الباحث القرآني

(p-389)﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ﴾ مَدْحٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَكْمِيلِهِ غَيْرَهُ إثْرَ مَدْحِهِ بِكَمالِهِ في نَفْسِهِ، وفِيهِ تَوْكِيدٌ لِوُجُودِ الرَّغْبَةِ في مِلَّتِهِ، والتَّوْصِيَةُ التَّقَدُّمُ إلى الغَيْرِ بِفِعْلٍ فِيهِ صَلاحٌ وقُرْبَةٌ، سَواءٌ كانَ حالَةُ الِاحْتِضارِ أوَّلًا، وسَواءٌ كانَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ بِالقَوْلِ، أوِ الدِّلالَةِ، وإنْ كانَ الشّائِعُ في العُرْفِ اسْتِعْمالُها في القَوْلِ المَخْصُوصِ حالَةَ الِاحْتِضارِ، وأصْلُها الوَصْلُ مِن قَوْلِهِمْ: أرْضٌ واصِيَةٌ، أيْ مُتَّصِلَةُ النَّباتِ، ويُقالُ: وصّاهُ إذا وصَلَهُ، وفَصّاهُ إذا فَصَلَهُ، كَأنَّ المُوصِيَ يَصِلُ فَعْلُهُ بِفِعْلِ الوَصِيِّ، والضَّمِيرُ في (بِها) إمّا لِلْمِلَّةِ، أوْ لِقَوْلِهِ: أسْلَمْتُ عَلى تَأْوِيلِ الكَلِمَةِ، أوِ الجُمْلَةِ، ويُرَجِّحُ الأوَّلَ كَوْنُ المَرْجِعِ مَذْكُورًا صَرِيحًا، وكَذا تَرْكُ المُضْمَرِ إلى المُظْهَرِ، وعَطْفُ (يَعْقُوبَ) عَلَيْهِ فَإنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ شُرُوعٌ في كَلامٍ آخَرَ لِبَيانِ تَواصِي الأنْبِياءِ بِاسْتِمْساكِ الدِّينِ الحَقِّ الجامِعِ لِجَمِيعِ أحْكامِ الأُصُولِ والفُرُوعِ، لِيَتَوارَثُوا المِلَّةَ القَوِيمَةَ، والشَّرْعَ المُسْتَقِيمَ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، وذَكَرَ يَعْقُوبُ الدِّينَ في تَوْصِيَتِهِ لِبَنِيهِ، وهو والمِلَّةُ أخَوانِ، ولَوْ كانَ الضَّمِيرُ لِلثّانِي لَكانَ الإسْلامُ بَدَلَهُ، ويُؤَيِّدُ الثّانِيَ كَوْنُ المُوصى بِهِ مُطابِقًا في اللَّفْظِ لِأسْلَمْتُ، وقُرِّبَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى قالَ أسْلَمْتُ، أيْ ما اكْتَفى بِالِامْتِثالِ بَلْ ضَمَّ تَوْصِيَةَ بَنِيهِ بِالسَّلامِ بِخِلافِ التَّقْدِيرِ الأوَّلِ، فَإنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى (مَن يَرْغَبُ)، لِأنَّهُ كَما أشَرْنا إلَيْهِ في مَعْنى النَّفْيِ، وخَصَّ البَنِينَ لِأنَّهُ عَلَيْهِمْ أشْفَقَ، وهم بِقَبُولِ وصِيَّتِهِ أجْدَرُ، ولِأنَّ النَّفْعَ بِهِمْ أكْثَرُ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ (أوْصى)، ولا دِلالَةَ فِيها عَلى التَّكْثِيرِ كالأُولى الدّالَّةِ عَلَيْهِ لِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ. ﴿ويَعْقُوبُ﴾ عُطِفَ عَلى إبْراهِيمَ، ورَفْعُهُ عَلى الِابْتِداءِ، وحُذِفَ الخَبَرُ، أيْ يَعْقُوبُ كَذَلِكَ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ، وجَعْلُهُ فاعِلًا لِوَصّى مُضْمَرًا بَعِيدٌ، وقُرِئَ بِالنَّصْبِ، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلى بَنِيهِ، والمُرادُ بِهِمْ أبْناءُ الصُّلْبِ، وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ نافِلَةً، وإنَّما سُمِّيَ يَعْقُوبَ لِأنَّهُ وعِيصًا كانا تَوْأمَيْنِ فَتَقَدَّمَ عِيصٌ وخَرَجَ يَعْقُوبُ عَلى أثَرِهِ آخِذًا بِعَقِبِهِ، كَذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولا أظُنُّ صِحَّتَهُ، ﴿يا بَنِيَّ﴾ عَلى إضْمارِ القَوْلِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ويُقَدَّرُ بِصِيغَةِ الإفْرادِ عَلى تَقْدِيرِ نَصْبِ يَعْقُوبَ، أيْ قالَ أوْ قائِلًا، وبِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ عَلى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ، ووُقُوعُ الجُمْلَةِ بَعْدَ القَوْلِ مَشْرُوطٌ بِأنْ يَكُونَ المَقْصُودُ مُجَرَّدَ الحِكايَةِ، والكَلامُ المَحْكِيُّ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ، وإنْ كانَ المُخاطَبُونَ في الحالَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ، وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى عَدَمِ الإضْمارِ، لِأنَّ التَّوْصِيَةَ لِاشْتِمالِها عَلى مَعْنى القَوْلِ بَلْ هي القَوْلُ المَخْصُوصُ كانَ حُكْمُها حُكْمَهُ، فَيَجُوزُ وُقُوعُ الجُمْلَةِ في حَيِّزِ مَفْعُولِها، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: (أنْ يا بَنِيَّ)، ولا حاجَةَ حِينَئِذٍ إلى تَقْدِيرِ القَوْلِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، بَلْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهم عَلى ما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ بَعْضِ المُحَقِّقِينَ، وبَنُو إبْراهِيمَ عَلى ما في الإتْقانِ اثْنا عَشَرَ وهُمْ: إسْماعِيلُ، وإسْحاقُ، ومَدْيَنُ، وزَمْزانُ، وسَرْحٌ، ونَقْشٌ، ونَقْشانُ، وأُمَيْمٌ، وكَيْسانُ، وسَوْرَجُ، ولَوْطانُ، ونافِسُ، وبَنُو يَعْقُوبَ أيْضًا كَذَلِكَ، وهم يُوسُفُ، ورُوبِيلُ، وشَمْعُونُ، ولاوِي، ويَهُوذا، ودانِي، وتَفْتانِي، وكادُ، وأسْبَرُ، وإيساجِرُ، ورايْكُونُ، وبِنْيامِينُ. ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أيْ جَعَلَ لَكُمُ الدِّينَ الَّذِي هو صَفْوَةُ الأدْيانِ بِأنْ شَرَعَهُ لَكُمْ، ووَفَّقَكم لِلْأخْذِ بِهِ، والمُرادُ بِهِ دِينُ الإسْلامِ الَّذِي بِهِ الإخْلاصُ لِلَّهِ تَعالى، والِانْقِيادُ لَهُ، ولَيْسَ المُرادُ ما يَتَراءى مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَهُ صَفْوَةَ الأدْيانِ لَكُمْ، لِأنَّ هَذا الدِّينَ صَفْوَةٌ في نَفْسِهِ، لا اخْتِصاصَ لَهُ بِأحَدٍ، ولَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُهُ، ومِن هُنا يُعْلَمُ أنَّ الإسْلامَ يُطْلَقُ عَلى غَيْرِ دِينِنا، لَكِنَّ العُرْفَ خَصَّصَهُ بِهِ، وزَعَمَ بَعْضُهم عَدَمَ الإطْلاقِ، وألَّفَ في ذَلِكَ رِسالَةً تَكَلَّفَ بِها غايَةَ التَّكَلُّفِ: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ نَهْيٌ عَنِ الِاتِّصافِ بِخِلافِ حالِ الإسْلامِ وقْتَ المَوْتِ، والمَفْهُومُ (p-390)مِنَ الآيَةِ، فَظاهِرًا النَّهْيُ عَنِ المَوْتِ عَلى خِلافِ تِلْكَ الحالِ، ولَيْسَ بِمَقْصُودٍ، لِأنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وإنَّما المَقْدُورُ قَيْدُهُ، فَيَعُودُ النَّهْيُ إلَيْهِ، كَما سَمِعْتَ، لِما أنَّ الِامْتِناعَ عَنِ الِاتِّصافِ بِتِلْكَ الحالِ يَسْتَتْبِعُ الِامْتِناعَ عَنِ المَوْتِ في تِلْكَ الحالِ، فَأمّا أنْ يُقالَ: اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ المَوْضُوعُ لِلْأوَّلِ في الثّانِي فَيَكُونُ مَجازًا، أوْ يُقالُ: اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ في مَعْناهُ لِيَنْتَقِلَ مِنهُ إلى مَلْزُومِهِ، فَيَكُونُ كِنايَةً، وقالَ الفاضِلُ اليَمَنِيُّ: إنَّ هَذا كِنايَةٌ بِنَفْيِ الذّاتِ عَنْ نَفْيِ الحالِ، عَلى عَكْسِ ما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ مِن أنَّهُ كِنايَةٌ بِنَفْيِ الحالِ عَنْ نَفْيِ الذّاتِ، وفِيهِ أنَّ نَفْيَ الذّاتِ إنَّما يَصِيرُ كِنايَةً عَنْ نَفْيِ جَمِيعِ الصِّفاتِ، لا عَنْ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فافْهَمْ، والمُرادُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ ذَلِكَ النَّهْيُ الثَّباتُ عَلى الإسْلامِ، لِأنَّهُ اللّازِمُ لَهُ، والمَقْصُودُ مِنَ التَّوْصِيَةِ، ولِأنَّ أصْلَ الإسْلامِ كانَ حاصِلًا لَهُمْ، وإنَّما أُدْخِلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلى الفِعْلِ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ مَنهِيًّا عَنْهُ لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّ مَوْتَهم لا عَلى الإسْلامِ مَوْتٌ لا خَيْرَ فِيهِ، وأنَّ حَقَّهُ أنْ لا يَحِلَّ بِهِمْ، وأنَّهُ يَجِبُ أنْ يَحْذَرُوهُ غايَةَ الحَذَرِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الإسْلامَ المَأْمُورَ بِهِ هُنا ما يَكُونُ بِالقَلْبِ دُونَ العَمَلِ بِالجَوارِحِ، لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَكادُ يُمْكِنُ عِنْدَ المَوْتِ، ولِهَذا ورَدَ في الحَدِيثِ: «(اللَّهُمَّ مَن أحْيَيْتَهُ مِنّا فَأحْيِهِ عَلى الإسْلامِ، ومَن تَوَفَّيْتَهُ مِنّا فَتَوَفَّهُ عَلى الإيمانِ)،» ولا يَخْفى ما فِيهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب