ تاجَرَ فَبَذَلَ قُرْبَةً وأخَذَ أضْعافَها، وعَلى هَذا فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يُؤْثِرَ صاحِبُ الماءِ بِمائِهِ أنْ يَتَوَضَّأ بِهِ ويَتَيَمَّمَ هو إذا كانَ لا بُدَّ مِن تَيَمُّمِ أحَدِهِما، فَآثَرَ أخاهُ وحازَ فَضِيلَةَ الإيثارِ وفَضِيلَةَ الطُّهْرِ بِالتُّرابِ، ولا يَمْنَعُ هَذا كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا مَكارِمُ أخْلاقٍ، وعَلى هَذا، فَإذا اشْتَدَّ العَطَشُ بِجَماعَةٍ وعايَنُوا التَّلَفَ، ومَعَ بَعْضِهِمْ ماءٌ، فَآثَرَ عَلى نَفْسِهِ واسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ كانَ ذَلِكَ جائِزًا، ولَمْ يُقَلْ إنَّهُ قاتِلٌ لِنَفْسِهِ، ولا أنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا، بَلْ هَذا غايَةُ الجُودِ والسَّخاءِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] وقَدْ جَرى هَذا بِعَيْنِهِ لِجَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ في فُتُوحِ الشّامِ، وعُدَّ ذَلِكَ مِن مَناقِبِهِمْ وفَضائِلِهِمْ، وهَلْ إهْداءُ القُرَبِ المُجْمَعِ عَلَيْها والمُتَنازَعِ فِيها إلى المَيِّتِ إلّا إيثارٌ بِثَوابِها، وهو عَيْنُ الإيثارِ بِالقُرَبِ، فَأيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أنْ يُؤْثِرَهُ بِفِعْلِها لِيُحْرِزَ ثَوابَها، وبَيْنَ أنْ يَعْمَلَ ثُمَّ يُؤْثِرَهُ بِثَوابِها، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الإيثارِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الإيثارِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩].
فالإيثارُ ضِدَّ الشُّحِّ. فَإنَّ المُؤْثِرَ عَلى نَفْسِهِ تارِكٌ لِما هو مُحْتاجٌ إلَيْهِ.
والشَّحِيحُ: حَرِيصٌ عَلى ما لَيْسَ بِيَدِهِ. فَإذا حَصَلَ بِيَدِهِ شَيْءٌ شَحَّ عَلَيْهِ. وبَخِلَ بِإخْراجِهِ. فالبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ. والشُّحُّ يَأْمُرُ بِالبُخْلِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إيّاكم والشُّحَّ. فَإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم. أمَرَهم بِالبُخْلِ فَبَخِلُوا. وأمَرَهم بِالقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا».
فالبَخِيلُ: مَن أجابَ داعِيَ الشُّحِّ. والمُؤْثِرُ: مَن أجابَ داعِيَ الجُودِ.
كَذَلِكَ السَّخاءُ عَمّا في أيْدِي النّاسِ هو السَّخاءُ. وهو أفْضَلُ مِن سَخاءِ البَذْلِ.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: سَخاءُ النَّفْسِ عَمّا في أيْدِي النّاسِ أفْضَلُ مِن سَخاءِ النَّفْسِ بِالبَذْلِ.
وَهَذا المَنزِلُ: هو مَنزِلُ الجُودِ والسَّخاءِ والإحْسانِ.
وَسُمِّيَ بِمَنزِلِ الإيثارِ لِأنَّهُ أعْلى مَراتِبِهِ، فَإنَّ المَراتِبَ ثَلاثَةٌ.
إحْداها: أنْ لا يَنْقُصَهُ البَذْلُ، ولا يَصْعُبَ عَلَيْهِ. فَهو مَنزِلَةُ السَّخاءِ.
الثّانِيَةُ: أنْ يُعْطِيَ الأكْثَرَ، ويُبْقِيَ لَهُ شَيْئًا، أوْ يُبْقِيَ مِثْلَ ما أعْطى. فَهو الجُودُ.
الثّالِثَةُ: أنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حاجَتِهِ إلَيْهِ، وهو مَرْتَبَةُ الإيثارِ وعَكْسُها الأثَرَةُ وهو اسْتِئْثارُهُ عَنْ أخِيهِ بِما هو مُحْتاجٌ إلَيْهِ.
وَهِيَ المَرْتَبَةُ الَّتِي قالَ فِيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْأنْصارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «إنَّكم سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً. فاصْبِرُوا حَتّى تَلْقَوْنِي عَلى الحَوْضِ» والأنْصارُ: هُمُ الَّذِينَ وصَفَهُمُ اللَّهُ بِالإيثارِ في قَوْلِهِ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾
فَوَصَفَهم بِأعْلى مَراتِبِ السَّخاءِ، وكانَ ذَلِكَ فِيهِمْ مَعْرُوفًا.
وَكانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما مِنَ الأجْوادِ المَعْرُوفِينَ. حَتّى إنَّهُ مَرِضَ مَرَّةً، فاسْتَبْطَأ إخْوانَهُ في العِيادَةِ.
فَسَألَ عَنْهُمْ؟ فَقالُوا: إنَّهم كانُوا يَسْتَحْيُونَ مِمّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ.
فَقالَ: أخْزى اللَّهُ مالًا يَمْنَعُ الإخْوانَ مِنَ الزِّيارَةِ. ثُمَّ أمَرَ مُنادِيًا يُنادِي: مَن كانَ لِقَيْسٍ عَلَيْهِ مالٌ فَهو مِنهُ في حِلٍّ.
فَما أمْسى حَتّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بابِهِ، لِكَثْرَةِ مَن عادَهُ.
وَقالُوا لَهُ يَوْمًا: هَلْ رَأيْتَ أسْخى مِنكَ؟ قالَ: نَعَمْ. نَزَلْنا بِالبادِيَةِ عَلى امْرَأةٍ. فَحَضَرَ زَوْجُها. فَقالَتْ: إنَّهُ نَزَلَ بِكَ ضَيْفانِ. فَجاءَ بِناقَةٍ فَنَحَرَها، وقالَ: شَأْنُكُمْ؟ فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ جاءَ بِأُخْرى فَنَحَرَها. فَقُلْنا: ما أكَلْنا مِنَ الَّتِي نَحَرْتَ البارِحَةَ إلّا اليَسِيرَ. فَقالَ: إنِّي لا أُطْعِمُ ضَيْفانِي البائِتَ. فَبَقِينا عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةً، والسَّماءُ تُمْطِرُ. وهو يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَلَمّا أرَدْنا الرَّحِيلَ وضَعْنا مِائَةَ دِينارٍ في بَيْتِهِ، وقُلْنا لِلْمَرْأةِ: اعْتَذِرِي لَنا إلَيْهِ. ومَضَيْنا. فَلَمّا طَلَعَ النَّهارُ إذا نَحْنُ بَرَجُلٍ يَصِيحُ خَلْفَنا: قِفُوا. أيُّها الرَّكْبُ اللِّئامُ. أعْطَيْتُمُونِي ثَمَنَ قِرايَ؟ ثُمَّ إنَّهُ لَحِقَنا، وقالَ: لَتَأْخُذُنَّهُ أوْ لَأُطاعِنَنَّكم بِرُمْحِي. فَأخَذْناهُ وانْصَرَفَ.
فَتَأمَّلْ سِرَّ التَّقْدِيرِ، حَيْثُ قَدَّرَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ - سُبْحانَهُ - اسْتِئْثارَ النّاسِ عَلى الأنْصارِ بِالدُّنْيا - وهم أهْلُ الإيثارِ - لِيُجازِيَهم عَلى إيثارِهِمْ إخْوانَهم في الدُّنْيا عَلى نُفُوسِهِمْ بِالمَنازِلِ العالِيَةِ في جَنّاتِ عَدْنٍ عَلى النّاسِ.
فَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةُ إيثارِهِمْ ودَرَجَتُهُ ويَغْبِطُهم مَنِ اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ بِالدُّنْيا أعْظَمَ غِبْطَةٍ. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
فَإذا رَأيْتَ النّاسَ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكَ - مَعَ كَوْنِكَ مِن أهْلِ الإيثارِ - فاعْلَمْ أنَّهُ لِخَيْرٍ يُرادُ بِكَ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ مَراتِبُ الجُودِ]
والجُودُ عَشْرُ مَراتِبَ.
إحْداها: الجُودُ بِالنَّفْسِ. وهو أعْلى مَراتِبِهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎يَجُودُ بِالنَّفْسِ، إذْ ضَنَّ البَخِيلُ بِها ∗∗∗ والجُودُ بِالنَّفْسِ أقْصى غايَةِ الجُودِ
الثّانِيَةُ: الجُودُ بِالرِّياسَةِ. وهو ثانِي مَراتِبِ الجُودِ. فَيَحْمِلُ الجَوادَ جُودُهُ عَلى امْتِهانِ رِياسَتِهِ، والجُودِ بِها. والإيثارِ في قَضاءِ حاجاتِ المُلْتَمِسِ.
الثّالِثَةُ: الجُودُ بِراحَتِهِ ورَفاهِيَتِهِ، وإجْمامِ نَفْسِهِ. فَيَجُودُ بِها تَعَبًا وكَدًّا في مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ. ومِن هَذا جُودُ الإنْسانِ بِنَوْمِهِ ولَذَّتِهِ لِمُسامِرِهِ، كَما قِيلَ:
؎مُتَيَّمٌ بِالنَّدى، لَوْ قالَ سائِلُهُ: ∗∗∗ هَبْ لِي جَمِيعَ كَرى عَيْنَيْكَ، لَمْ يَنَمِ
الرّابِعَةُ: الجُودُ بِالعِلْمِ وبَذْلِهِ. وهو مِن أعْلى مَراتِبِ الجُودِ. والجُودُ بِهِ أفْضَلُ مِنَ الجُودِ بِالمالِ. لِأنَّ العِلْمَ أشْرَفُ مِنَ المالِ.
والنّاسُ في الجُودِ بِهِ عَلى مَراتِبَ مُتَفاوِتَةٍ. وقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وتَقْدِيرُهُ النّافِذُ: أنْ لا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أبَدًا.
وَمِنَ الجُودِ بِهِ: أنْ تَبْذُلَهُ لِمَن يَسْألُكَ عَنْهُ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا.
وَمِنَ الجُودِ بِالعِلْمِ: أنَّ السّائِلَ إذا سَألَكَ عَنْ مَسْألَةٍ: اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوابَها جَوابًا شافِيًا، لا يَكُونُ جَوابُكَ لَهُ بِقَدْرِ ما تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَما كانَ بَعْضُهم يَكْتُبُ في جَوابِ الفُتْيا: نَعَمْ، أوْ: لا. مُقْتَصِرًا عَلَيْها.
وَلَقَدْ شاهَدْتُ مِن شَيْخِ الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - في ذَلِكَ أمْرًا عَجِيبًا:
كانَ إذا سُئِلَ عَنْ مَسْألَةٍ حُكْمِيَّةٍ، ذَكَرَ في جَوابِها مَذاهِبَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ، إذا قَدَرَ، ومَأْخَذَ الخِلافِ، وتَرْجِيحَ القَوْلِ الرّاجِحِ. وذَكَرَ مُتَعَلَّقاتِ المَسْألَةِ الَّتِي رُبَّما تَكُونُ أنْفَعَ لِلسّائِلِ مِن مَسْألَتِهِ. فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ المُتَعَلَّقاتِ، واللَّوازِمِ: أعْظَمَ مِن فَرَحِهِ بِمَسْألَتِهِ.
وَهَذِهِ فَتاوِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ النّاسِ. فَمَن أحَبَّ الوُقُوفَ عَلَيْها رَأى ذَلِكَ.
فَمِن جُودِ الإنْسانِ بِالعِلْمِ: أنَّهُ لا يَقْتَصِرُ عَلى مَسْألَةِ السّائِلِ. بَلْ يَذْكُرُ لَهُ نَظائِرَها ومُتَعَلِّقَها ومَأْخَذَها، بِحَيْثُ يَشْفِيهِ ويَكْفِيهِ.
وَقَدْ سَألَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ المُتَوَضِّئِ بِماءِ البَحْرِ؟ فَقالَ «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ، الحِلُّ مِيتَتُهُ» فَأجابَهم عَنْ سُؤالِهِمْ. وجادَ عَلَيْهِمْ بِما لَعَلَّهم في بَعْضِ الأحْيانِ إلَيْهِ أحْوَجُ مِمّا سَألُوهُ عَنْهُ.
وَكانُوا إذا سَألُوهُ عَنِ الحُكْمِ نَبَّهَهم عَلى عِلَّتِهِ وحِكْمَتِهِ. كَما سَألُوهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؟ فَقالَ: «أيُنْقُصُ الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ قالُوا: نَعَمْ. قالَ: فَلا إذَنْ» ولَمْ يَكُنْ يَخْفى عَلَيْهِ ﷺ نُقْصانُ الرُّطَبِ بِجَفافِهِ، ولَكِنْ نَبَّهَهم عَلى عِلَّةِ الحُكْمِ. وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا في أجْوِبَتِهِ ﷺ. مِثْلَ قَوْلِهِ: «إنْ بِعْتَ مِن أخِيكَ ثَمَرَةً. فَأصابَتْها جائِحَةٌ فَلا يَحِلُّ لَكَ أنْ تَأْخُذَ مِن مالِ أخِيكَ شَيْئًا. بِمَ يَأْخُذُ أحَدُكم مالَ أخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وفي لَفْظٍ: «أرَأيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ: بِمَ يَأْخُذُ أحَدُكم مالَ أخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَصَرَّحَ بِالعِلَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ لِأجْلِها إلْزامُهُ بِالثَّمَنِ. وهي مَنعُ اللَّهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فِيها صُنْعٌ.
وَكانَ خُصُومُهُ - يَعْنِي شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - يَعِيبُونَهُ بِذَلِكَ. ويَقُولُونَ: سَألَهُ السّائِلُ عَنْ طَرِيقِ مِصْرَ - مَثَلًا - فَيَذْكُرُ لَهُ مَعَها طَرِيقَ مَكَّةَ، والمَدِينَةِ، وخُراسانَ، والعِراقِ، والهِنْدِ. وأيُّ حاجَةٍ بِالسّائِلِ إلى ذَلِكَ؟
وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ، وإنَّما العَيْبُ: الجَهْلُ والكِبْرُ. وهَذا مَوْضِعُ المَثَلِ المَشْهُورِ:
؎لَقَّبُوهُ بِحامِضٍ وهْوَ خَلٌّ ∗∗∗ مِثْلَ مَن لَمْ يَصِلْ إلى العُنْقُودِ
الخامِسَةُ: الجُودُ بِالنَّفْعِ بِالجاهِ. كالشَّفاعَةِ والمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إلى ذِي سُلْطانٍ ونَحْوِهِ. وذَلِكَ زَكاةُ الجاهِ المُطالَبُ بِها العَبْدُ. كَما أنَّ التَّعْلِيمَ وبَذْلَ العِلْمِ زَكاتُهُ.
السّادِسَةُ: الجُودُ بِنَفْعِ البَدَنِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِهِ. كَما قالَ ﷺ: «يُصْبِحُ عَلى كُلِّ سُلامى مِن أحَدِكم صَدَقَةٌ. كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ: صَدَقَةٌ. ويُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْها، أوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْها مَتاعَهُ: صَدَقَةٌ. والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: صَدَقَةٌ، وبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيها الرَّجُلُ إلى الصَّلاةِ: صَدَقَةٌ. ويُمِيطُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ: صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
السّابِعَةُ: الجُودُ بِالعِرْضِ، كَجُودِ «أبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
كانَ إذا أصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إنَّهُ لا مالَ لِي أتَصَدَّقُ بِهِ عَلى النّاسِ. وقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي، فَمَن شَتَمَنِي، أوْ قَذَفَنِي: فَهو في حِلٍّ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَن يَسْتَطِيعُ مِنكم أنْ يَكُونَ كَأبِي ضَمْضَمٍ؟».
وَفِي هَذا الجُودِ مِن سَلامَةِ الصَّدْرِ، وراحَةِ القَلْبِ، والتَّخَلُّصِ مِن مُعاداةِ الخَلْقِ ما فِيهِ.
الثّامِنَةُ: الجُودُ بِالصَّبْرِ، والِاحْتِمالِ، والإغْضاءِ.
وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِن مَراتِبِهِ. وهي أنْفَعُ لِصاحِبِها مِنَ الجُودِ بِالمالِ، وأعَزُّ لَهُ وأنْصَرُ، وأمَلَكُ لِنَفْسِهِ، وأشْرَفُ لَها. ولا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا النُّفُوسُ الكِبارُ.
فَمَن صَعُبَ عَلَيْهِ الجُودُ بِمالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذا الجُودِ. فَإنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَواقِبِهِ الحَمِيدَةِ في الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ. وهَذا جُودُ الفُتُوَّةِ. قالَ تَعالى ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] وفي هَذا الجُودِ قالَ تَعالى ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ [الشورى: ٤٠] فَذَكَرَ المَقاماتِ الثَّلاثَةَ في هَذِهِ الآيَةِ: مَقامَ العَدْلِ، وأذِنَ فِيهِ. ومَقامَ الفَضْلِ، ونَدَبَ إلَيْهِ. ومَقامَ الظُّلْمِ، وحَرَّمَهُ.
التّاسِعَةُ: الجُودُ بِالخُلُقِ والبِشْرِ والبَسْطَةِ. وهو فَوْقَ الجُودِ بِالصَّبْرِ، والِاحْتِمالِ والعَفْوِ. وهو الَّذِي بَلَغَ بِصاحِبِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ القائِمِ. وهو أثْقَلُ ما يُوضَعُ في المِيزانِ. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، ولَوْ أنْ تَلْقى أخاكَ ووَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إلَيْهِ» وفي هَذا الجُودِ مِنَ المَنافِعِ والمَسارِّ، وأنْواعِ المَصالِحِ ما فِيهِ. والعَبْدُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَسَعَهم بِخُلُقِهِ واحْتِمالِهِ.
العاشِرَةُ: الجُودُ بِتَرْكِهِ ما في أيْدِي النّاسِ عَلَيْهِمْ. فَلا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ. ولا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ، ولا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحالِهِ، ولا لِسانِهِ. وهَذا الَّذِي قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: إنَّهُ أفْضَلُ مِن سَخاءِ النَّفْسِ بِالبَذْلِ.
فَلِسانُ حالِ القَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الجَوادِ: وإنْ لَمْ أُعْطِكَ ما تَجُودُ بِهِ عَلى النّاسِ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ في أمْوالِهِمْ. وما في أيْدِيهِمْ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ، وتُزاحِمْهم في الجُودِ، وتَنْفَرِدْ عَنْهم بِالرّاحَةِ.
وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن مَراتِبِ الجُودِ مَزِيدٌ وتَأْثِيرٌ خاصٌّ في القَلْبِ والحالِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ ضَمِنَ المَزِيدَ لِلْجَوادِ، والإتْلافَ لِلْمُمْسِكِ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ مَعْنى الإيثارِ والأثَرَةِ]
* فَصْلٌ
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ:
الإيثارُ: تَخْصِيصٌ واخْتِيارٌ. والأثَرَةُ: تَحْسُنُ طَوْعًا. وتَصِحُّ كَرْهًا.
فَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ الإيثارِ والأثَرَةِ وجَعَلَ الإيثارَ اخْتِيارًا والأثَرَةَ مُنْقَسِمَةً إلى اخْتِيارِيَّةٍ، واضْطِرارِيَّةٍ. وبِالفَرْقِ بَيْنَهُما يُعْلَمُ مَعْنى كَلامِهِ. فَإنَّ الإيثارَ هو البَذْلُ، وتَخْصِيصُكَ لِمَن تُؤْثِرُهُ عَلى نَفْسِكَ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا اخْتِيارًا.
وَأمّا الأثَرَةُ فَهي اسْتِئْثارُ صاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ. فَهَذِهِ لا يُحْمَدُ عَلَيْها المُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ. إلّا إذا كانَتْ طَوْعًا. مِثْلَ أنْ يَقْدِرَ عَلى مُنازَعَتِهِ ومُجاذَبَتِهِ، فَلا يَفْعَلُ. ويَدَعُهُ وأثَرَتَهُ طَوْعًا. فَهَذا حَسَنٌ، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى ذَلِكَ كانَتْ أثَرَةَ كَرْهٍ.
وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ: الوُجُودَ، أيْ تُوجَدُ كَرْهًا. ولَكِنْ إنَّما تَحْسُنُ إذا كانَتْ طَوْعًا مِنَ المُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ.
فَحَقِيقَةُ الإيثارِ بَذْلُ صاحِبِهِ وإعْطاؤُهُ. والأثَرَةُ اسْتِبْدالُهُ هو بِالمُؤْثَرِ بِهِ. فَيَتْرُكُهُ وما اسْتُبْدِلَ بِهِ: إمّا طَوْعًا، وإمّا كَرْهًا. فَكَأنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، ولَمْ تُنازِعْهُ.
«قالَ عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بايَعْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ، في عُسْرِنا، ويُسْرِنا، ومَنشَطِنا، ومَكْرَهِنا، وأثَرَةٍ عَلَيْنا، وأنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ». فالسَّمْعُ والطّاعَةُ في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنشَطِ والمَكْرَهِ: لَهم مَعَهُ ومَعَ الأئِمَّةِ بَعْدَهُ، والأثَرَةُ: عَدَمُ مُنازَعَةِ الأمْرِ مَعَ الأئِمَّةِ بَعْدَهُ خاصَّةً، فَإنَّهُ ﷺ لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الإيثارِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى أنْ تُؤْثِرَ الخَلْقَ عَلى نَفْسِكَ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: أنْ تُؤْثِرَ الخَلْقَ عَلى نَفْسِكَ فِيما لا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا. ولا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، ولا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وقْتًا.
يَعْنِي: أنْ تُقَدِّمَهم عَلى نَفْسِكَ في مَصالِحِهِمْ. مِثْلَ أنْ تُطْعِمَهم وتَجُوعَ. وتَكْسُوَهم وتَعْرى، وتَسْقِيَهم وتَظْمَأ، بِحَيْثُ لا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى ارْتِكابِ إتْلافٍ لا يَجُوزُ في الدِّينِ. ومِثْلَ أنْ تُؤْثِرَهم بِمالِكَ وتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنّاسِ أوْ سائِلًا. وكَذَلِكَ إيثارُهم بِكُلِّ ما يُحَرِّمُهُ عَلى المُؤْثِرِ دِينُهُ. فَإنَّهُ سَفَهٌ وعَجْزٌ. يُذَمُّ المُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ النّاسِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ولا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أيْ لا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ والمَسِيرَ إلى اللَّهِ تَعالى، مِثْلَ أنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلى ذِكْرِكَ، وتَوَجُّهِكَ وجَمْعِيَّتِكَ عَلى اللَّهِ. فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلى اللَّهِ. وآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَسْتَحِقُّ الإيثارَ. فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسافِرٍ
سائِرٍ عَلى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فاسْتَوْقَفَهُ، وأخَذَ يُحَدِّثُهُ ويُلْهِيهِ حَتّى فاتَهُ الرِّفاقُ. وهَذا حالُ أكْثَرِ الخَلْقِ مَعَ الصّادِقِ السّائِرِ إلى اللَّهِ تَعالى. فَإيثارُهم عَلَيْهِ عَيْنُ الغُبْنِ. وما أكْثَرَ المُؤْثِرِينَ عَلى اللَّهِ تَعالى غَيْرَهُ. وما أقَلَّ المُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ الإيثارُ بِما يُفْسِدُ عَلى المُؤْثِرِ وقْتَهُ قَبِيحٌ أيْضًا. مِثْلَ أنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ ويُفَرِّقَ قَلْبَهُ في طَلَبِ خَلَفِهِ، أوْ يُؤْثِرَ بِأمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وهَمَّهُ عَلى اللَّهِ. فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ. ويُشَتِّتَ خاطِرَهُ. فَهَذا أيْضًا إيثارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَكَذَلِكَ الإيثارُ بِاشْتِغالِ القَلْبِ والفِكْرِ في مُهِمّاتِهِمْ ومَصالِحِهِمُ الَّتِي لا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ. عَلى الفِكْرِ النّافِعِ، واشْتِغالِ القَلْبِ بِاللَّهِ، ونَظائِرُ ذَلِكَ لا تَخْفى. بَلْ ذَلِكَ حالُ الخَلْقِ، والغالِبُ عَلَيْهِمْ.
وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلاحِ قَلْبِكَ ووَقْتِكَ وحالِكَ مَعَ اللَّهِ: فَلا تُؤْثِرْ بِهِ أحَدًا. فَإنْ آثَرْتَ بِهِ فَإنَّما تُؤْثِرُ الشَّيْطانَ عَلى اللَّهِ، وأنْتَ لا تَعْلَمُ.
وَتَأمَّلْ أحْوالَ أكْثَرِ الخَلْقِ في إيثارِهِمْ عَلى اللَّهِ مَن يَضُرُّهم إيثارُهم لَهُ ولا يَنْفَعُهم. وأيُّ جَهالَةٍ وسَفَهٍ فَوْقَ هَذا؟
وَمِن هَذا تَكَلَّمَ الفُقَهاءُ في الإيثارِ بِالقُرْبِ. وقالُوا: إنَّهُ مَكْرُوهٌ أوْ حَرامٌ. كَمَن يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الأوَّلِ غَيْرَهُ ويَتَأخَّرُ هُوَ، أوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الإمامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، أوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالأذانِ والإقامَةِ، أوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، ويَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ.
وَتَكَلَّمُوا في إيثارِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في حُجْرَتِها.
وَأجابُوا عَنْهُ بِأنَّ المَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وبِقُرْبِهِ. فَلا يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ الإيثارُ بِالقُرْبِ بَعْدَ المَوْتِ. إذْ لا تَقَرُّبَ في حَقِّ المَيِّتِ. وإنَّما هَذا إيثارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فاضِلٍ لِمَن هو أوْلى بِهِ مِنها. فالإيثارُ بِهِ قُرْبَةٌ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لِلْمُؤْثِرِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فَصْلٌ)
قالَ ولا يُسْتَطاعُ إلّا بِثَلاثَةِ أشْياءَ: بِتَعْظِيمِ الحُقُوقِ، ومَقْتِ الشُّحِّ، والرَّغْبَةِ في مَكارِمِ الأخْلاقِ.
ذِكْرُ ما يُعِينُ عَلى الإيثارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ. وهو ثَلاثَةُ أشْياءَ.
تَعْظِيمُ الحُقُوقِ. فَإنَّ مَن عَظُمَتِ الحُقُوقُ عِنْدَهُ قامَ بِواجِبِها. ورَعاها حَقَّ رِعايَتِها. واسْتَعْظَمَ إضاعَتَها. وعَلِمَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الإيثارِ لَمْ يُؤَدِّها كَما يَنْبَغِي. فَيَجْعَلَ إيثارَهُ احْتِياطًا لِأدائِها.
الثّانِي: مَقْتُ الشُّحِّ. فَإنَّهُ إذا مَقَتَهُ وأبْغَضَهُ التَزَمَ الإيثارَ. فَإنَّهُ يَرى أنَّهُ لا خَلاصَ لَهُ مِن هَذا المَقْتِ البَغِيضِ إلّا بِالإيثارِ.
الثّالِثُ: الرَّغْبَةُ في مَكارِمِ الأخْلاقِ. وبِحَسَبِ رَغْبَتِهِ فِيها: يَكُونُ إيثارُهُ. لِأنَّ الإيثارَ أفْضَلُ دَرَجاتِ مَكارِمِ الأخْلاقِ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ إيثارُ رِضا اللَّهِ عَلى رِضا غَيْرِهِ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: إيثارُ رِضا اللَّهِ عَلى رِضا غَيْرِهِ. وإنْ عَظُمَتْ فِيهِ المِحَنُ. وثَقُلَتْ فِيهِ المُؤَنُ، وضَعُفَ عَنْهُ الطَّوْلُ والبَدَنُ.
إيثارُ رِضا اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى غَيْرِهِ: هو أنْ يُرِيدَ ويَفْعَلَ ما فِيهِ مَرْضاتُهُ، ولَوْ أغْضَبَ الخَلْقَ. وهي دَرَجَةُ الأنْبِياءِ. وأعْلاها لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ. وأعْلاها لِأُولِي العَزْمِ مِنهم. وأعْلاها لِنَبِيِّنا ﷺ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ. فَإنَّهُ قاوَمَ العالَمَ كُلَّهُ. وتَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ. واحْتَمَلَ عَداوَةَ البَعِيدِ والقَرِيبِ في اللَّهِ تَعالى. وآثَرَ رِضا اللَّهِ عَلى رِضا الخَلْقِ مِن كُلِّ وجْهٍ. ولَمْ يَأْخُذْهُ في إيثارِ رِضاهُ لَوْمَةُ لائِمٍ. بَلْ كانَ هَمُّهُ وعَزْمُهُ وسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلى إيثارِ مَرْضاةِ اللَّهِ، وتَبْلِيغِ رِسالاتِهِ، وإعْلاءِ كَلِماتِهِ، وجِهادِ أعْدائِهِ. حَتّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلى كُلِّ دِينٍ. وقامَتْ حُجَّتُهُ عَلى العالَمِينَ. وتَمَّتْ نِعْمَتُهُ عَلى المُؤْمِنِينَ. فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ. وأدّى الأمانَةَ. ونَصَحَ الأُمَّةَ. وجاهَدَ في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ. وعَبَدَ اللَّهَ حَتّى أتاهُ اليَقِينُ مِن رَبِّهِ. فَلَمْ يَنَلْ أحَدٌ مِن دَرَجَةِ هَذا الإيثارِ ما نالَ. صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وإنْ عَظُمَتْ فِيهِ المِحَنُ. وثَقُلَتْ فِيهِ المُؤَنُ.
فَإنَّ المِحْنَةَ تَعْظُمُ فِيهِ أوْلًا، لِيَتَأخَّرَ مَن لَيْسَ مِن أهْلِهِ. فَإذا احْتَمَلَها وتَقَدَّمَ انْقَلَبَتْ تِلْكَ المِحَنُ مِنَحًا. وصارَتْ تِلْكَ المُؤَنُ عَوْنًا. وهَذا مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ الخاصَّةِ والعامَّةِ. فَإنَّهُ ما آثَرَ عَبْدٌ مَرْضاةَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى مَرْضاةِ الخَلْقِ، وتَحَمَّلَ ثِقَلَ ذَلِكَ ومُؤْنَتَهُ، وصَبَرَ عَلى مِحْنَتِهِ: إلّا أنْشَأ اللَّهُ مِن تِلْكَ المِحْنَةِ والمُؤْنَةِ نِعْمَةً ومَسَرَّةً، ومَعُونَةٍ بِقَدْرِ ما تَحَمَّلَ مِن مَرْضاتِهِ. فانْقَلَبَتْ مَخاوِفُهُ أمانًا، ومَظانُّ عَطَبِهِ نَجاةً، وتَعَبُهُ راحَةً، ومُؤْنَتُهُ مَعُونَةً، وبَلِيَّتُهُ نِعْمَةً، ومِحْنَتُهُ مِنحَةً، وسُخْطُهُ رِضًا. فَيا خَيْبَةَ المُتَخَلِّفِينَ، ويا ذِلَّةَ المُتَهَيِّبِينَ.
هَذا، وقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ - الَّتِي لا تَبْدِيلَ لَها - أنَّ مَن آثَرَ مَرْضاةَ الخَلْقِ عَلى مَرْضاتِهِ: أنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَن آثَرَ رِضاهُ، ويَخْذُلَهُ مِن جِهَتِهِ. ويَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلى يَدَيْهِ. فَيَعُودَ حامِدُهُ ذامًّا. ومَن آثَرَ مَرْضاتَهُ ساخِطًا. فَلا عَلى مَقْصُودِهِ مِنهم حَصَلَ، ولا إلى ثَوابِ مَرْضاةِ رَبِّهِ وصَلَ. وهَذا أعْجَزُ الخَلْقِ وأحْمَقُهم.
هَذا مَعَ أنَّ رِضا الخَلْقِ: لا مَقْدُورٌ، ولا مَأْمُورٌ، ولا مَأْثُورٌ. فَهو مُسْتَحِيلٌ. بَلْ لا بُدَّ مِن سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ. فَلَأنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وتَفُوزَ بِرِضا اللَّهِ عَنْكَ أحَبُّ إلَيْكَ وأنْفَعُ لَكَ مِن أنْ يَسْخَوْا عَلَيْكَ واللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ راضٍ. فَإذا كانَ سُخْطُهم لا بُدَّ مِنهُ - عَلى التَّقْدِيرَيْنِ - فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنالُ بِهِ رِضا اللَّهِ. فَإنْ هم رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذا، وإلّا فَأهْوَنُ شَيْءٍ رِضا مَن لا يَنْفَعُكَ رِضاهُ، ولا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ في دِينِكَ، ولا في إيمانِكَ، ولا في آخِرَتِكَ. فَإنْ ضَرَّكَ في أمْرٍ يَسِيرٍ في الدُّنْيا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أعْظَمُ وأعْظَمُ. وخاصَّةً العَقْلُ: احْتِمالُ أدْنى المَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أعْلاهُما. وتَفْوِيتُ أدْنى المَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أعْلاهُما. فَوازِنْ بِعَقْلِكَ. ثُمَّ انْظُرْ أيَّ الأمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وأيَّهُما شَرٌّ فابْعُدْ عَنْهُ. فَهَذا بُرْهانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ في إيثارِ رِضا اللَّهِ عَلى رِضا الخَلْقِ.
هَذا مَعَ أنَّهُ إذا آثَرَ رِضا اللَّهِ كَفاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الخَلْقِ. وإذا آثَرَ رِضاهم لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمُصانَعَةُ وجْهٍ واحِدٍ أيْسَرُ عَلَيْكَ مِن مُصانَعَةِ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. إنَّكَ إذا صانَعْتَ ذَلِكَ الوَجْهَ الواحِدَ كَفاكَ الوُجُوهَ كُلَّها.
وَقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضا النّاسِ غايَةٌ لا تُدْرَكُ. فَعَلَيْكَ بِما فِيهِ صَلاحُ نَفْسِكَ فالزَمْهُ.
وَمَعْلُومٌ: أنَّهُ لا صَلاحَ لِلنَّفْسِ إلّا بِإيثارِ رِضا رَبِّها ومَوْلاها عَلى غَيْرِهِ.
وَلَقَدْ أحْسَنَ أبُو فِراسٍ في هَذا المَعْنى - إلّا أنَّهُ أساءَ كُلَّ الإساءَةِ في قَوْلِهِ، إذْ يَقُولُهُ لِمَخْلُوقٍ لا يَمْلِكُ لَهُ ولا لِنَفْسِهِ نَفْعًا ولا ضَرًّا:
؎فَلَيْتَكَ تَحْلُو، والحَياةُ مَرِيرَةٌ ∗∗∗ ولَيْتَكَ تَرْضى. والأنامُ غِضابُ
؎وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وبَيْنَكَ عامِرٌ ∗∗∗ وبَيْنِي وبَيْنَ العالَمِينَ خَرابُ
؎إذا صَحَّ مِنكَ الوُدُّ فالكُلُّ هَيِّنٌ ∗∗∗ وكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرابِ تُرابُ
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يُسْتَطاعُ بِهِ هَذا الإيثارُ العَظِيمُ الشَّأْنِ. فَقالَ:
وَيُسْتَطاعُ هَذا بِثَلاثَةِ أشْياءَ: بِطِيبِ العَوْدِ. وحُسْنِ الإسْلامِ. وقُوَّةِ الصَّبْرِ.
مِنَ المَعْلُومِ: أنَّ المُؤْثِرَ لِرِضا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعاداةِ الخَلْقِ وأذاهُمْ، وسَعْيِهِمْ في إتْلافِهِ ولا بُدَّ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ. وإلّا فَما ذَنْبُ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ. والَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ، والقائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذّابِّينَ عَنْ كِتابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ؟
فَمَن آثَرَ رِضا اللَّهِ فَلا بُدَّ أنْ يُعادِيَهُ رَذالَةُ العالَمِ وسَقْطُهُمْ، وغَرْثاهم وجُهّالُهُمْ، وأهْلُ البِدَعِ والفُجُورِ مِنهُمْ، وأهْلُ الرِّياساتِ الباطِلَةِ، وكُلُّ مَن يُخالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ. فَما يَقْدَمُ عَلى مُعاداةِ هَؤُلاءِ إلّا طالِبُ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، عامِلٌ عَلى سَماعِ خِطابِ ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٧-٢٨] ومِن إسْلامِهِ صُلْبٌ كامِلٌ لا تُزَعْزِعُهُ الرِّجالُ. ولا تُقَلْقِلُهُ الجِبالُ، ومِن عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لا تَحُلُّهُ المِحَنُ والشَّدائِدُ والمَخاوِفُ.
قُلْتُ: ومِلاكُ ذَلِكَ أمْرانِ: الزُّهْدُ في الحَياةِ والثَّناءُ. فَما ضَعُفَ مَن ضَعُفَ، وتَأخَّرَ مَن تَأخَّرَ إلّا بِحُبِّهِ لِلْحَياةِ والبَقاءِ، وثَناءِ النّاسِ عَلَيْهِ، ونُفْرَتِهِ مِن ذَمِّهِمْ لَهُ. فَإذا زَهِدَ في هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، تَأخَّرَتْ عَنْهُ العَوارِضُ كُلُّها. وانْغَمَسَ حِينَئِذٍ في العَساكِرِ.
وَمِلاكُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ: صِحَّةِ اليَقِينِ. وقُوَّةِ المَحَبَّةِ.
وَمِلاكُ هَذَيْنِ بِشَيْئَيْنِ أيْضًا: بِصِدْقِ اللَّجَأِ والطَّلَبِ، والتَّصَدِّي لِلْأسْبابِ المُوصِلَةِ إلَيْهِما.
فَإلى هاهُنا تَنْتَهِي مَعْرِفَةُ الخَلْقِ وقُدْرَتُهم. والتَّوْفِيقُ بَعْدُ بَيْدِ مَن أزِمَّةُ الأُمُورِ كُلِّها بِيَدِهِ ﴿وَما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمِينَ أعَدَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ [الإنسان: ٣٠-٣١].
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ إيثارُ إيثارِ اللَّهِ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: إيثارُ إيثارِ اللَّهِ. فَإنَّ الخَوْضَ في الإيثارِ دَعْوى في المِلْكِ. ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إيثارَ اللَّهِ. ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ.
يَعْنِي بِإيثارِ إيثارِ اللَّهِ: أنْ تَنْسِبَ إيثارَكَ إلى اللَّهِ دُونَ نَفْسِكَ. وأنَّهُ هو الَّذِي تَفَرَّدَ بِالإيثارِ، لا أنْتَ. فَكَأنَّكَ سَلَّمْتَ الإيثارَ إلَيْهِ. فَإذا آثَرْتَ غَيْرَكَ بِشَيْءٍ فَإنَّ الَّذِي آثَرَهُ هو الحَقُّ، لا أنْتَ. فَهو المُؤْثِرُ حَقِيقَةً. إذْ هو المُعْطِي حَقِيقَةً.
ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ الإيثارِ إلى اللَّهِ، وتَرْكِ نِسْبَتِهِ إلى نَفْسِكَ، فَقالَ فَإنَّ الخَوْضَ في الإيثارِ: دَعْوى في المِلْكِ.
فَإذا ادَّعى العَبْدُ: أنَّهُ مُؤْثِرٌ فَقَدِ ادَّعى مِلْكَ ما آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ. والمِلْكُ في الحَقِيقَةِ: إنَّما هو لِلَّهِ الَّذِي لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. فَإذا خَرَجَ العَبْدُ عَنْ دَعْوى المِلْكِ فَقَدْ آثَرَ إيثارَ اللَّهِ - وهو إعْطاؤُهُ - عَلى إيثارِ نَفْسِهِ. وشَهِدَ أنَّ اللَّهَ وحْدَهُ هو المُؤْثِرُ بِمِلْكِهِ. وأمّا مَن لا مِلْكَ لَهُ: فَأيُّ إيثارٍ لَهُ؟
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إيثارَ اللَّهِ.
يَعْنِي أنَّكَ إذا آثَرْتَ إيثارَ اللَّهِ بِتَسْلِيمِكَ مَعْنى الإيثارِ إلَيْهِ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ مِن نَفْسِكَ بَقِيَّةٌ أُخْرى لا بُدَّ مِنَ الخُرُوجِ عَنْها. وهي أنْ تَعْرِضَ عَنْ شُهُودِكَ رُؤْيَتَكَ أنَّكَ آثَرْتَ الحَقَّ بِإيثارِكَ، وأنَّكَ نَسَبْتَ الإيثارَ إلَيْهِ لا إلَيْكَ. فَإنَّ في شُهُودِكَ ذَلِكَ، ورُؤْيَتِكَ لَهُ: دَعْوى أُخْرى. هي أعْظَمُ مِن دَعْوى المِلْكِ. وهي أنَّكَ ادَّعَيْتَ أنَّ لَكَ شَيْئًا آثَرْتَ بِهِ اللَّهَ. وقَدَّمْتَهُ عَلى نَفْسِكَ فِيهِ، بَعْدَ أنْ كانَ لَكَ. وهَذِهِ الدَّعْوى أصْعَبُ مِنَ الأُولى. فَإنَّها تَتَضَمَّنُ ما تَضَمَّنَتْهُ الأُولى مِنَ المِلْكِ. وتَزِيدُ عَلَيْها بِرُؤْيَةِ الإيثارِ بِهِ فالأوَّلُ: مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ مُؤْثِرٌ بِهِ. وهَذا مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ ومُدَّعٍ لِلْإيثارِ بِهِ. فَإذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِهِ لِهَذا الإيثارِ. فَلا يَعْتَقِدُ أنَّهُ آثَرَ اللَّهَ بِهَذا الإيثارِ. بَلِ اللَّهُ هو الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَكَ. فَإنَّ الأثَرَةَ واجِبَةٌ لَهُ بِإيجابِهِ إيّاها بِنَفْسِهِ. لا بِإيجابِ العَبْدِ إيّاها لَهُ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ.
يُرِيدُ: أنَّكَ إذا نَزَلْتَ هَذا الشُّهُودَ، وهَذِهِ الرُّؤْيَةَ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ بَقِيَّةٌ أُخْرى.
وَهِيَ رُؤْيَتُكَ لِهَذا التَّرْكِ المُتَضَمِّنَةُ لِدَعْوى مِلْكِكَ لِلتَّرْكِ. وهي دَعْوى كاذِبَةٌ. إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنَ الأمْرِ. ولا بِيَدِهِ فِعْلٌ ولا تَرْكٌ. وإنَّما الأمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ في الكَشْفِ والشُّهُودِ والعِلْمِ والمَعْرِفَةِ: أنَّ العَبْدَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أصْلًا والعَبْدُ لا يَمْلِكُ حَقِيقَةً. إنَّما المالِكُ بِالحَقِيقَةِ سَيِّدُهُ. فالأثَرَةُ والإيثارُ والِاسْتِئْثارُ كُلُّها لِلَّهِ ومِنهُ وإلَيْهِ. سَواءً اخْتارَ العَبْدُ ذَلِكَ وعَلِمَهُ، أوْ جَهِلَهُ، أمْ لَمْ يَخْتَرْهُ. فالأثَرَةُ واقِعَةٌ. كَرِهَ العَبْدُ أمْ رَضِيَ. فَإنَّها اسْتِئْثارُ المالِكِ الحَقِّ بِمِلْكِهِ تَعالى. وقَدْ فَهِمْتُ مِن هَذا قَوْلَهُ: فَإنَّ الأثَرَةَ تَحْسُنُ طَوْعًا. وتَصِحُّ كَرْهًا واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ یُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَیۡهِمۡ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمۡ حَاجَةࣰ مِّمَّاۤ أُوتُوا۟ وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











