الباحث القرآني

لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - النِّعَمَ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلى عِبادِهِ وبَيَّنَ لَهم مِن بَدِيعِ صُنْعِهِ وعَجِيبِ فِعْلِهِ ما يُوجِبُ عَلى كُلِّ عاقِلٍ أنْ يُؤْمِنَ بِهِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ أيْ: غَيْرُ مُحْتاجٍ إلَيْكم ولا إلى إيمانِكم ولا إلى عِبادَتِكم لَهُ فَإنَّهُ الغَنِيُّ المُطْلَقُ، " و" مَعَ كَوْنِ كُفْرِ الكافِرِ لا يَضُرُّهُ كَما أنَّهُ لا يَنْفَعُهُ إيمانُ المُؤْمِنِ، فَهو أيْضًا لا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ أيْ: لا يَرْضى لِأحَدٍ مِن عِبادِهِ الكُفْرَ ولا يُحِبُّهُ ولا يَأْمُرُ بِهِ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٨] ومِثْلُها ما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن قَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «يا عِبادِي لَوْ أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانُوا عَلى قَلْبِ أفْجَرِ رَجُلٍ مِنكم ما نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئًا» . وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ هَلْ هي عَلى عُمُومِها، وإنَّ الكُفْرَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - عَلى كُلِّ حالٍ كَما هو الظّاهِرُ، أوْ هي خاصَّةٌ ؟ والمَعْنى: لا يَرْضى لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ الكُفْرَ، وقَدْ ذَهَبَ إلى التَّخْصِيصِ حَبْرُ الأُمَّةِ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ آخِرَ البَحْثِ، وتابَعَهُ عَلى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهُما. ثُمَّ اخْتَلَفُوا في الآيَةِ اخْتِلافًا آخَرَ. فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ يُرِيدُ كُفْرَ الكافِرِ ولا يَرْضاهُ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ لا يُرِيدُهُ ولا يَرْضاهُ، والكَلامُ في تَحْقِيقِ مِثْلِ هَذا يَطُولُ جِدًّا. وقَدِ اسْتَدَلَّ القائِلُونَ بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الآيَةِ، والمُثْبِتُونَ لِلْإرادَةِ مَعَ عَدَمِ الرِّضا بِما ثَبَتَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنِ الكِتابِ العَزِيزِ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - يُضِلُّ مَن يَشاءُ [الرعد: ٢٧] ويَهْدِي مَن يَشاءُ [يونس: ٢٥] ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [ الإنْسانِ: ٣٠، والتَّكْوِيرِ: ٢٩ ] ونَحْوُ هَذا مِمّا يُؤَدِّي مَعْناهُ كَثِيرٌ في الكِتابِ العَزِيزِ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ بَيَّنَ أنَّهُ يَرْضى لَهُمُ الشُّكْرَ فَقالَ: ﴿وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أيْ: يَرْضى لَكُمُ الشُّكْرَ المَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وإنْ تَشْكُرُوا ويُثِبْكم عَلَيْهِ، وإنَّما رَضِيَ لَهم - سُبْحانَهُ - الشُّكْرَ لِأنَّهُ سَبَبُ سَعادَتِهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ كَما قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكم﴾ [إبراهيم: ٧] قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وأبُو عَمْرٍو وشَيْبَةُ وهُبَيْرَةُ عَنْ عاصِمٍ بِإسْكانِ الهاءِ مَن " يَرْضَهُ "، وأشْبَعَ الضَّمَّةَ عَلى الهاءِ ابْنُ ذَكْوانَ وابْنُ كَثِيرٍ والكِسائِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ، واخْتَلَسَ الباقُونَ. ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ أيْ: لا تَحْمِلُ نَفْسٌ حامِلَةٌ لِلْوِزْرِ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرى، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَوْفًى. ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكم مَرْجِعُكُمْ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ. فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، وفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ. ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ: ما تُضْمِرُهُ القُلُوبُ وتَسْتُرُهُ، فَكَيْفَ بِما تُظْهِرُهُ وتُبْدِيهِ. ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ ضُرٌّ﴾ أيْ: ضُرٌّ كانَ مِن مَرَضٍ أوْ فَقْرٍ أوْ خَوْفٍ ﴿دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ﴾ أيْ: راجِعًا إلَيْهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ في دَفْعِ ما نَزَلَ بِهِ تارِكًا ما كانَ يَدْعُوهُ ويَسْتَغِيثُ بِهِ مِن مَيِّتٍ أوْ حَيٍّ أوْ صَنَمٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ﴿ثُمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنهُ﴾ أيْ: أعْطاهُ ومَلَّكَهُ، يُقالُ: خَوَّلَهُ أيْ: مَلَّكَهُ إيّاهُ، وكانَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ يُنْشِدُ: ؎هُنالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا وإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا ومِنهُ قَوْلُ أبِي النَّجْمِ: ؎أعْطى فَلَمْ يَبْخَلْ ولَمْ يَبْخَلِ ∗∗∗ كُومُ الذُّرى مَن خَوَلِ المُخَوَّلِ ﴿نَسِيَ ما كانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كانَ يَدْعُو اللَّهَ إلى كَشْفِهِ عَنْهُ مِن قَبْلِ أنْ يُخَوِّلَهُ ما خَوَّلَهُ وقِيلَ: نَسِيَ الدُّعاءَ الَّذِي كانَ يَتَضَرَّعُ بِهِ وتَرَكَهُ أوْ نَسِيَ رَبَّهِ الَّذِي كانَ يَدْعُوهُ ويَتَضَرَّعُ إلَيْهِ، ثُمَّ جاوَزَ ذَلِكَ إلى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ لِلَّهِ أنْدادًا﴾ أيْ: شُرَكاءَ مِنَ الأصْنامِ أوْ غَيْرِها يَسْتَغِيثُ بِها ويَعْبُدُها ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أيْ: لِيُضِلَّ النّاسَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي هي الإسْلامُ والتَّوْحِيدُ. وقالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي أنْدادًا مِنَ الرِّجالِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ في جَمِيعِ أُمُورِهِ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُهَدِّدَ مَن كانَ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَقالَ: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ أيْ: تَمَتُّعًا قَلِيلًا أوْ زَمانًا قَلِيلًا، فَمَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ أيْ: مَصِيرُكَ إلَيْها عَنْ قَرِيبٍ، وفِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ أمْرٌ عَظِيمٌ. قالَ الزَّجّاجُ: لَفْظُهُ لَفْظُ الأمْرِ، ومَعْناهُ التَّهْدِيدُ والوَعِيدُ قَرَأ الجُمْهُورُ ( لِيُضِلَّ ) بِضَمِّ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِها. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - صِفاتِ المُشْرِكِينَ وتَمَسُّكَهم بِغَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ انْدِفاعِ المَكْرُوهاتِ عَنْهم ذَكَرَ صِفاتِ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ﴾ وهَذا إلى آخِرِهِ مِن تَمامِ الكَلامِ المَأْمُورِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . والمَعْنى ذَلِكَ الكافِرُ (p-١٢٧٧)أحْسَنُ حالًا ومَآلًا، أمَّنْ هو قائِمٌ بِطاعاتِ اللَّهِ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ في ساعاتِ اللَّيْلِ، مُسْتَمِرٌّ عَلى ذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلى دُعاءِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - عِنْدَ نُزُولِ الضَّرَرِ بِهِ. قَرَأ الحَسَنُ وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ أمَّنْ بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلى القِراءَةِ الأُولى " أمْ " داخِلَةٌ عَلى " مَن " المَوْصُولَةِ وأُدْغِمَتِ المِيمُ في المِيمِ و" أمْ " هي المُتَّصِلَةُ، ومُعادِلُها مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الكافِرُ خَيْرٌ أمِ الَّذِي هو قانِتٌ. وقِيلَ: هي المُنْقَطِعَةُ المُقَدَّرَةُ بِـ: بَلْ والهَمْزَةِ أيْ: بَلْ أمَّنْ هو قانِتٌ كالكافِرِ، وأمّا عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ فَقِيلَ: الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ دَخَلَتْ عَلى مَن، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ ومُقابِلُهُ مَحْذُوفٌ أيْ: أمَّنْ هو قانِتٌ كَمَن كَفَرَ. وقالَ الفَرّاءُ: إنَّ الهَمْزَةَ في هَذِهِ القِراءَةِ لِلنِّداءِ و" مَن " مُنادى، وهي عِبارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - المَأْمُورِ بِقَوْلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ والتَّقْدِيرُ: يا مَن هو قانِتٌ، قُلْ: كَيْتَ وكَيْتَ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: يا مَن هو قانِتٌ إنَّكَ مِن أصْحابِ الجَنَّةِ. ومِنَ القائِلِينَ بِأنَّ الهَمْزَةَ لِلنِّداءِ الفَرّاءُ، وضَعَّفَ ذَلِكَ أبُو حَيّانَ، وقالَ: هو أجْنَبِيٌّ عَمّا قَبْلَهُ وعَمّا بَعْدَهُ، وقَدْ سَبَقَهُ إلى هَذا التَّضْعِيفِ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، واعْتَرَضَ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مِن أصْلِها أبُو حاتِمٍ والأخْفَشُ ولا وجْهَ لِذَلِكَ فَإنّا إذا ثَبَتَتِ الرِّوايَةُ بَطَلَتِ الدِّرايَةُ. وقَدِ اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ القانِتِ هُنا فَقِيلَ: المُطِيعُ، وقِيلَ: الخاشِعُ في صَلاتِهِ، وقِيلَ: القائِمُ في صَلاتِهِ، وقِيلَ: الدّاعِي لِرَبِّهِ. قالَ النَّحّاسُ: أصْلُ القُنُوتَ الطّاعَةُ، فَكُلُّ ما قِيلَ فِيهِ فَهو داخِلٌ في الطّاعَةِ، والمُرادُ بِآناءِ اللَّيْلِ ساعاتُهُ، وقِيلَ: جَوْفُهُ، وقِيلَ: ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعَشاءِ، وانْتِصابُ ساجِدًا وقائِمًا عَلى الحالِ أيْ: جامَعًا بَيْنَ السُّجُودِ والقِيامِ، وقُدِّمَ السُّجُودُ عَلى القِيامِ لِكَوْنِهِ أدْخَلَ في العِبادَةِ، ومَحَلُّ ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ النَّصْبُ عَلى الحالِ أيْضًا أيْ: يَحْذَرُ عَذابَ الآخِرَةِ قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومُقاتِلٌ ﴿ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجاءِ والخَوْفِ، وما اجْتَمَعا في قَلْبِ رَجُلٍ إلّا فازَ. قِيلَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: كَمَن لا يَفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يَقُولَ لَهم قَوْلًا آخَرَ يَتَبَيَّنُ بِهِ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ فَقالَ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ أيِ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ البَعْثِ والثَّوابِ والعِقابِ حَقٌّ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أوِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى رُسُلِهِ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أوِ المُرادُ العُلَماءُ والجُهّالُ ومَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَن لَهُ عَقْلٌ أنَّهُ لا اسْتِواءَ بَيْنَ العِلْمِ والجَهْلِ، ولا بَيْنَ العالِمِ والجاهِلِ. قالَ الزَّجّاجُ أيْ: كَما لا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ لا يَسْتَوِي المُطِيعُ والعاصِي. وقِيلَ: المُرادُ بِالَّذِينِ يَعْلَمُونَ: هُمُ العامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَإنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِهِ، لِأنَّ مَن لَمْ يَعْمَلْ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يَعْلَمْ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ أيْ: إنَّما يَتَّعِظُ ويَتَدَبَّرُ ويَتَفَكَّرُ أصْحابُ العُقُولِ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ لا الكُفّارُ، فَإنَّهم وإنْ زَعَمُوا أنَّ لَهم عُقُولًا فَهي كالعَدَمِ وهَذِهِ الجُمْلَةُ لَيْسَتْ مِن جُمْلَةِ الكَلامِ المَأْمُورِ بِهِ بَلْ مِن جِهَةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . ﴿قُلْ يا عِبادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكم﴾ لَمّا نَفى - سُبْحانَهُ - المُساواةَ بَيْنَ مَن يَعْلَمُ ومَن لا يَعْلَمُ، وبَيَّنَ أنَّهُ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ أمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنْ يَأْمُرَ المُؤْمِنِينَ مِن عِبادِهِ بِالثَّباتِ عَلى تَقْواهُ والإيمانِ بِهِ. والمَعْنى: يا أيُّها الَّذِينَ صَدَّقُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ اتَّقُوا رَبَّكم بِطاعَتِهِ، واجْتِنابِ مَعاصِيهِ، وإخْلاصِ الإيمانِ لَهُ، ونَفْيِ الشُّرَكاءِ عَنْهُ، والمُرادُ قُلْ لَهم قَوْلِي هَذا بِعَيْنِهِ. ثُمَّ لَمّا أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - المُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوى بَيَّنَ لَهم ما في هَذِهِ التَّقْوى مِنَ الفَوائِدِ فَقالَ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ أيْ: لِلَّذِينِ عَمِلُوا الأعْمالَ الحَسَنَةَ في هَذِهِ الدُّنْيا عَلى وجْهِ الإخْلاصِ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ وهي الجَنَّةُ، وقَوْلُهُ: في هَذِهِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِـ: أحْسَنُوا، وقِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِحَسَنَةٍ عَلى أنَّهُ بَيانٌ لِمَكانِها، فَيَكُونُ المَعْنى: لِلَّذِينِ أحْسَنُوا في العَمَلِ حَسَنَةٌ في الدُّنْيا بِالصِّحَّةِ والعافِيَةِ والظَّفَرِ والغَنِيمَةِ، والأوَّلُ أوْلى. ثُمَّ لَمّا كانَ بَعْضُ العِبادِ قَدْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ الطّاعاتِ والإحْسانِ في وطَنِهِ أرْشَدَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - مَن كانَ كَذَلِكَ إلى الهِجْرَةِ فَقالَ: ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ أيْ: فَلْيُهاجِرْ إلى حَيْثُ يُمْكِنُهُ طاعَةُ اللَّهِ. والعَمَلُ بِما أمَرَ بِهِ، والتَّرْكُ لِما نَهى عَنْهُ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحانَهُ -: ﴿ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾ [النساء: ٩٧] وقَدْ مَضى الكَلامُ في الهِجْرَةِ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ النِّساءِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالأرْضِ هُنا: أرْضُ الجَنَّةِ، رَغَّبَهم في سِعَتِها وسِعَةِ نَعِيمِها كَما في قَوْلِهِ: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ﴾ [آل عمران: ١٣٣] والأوَّلُ أوْلى. ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - ما لِلْمُحْسِنِينَ إذا أحْسَنُوا، وكانَ لا بُدَّ في ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ عَلى فِعْلِ الطّاعَةِ وعَلى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَواتِ، أشارَ إلى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ وعَظِيمِ مِقْدارِهِ فَقالَ: ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ: يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ أجْرَهم في مُقابَلَةِ صَبْرِهِمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أيْ: بِما لا يَقْدِرُ عَلى حَصْرِهِ حاصِرٌ، ولا يَسْتَطِيعُ حُسْبانَهُ حاسِبٌ. قالَ عَطاءٌ: بِما لا يَهْتَدِي إلَيْهِ عَقْلٌ ولا وصْفٌ. وقالَ مُقاتِلٌ: أجْرُهُمُ الجَنَّةُ، وأرْزاقُهم فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ. والحاصِلُ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ ثَوابَ الصّابِرِينَ وأجْرَهم لا نِهايَةَ لَهُ، لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَ الحِسابِ فَهو مُتَناهٍ، وما كانَ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الحِسابِ فَهو غَيْرُ مُتَناهٍ، وهَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ ومَثُوبَةٌ جَلِيلَةٌ تَقْتَضِي أنَّ عَلى كُلِّ راغِبٍ في ثَوابِ اللَّهِ، وطامِعٍ فِيما عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ أنْ يَتَوَفَّرَ عَلى الصَّبْرِ ويَزُمَّ نَفْسَهُ بِزِمامِهِ ويُقَيِّدَها بِقَيْدِهِ، فَإنَّ الجَزَعَ لا يَرُدُّ قَضاءً قَدْ نَزَلَ، ولا يَجْلِبُ خَيْرًا قَدْ سُلِبَ، ولا يَدْفَعُ مَكْرُوهًا قَدْ وقَعَ، وإذا تَصَوَّرَ العاقِلُ هَذا حَقَّ تَصَوُّرِهِ وتَعَقَّلَهُ حَقَّ تَعَقُّلِهِ عَلِمَ أنَّ الصّابِرَ عَلى ما نَزَلَ بِهِ قَدْ فازَ بِهَذا الأجْرِ العَظِيمِ، وظَفِرَ بِهَذا الجَزاءِ الخَطِيرِ، وغَيْرَ الصّابِرِ قَدْ نَزَلَ بِهِ القَضاءُ شاءَ أمْ أبى، ومَعَ ذَلِكَ فاتَهُ مِنَ الأجْرِ ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ ولا يَبْلُغُ مَداهُ، فَضَمَّ إلى مُصِيبَتِهِ مُصِيبَةً أُخْرى ولَمْ يَظْفَرْ بِغَيْرِ الجَزَعِ، وما أحْسَنَ قَوْلَ مَن قالَ: ؎أرى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وعَنْهُ مَذاهِبُ ∗∗∗ فَكَيْفَ إذا ما لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَبُ ؎ (p-١٢٧٨)هُناكَ يَحِقُّ الصَّبْرُ والصَّبْرُ واجِبٌ ∗∗∗ وما كانَ مِنهُ لِلضَّرُورَةِ أوْجَبُ ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُخْبِرَهم بِما أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ والإخْلاصِ فَقالَ: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ أيْ: أعْبُدُهُ عِبادَةً خالِصَةً مِنَ الشِّرْكِ والرِّياءِ وغَيْرِ ذَلِكَ. قالَ مُقاتِلٌ: إنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ما يَحْمِلُكَ عَلى الَّذِي أتَيْتَنا بِهِ، ألا تَنْظُرُ إلى مِلَّةِ أبِيكَ وجَدِّكَ وساداتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللّاتَ والعُزّى فَتَأْخُذُ بِها ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى الآيَةِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ أيْ: مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، وكَذَلِكَ كانَ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَإنَّهُ أوَّلُ مَن خالَفَ دِينَ آبائِهِ ودَعا إلى التَّوْحِيدِ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ أيْ: وأمَرْتُ بِما أمَرْتُ بِهِ لِأجْلِ أنْ أكُونَ، وقِيلَ: إنَّها مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، والأوَّلُ أوْلى. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ يَعْنِي: الكُفّارَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهم، فَيَقُولُونَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾ وهم عِبادُهُ المُخْلِصُونَ الَّذِينَ قالَ: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] فَألْزَمَهم شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحَبَّبَها إلَيْهِمْ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ﴿ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾ قالَ: لا يَرْضى لِعِبادِهِ المُسْلِمِينَ الكُفْرَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: واللَّهِ ما رَضِيَ اللَّهُ لِعَبْدٍ ضَلالَةً ولا أمَرَهُ بِها ولا دَعا إلَيْها، ولَكِنْ رَضِيَ لَكم طاعَتَهُ وأمَرَكم بِها ونَهاكم عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ قالَ: ذاكَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وفي لَفْظٍ: نَزَلَتْ في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقاتِهِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ﴾ الآيَةَ قالَ: نَزَلَتْ في عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ يَقُولُ: يَحْذَرُ عَذابَ الآخِرَةِ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ عَنْ أنَسٍ قالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى رَجُلٍ وهو في المَوْتِ فَقالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قالَ: أرْجُو اللَّهَ وأخافُ ذُنُوبِي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: لا يَجْتَمِعانِ في قَلْبِ عَبْدٍ في مِثْلِ هَذا المَوْطِنِ إلّا أعْطاهُ اللَّهُ الَّذِي يَرْجُو وأمَّنَهُ الَّذِي يَخافُ» . أخْرَجُوهُ مِن طَرِيقِ سَيّارِ بْنِ حاتِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمانَ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أنَسٍ. قالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وقَدْ رَواهُ بَعْضُهم عَنْ ثابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مُرْسَلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب