الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكم لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُنْيا حَسَنَةٌ وأرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إنَّما يُوَفّى الصابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ: "أمَن" بِتَخْفِيفِ المِيمِ، وهي قِراءَةُ أهْلِ مَكَّةَ، والأعْمَشِ، وعِيسى، وشَيْبَةَ بْنِ نَصّاحٍ، ورُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ، وضَعَّفَها الأخْفَشُ وأبُو (p-٣٧٨)حاتِمٍ. وقَرَأ عاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، وقَتادَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ: "أمَّنْ" بِتَشْدِيدِ المِيمِ. فَأمّا الأُولى فَلَها وجْهانِ: أحَدُهُما - وهو الأظْهَرُ - أنَّ الألِفَ تَقْرِيرٌ واسْتِفْهامٌ، وكَأنَّهُ يَقُولُ: أهَذا القانِتُ خَيْرٌ أمْ هَذا المَذْكُورُ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِكُفْرِهِ قَلِيلًا وهو مِن أصْحابِ النارِ؟ وفي الكَلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِياقُ الآياتِ مَعَ قَوْلِهِ آخِرًا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ ∗∗∗ سِواكَ ولَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا ويُوقَفُ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: " يَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ". والوَجْهُ الثانِي أنْ تَكُونَ الألِفُ نِداءً والخِطابُ لِأهْلِ هَذِهِ الصِفاتِ، كَأنَّهُ يَقُولُ (p-٣٧٩)أصاحِبَ هَذِهِ الصِفاتِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي؟ فَهَذا السُؤالُ بِـ"هَلْ" هو لِلْقانِتِ، ولا يُوقَفُ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا المَعْنى صَحِيحٌ إلّا أنَّهُ أجْنَبِيٌّ مِن مَعْنى الآياتِ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ. وضَعَّفَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وقالَ مَكِّيٌّ: إنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأنَّ حَرْفَ النِداءِ لا يَسْقُطُ مَعَ المُبْهَمِ، ولَيْسَ كَما قالَ مَكِّيٌّ، أمّا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ في أنَّ حَرْفَ النِداءِ لا يَسْقُطُ مَعَ المُبْهَمِ فَنَعَمْ؛ لِأنَّهُ يَقَعُ الإلْباسُ الكَثِيرُ بِذَلِكَ، وأمّا أنَّ هَذا المَوْضِعَ سَقَطَ فِيهِ حَرْفُ النِداءِ فَلا وألِفٌ ثابِتَةٌ فِيهِ ظاهِرَةٌ. وأمّا القِراءَةُ الثانِيَةُ فَإنَّها: (أمْ) دَخَلَتْ عَلى (مَن)، والكَلامُ - عَلى هَذِهِ القِراءَةِ - لا يَحْتَمِلُ إلّا المُعادَلَةَ بَيْنَ صِنْفَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ما يُعادِلُ (أمْ) مُتَقَدِّمًا في التَقْدِيرِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: "أهَذا الكافِرُ خَيْرٌ أمْ مَن"، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ (أمْ) قَدِ ابْتُدِأ بِها بَعْدَ إضْرابٍ مُقَدَّرٍ، ويَكُونَ المُعادِلُ في آخِرِ الكَلامِ. والأوَّلُ أبْيَنُ. و"القانِتُ": المُطِيعُ، وبِهَذا فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والقُنُوتُ في الكَلامِ يَقَعُ عَلى القِراءَةِ، وعَلى طُولِ القِيامِ في الصَلاةِ، وبِهَذا فَسَرَّها ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "مَن أحَبَّ أنْ يُهَوِّنَ اللهُ عَلَيْهِ الوُقُوفَ يَوْمَ القِيامَةِ فَلْيُنَزِّهِ اللهَ في سَوادِ اللَيْلِ ساجِدًا أو قائِمًا"، ويَقَعُ القُنُوتُ عَلى الدُعاءِ وعَلى الصَمْتِ عِبادَةً، ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّ القُنُوتَ: الطاعَةُ،» وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الصَلاةِ أفْضَلُ؟ قالَ: "طُولُ القُنُوتِ".» و"الآناءُ": الساعاتُ، واحِدُها إنًى كَمِعًى، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "لَنْ يَعْدُوَ شَيْءٌ إناهُ"، ومِنهُ (p-٣٨٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] عَلى بَعْضِ التَأْوِيلاتِ في ذَلِكَ، ويُقالُ في واحِدِها أيْضًا: "أنا" عَلى وزْنِ "قَفا"، ويُقالُ فِيهِ: "إنْيٌ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ النُونِ، ومِنهُ قالَ الهُذَلِيُّ: ؎ حُلْوٌ ومُرٌّ كَعِطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ في كُلٍّ إنْيٍ قَضاهُ اللَيْلُ يَنْتَعِلُ وقَرَأ الضَحّاكُ: "ساجِدٌ وقائِمٌ" بِالرَفْعِ فِيهِما. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ مَعْناهُ: يَحْذَرُ حالَها وهَوْلَها. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يَحْذَرُ عَذابَ الآخِرَةِ". و"أُولُو" مَعْناهُ: أصْحابُ، واحِدُهُمْ: ذُو. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ [قُلْ يا عِبادِيَ]﴾ [الزمر: ٥٣] بِفَتْحِ الياءِ، وأسْكَنَها أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، والأعْمَشُ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ أيْضًا، والأعْمَشُ، وابْنُ كَثِيرٍ: "يا عِبادِ" بِغَيْرِ ياءٍ في الوَصْلِ. ويُرْوى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وأصْحابِهِ حِينَ عَزَمُوا عَلى الهِجْرَةِ إلى أرْضِ الحَبَشَةِ. ووَعَدَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُنْيا حَسَنَةٌ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فِي هَذِهِ الدُنْيا﴾ مُتَعَلِّقًا بِـ"أحْسَنُوا"، وكَأنَّهُ يُرِيدُ: أنَّ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ في الدُنْيا لَهم حَسَنَةٌ في الآخِرَةِ، وهي الجَنَّةُ والنَعِيمُ، قالَهُ مُقاتِلُ، (p-٣٨١)وَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إنَّ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ لَهم حَسَنَةٌ في الدُنْيا، وهي العافِيَةُ والطُهُورُ ووِلايَةُ اللهِ تَعالى، قالَهُ السُدِّيُّ، وكانَ قِياسُ قَوْلِهِ أنْ يَكُونَ ﴿فِي هَذِهِ الدُنْيا﴾ مُتَأخِّرًا، ويَجُوزُ تَقْدِيمُهُ. والقَوْلُ الأوَّلُ أرْجَحُ، وهو أنَّ الحَسَنَةَ في الآخِرَةِ. و"أرْضُ اللهِ" يُرِيدُ بِها البِلادَ المُجاوِرَةَ الَّتِي تَقْتَضِيها القِصَّةُ الَّتِي الكَلامُ فِيها، وهَذا حَضٌّ عَلى الهِجْرَةِ، ولِذَلِكَ وصَفَ اللهُ الأرْضَ بِالسَعَةِ. وقالَ قَوْمٌ: أرادَ بِالأرْضِ هُنا الجَنَّةَ، وفي هَذا القَوْلِ تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ وعَدَ تَعالى عَلى الصَبْرِ عَلى المَكارِهِ، والخُرُوجِ عَنِ الوَطَنِ، ونُصْرَةِ الدِينِ، وجَمِيعِ الطاعاتِ، بِأنَّ الأجْرَ يُوَفّى بِغَيْرِ حِسابٍ، وهَذا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ الصابِرَ يُوَفّى أجْرَهُ ثُمَّ لا يُحاسَبُ عَنِ النَعِيمِ ولا يُتابَعُ بِذُنُوبٍ، فَيَقَعُ "الصابِرُونَ" في هَذِهِ الآيَةِ عَلى الجَماعَةِ الَّتِي ذَكَرَها النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّها تَدْخُلُ الجَنَّةَ دُونَ حِسابٍ، في قَوْلِهِ ﷺ: « "يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ ولا يَكْتَوُونَ ولا يَسْتَرْقُونَ، وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وُجُوهُهم عَلى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ"» الحَدِيثَ عَلى اخْتِلافِ تَرْتِيباتِهِ. والمَعْنى الثانِي: أنَّ أُجُورَ الصابِرِينَ تُوَفّى بِغَيْرِ حَصْرٍ ولا عَدٍّ بَلْ جُزافًا، وهَذِهِ اسْتِعارَةٌ لِلْكَثْرَةِ الَّتِي لا تُحْصى، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ما تَمْنَعِي يَقْظى فَقَدْ تُعْطِينَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ في النَوْمِ غَيْرَ مُصَّرَدٍ مَحْسُوبِ (p-٣٨٢)وَإلى هَذا التَأْوِيلِ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، حَتّى قالَ قَتادَةُ: ما ثَمَّ واللهِ مِكْيالٌ ولا مِيزانٌ، وفي بَعْضِ الحَدِيثِ «أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١]، قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "اللهُمَّ زِدْ أُمَّتِي"، فَنَزَلَتْ: ﴿فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥]، فَقالَ: "اللهُمَّ زِدْ أُمَّتِي" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقالَ: "رَضِيتُ يا رَبِّ".»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب