الباحث القرآني

(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم من لا يعلم، وبين أنه (إنما يتذكر أولو الألباب) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به، والمعنى يأيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه، وامتثال أوامره وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد: قل لهم قولي هذا بعينه، ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى، بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال: (للذين أحسنوا) أي عملوا الأعمال الحسنة (في هذه الدنيا) على وجه الإخلاص (حسنة) عظيمة وهي الجنة، وقوله (في هذه الدنيا) متعلق بأحسنوا وقيل بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية، والظفر والغنمية، والأول أولى، ثم لا كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال: (وأرض الله واسعة) وبلاده كثيرة، فليهاجر إلى حيث تمكنه طاعة الله والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، كما هو سنة الأنبياء والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلاً؛ ومثل ذلك قوله سبحانه (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء. وقيل المراد بالأرض الواسعة هنا أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله (جنة عرضها السموات والأرض) والجنة قد تسمى أرضاً. قال تعالى (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) والأول أولى. وقيل ارتحلوا من مكة وتحولوا إلى بلاد أخر؛ واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم؛ وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا؛ وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة؛ وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله: بزيادة (أَجْرَهُمْ) في مقابلة صبرهم وما كابدوه من العسر (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي بما لا يقدر على حصره حاصر ولا يستطيع حسبانه حاسب وإن كان معلوماً محصياً عند الله. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب. وقيل قوله إنما يوفى الصابرون ترغيب في التقوى الأمور بها. وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر، كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة. والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة، تقتضي من كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصور، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الخير الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى. ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال: أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب قال علي بن أبي طالب: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثياً، وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، لما يذهب به أهل البلاء من الفضل، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أولاً بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب