الباحث القرآني
﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكم لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ لَمّا أُجْرِيَ الثَّناءُ عَلى المُؤْمِنِينَ بِإقْبالِهِمْ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ في أشَدِّ الآناءِ وبِشِدَّةِ (p-٣٥٢)مُراقَبَتِهم إيّاهُ بِالخَوْفِ والرَّجاءِ وبِتَمْيِيزِهِمْ بِصِفَةِ العِلْمِ والعَقْلِ والتَّذَكُّرِ، بِخِلافِ حالِ المُشْرِكِينَ في ذَلِكَ كُلِّهِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِأمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالإقْبالِ عَلى خِطابِهِمْ لِلِاسْتِزادَةِ مِن ثَباتِهِمْ ورِباطَةِ جَأْشِهِمْ، والتَّقْدِيرُ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلَخْ؛ .
وابْتِداءُ الكَلامِ بِالأمْرِ بِالقَوْلِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ في نَظِيرِهِ آنِفًا، وابْتِداءُ المَقُولِ بِالنِّداءِ وبِوَصْفِ العُبُودِيَّةِ المُضافِ إلى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعالى، كُلُّ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمامِ بِما سَيُقالُ وبِأنَّهُ سَيُقالُ لَهم عَنْ رَبِّهِمْ، وهَذا وضِعَ لَهم في مَقامِ المُخاطَبَةِ مِنَ اللَّهِ وهي دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ.
وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ المُضافِ إلَيْها ”عِبادِ“ وهو اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ في المُنادى المُضافِ إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ. وقَرَأهُ العَشَرَةُ يا عِبادِ بِدُونِ ياءٍ في الوَصْلِ والوَقْفِ كَما في إبْرازِ المَعانِي لِأبِي شامَةَ وكَما في الدُّرَّةِ المُضِيئَةِ في القِراءاتِ الثَّلاثِ المُتَمِّمَةِ لِلْعَشْرِ لِعَلِيٍّ الضَّبّاعِ المِصْرِيِّ، بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمُ﴾ [الزمر: ٥٣] الآتِي في هَذِهِ السُّورَةِ، فالمُخالَفَةُ بَيْنَهُما مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وقَدْ يُوَجَّهُ هَذا التَّخالُفُ بِأنَّ المُخاطَبِينَ في هَذِهِ الآيَةِ هم عِبادُ اللَّهِ المُتَّقُونَ، فانْتِسابُهم إلى اللَّهِ مُقَرَّرٌ فاسْتُغْنِيَ عَنْ إظْهارِ ضَمِيرِ الجَلالَةِ في إضافَتِهِمْ إلَيْهِ، بِخِلافِ الآيَةِ الآتِيَةِ، فَلَيْسَ في كَلِمَةِ يا عِبادِ مِن هَذِهِ الآيَةِ إلّا وجْهٌ واحِدٌ بِاتِّفاقِ العَشَرَةِ ولِذَلِكَ كَتَبَها كُتّابُ المُصْحَفِ بِدُونِ ياءٍ بَعْدَ الدّالِ.
وما وقَعَ في تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ مِن قَوْلِهِ وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ ”قُلْ يا عِبادِيَ“ بِفَتْحِ الياءِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو أيْضًا وعاصِمٌ والأعْشى وابْنُ كَثِيرٍ يا عِبادِ بِغَيْرِ ياءٍ في الوَصْلِ اهـ. سَهْوٌ، وإنَّما اخْتَلَفَ القُرّاءُ في الآيَةِ الآتِيَةِ ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] في هَذِهِ السُّورَةِ فَإنَّها ثَبَتَتْ فِيهِ ياءُ المُتَكَلِّمِ فاخْتَلَفُوا كَما سَنَذْكُرُهُ.
والأمْرُ بِالتَّقْوى مُرادٌ بِهِ الدَّوامُ عَلى المَأْمُورِ بِهِ لِأنَّهم مُتَّقُونَ مِن قَبْلُ وهو يَشْعِرُ بِأنَّهم قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الأذى في الدِّينِ ما يُخْشى عَلَيْهِمْ مَعَهُ أنْ يُقَصِّرُوا في تَقْواهم.
وهَذا الأمْرُ تَمْهِيدٌ لِما سَيُوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِن أمْرِهِمْ بِالهِجْرَةِ لِلسَّلامَةِ مِنَ الأذى في دِينِهِمْ، وهو ما عُرِّضَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ .
(p-٣٥٣)وفِي اسْتِحْضارِهِمْ بِالمَوْصُولِ وصِلَتِهِ إيماءٌ إلى أنَّ تَقَرُّرَ إيمانُهم مِمّا يَقْتَضِي التَّقْوى والِامْتِثالَ لِلْمُهاجَرَةِ. وجُمْلَةُ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ وما عُطِفَ عَلَيْها اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ إيرادَ الأمْرِ بِالتَّقْوى لِلْمُتَّصِفِينَ بِها يُثِيرُ سُؤالَ سائِلِ عَنِ المَقْصُودِ مِن ذَلِكَ الأمْرِ فَأُرِيدُ بَيانُهُ بِقَوْلِهِ ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ ولَكِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ تَمْهِيدًا لَهُ لِقَصْدِ تَعْجِيلِ التَّكَفُّلِ لَهم بِمُوافَقَةِ الحُسْنى في هِجْرَتِهِمْ.
ويَجُوزُ أنَّ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ مَسُوقَةً مَساقَ التَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ بِالتَّقْوى الواقِعِ بَعْدَها.
والمُرادُ بِالَّذِينَ أحْسَنُوا: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ المَوْصُوفُونَ بِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ﴾ [الزمر: ٩] الآيَةَ؛، لِأنَّ تِلْكَ الخِصالَ تَدُلُّ عَلى الإحْسانِ المُفَسَّرِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الخِطابِ بِأنْ يُقالَ: لَكم في الدُّنْيا حَسَنَةٌ، إلى الإتْيانِ بِاسْمِ المَوْصُولِ الظّاهِرِ وهو الَّذِينَ أحْسَنُوا لِيَشْمَلَ المُخاطِبِينَ وغَيْرَهم مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّلَةُ. وذَلِكَ في مَعْنى: اتَّقَوْا رَبَّكم لِتَكُونُوا مُحْسِنِينَ فَإنَّ لِلَّذِينَ أحْسَنُوا حَسَنَةً عَظِيمَةً فَكُونُوا مِنهم.
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ في ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ لِلِاهْتِمامِ بِالمُحْسَنِ إلَيْهِمْ وأنَّهم أحْرِياءٌ بِالإحْسانِ.
والمُرادُ بِالحَسَنَةِ: الحالَةُ الحَسَنَةُ، واسْتُغْنِيَ بِالوَصْفِ عَنِ المَوْصُوفِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] وقَوْلِهِ في عَكْسِهِ ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] وتَوْسِيطُ قَوْلِهِ ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيا﴾ بَيْنَ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ وبَيْنَ حَسَنَةٍ نَظْمٌ مِمّا اخْتُصَّ بِهِ القُرْآنُ في مَواقِعِ الكَلِمِ لِإكْثارِ المَعانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِها النَّظْمُ، وهَذا مِن طُرُقِ إعْجازِ القُرْآنِ.
فَيَجُوزُ أنَّ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيا﴾ حالًا مِن حَسَنَةٍ قُدِّمَ عَلى صاحِبِ الحالِ لِلتَّنْبِيهِ مِن أوَّلِ الكَلامِ عَلى أنَّها جَزاؤُهم في الدُّنْيا، لِقِلَّةِ خُطُورِ ذَلِكَ في بالِهِمْ؛ ضَمِنَ اللَّهُ لَهم تَعْجِيلَ الجَزاءِ الحَسَنِ في الدُّنْيا قَبْلَ ثَوابِ الآخِرَةِ عَلى (p-٣٥٤)نَحْوَ ما أثْنى عَلى مَن يَقُولُ ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] وقَدْ جاءَ في نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في سُورَةِ النَّحْلِ قَوْلُهُ ﴿ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: ٣٠] أيْ: خَيْرٌ مِن أُمُورِ الدُّنْيا، ويَكُونُ الِاقْتِصارُ عَلى حَسَنَةِ الدُّنْيا في هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّها مُسَوَّقَةٌ لِتَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ عَلى ما يُلاقُونَهُ مِنَ الأذى، ولِأمْرِهِمْ بِالهِجْرَةِ عَنْ دارِ الشِّرْكِ والفِتْنَةِ في الدِّينِ، فَأمّا ثَوابُ الآخِرَةِ فَأمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهم مِن قَبْلُ ومُومًى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ: يُوَفَّوْنَ أجْرَهم في الآخِرَةِ. قالَ السُّدِّيُّ: الحَسَنَةُ في الدُّنْيا الصِّحَّةُ والعافِيَةُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في قَوْلِهِ في الدُّنْيا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ ”أحْسَنُوا“ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ لُغَوِيٌّ، أيْ: فَعَلُوا الحَسَناتِ في الدُّنْيا فَيَكُونُ المَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى المُبادَرَةِ بِالحَسَناتِ في الحَياةِ الدُّنْيا قَبْلَ الفَواتِ والتَّنْبِيهِ عَلى عَدَمِ التَّقْصِيرِ في ذَلِكَ.
وتَنْوِينُ ”حَسَنَةٍ“ لِلتَّعْظِيمِ؛ وهو بِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الآخِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ الذّاتِيِّ، وبِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الدُّنْيا تَعْظِيمٌ وصْفِيٌّ، أيْ: حَسَنَةٌ أعْظَمُ مِنَ المُتَعارَفِ، وأيًّا ما كانَ فاسْمُ الإشارَةِ في قَوْلِهِ ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيا﴾ لِتَمْيِيزِ المُشارِ إلَيْهِ وإحْضارِهِ في الأذْهانِ، وعَلَيْهِ فالمُرادُ بِـ ”حَسَنَةٌ“ يُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الآخِرَةِ ويُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الدُّنْيا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرَ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ النَّحْلِ؛ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: ٣٠] فَأُلْحِقَ بِها ما قُرِّرَ هُنا.
وعُطِفُ عَلَيْهِ ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ عَطْفَ المَقْصُودِ عَلى التَّوْطِئَةِ. وهو خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْرِيضِ بِالحَثِّ عَلى الهِجْرَةِ في الأرْضِ فِرارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ بِقَرِينَةِ أنَّ كَوْنَ الأرْضِ واسِعَةً أمْرٌ مَعْلُومٌ لا يَتَعَلَّقُ الغَرَضُ بِإفادَتِهِ وإنَّما كُنِّيَ بِهِ عَنْ لازِمِ مَعْناهُ، كَما قالَ إياسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطّائِيِّ:
؎ألَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِن بِقاعِها
والوَجْهُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ مُعْتَرِضَةً والواوُ اعْتِراضِيَّةً لِأنَّ تِلْكَ الجُمْلَةَ جَرَتْ مَجْرى المَثَلِ.
(p-٣٥٥)والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ وعَدَهم أنْ يُلاقُوا حَسَنَةً إذا هم هاجَرُوا مِن دِيارِ الشِّرْكِ. ولَيْسَ حُسْنُ العَيْشِ ولا ضِدُّهُ مَقْصُورًا عَلى مَكانٍ مُعَيَّنٍ وقَدْ وقَعَ التَّصْرِيحُ بِما كُنِّيَ عَنْهُ هُنا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾ [النساء: ٩٧] .
والمُرادُ: الإيماءُ إلى الهِجْرَةِ إلى الحَبَشَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَوْا رَبَّكُمْ﴾ يُرِيدُ جَعْفَرَ بْنَ أبِي طالِبٍ والَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إلى الحَبَشَةِ.
ونُكْتَةُ الكِنايَةِ هُنا إلْقاءُ الإشارَةِ إلَيْهِمْ بِلُطْفٍ وتَأْنِيسٍ دُونَ صَرِيحِ الأمْرِ لِما في مُفارَقَةِ الأوْطانِ مِنَ الغَمِّ عَلى النَّفْسِ، وأمّا الآيَةُ الَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ فَإنَّها حِكايَةُ تَوْبِيخُ المَلائِكَةِ لِمَن لَمْ يُهاجِرُوا.
ومَوْقِعُ جُمْلَةِ ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ وما عُطِفَ عَلَيْها لِأنَّ مُفارَقَةَ الوَطَنِ والتَّغَرُّبَ والسَّفَرَ مَشاقٌّ لا يَسْتَطِيعُها إلّا صابَرٌ، فَذُيِّلَ الأمْرُ بِهِ بِتَعْظِيمِ أجْرِ الصّابِرِينَ؛ لِيَكُونَ إعْلامًا لِلْمُخاطَبِينَ بِأنَّ أجْرَهم عَلى ذَلِكَ عَظِيمٌ؛ لِأنَّهم حِينَئِذٍ مِنَ الصّابِرِينَ الَّذِينَ أجَرُهم بِغَيْرِ حِسابٍ.
والصَّبْرُ: سُكُونُ النَّفْسِ عِنْدَ حُلُولِ الآلامِ والمَصائِبِ بِأنْ لا تَضْجَرَ ولا تَضْطَرِبَ لِذَلِكَ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وصِيغَةُ العُمُومِ في قَوْلِهِ ”الصّابِرِينَ“ تَشْمَلُ كُلَّ مَن صَبَرَ عَلى مَشَقَّةٍ في القِيامِ بِواجِباتِ الدِّينِ وامْتِثالِ المَأْمُوراتِ واجْتِنابِ المَنهِيّاتِ، ومَراتِبُ هَذا الصَّبْرُ مُتَفاوِتَةٌ وبِقَدْرِها يَتَفاوَتُ الأجْرُ.
والتَّوْفِيَةُ: إعْطاءُ الشَّيْءِ وافِيًا، أيْ: تامًّا.
والأجْرُ: الثَّوابُ في الآخِرَةِ كَما هو مُصْطَلَحُ القُرْآنِ.
وقَوْلُهُ ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الوَفْرَةِ والتَّعْظِيمِ لِأنَّ الشَّيْءَ الكَثِيرَ لا يُتَصَدّى لِعَدِّهِ، والشَّيْءَ العَظِيمَ لا يُحاطُ بِمِقْدارِهِ، فَإنَّ الإحاطَةَ بِالمِقْدارِ ضَرْبٌ مِنَ الحِسابِ وذَلِكَ شَأْنُ ثَوابِ الآخِرَةِ الَّذِي لا يَخْطُرُ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ.
(p-٣٥٦)وفِي ذِكْرِ التَّوْفِيَةِ وإضافَةِ الأجْرِ إلى ضَمِيرِهِمْ تَأْنِيسٌ لَهم بِأنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ لا مِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وإنْ كانَتِ المِنَّةُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت: ٨] .
والحَصْرُ المُسْتَفادُ مِن ”إنَّما“ مُنْصَبٌّ عَلى القَيْدِ وهو ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ والمَعْنى: ما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم إلّا بِغَيْرِ حِسابٍ، وهو قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلى قَلْبِ ظَنِّ الصّابِرِينَ أنَّ أجْرَ صَبْرِهِمْ بِمِقْدارِ صَبْرِهِمْ، أيْ: أنَّ أجْرَهم لا يَزِيدُ عَلى مِقْدارِ مَشَقَّةِ صَبْرِهِمْ.
والهِجْرَةُ إلى الحَبَشَةِ كانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ. وكانَ سَبَبُها «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا رَأى ما يُصِيبُ أصْحابَهُ مِنَ البَلاءِ وأنَّ عَمَّهُ أبا طالِبِ كانَ يَمْنَعُ ابْنَ أخِيهِ مِن أضْرارِ المُشْرِكِينَ ولا يَقْدِرُ أنْ يَمْنَعَ أصْحابَهُ؛ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَوْ خَرَجْتُمْ إلى أرْضِ الحَبَشَةِ فَإنَّ بِها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحَدٌ حَتّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكم فَرَجًا مِمّا أنْتُمْ فِيهِ، فَخَرَجَ مُعْظَمُ المُسْلِمِينَ مَخافَةَ الفِتْنَةِ فَخَرَجَ ثَلاثَةٌ وثَمانُونَ رَجُلًا وتِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأةً سِوى أبْنائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغارًا. وقَدْ كانَ أبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في الهِجْرَةِ فَأذِنَ لَهُ فَخَرَجَ قاصِدًا بِلادَ الحَبَشَةِ فَلَقِيَهُ ابْنُ الدِّغِنَّةِ فَصَدَّهُ وجَعَلَهُ في جِوارِهِ» .
ولِما تَعَلَّقَتْ إرادَةُ اللَّهِ تَعالى بِنَشْرِ الإسْلامِ في مَكَّةَ بَيْنَ العَرَبِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وعُذِرَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ فِيما لَقُوهُ مِنَ الأذى في دِينِهِمْ أذِنَ لَهم بِالهِجْرَةِ وكانَتْ حِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً بَقاءَ رَسُولِهِ ﷺ بَيْنَ ظَهْرانِيِّ المُشْرِكِينَ لِبَثِّ دَعْوَةِ الإسْلامِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالهِجْرَةِ إلى مَوْطِنٍ آخَرَ حَتّى إذا تَمَّ مُرادُ اللَّهِ مِن تَوَشُّجِ نَواةِ الدِّينِ في تِلْكَ الأرْضِ الَّتِي نَشَأ فِيها رَسُولُهُ ﷺ وأصْبَحَ انْتِقالُ الرَّسُولِ ﷺ إلى بَلَدٍ آخَرَ أسْعَدَ بِانْتِشارِ الإسْلامِ في الأرْضِ أذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ﷺ بِالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ بَعْدَ أنْ هَيَّأ لَهُ بِلُطْفِهِ دُخُولَ أهْلِها في الإسْلامِ وكُلُّ ذَلِكَ جَرى بِقَدَرٍ وحِكْمَةٍ ولَطْفٍ بِرَسُولِهِ ﷺ .
{"ayah":"قُلۡ یَـٰعِبَادِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق