الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ أنَّ القانِتَ خَيْرٌ؛ وكانَ المُخالِفُ لَهُ كَثِيرًا؛ وكانَ أعْظَمُ (p-٤٧٠)حامِلٍ لَهُ عَلى القُنُوتِ التَّقْوى؛ وكانَتْ كَثْرَةُ المُخالِفِ أعْظَمَ مُزَلْزِلٍ؛ وكانَ الإنْسانُ - لِما لَهُ مِنَ النُّقْصانِ - أحْوَجَ شَيْءٍ إلى التَّثْبِيتِ؛ وكانَ التَّثْبِيتُ مِنَ المُجانِسِ؛ والتَّأْنِيسُ مِنَ المُشاكِلِ؛ أسْكَنَ لِلْقَلْبِ؛ وأشْرَحَ لِلصَّدْرِ؛ أمَرَ أكْمَلَ الخَلْقِ وأحْسَنَهم مُلاطَفَةً؛ بِتَثْبِيتِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾؛ ولَمّا كانَ الثَّباتُ لا يَرْسَخُ مَعَ كَثْرَةِ المُخالِفِ؛ وتَوالِي الزَّلازِلِ والمَتالِفِ؛ إلّا إذا كانَ عَنِ المَلِكِ؛ جَعَلَ ذَلِكَ عَنْهُ - سُبْحانَهُ - لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الخالِقُ؛ والأقْرَبُ إلَيْهِ مِنَ الخَلائِقِ؛ فَقالَ: ﴿يا عِبادِ﴾؛ دُونَ أنْ يَقُولَ: ”يا عِبادَ اللَّهِ“؛ مَثَلًا؛ تَذْكِيرًا لَهُمْ؛ تَسْكِينًا لِقُلُوبِهِمْ بِما عُلِمَ مِن أنَّ التَّقْدِيرَ: ”قالَ اللَّهُ“؛ وتَشْرِيفًا لَهم بِالإضافَةِ إلَيْهِ بِالضَّمِيرِ الدّالِّ عَلى اللُّطْفِ؛ وشِدَّةِ الخُصُوصِيَّةِ؛ وإعْلامًا لَهم بِأنَّهُ حاضِرٌ لا يَغِيبُ عَنْهم بِوَجْهٍ؛ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: أوْجَدُوا هَذِهِ الحَقِيقَةَ؛ ولَوْ عَلى أدْنى حالاتِها. ولَمّا كانَ الإحْسانُ رُبَّما جَرَّأ عَلى المُحْسِنِ؛ أشارَ - سُبْحانَهُ - إلى سَدادِ قَوْلِ العارِفِينَ: ”اجْلِسْ عَلى البِساطِ؛ وإيّاكَ والِانْبِساطَ“؛ ونَبَّهَ بِلَفْتِ القَوْلِ عَنْ مَظْهَرِ التَّكَلُّمِ؛ إلى الوَصْفِ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ العاقِلَ مَن (p-٤٧١)أوْجَبَ لَهُ الإحْسانَ؛ إجْلالًا وإكْبارًا؛ وأثْمَرَ لَهُ العَطْفُ والتَّقْرِيبُ ذُلًّا في نَفْسِهِ وصَغارًا؛ وخَوْفًا وانْكِسارًا؛ مِمّا أقَلُّهُ قَطْعُ الإحْسانِ؛ فَقالَ: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أيْ: اجْعَلُوا بَيْنَكم وبَيْنَ غَضَبِ المُحْسِنِ إلَيْكم وِقايَةً؛ بِأنْ تَتَرَقَّوْا في دَرَجاتِ طاعَتِهِ؛ مُخْلِصِينَ لَهُ؛ كَما خَلَقَكم لَكُمْ؛ لا لِغَرَضٍ لَهُ؛ لِيَرْسَخَ إيمانُكُمْ؛ ويَقْوى إحْسانُكُمْ؛ وهَذا أدَلُّ دَلِيلٍ عَلى أنَّ الإيمانَ يَكُونُ مَعَ عَدَمِ التَّقْوى. ولَمّا أرْشَدَهم بِالِاسْمِ النّاظِرِ إلى الإحْسانِ إلى أنْ يَقُولُوا: فَما لَنا إنْ فَعَلْنا؟ قالَ - مُجِيبًا؛ مُعَلِّلًا -: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾؛ أيْ: لَكُمْ؛ ولَكِنَّهُ أظْهَرَ الوَصْفَ الدّالَّ عَلى سَبَبِ جَزائِهِمْ؛ تَشْوِيقًا إلى الِازْدِيادِ مِنهُ؛ ولَمّا كانَ العَمَلُ لا يَنْفَعُ إلّا في دارِ التَّكْلِيفِ؛ قالَ: ﴿فِي هَذِهِ﴾؛ بِاسْمِ الإشارَةِ؛ زِيادَةً في التَّعْيِينِ؛ ﴿الدُّنْيا﴾؛ أيْ: الدَّنِيَّةِ؛ الوَضِرَةِ؛ الَّتِي لا تَطْهُرُ الحَياةُ فِيها إلّا بِالتَّقْدِيسِ؛ بِعِبادَةِ الخالِقِ؛ والتَّخَلُّقِ بِأوْصافِهِ؛ ﴿حَسَنَةٌ﴾؛ أيْ: عَظِيمَةٌ في الدُّنْيا؛ بِالنَّصْرِ؛ والمَعُونَةِ؛ مَعَ كَثْرَةِ المُخالِفِ؛ وفي الآخِرَةِ بِالثَّوابِ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى ”أحْسَنُوا“؛ أوْقَعُوا الإحْسانَ؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ في هَذِهِ الدُّنْيا؛ فَيَكُونُ ما بَعْدَهُ مُبْتَدَأً؛ وخَبَرًا؛ لَكِنَّهُ يَصِيرُ خاصًّا بِثَوابِ الدُّنْيا؛ فالأوَّلُ حَسَنٌ. ولَمّا كانَ رُبَّما عَرَضَ لِلْإنْسانِ في أرْضٍ مَن يَمْنَعُهُ الإحْسانَ؛ ويَحْمِلُهُ عَلى العِصْيانِ؛ حَثَّ - سُبْحانَهُ - عَلى الهِجْرَةِ إلى حَيْثُ يَزُولُ عَنْهُ (p-٤٧٢)ذَلِكَ المانِعُ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مِثْلَ هَذا لَيْسَ عُذْرًا في التَّقْصِيرِ؛ كَما قِيلَ: وإذا نَبا بِكَ مُنْزَلٌ فَتَحَوَّلِ فَقالَ: ﴿وأرْضُ اللَّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ المُلْكُ كُلُّهُ؛ والعَظْمَةُ الشّامِلَةُ؛ ﴿واسِعَةٌ﴾؛ ووُجُودُهُ بِعِلْمِهِ؛ وقُدْرَتِهِ؛ في كُلِّ أرْضٍ؛ عَلى حَدٍّ سَواءٍ؛ فالمُتَقَيِّدُ بِمَكانٍ مِنها ضَعِيفُ العَزْمِ؛ واهِنُ اليَقِينِ؛ فَلا عُذْرَ لِلْمُفَرِّطِ في الإحْسانِ بِعَدَمِ الهِجْرَةِ. ولَمّا كانَ الصَّبْرُ عَلى هِجْرَةِ الوَطَنِ؛ ولا سِيَّما إنْ كانَ ثَمَّ أهْلٌ وعَشِيرَةٌ؛ شَدِيدًا جِدًّا؛ ذَكَرَ ما لِلصّابِرِ عَلى ذَلِكَ؛ لِمَن تَشَوَّفَ إلى السُّؤالِ عَنْهُ؛ فَقالَ: ﴿إنَّما يُوَفّى﴾؛ أيْ: التَّوْفِيَةَ العَظِيمَةَ؛ ﴿الصّابِرُونَ﴾؛ أيْ: عَلى ما تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ في مُخالَفَةِ الهَوى؛ واتِّباعِ أوامِرِ المَلِكِ الأعْلى؛ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وغَيْرِها؛ ﴿أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾؛ أيْ: عَلى وجْهٍ مِنَ الكَثْرَةِ؛ لا يُمْكِنُ في العادَةِ حُسْبانُهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ؛ وكُلُّ عَمَلٍ يُمْكِنُ عَدُّهُ؛ وحَصْرُهُ؛ إلّا الصَّبْرَ؛ فَإنَّهُ دائِمٌ مَعَ الأنْفاسِ؛ وهو مَعْنًى مِنَ المَعانِي الباطِنَةِ؛ لا يَطَّلِعُ خَلْقٌ عَلى مِقْدارِهِ في قُوَّتِهِ؛ وضَعْفِهِ؛ وشِدَّتِهِ؛ ولِينِهِ؛ لِأنَّهُ مَعَ خَفائِهِ يَتَفاوَتُ مِقْدارُهُ؛ وتَتَعاظَمُ آثارُهُ؛ بِحَسَبِ الهِمَمِ في عُلُوِّها؛ وسُفُولِها؛ وسُمُوِّها؛ ونُزُولِها؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ مَن كَمُلَ صَبْرُهُ - بِما أشارَتْ إلَيْهِ لامُ الكَمالِ - لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حِسابٌ؛ لِما رَواهُ البَزّارُ؛ وابْنُ حِبّانَ؛ في صَحِيحِهِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «جاءَتِ امْرَأةٌ (p-٤٧٣)بِها لَمَمٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ادْعُ اللَّهَ لِي؛ قالَ: ”إنْ شِئْتِ دَعَوْتِ اللَّهَ فَشَفاكِ؛ وإنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولا حِسابَ عَلَيْكِ“؛ قالَتْ: بَلْ أصْبِرُ ولا حِسابَ عَلَيَّ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب