الباحث القرآني

﴿وأوْصى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لِما كانَ مِن شَأْنِ أهْلِ الحَقِّ والحِكْمَةِ أنْ يَكُونُوا حَرِيصِينَ عَلى صَلاحِ أنْفُسِهِمْ وصَلاحِ أُمَّتِهِمْ كانَ مِن مُكَمِّلاتِ ذَلِكَ أنْ يَحْرِصُوا عَلى دَوامِ الحَقِّ في النّاسِ مُتَّبَعًا مَشْهُورًا فَكانَ مِن سُنَنِهِمُ التَّوْصِيَةُ لِمَن يَظُنُّونَهم خَلَفًا عَنْهم في النّاسِ بِأنْ لا يَحِيدُوا عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ ولا يُفَرِّطُوا فِيما حَصَلَ لَهم مِنهُ، فَإنَّ حُصُولَهُ بِمُجاهَدَةِ نُفُوسٍ ومُرُورِ أزْمانٍ فَكانَ لِذَلِكَ أمْرًا نَفِيسًا يَجْدُرُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهِ. والإيصاءُ أمْرٌ أوْ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِصَلاحِ المُخاطَبِ خُصُوصًا أوْ عُمُومًا، وفي فَوْتِهِ ضُرٌّ، فالوَصِيَّةُ أبْلَغُ مِن مُطْلَقِ أمْرٍ ونَهْيٍ فَلا تُطْلَقُ إلّا في حَيْثُ يَخافُ الفَواتَ إمّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي ولِذَلِكَ كَثُرَ الإيصاءُ عِنْدَ تَوَقُّعِ المَوْتِ كَما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣] وفي حَدِيثِ العِرْباضِ «وعَظَنا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وجِلَتْ مِنها القُلُوبُ وذَرَفَتْ مِنها العُيُونُ فَقُلْنا يا رَسُولَ اللَّهِ كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِعٍ فَأوْصِنا» الحَدِيثَ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى المُوصى كالوَصِيَّةِ عِنْدَ السَّفَرِ في «حَدِيثِ مُعاذٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْيَمَنِ كانَ آخِرَ ما أوْصانِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ وضَعَتْ رِجْلِي في الغَرْزِ أنْ قالَ حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنّاسِ»، «وجاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَقالَ لَهُ أوْصِنِي قالَ ”لا تَغْضَبْ“» (p-٧٢٨)فَوَصِيَّةُ إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ إمّا عِنْدَ المَوْتِ كَما تُشْعِرُ بِهِ الآيَةُ الآتِيَةُ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ وإمّا في مَظانِّ خَشْيَةُ الفَواتِ. والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ عائِدٌ عَلى المِلَّةِ أوْ عَلى الكَلِمَةِ أيْ قَوْلُهُ ﴿أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١] فَإنْ كانَ بِالمِلَّةِ فالمَعْنى أنَّهُ أوْصى أنْ يُلازِمُوا ما كانُوا عَلَيْهِ مَعَهُ في حَياتِهِ، وإنْ كانَ الثّانِي فالمَعْنى أنَّهُ أوْصى بِهَذا الكَلامِ الَّذِي هو شِعارٌ جامِعٌ لِمَعانِي ما في المِلَّةِ. وبَنُو إبْراهِيمَ ثَمانِيَةٌ: إسْماعِيلُ وهو أكْبَرُ بَنِيهِ وأُمُّهُ هاجَرُ، وإسْحاقُ وأمُّهُ سارَّةُ وهو ثانِي بَنِيهِ، ومَدْيانُ، ومَدانُ، وزَمْرانُ، ويِقْشانُ، وبِشْباقُ، وشُوحُ، وهَؤُلاءِ أُمُّهم قَطُورَةُ الَّتِي تَزَوَّجَها إبْراهِيمُ بَعْدَ مَوْتِ سارَّةَ، ولَيْسَ لِغَيْرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ خَبَرٌ مُفَصَّلٌ في التَّوْراةِ سِوى أنَّ ظاهِرَ التَّوْراةِ أنَّ مَدْيانَ هو جَدُّ أُمَّةِ مَدْيَنَ أصْحابِ الأيْكَةِ وأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا خَرَجَ خائِفًا مِن مِصْرَ نَزَلَ أرْضَ مَدْيانَ وأنْ يَثْرُونَ أوْ رَعُوئِيلَ هو شُعَيْبٌ كانَ كاهِنَ أهْلِ مَدْيَنَ. وأمّا يَعْقُوبُ فَهو ابْنُ إسْحاقَ مِن زَوْجِهِ رُفْقَةَ الأرامِيَّةِ تَزَوَّجَها سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثِينَ وثَمانِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ في حَياةِ جَدِّهِ إبْراهِيمَ فَكانَ في زَمَنِ إبْراهِيمَ رَجُلًا ولُقِّبَ بِإسْرائِيلَ وهو جَدُّ جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ وماتَ يَعْقُوبُ بِأرْضِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وثَمانِينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ ودُفِنَ بِمَغارَةِ المَكْفُلِيَّةِ بِأرْضِ كَنْعانَ بَلَدِ الخَلِيلِ حَيْثُ دُفِنَ جَدُّهُ وأبُوهُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. وعَطْفُ يَعْقُوبَ عَلى إبْراهِيمَ هُنا إدْماجٌ مَقْصُودٌ بِهِ تَذْكِيرُ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِي هو يَعْقُوبُ بِوَصِيَّةِ جَدِّهِمْ فَكَما عَرَّضَ بِالمُشْرِكِينَ في إعْراضِهِمْ عَنْ دِينٍ أوْصى بِهِ أبُوهم عَرَّضَ بِاليَهُودِ كَذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا انْتَسَبُوا إلى إسْرائِيلَ وهو يَعْقُوبُ الَّذِي هو جامِعُ نَسَبِهِمْ بَعْدَ إبْراهِيمَ لِتُقامَ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ اتِّباعِهِمُ الإسْلامَ. وقَوْلُهُ ”يا بُنَيَّ“ إلَخْ حِكايَةُ صِيغَةِ وصِيَّةِ إبْراهِيمَ وسَيَجِيءُ ذِكْرُ وصِيَّةِ يَعْقُوبَ. ولَمّا كانَ فِعْلُ أوْصى مُتَضَمِّنًا لِلْقَوْلِ صَحَّ مَجِيءُ جُمْلَةٍ بَعْدَهُ مِن شَأْنِها أنْ تَصْلُحَ لِحِكايَةِ الوَصِيَّةِ لِتُفَسِّرَ جُمْلَةَ أوْصى، وإنَّما لَمْ يُؤْتَ بِأنِ التَّفْسِيرِيَّةَ الَّتِي كَثُرَ مَجِيئُها بَعْدَ جُمْلَةٍ فِيها مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، لِأنَّ أنِ التَّفْسِيرِيَّةَ تَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ما بَعْدَها مَحْكِيًّا بِلَفْظِهِ أوْ بِمَعْناهُ والأكْثَرُ أنْ يُحْكى بِالمَعْنى، فَلَمّا أُرِيدَ هُنا التَّنْصِيصُ عَلى أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ حِكايَةٌ لِقَوْلِ إبْراهِيمَ بِنَصِّهِ ما عَدا مُخالَفَةَ المُفْرَداتِ العَرَبِيَّةِ عُومِلَتْ مُعامَلَةَ فِعْلِ القَوْلِ نَفْسِهِ فَإنَّهُ لا تَجِيءُ بَعْدَهُ أنِ التَّفْسِيرِيَّةَ بِحالٍ، ولِهَذا (p-٧٢٩)يَقُولُ البَصْرِيُّونَ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّهُ مُقَدَّرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ القائِلِينَ بِأنَّ وصّى ونَحْوَهُ ناصِبٌ لِلْجُمْلَةِ المَقُولَةِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ الخِلافُ بَيْنَهم لَفْظِيًّا. و”﴿اصْطَفى لَكُمُ﴾“ اخْتارَ لَكُمُ الدِّينَ أيِ الدِّينُ الكامِلُ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ اخْتارَهُ لَهم مِن بَيْنِ الأدْيانِ وأنَّهُ فَضَّلَهم بِهِ لِأنَّ ”اصْطَفى لَكَ“ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ادَّخَرَهُ لِأجْلِهِ، وأرادَ بِهِ دِينُ الحَنِيفِيَّةِ المُسَمّى بِالإسْلامِ فَلِذَلِكَ قالَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ ومَعْنى فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ النَّهْيُ عَنْ مُفارَقَةِ الإسْلامِ أعَنى مِلَّةَ إبْراهِيمَ في جَمِيعِ أوْقاتِ حَياتِهِمْ، وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ مُلازَمَتِهِ مُدَّةَ الحَياةِ لِأنَّ الحَيَّ لا يَدْرِي مَتى يَأْتِيهِ المَوْتُ فَنَهْيُ أحَدٍ عَنْ أنْ يَمُوتَ غَيْرَ مُسْلِمِ أمْرٌ بِالِاتِّصافِ بِالإسْلامِ في جَمِيعِ أوْقاتِ الحَياةِ فالمُرادُ مِن مِثْلِ هَذا النَّهْيِ شِدَّةُ الحِرْصِ عَلى تَرْكِ المَنهِيِّ. ولِلْعَرَبِ في النَّهْيِ المُرادِ مِنهُ النَّهْيُ عَنْ لازِمِهِ طُرُقٌ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: أنْ يَجْعَلُوا المَنهِيَّ عَنْهُ مِمّا لا قُدْرَةَ لِلْمُخاطَبِ عَلى اجْتِنابِهِ فَيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ نَفْيُ لازِمِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ لا تَنْسَ كَذا أيْ لا تَرْتَكِبُ أسْبابَ النِّسْيانِ، ومِثْلَ قَوْلِهِمْ لا أعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذا أيْ لا تَفْعَلُ فَأعْرِفُكَ لِأنَّ مَعْرِفَةَ المُتَكَلِّمِ لا يُنْهِي عَنْها المُخاطَبُ، وفي الحَدِيثِ «فَلا يُذادَنَّ أقْوامٌ عَنْ حَوْضِي»، الثّانِي: أنْ يَكُونَ المَنهِيَّ عَنْهُ مَقْدُورًا لِلْمُخاطِبِ ولا يُرِيدُ المُتَكَلِّمُ النَّهْيَ عَنْهُ ولَكِنْ عَمّا يَتَّصِلُ بِهِ أوْ يُقارِنُهُ فَيَجْعَلُ النَّهْيَ في اللَّفْظِ عَنْ شَيْءٍ ويُقَيِّدُهُ بِمُقارِنِهِ لِلْعِلْمِ بِأنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ مُضْطَرٌّ لِإيقاعِهِ فَإذا أوْقَعَهُ اضْطُرَّ لِإيقاعِ مُقارِنِهِ نَحْوَ قَوْلِكَ لا أراكَ بِثِيابٍ مُشَوَّهَةٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المَنهِيُّ عَنْهُ مُمْكِنَ الحُصُولِ ويَجْعَلُهُ مُفِيدًا مَعَ احْتِمالِ المَقامِ لِأنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الأمْرَيْنِ إذا اجْتَمَعا ولَوْ لَمْ يَفْعَلْ أحَدَهُما نَحْوَ لا تَجِئْنِي سائِلًا وأنْتَ تُرِيدُ أنْ لا يَسْألَكَ فَإمّا أنْ يَجِيءَ ولا يَسْألَ وإمّا أنْ لا يَجِيءَ بِالمَرَّةِ، وفي الثّانِيَةِ إثْباتُ أنَّ بَنِي إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ كانُوا عَلى مِلَّةِ الإسْلامِ وأنَّ الإسْلامَ جاءَ بِما كانَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ وبَنُوهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ سُلْطانٌ عَلَيْهِمْ، وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ ما طَرَأ عَلى بَنِيهِ بَعْدَ ذاكَ مِنَ الشَّرائِعِ إنَّما اقْتَضَتْهُ أحْوالٌ عَرَضَتْ وهي دُونَ الكَمالِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ ولِهَذا قالَ تَعالى ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] وقالَ ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ هو سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب