الباحث القرآني

(p-٢٢٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياعِبادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكم لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿قُلْ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ ﴿لَهم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ياعِبادِ فاتَّقُونِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ نَفْيَ المُساواةِ بَيْنَ مَن يَعْلَمُ وبَيْنَ مَن لا يَعْلَمُ، أتْبَعَهُ بِأنْ أمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يُخاطِبَ المُؤْمِنِينَ بِأنْواعٍ مِنَ الكَلامِ: النَّوْعُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ والمُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَضُمُّوا إلى الإيمانِ التَّقْوى، وهَذا مِن أوَّلِ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ الإيمانَ يَبْقى مَعَ المَعْصِيَةِ، قالَ القاضِي: أمَرَهم بِالتَّقْوى لِكَيْلا يُحْبِطُوا إيمانَهم، لِأنَّ عِنْدَ الِاتِّقاءِ مِنَ الكَبائِرِ يَسْلَمُ لَهُمُ الثَّوابُ، وبِالإقْدامِ عَلَيْها يُحْبَطُ، فَيُقالُ لَهُ: هَذا بِأنْ يَدُلَّ عَلى ضِدِّ قَوْلِكَ أوْلى، لِأنَّهُ لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوى دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَبْقى مُؤْمِنًا مَعَ عَدَمِ التَّقْوى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفِسْقَ لا يُزِيلُ الإيمانَ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالِاتِّقاءِ بَيَّنَ لَهم ما في هَذا الِاتِّقاءِ مِنَ الفَوائِدِ، فَقالَ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ صِلَةً لِقَوْلِهِ: ﴿أحْسَنُوا﴾ أوْ لِـ”حَسَنَةٌ“، فَعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ - مَعْناهُ: لِلَّذِينِ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا كُلُّهم حَسَنَةٌ في الآخِرَةِ، وهي دُخُولُ الجَنَّةِ، والتَّنْكِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿حَسَنَةٌ﴾ لِلتَّعْظِيمِ، يَعْنِي: حَسَنَةٌ لا يَصِلُ العَقْلُ إلى كُنْهِ كَمالِها. وأمّا عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي - فَمَعْناهُ: الَّذِينَ أحْسَنُوا فَلَهم في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ قالُوا: هَذِهِ الحَسَنَةُ هي الصِّحَّةُ والعافِيَةُ، وأقُولُ: الأوْلى أنْ تُحْمَلَ عَلى الثَّلاثَةِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ ﷺ: «ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَها نِهايَةٌ: الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَةُ»، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: القَوْلُ الأوَّلُ أوْلى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ التَّنْكِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿حَسَنَةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى النِّهايَةِ والجَلالَةِ والرِّفْعَةِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِأحْوالِ الدُّنْيا، فَإنَّها خَسِيسَةٌ ومُنْقَطِعَةٌ، وإنَّما يَلِيقُ بِأحْوالِ الآخِرَةِ، فَإنَّها شَرِيفَةٌ وآمِنَةٌ مِنَ الِانْقِضاءِ والِانْقِراضِ. والثّانِي: أنَّ ثَوابَ المُحْسِنِ بِالتَّوْحِيدِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ إنَّما يَحْصُلُ في الآخِرَةِ، قالَ تَعالى: ﴿اليَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧] وأيْضًا فَنِعْمَةُ الدُّنْيا مِنَ الصِّحَّةِ والأمْنِ والكِفايَةِ حاصِلَةٌ لِلْكُفّارِ، وأيْضًا فَحُصُولُها لِلْكافِرِ أكْثَرُ وأتَمُّ مِن حُصُولِها لِلْمُؤْمِنِ، كَما قالَ ﷺ: «الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ»، وقالَ تَعالى: ﴿لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] . الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، بِمَعْنى أنَّهُ يُفِيدُ أنَّ حَسَنَةَ هَذِهِ الدُّنْيا لا تَحْصُلُ إلّا لِلَّذِينِ أحْسَنُوا، وهَذا باطِلٌ، أمّا لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الحَسَنَةَ عَلى حَسَنَةِ الآخِرَةِ صَحَّ هَذا الحَصْرُ، فَكَأنَّ حَمْلَهُ عَلى حَسَنَةِ الآخِرَةِ أوْلى، ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ أنَّهُ لا عُذْرَ ألْبَتَّةَ لِلْمُقَصِّرِينَ في الإحْسانِ، حَتّى إنَّهم إنِ اعْتَلُّوا بِأوْطانِهِمْ وبِلادِهِمْ، وأنَّهم لا يَتَمَكَّنُونَ فِيها مِنَ التَّوْفِرَةِ عَلى الإحْسانِ وصَرْفِ الهِمَمِ إلَيْهِ، قُلْ لَهم: فَإنَّ أرْضَ اللَّهِ واسِعَةٌ وبِلادَهُ كَثِيرَةٌ، فَتَحَوَّلُوا مِن هَذِهِ البِلادِ إلى بِلادٍ تَقْدِرُونَ فِيها عَلى الِاشْتِغالِ بِالطّاعاتِ والعِباداتِ، واقْتَدُوا بِالأنْبِياءِ والصّالِحِينَ (p-٢٢١)فِي مُهاجَرَتِهِمْ إلى غَيْرِ بِلادِهِمْ، لِيَزْدادُوا إحْسانًا إلى إحْسانِهِمْ، وطاعَةً إلى طاعَتِهِمْ، والمَقْصُودُ مِنهُ التَّرْغِيبُ في الهِجْرَةِ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، والصَّبْرِ عَلى مُفارَقَةِ الوَطَنِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾ [النساء: ٩٧] . والقَوْلُ الثّانِي: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأرْضِ أرْضَ الجَنَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوى، وهي خَشْيَةُ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ مَنِ اتَّقى فَلَهُ في الآخِرَةِ الحَسَنَةُ، وهي الخُلُودُ في الجَنَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ أرْضَ اللَّهِ - أيْ جَنَّتَهُ - واسِعَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾ [الزمر: ٧٤]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، والقَوْلُ الأوَّلُ عِنْدِي أوْلى، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِالأوَّلِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: * * * المَسْألَةُ الأُولى: أمّا تَحْقِيقُ الكَلامِ في ماهِيَّةِ الصَّبْرِ فَقَدْ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ، والمُرادُ هَهُنا بِالصّابِرِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلى مُفارَقَةِ أوْطانِهِمْ وعَشائِرِهِمْ، وعَلى تَجَرُّعِ الغُصَصِ، واحْتِمالِ البَلايا في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَسْمِيَةُ المَنافِعِ الَّتِي وعَدَ اللَّهُ بِها عَلى الصَّبْرِ بِالأجْرِ تُوهِمُ أنَّ العَمَلَ عَلى الثَّوابِ، لِأنَّ الأجْرَ هو المُسْتَحَقُّ، إلّا أنَّهُ قامَتِ الدَّلائِلُ القاهِرَةُ عَلى أنَّ العَمَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ الثَّوابُ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الأجْرِ عَلى كَوْنِهِ أجْرًا بِحَسَبِ الوَعْدِ، لا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقاقِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ ذَلِكَ الأجْرَ بِأنَّهُ بِغَيْرِ حِسابٍ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ: المَعْنى أنَّهم يُعْطَوْنَ ما يَسْتَحِقُّونَ ويَزْدادُونَ تَفَضُّلًا، فَهو بِغَيْرِ حِسابٍ، ولَوْ لَمْ يُعْطَوْا إلّا المُسْتَحَقَّ لَكانَ ذَلِكَ حِسابًا، قالَ القاضِي: هَذا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ الأجْرَ بِأنَّهُ بِغَيْرِ حِسابٍ، ولَوْ لَمْ يُعْطَوْا إلّا الأجْرَ المُسْتَحَقَّ، والأجْرُ غَيْرُ التَّفَضُّلِ. الثّانِي: أنَّ الثَّوابَ لَهُ صِفاتٌ ثَلاثَةٌ: إحْداها: أنَّها تَكُونُ دائِمَةَ الأجْرِ لَهم، وقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ مَعْناهُ بِغَيْرِ نِهايَةٍ، لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ تَحْتَ الحِسابِ فَهو مُتَناهٍ، فَما لا نِهايَةَ لَهُ كانَ خارِجًا عَنِ الحِسابِ. وثانِيها: أنَّها تَكُونُ مَنافِعَ كامِلَةً في أنْفُسِها، وعَقْلُ المُطِيعِ ما كانَ يَصِلُ إلى كُنْهِ ذَلِكَ الثَّوابِ، قالَ ﷺ: «إنَّ في الجَنَّةِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ» وكُلُّ ما يُشاهِدُونَهُ مِن أنْواعِ الثَّوابِ وجَدُوهُ أزْيَدَ مِمّا تَصَوَّرُوهُ وتَوَقَّعُوهُ، وما لا يَتَوَقَّعُهُ الإنْسانُ، فَقَدْ يُقالُ: إنَّهُ لَيْسَ في حِسابِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ مَحْمُولٌ عَلى هَذا المَعْنى، والوَجْهُ الثّالِثُ في التَّأْوِيلِ أنَّ ثَوابَ أهْلِ البَلاءِ لا يُقَدَّرُ بِالمِيزانِ والمِكْيالِ، رَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «يَنْصِبُ اللَّهُ المَوازِينَ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيُؤْتى أهْلُ الصَّلاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهم بِالمَوازِينِ، ويُؤْتى بِأهْلِ الصَّدَقَةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهم بِالمَوازِينِ، ويُؤْتى بِأهْلِ البَلاءِ فَلا يُنْصَبُ لَهم مِيزانٌ، ولا يُنْشَرُ لَهم دِيوانٌ، ويُصَبُّ عَلَيْهِمُ الأجْرُ صَبًّا»، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ حَتّى يَتَمَنّى أهْلُ العافِيَةِ في الدُّنْيا أنَّ أجْسادَهم تُقْرَضُ بِالمَقارِيضِ لِما بِهِ أهْلُ البَلاءِ مِنَ الفَضْلِ. النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ البَياناتِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يَذْكُرَها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾، قالَ مُقاتِلٌ: إنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ما يَحْمِلُكَ عَلى هَذا الدِّينِ الَّذِي أتَيْتَنا بِهِ ؟ ألا تَنْظُرُ إلى مِلَّةِ أبِيكَ وجَدِّكَ وساداتِ قَوْمِكَ، يَعْبُدُونَ اللّاتَ والعُزّى، فَأنْزَلَ اللَّهُ ”قُلْ يا مُحَمَّدُ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ (p-٢٢٢)الدِّينَ“، وأقُولُ: إنَّ التَّكْلِيفَ نَوْعانِ: أحَدُهُما: الأمْرُ بِالِاحْتِرازِ عَمّا لا يَنْبَغِي. والثّانِي: الأمْرُ بِتَحْصِيلِ ما يَنْبَغِي، والمَرْتَبَةُ الأُولى مُقَدَّمَةٌ عَلى المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الواجِبَةِ اللّازِمَةِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى قَدَّمَ الأمْرَ بِإزالَةِ ما يَنْبَغِي، فَقالَ: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ لِأنَّ التَّقْوى هي الِاحْتِرازُ عَمّا لا يَنْبَغِي، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الأمْرَ بِتَحْصِيلِ ما يَنْبَغِي فَقالَ: ﴿إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وهَذا يَشْتَمِلُ عَلى قَيْدَيْنِ: أحَدُهُما: الأمْرُ بِعِبادَةِ اللَّهِ. الثّانِي: كَوْنُ تِلْكَ العِبادَةِ خالِصَةً عَنْ شَوائِبِ الشِّرْكِ الجَلِيِّ، وشَوائِبِ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وإنَّما خَصَّ اللَّهُ تَعالى الرَّسُولَ بِهَذا الأمْرِ لِيُنَبِّهَ عَلى أنَّ غَيْرَهُ بِذَلِكَ أحَقُّ فَهو كالتَّرْغِيبِ لِلْغَيْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ لا شُبْهَةَ في أنَّ المُرادَ أنِّي أوَّلُ مَن تَمَسَّكَ بِالعِباداتِ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِها، وفي هَذِهِ الآيَةِ فائِدَتانِ: الفائِدَةُ الأُولى: كَأنَّهُ يَقُولُ: إنِّي لَسْتُ مِنَ المُلُوكِ الجَبابِرَةِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النّاسَ بِأشْياءَ وهم لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ ما أمَرْتُكم بِهِ فَأنا أوَّلُ النّاسِ شُرُوعًا فِيهِ، وأكْثَرُهم مُداوَمَةً عَلَيْهِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ قالَ: ﴿إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ والعِبادَةُ لَها رُكْنانِ: عَمَلُ القَلْبِ، وعَمَلُ الجَوارِحِ، وعَمَلُ القَلْبِ أشْرَفُ مِن عَمَلِ الجَوارِحِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الجُزْءَ الأشْرَفَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الأدْوَنَ، وهو عَمَلُ الجَوارِحِ، وهو الإسْلامُ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَسَّرَ الإسْلامَ في خَبَرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالأعْمالِ الظّاهِرَةِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ ولَيْسَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ما الفائِدَةُ في تَكْرِيرِ لِفْظِ ”أُمِرْتُ“ لِأنّا نَقُولُ: ذَكَرَ لَفْظَ ”أُمِرْتُ“ أوَّلًا في عَمَلِ القَلْبِ، وثانِيًا في عَمَلِ الجَوارِحِ، ولا يَكُونُ هَذا تَكْرِيرًا. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ التَّنْبِيهُ عَلى كَوْنِهِ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ واجِبَ الطّاعَةِ، لِأنَّ أوَّلَ المُسْلِمِينَ في شَرائِعِ اللَّهِ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ إلّا رَسُولَ اللَّهِ، لِأنَّ أوَّلَ مَن يَعْرِفُ تِلْكَ الشَّرائِعَ والتَّكالِيفَ هو الرَّسُولُ المُبَلِّغُ، ولَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أمْرَهُ بِالإخْلاصِ بِالقَلْبِ وبِالأعْمالِ المَخْصُوصَةِ، وكانَ الأمْرُ يَحْتَمِلُ الوُجُوبَ ويَحْتَمِلُ النَّدْبَ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ فَقالَ: ﴿قُلْ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وفِيهِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ اللَّهَ أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ أنْ يُجْرِيَ هَذا الكَلامَ عَلى نَفْسِهِ، والمَقْصُودُ مِنهُ المُبالَغَةُ في زَجْرِ الغَيْرِ عَنِ المَعاصِي، لِأنَّهُ مَعَ جَلالَةِ قَدْرِهِ وشَرَفِ نُبُوَّتِهِ إذا وجَبَ أنْ يَكُونَ خائِفًا حَذِرًا عَنِ المَعاصِي، فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أوْلى. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُرَتَّبَ عَلى المَعْصِيَةِ لَيْسَ حُصُولَ العِقابِ، بَلِ الخَوْفَ مِنَ العِقابِ، وهَذا يُطابِقُ قَوْلَنا: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يَعْفُو عَنِ المُذْنِبِ والكَبِيرَةِ، فَيَكُونُ اللّازِمُ عِنْدَ حُصُولِ المَعْصِيَةِ هو الخَوْفُ مِنَ العِقابِ لا نَفْسَ حُصُولِ العِقابِ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿قُلْ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ فَيَكُونُ مَعْنى هَذا العِصْيانِ تَرْكَ الأمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ تارِكُ الأمْرِ عاصِيًا، والعاصِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الخَوْفُ مِنَ العِقابِ، ولا مَعْنى لِلْوُجُوبِ إلّا ذَلِكَ. (p-٢٢٣)النَّوْعُ الثّالِثُ: مِنَ الأشْياءِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يَذْكُرَها قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى التَّكْرِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ ؟، قُلْنا: هَذا لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، لِأنَّ الأوَّلَ إخْبارٌ بِأنَّهُ مَأْمُورٌ مِن جِهَةِ اللَّهِ بِالإتْيانِ بِالعِبادَةِ، والثّانِي إخْبارٌ بِأنَّهُ أُمِرَ بِأنْ لا يَعْبُدَ أحَدًا غَيْرَهُ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ لا يُفِيدُ الحَصْرَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، يَعْنِي: اللَّهَ أعْبُدُ ولا أعْبُدُ أحَدًا سِواهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمّا قالَ بَعْدُ: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ﴾ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ ولا شُبْهَةَ في أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ لَيْسَ أمْرًا، بَلِ المُرادُ مِنهُ الزَّجْرُ، كَأنَّهُ يَقُولُ: لَمّا بَلَغَ البَيانُ في وُجُوبِ رِعايَةِ التَّوْحِيدِ إلى الغايَةِ القُصْوى، فَبَعْدَ ذَلِكَ أنْتُمْ أعْرَفُ بِأنْفُسِكم، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى كَمالَ الزَّجْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ لِوُقُوعِها في هَلاكٍ لا يُعْقَلُ هَلاكٌ أعْظَمُ مِنهُ، وخَسِرُوا أهْلِيهِمْ أيْضًا، لِأنَّهم إنْ كانُوا مِن أهْلِ النّارِ فَقَدْ خَسِرُوهم كَما خَسِرُوا أنْفُسَهم، وإنْ كانُوا مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَقَدْ ذَهَبُوا عَنْهم ذَهابًا لا رُجُوعَ بَعْدَهُ ألْبَتَّةَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مَنزِلًا وأهْلًا وخَدَمًا في الجَنَّةِ، فَإنْ أطاعَ أُعْطِيَ ذَلِكَ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النّارِ حُرِمَ ذَلِكَ، فَخَسِرَ نَفْسَهُ وأهْلَهُ ومَنزِلَهُ، ووَرِثَهُ غَيْرُهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، والخاسِرُ المَغْبُونُ، ولَمّا شَرَحَ اللَّهُ خُسْرانَهم وصَفَ ذَلِكَ الخُسْرانَ بِغايَةِ الفَظاعَةِ فَقالَ: ﴿ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ كانَ التَّكْرِيرُ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في أوَّلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ حَرْفَ ”ألا“ وهو لِلتَّنْبِيهِ، وذِكْرُ التَّنْبِيهِ في هَذا المَوْضِعِ يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ بَلَغَ في العَظَمَةِ إلى حَيْثُ لا تَصِلُ عُقُولُكم إلَيْها فَتَنَبَّهُوا لَها. الثّالِثُ: أنَّ كَلِمَةَ ”هو“ في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ تُفِيدُ الحَصْرَ، كَأنَّهُ قِيلَ: كُلُّ خُسْرانٍ فَإنَّهُ يَصِيرُ في مُقابَلَتِهِ كَلا خُسْرانٍ. الرّابِعُ: وصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا يَدُلُّ عَلى التَّهْوِيلِ، وأقُولُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ لَفْظَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ خُسْرانًا مُبِينًا، فَلْنُبَيِّنْ بِحَسَبِ المَباحِثِ العَقْلِيَّةِ كَوْنَهُ خُسْرانًا مُبِينًا، وأقُولُ: نَفْتَقِرُ إلى بَيانِ أمْرَيْنِ: إلى أنْ يَكُونَ خُسْرانًا، ثُمَّ كَوْنِهِ مُبِينًا. أمّا الأوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى أعْطى هَذِهِ الحَياةَ وأعْطى العَقْلَ، وأعْطى المُكْنَةَ، وكُلُّ ذَلِكَ رَأْسُ المالِ، أمّا هَذِهِ الحَياةُ فالمَقْصُودُ مِنها أنْ يَكْتَسِبَ فِيها الحَياةَ الطَّيِّبَةَ في الآخِرَةِ. * * * وأمّا العَقْلُ فَإنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ، وهَذِهِ العُلُومُ هي رَأْسُ المالِ، والنَّظَرُ والفِكْرُ لا مَعْنى لَهُ إلّا تَرْتِيبُ عُلُومٍ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ إلى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَسْبِيَّةٍ، فَتِلْكَ العُلُومُ البَدِيهِيَّةُ المُسَمّاةُ بِالعَقْلِ رَأْسُ المالِ وتَرْكِيبُها عَلى الوُجُوهِ المَخْصُوصَةِ يُشْبِهُ تَصَرُّفَ التّاجِرِ في رَأْسِ المالِ، وتَرْكِيبُها عَلى الوُجُوهِ بِالبَيْعِ والشِّراءِ، وحُصُولُ العِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ يُشْبِهُ حُصُولَ الرِّبْحِ، وأيْضًا حُصُولُ القُدْرَةِ عَلى الأعْمالِ يُشْبِهُ رَأْسَ المالِ، واسْتِعْمالُ تِلْكَ القُوَّةِ في تَحْصِيلِ أعْمالِ البِرِّ والخَيْرِ يُشْبِهُ تَصَرُّفَ التّاجِرِ في رَأْسِ المالِ، وحُصُولُ أعْمالِ الخَيْرِ والبِرِّ يُشْبِهُ الرِّبْحَ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ مَن أعْطاهُ اللَّهُ الحَياةَ والعَقْلَ والتَّمَكُّنَ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنها لا مَعْرِفَةَ الحَقِّ ولا عَمَلَ الخَيْرِ ألْبَتَّةَ كانَ مَحْرُومًا عَنِ الرِّبْحِ بِالكُلِّيَّةِ، وإذا ماتَ فَقَدْ ضاعَ رَأْسُ المالِ بِالكُلِّيَّةِ، فَكانَ ذَلِكَ خُسْرانًا، فَهَذا بَيانُ كَوْنِهِ خُسْرانًا. وأمّا الثّانِي: وهو بَيانُ كَوْنِ ذَلِكَ الخُسْرانِ مُبِينًا، فَهو أنَّ مَن لَمْ يَرْبَحِ الزِّيادَةَ، ولَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ سَلِمَ مِنَ الآفاتِ والمَضارِّ، فَهَذا كَما لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَزِيدُ نَفْعٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ أيْضًا مَزِيدُ ضَرَرٍ، أمّا هَؤُلاءِ الكُفّارُ فَقَدِ اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمُ الَّتِي هي رَأْسُ مالِهِمْ في اسْتِخْراجِ وُجُوهِ الشُّبُهاتِ، وتَقْوِيَةِ الجَهالاتِ والضَّلالاتِ، واسْتَعْمَلُوا قُواهم وقُدُرَهم في أفْعالِ الشَّرِّ والباطِلِ والفَسادِ، فَهم قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ أُمُورٍ في غايَةِ الرَّداءَةِ: أوَّلُها: أنَّهم أتْعَبُوا أبْدانَهم وعُقُولَهم طَلَبًا في تِلْكَ العَقائِدِ الباطِلَةِ، والأعْمالِ الفاسِدَةِ. (p-٢٢٤)وثانِيها: أنَّهم عِنْدَ المَوْتِ يَضِيعُ عَنْهم رَأْسُ المالِ مِن غَيْرِ فائِدَةٍ. وثالِثُها: أنَّ تِلْكَ المَتاعِبَ الشَّدِيدَةَ الَّتِي كانَتْ مَوْجُودَةً في الدُّنْيا في نُصْرَةِ تِلْكَ الضَّلالاتِ تَصِيرُ أسْبابًا لِلْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، والبَلاءِ العَظِيمِ بَعْدَ المَوْتِ. وعِنْدَ الوُقُوفِ عَلى هَذِهِ المَعانِي يَظْهَرُ أنَّهُ لا يُعْقَلُ خُسْرانٌ أقْوى مِن خُسْرانِهِمْ، ولا حِرْمانٌ أعْظَمُ مِن حِرْمانِهِمْ، ونَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ. ولَمّا شَرَحَ اللَّهُ تَعالى أحْوالَ حِرْمانِهِمْ عَنِ الرِّبْحِ وبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خُسْرانِهِمْ، بَيَّنَ أنَّهم لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى الحِرْمانِ والخُسْرانِ، بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اسْتِحْقاقَ العَذابِ العَظِيمِ والعِقابِ الشَّدِيدِ، فَقالَ: ﴿لَهم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ والمُرادُ إحاطَةُ النّارِ بِهِمْ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ، ونَظِيرُهُ في الأحْوالِ النَّفْسانِيَّةِ إحاطَةُ الجَهْلِ والحِرْمانِ والحِرْصِ وسائِرِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ بِالإنْسانِ، فَإنْ قِيلَ: الظُّلَلُ ما عَلى الإنْسانِ، فَكَيْفَ سُمِّيَ ما تَحْتَهُ بِالظُّلَلِ ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ مِن بابِ إطْلاقِ اسْمِ أحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلى الآخَرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] . الثّانِي: أنَّ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَهُ يَكُونُ ظُلَّةً لِإنْسانٍ آخَرَ تَحْتَهُ، لِأنَّ النّارَ دَرَكاتٌ كَما أنَّ الجَنَّةَ دَرَجاتٌ. والثّالِثُ: أنَّ الظُّلَّةَ التَّحْتانِيَّةَ إذا كانَتْ مُشابِهَةً لِلظُّلَّةِ الفَوْقانِيَّةِ في الحَرارَةِ والإحْراقِ والإيذاءِ أُطْلِقَ اسْمُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ لِأجْلِ المُماثَلَةِ والمُشابَهَةِ. قالَ الحَسَنُ: هم بَيْنَ طَبَقَتَيْنِ مِنَ النّارِ، لا يَدْرُونَ ما فَوْقَهم أكْثَرَ مِمّا تَحْتَهم، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥٥]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهم مِن جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ [الأعراف: ٤١] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾ أيْ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن وصْفِ العَذابِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ: ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾ خَبَرٌ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ العَذابُ المُعَدُّ لِلْكَفّارِ هو الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أيِ المُؤْمِنِينَ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ لَفْظَ العِبادِ في القُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِأهْلِ الإيمانِ، وإنَّما كانَ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأجْلِ أنَّهم إذا سَمِعُوا أنَّ حالَ الكُفّارِ ما تَقَدَّمَ خافُوا فَأخْلَصُوا في التَّوْحِيدِ والطّاعَةِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ هَذا الكَلامَ في تَقْدِيرِ جَوابٍ عَنْ سُؤالٍ، لِأنَّهُ يُقالُ: إنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّهْوَةِ والِانْتِقامِ وداعِيَةِ الإيذاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ يُعَذِّبَ هَؤُلاءِ المَساكِينَ إلى هَذا الحَدِّ العَظِيمِ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ تَخْوِيفُ الكُفّارِ والضُّلّالِ عَنِ الكُفْرِ والضَّلالِ، فَإذا كانَ التَّكْلِيفُ لا يَتِمُّ إلّا بِالتَّخْوِيفِ، والتَّخْوِيفُ لا يَكْمُلُ الِانْتِفاعُ بِهِ إلّا بِإدْخالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ في الوُجُودِ وجَبَ إدْخالُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ العَذابِ في الوُجُودِ؛ تَحْصِيلًا لِذَلِكَ المَطْلُوبِ الَّذِي هو التَّكْلِيفُ، والوَجْهُ الأوَّلُ عِنْدِي أقْرَبُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ياعِبادِ فاتَّقُونِ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿ياعِبادِ﴾ الأظْهَرُ مِنهُ أنَّ المُرادَ مِنهُ المُؤْمِنُونَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: المَقْصُودُ مِن شَرْحِ عَذابِ الكُفّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَخْوِيفُ المُؤْمِنِينَ، فَيا أيُّها المُؤْمِنُونَ بالِغُوا في الخَوْفِ والحَذَرِ والتَّقْوى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب