الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٣٢ ] ﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
"ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ" شُرُوعٌ في بَيانِ تَكْمِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِغَيْرِهِ، إثْرَ بَيانِ كَمالِهِ في نَفْسِهِ. والتَّوْصِيَةُ التَّقَدُّمُ إلى الغَيْرِ في الشَّيْءِ النّافِعِ المَحْمُودِ عاقِبَتُهُ، والضَّمِيرُ في "بِها" إمّا عائِدٌ لِقَوْلِهِ "أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ" عَلى تَأْوِيلِ الكَلِمَةِ والجُمْلَةِ. ونَحْوَهُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً﴾ [الزخرف: ٢٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] (p-٢٦٤)﴿إلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٧] وقَوْلُهُ "كَلِمَةً" دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّأْنِيثَ عَلى تَأْوِيلِ الكَلِمَةِ. وإمّا عائِدٌ إلى المِلَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٠] وأُيِّدَ الأوَّلُ بِكَوْنِ المُوصى بِهِ مُطابِقًا في اللَّفْظِ لِأسْلَمْتُ، وقُرْبُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ. ورَجَّحَ القاضِي الثّانِيَ لِكَوْنِ المَرْجِعِ مَذْكُورًا صَرِيحًا، ورَدُّ الإضْمارِ إلى المُصَرَّحِ بِذِكْرِهِ، إذا أمْكَنَ، أوْلى مِن رَدِّهِ إلى المَدْلُولِ والمَفْهُومِ. ولِكَوْنِ المِلَّةِ أجْمَعَ مِن تِلْكَ الكَلِمَةِ. والكُلُّ حَسَنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى "بَنِيهِ" تُفِيدُ صِيغَةَ الجَمْعِ أنَّ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الوَلَدِ غَيْرَ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ. وقَرَأْتُ في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْراةِ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَزَوَّجَ، بَعْدَ وفاةِ سارَّةَ أُمِّ إسْحاقَ، امْرَأةً أُخْرى اسْمُها قَطُورَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ: زِمْرانَ ويَقْشانَ ومَدانَ ومِدْيانَ ويِشْباقَ وشُوحًا، فَعَلى هَذا تَكُونُ بَنُوهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَمانِيَةً "ويَعْقُوبُ" مَعْطُوفٌ عَلى إبْراهِيمَ، ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ووَصّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ. لِأنَّ يَعْقُوبَ أوْصى بَنِيهِ أيْضًا كَما أوْصى إبْراهِيمُ بَنِيهِ. ودَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣] كَما سَيَأْتِي. وقُرِئَ "ويَعْقُوبَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى بَنِيهِ، ومَعْناهُ: ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ، ونافِلَتَهُ يَعْقُوبَ. وقَدْ وُلِدَ يَعْقُوبُ في حَياةِ جَدِّهِ إبْراهِيمَ، وأدْرَكَ مِن حَياتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، كَما يُسْتَفادُ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْراةِ، فَإنَّ فِيها أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وُلِدَ لَهُ إسْحاقُ (p-٢٦٥)وهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وماتَ وهو ابْنُ مِائَةٍ وخَمْسٍ وسَبْعِينَ سَنَةً، وكانَ لِإسْحاقَ، حِينَ وُلِدَ لَهُ يَعْقُوبُ وعِيسُو، سِتُّونَ سَنَةً، فاسْتُفِيدَ مِن ذَلِكَ ما ذَكَرْناهُ. ولِوُجُودِ يَعْقُوبَ في حَياةِ جَدِّهِ يُفْهَمُ سِرُّ ذِكْرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ [الأنعام: ٨٤] وفي آيَةٍ أُخْرى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢] "يا بَنِيَّ" أيْ قالَ كُلٌّ مِن إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ، عَلى القِراءَةِ الأُولى. وعَلى الثّانِيَةِ: قالَ إبْراهِيمُ: ﴿يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أعْطاكُمُ الدِّينَ الَّذِي هو صَفْوَةُ الأدْيانِ، وهو دِينُ الإسْلامِ، الَّذِي لا دِينَ غَيْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى "فَلا" أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ أنِّي أقُولُ لَكم: لا "تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ" وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ إيجازٌ بَلِيغٌ. والمُرادُ: الزَمُوا الإسْلامَ، ولا تُفارِقُوهُ حَتّى تَمُوتُوا. وهَذا الِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ، أيْ لا تَمُوتُوا عَلى حالَةٍ إلّا عَلى حالِ كَوْنِكم ثابِتِينَ عَلى الإسْلامِ. فالنَّهْيُ في الحَقِيقَةِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَلى خِلافِ حالِ الإسْلامِ إذا ماتُوا، لِأنَّهُ هو المَقْدُورُ. فَلا يُقالُ: صِيغَةُ النَّهْيِ مَوْضُوعَةٌ لِطَلَبِ الكَفِّ عَمّا هو مَدْلُولُها، فَيَكُونُ المَفْهُومُ مِنهُ النَّهْيَ عَنِ المَوْتِ عَلى خِلافِ حالِ الإسْلامِ، وذا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، لِأنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ. وإنَّما المَقْدُورُ فِيهِ هو الكَوْنُ عَلى خِلافِ حالِ الإسْلامِ، فَيَعُودُ النَّهْيُ إلَيْهِ، ويَكُونُ المَقْصُودُ النَّهْيَ عَنْ الِاتِّصافِ بِخِلافِ (p-٢٦٦)حالِ الإسْلامِ وقْتَ المَوْتِ، لِما أنَّ الِامْتِناعَ عَنْ الِاتِّصافِ بِتِلْكَ الحالِ يَتْبَعُ الِامْتِناعَ عَنِ المَوْتِ في تِلْكَ الحالِ. فَإمّا أنْ يُقالَ: اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ المَوْضُوعُ لِلْأوَّلِ في الثّانِي، فَيَكُونُ مَجازًا. أوْ يُقالُ: اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ في مَعْناهُ لِيَنْتَقِلَ مِنهُ إلى مَلْزُومِهِ، فَيَكُونُ كِنايَةً.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُكَ: لا تُصَلِّ إلّا وأنْتَ خاشِعٌ، فَلا تَنْهاهُ عَنِ الصَّلاةِ، ولَكِنْ عَنْ تَرْكِ الخُشُوعِ في حالِ صَلاتِهِ، والنُّكْتَةُ في إدْخالِ حَرْفِ النَّهْيِ عَمّا لَيْسَ بِمَنهِيٍّ عَنْهُ، هو إظْهارُ أنَّ مَوْتَهم لا عَلى حالِ الثَّباتِ عَلى الإسْلامِ، مَوْتٌ لا خَيْرَ فِيهِ، وأنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتِ السُّعَداءِ، وأنَّ مِن حَقِّ هَذا المَوْتِ أنْ لا يَحِلَّ فِيهِمْ. كَما تَقُولُ في الأمْرِ: مُتْ وأنْتَ شَهِيدٌ، فَلَيْسَ مُرادُكَ الأمْرَ بِالمَوْتِ، ولَكِنْ بِالكَوْنِ عَلى صِفَةِ الشُّهَداءِ إذا ماتَ. وإنَّما أمَرْتَهُ بِالمَوْتِ اعْتِدادًا مِنكَ بِمِيتَتِهِ، وإظْهارًا لِفَضْلِها عَلى غَيْرِها، وإنَّها حَقِيقَةٌ بِأنْ يُحَثَّ عَلَيْها. هَذا. وقَدْ قَرَّرَ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الآياتِ بُطْلانَ ما عَلَيْهِ المُتَعَنِّتُونَ مِنَ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وبَرَّأ خَلِيلَهُ والأنْبِياءَ مِن ذَلِكَ. ولَمّا حَكى عَنْإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ بالَغَ في وصِيَّةِ بَنِيهِ بِالدِّينِ والإسْلامِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أنَّ يَعْقُوبَ وصّى بَنِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى ومُبالَغَةً في البَيانِ بِقَوْلِهِ:
{"ayah":"وَوَصَّىٰ بِهَاۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ بَنِیهِ وَیَعۡقُوبُ یَـٰبَنِیَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّینَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











