الباحث القرآني

﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِي إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ إلَهًا واحِدًا ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٤] ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥] ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هم في شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٣٧] ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾ [البقرة: ١٣٨] . الوَصِيَّةُ: العَهْدُ، وصّى بَنِيهِ: أيْ عَهِدَ إلَيْهِمْ وتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِما يُعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ. ووَصّى وأوْصى لُغَتانِ، إلّا أنَّهم قالُوا: إنَّ وصّى المُشَدَّدَ يَدُلُّ عَلى المُبالَغَةِ والتَّكْثِيرِ. يَعْقُوبُ: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، ويَعْقُوبُ عَرَبِيٌّ، وهو ذَكَرُ القَبْجِ، وهو مَصْرُوفٌ، ولَوْ سُمِّيَ بِهَذا لَكانَ مَصْرُوفًا. ومَن زَعَمَ أنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ إنَّما سُمِّيَ يَعْقُوبَ لِأنَّهُ هو وأخُوهُ العِيصَ تَوْأمانِ، فَخَرَجَ العِيصُ أوَّلًا ثُمَّ خَرَجَ هو يَعْقُبُهُ، أوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ عَقِبِهِ، فَقَوْلُهُ فاسِدٌ، إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ لَهُ اشْتِقاقٌ عَرَبِيٌّ، فَكانَ يَكُونُ مَصْرُوفًا. الحُضُورُ: الشُّهُودُ، تَقُولُ مِنهُ: حَضَرَ بِفَتْحِ العَيْنِ، وفي المُضارِعِ: يَحْضُرُ بِضَمِّهِما، ويُقالُ: حَضِرَ بِكَسْرِ العَيْنِ، وقِياسُ المُضارِعِ أنْ يُفْتَحَ فِيهِ فَيُقالُ: يَحْضُرُ، لَكِنَّ العَرَبَ اسْتَغْنَتْ فِيهِ بِمُضارِعِ فَعَلَ المَفْتُوحِ العَيْنِ فَقالَتْ: حَضَرَ يَحْضُرُ بِالضَّمِّ، وهي ألْفاظٌ شَذَّتْ فِيها العَرَبُ، فَجاءَ مُضارِعُ فَعِلَ المَكْسُورِ العَيْنِ عَلى يَفْعُلُ بِضَمِّها، قالُوا: نَعِمَ يَنْعُمُ، وفَضِلَ يَفْضُلُ، وحَضَرَ يَحْضُرُ، ومِتَّ تَمُوتُ، ودُمْتَ تَدُومُ، وكُلُّ هَذِهِ جاءَ فِيها فَعَلَ بِفَتْحِ العَيْنِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنى بِمُضارِعِهِ عَنْ مُضارِعِ فَعِلَ، كَما اسْتَغْنَتْ فِيهِ بِ يَفْعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ عَنْ يَفْعَلُ بِفَتْحِها. قالُوا: ضَلِلْتَ بِكَسْرِ العَيْنِ، تَضِلُّ بِالكَسْرِ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ ضَلَلْتَ بِفَتْحِ العَيْنِ. إسْحاقُ: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ لا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وإسْحاقُ: مَصْدَرُ أسْحَقَ، ولَوْ سُمِّيَتْ بِهِ لَكانَ مَصْرُوفًا، وقالُوا في الجَمْعِ: أساحِقَةُ وأساحِيقُ، وفي جَمْعِ يَعْقُوبَ: يَعاقِبَةُ ويَعاقِيبُ، وفي جَمْعِ إسْرائِيلَ: أسارِلَةٌ. وجَوَّزَ الكُوفِيُّونَ في إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ: بَراهِمَةَ وسَماعِلَةَ، والهاءُ بَدَلٌ مِنَ الياءِ كَما في زَنادِقَةَ زَنادِيقَ. وقالَ أبُو العَبّاسِ: هَذا الجَمْعُ خَطَأٌ؛ لِأنَّ الهَمْزَةَ لَيْسَتْ زائِدَةً، والجَمْعُ: أبارَهُ وأسامِعُ، ويَجُوزُ: أبارِيهُ وأسامِيعُ، والوَجْهُ أنْ يُجْمَعَ هَذِهِ جَمْعَ السَّلامَةِ فَيُقالُ: إبْراهِيمُونَ، وإسْماعِيلُونَ، وإسْحاقُونَ، ويَعْقُوبُونَ. وحَكى الكُوفِيُّونَ أيْضًا: بَراهِمَ، وسَماعِلَ، وأساحِقَ، ويَعاقِبَ، بِغَيْرِ ياءٍ ولا هاءٍ. وقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: بِراهِيمُ، وسَماعِيلُ. ورَدَّ أبُو العَبّاسِ عَلى مَن أسْقَطَ الهَمْزَةَ؛ لِأنَّ هَذا لَيْسَ مَوْضِعَ زِيادَتِها. وأجازَ ثَعْلَبٌ: بَراهٍ، كَما يُقالُ في التَّصْغِيرِ: بُرَيْهٌ. وقالَ أبُو جَعْفَرٍ: الصَّفارُ: أمّا إسْرائِيلُ، فَلا نَعْلَمُ أحَدًا يُجِيزُ حَذْفَ الهَمْزَةِ مِن أوَّلِهِ، وإنَّما يُقالُ: أسارِيلُ. وحَكى الكُوفِيُّونَ: أسارِلَةَ وأسارِلَ. انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ في شَيْءٍ مِن نَحْوِ جَمْعِ هَذِهِ الأشْياءِ، واسْتُوفِيَ النَّقْلُ هُنا. الحَنَفُ: لُغَةً المَيْلُ، وبِهِ سُمِّيَ الأحْنَفُ لِمَيْلٍ كانَ في إحْدى قَدَمَيْهِ عَنِ الأُخْرى، قالَ الشّاعِرُ:(p-٣٩٨) ؎واللَّهِ لَوْلا حَنَفٌ في رِجْلِهِ ما كانَ في صِبْيانِكم مِن مِثْلِهِ وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الحَنَفُ الِاسْتِقامَةُ، وسُمِّيَ الأحْنَفُ عَلى سَبِيلِ التَّفاؤُلِ، كَما سُمِّيَ اللَّدِيغُ سَلِيمًا. وقالَ القَفّالُ: الحَنَفُ لَقَبٌ لِمَن دانَ بِالإسْلامِ كَسائِرِ ألْقابِ الدِّياناتِ. وقالَ عُمَرُ: ؎حَمِدْتُ اللَّهَ حِينَ هَدى فُؤادِي ∗∗∗ إلى الإسْلامِ والدِّينِ الحَنِيفِ وقالَ الزَّجّاجُ: الحَنِيفُ: المائِلُ عَمّا عَلَيْهِ العامَّةُ إلى ما لَزِمَهُ، وأنْشَدَ: ؎ولَكُنّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا ∗∗∗ حَنِيفًا دِينُنا عَنْ كُلِّ دِينِ الأسْباطُ: جَمْعُ سِبْطٍ، وهم في بَنِي إسْرائِيلَ كالقَبائِلِ في بَنِي إسْماعِيلَ، وهم ولَدُ يَعْقُوبَ اثْنا عَشَرَ، لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم أُمَّةٌ مِنَ النّاسِ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ أسْمائِهِمْ. سُمُّوا بِذَلِكَ مِنَ السَّبَطِ: وهو التَّتابُعُ، فَهم جَماعَةٌ مُتَتابِعُونَ. ويُقالُ: سَبَطَ عَلَيْهِ العَطاءَ إذا تابَعَهُ. ويُقالُ: هو مَقْلُوبُ بَسَطَ، ومِنهُ السُّباطَةُ والسّاباطُ. ويُقالُ لِلْحَسَنِ والحُسَيْنِ: سِبْطا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ وانْبِساطِهِمْ وانْتِشارِهِمْ، ثُمَّ صارَ إطْلاقُ السِّبْطِ عَلى ابْنِ البِنْتِ، فَيُقالُ: سِبْطُ أبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ، وسِبْطُ حُسَيْنِ بْنِ مَندَهْ، وسِبْطُ السِّلَفِيِّ في أوْلادِ بَناتِهِمْ. وقِيلَ: أصْلُ الأسْباطِ مِنَ السِّبْطِ، وهو الشَّجَرُ المُلْتَفُّ، والسِّبْطُ: الجَماعَةُ الرّاجِعُونَ إلى أصْلٍ واحِدٍ. الشِّقاقُ: مَصْدَرُ شاقَّهُ، كَما تَقُولُ: ضارَبَ ضِرابًا، وخالَفَ خِلافًا، ومَعْناهُ: المُعاداةُ والمُخالَفَةُ، وأصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ، أيْ صارَ هَذا في شِقٍّ، وهَذا في شِقٍّ. والشِّقُّ: الجانِبُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا ما بَكى مِن خَلْفِها انْحَرَفَتْ لَهُ ∗∗∗ بِشِقٍّ وشِقٍّ عِنْدَنا لَمْ يُحَوَّلِ وقِيلَ: هو مِنَ المَشَقَّةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَحْرِصُ عَلى ما يَشُقُّ عَلى صاحِبِهِ. الكِفايَةُ: الإحْسابُ. كَفانِي كَذا: أيْ أحْسَبَنِي، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَوْ أنَّ ما أسْعى لِأدْنى مَعِيشَةٍ ∗∗∗ كَفانِي ولَمْ أطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المالِ أيْ أغْنانِي قَلِيلٌ مِنَ المالِ. الصِّبْغَةُ: فِعْلَةٌ مِن صَبَغَ، كالجِلْسَةِ مِن جَلَسَ، وأصْلُها الهَيْئَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْها الصَّبْغُ. والصَّبْغُ: المَصْبُوغُ بِهِ، والصَّبْغُ: المَصْدَرُ، وهو تَغْيِيرُ الشَّيْءِ بِلَوْنٍ مِنَ الألْوانِ، وفِعْلُهُ عَلى فَعَلَ بِفَتْحِ العَيْنِ، ومُضارِعُهُ المَشْهُورُ فِيهِ يَفْعُلُ بِضَمِّها، والقِياسُ الفَتْحُ إذْ لامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ. وذُكِرَ لِي عَنْ شَيْخِنا أبِي العَبّاسِ أحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَلِيٍّ الفِهْرِيِّ، عُرِفَ بِاللَّيْلِيِّ، وهو شارِحُ الفَصِيحِ، أنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ ضَمَّ الباءِ في المُضارِعِ والفَتْحَ والكَسْرَ. ﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يابَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ﴾: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: وأوْصى، وقَرَأ الباقُونَ: ووَصّى. قالَ ثَعْلَبٌ: أمْلى عَلَيَّ خَلَفُ بْنُ هِشامٍ البَزّارُ، قالَ: اخْتَلَفَ مُصْحَفُ أهْلِ المَدِينَةِ وأهْلُ العِراقِ في اثْنَيْ عَشَرَ حَرْفًا: كَتَبَ أهْلُ المَدِينَةِ: وأوْصى، وسارِعُوا، يَقُولُ، الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدِدْ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا، مَسْجِدًا، خَيْرًا مِنهُما، فَتَوَكَّلْ، وأنْ يَظْهَرَ، بِما كَسَبَتْ أيْدِيكم، ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ، فَإنَّ اللَّهَ الغَنِيُّ، ولا يَخافُ عُقْباها. (وكَتَبَ أهْلُ العِراقِ): ووَصّى، سارِعُوا، ويَقُولُ، مَن يَرْتَدُّ، والَّذِينَ اتَّخَذُوا، خَيْرًا مِنها، وتَوَكَّلْ، أنْ يَظْهَرَ، فِيما كَسَبَتْ أيْدِيكم، ما تَشْتَهِي، فَإنَّ اللَّهَ هو، فَلا يَخافُ. وبِها مُتَعَلِّقٌ بِأوْصى، والضَّمِيرُ عائِدُ عَلى المِلَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٠]، وبِهِ ابْتَدَأ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولَمْ يَذْكُرِ المَهْدَوِيُّ غَيْرَهُ، أوْ عَلى الكَلِمَةِ الَّتِي هي قَوْلُهُ: ﴿أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١]، ونَظِيرُهُ، وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ، حَيْثُ تَقَدَّمَ ﴿إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] . وبِهَذا القَوْلِ ابْتَدَأ ابْنُ عَطِيَّةَ وقالَ: هو أصْوَبُ؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ، ورَجَّحَ العَوْدَ عَلى المِلَّةِ بِأنَّهُ يَكُونُ المُفَسِّرُ مُصَرَّحًا بِهِ، وإذا عادَ عَلى الكَلِمَةِ كانَ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ، وعَوْدُهُ عَلى المُصَرَّحِ أوْلى مِن عَوْدِهِ عَلى المَفْهُومِ. وبِأنَّ عُودَهُ عَلى المِلَّةِ أجْمَعُ مِن عَوْدِهِ عَلى الكَلِمَةِ، إذِ الكَلِمَةُ بَعْضُ المِلَّةِ. ومَعْلُومٌ (p-٣٩٩)أنَّهُ لا يُوصِي إلّا بِما كانَ أجْمَعَ لِلْفَلاحِ والفَوْزِ في الآخِرَةِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكَلِمَةِ المُتَأخِّرَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ . وقِيلَ: عَلى كَلِمَةِ الإخْلاصِ وهي: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ، فَهي مُشارٌ إلَيْها مِن حَيْثُ المَعْنى، إذْ هي أعْظَمُ عُمُدِ الإسْلامِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الوَصِيَّةِ الدّالِّ عَلَيْها ووَصّى. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الطّاعَةِ. بَنِيهِ: بَنُو إبْراهِيمَ، إسْماعِيلَ وأُمُّهُ هاجَرُ القِبْطِيَّةُ، وإسْحاقُ وأُمُّهُ سارَّةُ، ومَدْيَنُ: ومَدْيانُ، ونَقْشانُ، وزَمْزانُ، ونَشَقُ، ونَقَشُ سُورَجُ، ذَكَرَهُمُ الشَّرِيفُ النَّسّابَةُ أبُو البَرَكاتِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَعْمَرٍ الحُسَيْنِيُّ الجَوّانِيُّ وغَيْرُهُ، وأُمُّ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ قَطُورا بِنْتُ يَقْطَنَ الكَنْعانِيَّةُ. هَؤُلاءِ الثَّمانِيَةُ ولَدُهُ لِصُلْبِهِ، والعَقِبُ الباقِي فِيهِمُ اثْنانِ إسْماعِيلُ وإسْحاقُ لا غَيْرَ. قَرَأ الجُمْهُورُ: ويَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ، وقَرَأ إسْماعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المَكِّيُّ، والضَّرِيرُ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ الأسْوارِيُّ: بِالنَّصْبِ. فَأمّا قِراءَةُ الرَّفْعِ فَتَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى إبْراهِيمَ، ويَكُونُ داخِلًا في حُكْمِ تَوْصِيَةِ بَنِيهِ، أيْ ووَصّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قالَ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى، والأوَّلُ أظْهَرُ. وأمّا قِراءَةُ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى بَنِيهِ، أيْ ووَصّى بِها نافِلَتَهُ يَعْقُوبَ، وهو ابْنُ ابْنِهِ إسْحاقَ. وبَنُو يَعْقُوبَ يَأْتِي ذِكْرُ أسْمائِهِمْ عِنْدَ الكَلامِ عَلى الأسْباطِ. يا بَنِيَّ: مَن قَرَأ ويَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ، كانَ يا بَنِيَّ مِن مَقُولاتِ إبْراهِيمَ، ومَن رَفَعَ عَلى العَطْفِ فَكَذَلِكَ، أوْ عَلى الِابْتِداءِ، فَمِن كَلامِ يَعْقُوبَ. وإذا جَعَلْناهُ مِن كَلامِ إبْراهِيمَ، فَعِنْدَ البَصْرِيِّينَ هو عَلى إضْمارِ القَوْلِ، وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ لا يَحْتاجُ إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الوَصِيَّةَ في مَعْنى القَوْلِ، فَكَأنَّهُ قالَ: قالَ إبْراهِيمُ لِبَنِيهِ يا بَنِيَّ، ونَحْوُهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: ؎رَجُلانِ مِن ضَبَّةَ أخْبَرانا ∗∗∗ أإنّا رَأيْنا رِجُلًا عُرْيانًا بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أوْ مَعْمُولًا لَأخْبَرانا عَلى المَذْهَبَيْنِ، وفي النِّداءِ لِمَن بِحَضْرَةِ المُنادِي. وكَوْنُ النِّداءِ بِلَفْظِ البَنِينَ مُضافَيْنِ إلَيْهِ تَلَطُّفٌ غَرِيبٌ وتَرْجِئَةٌ لِلْقَبُولِ وتَحْرِيكٌ وهَزٌّ، لِما يُلْقى إلَيْهِمْ مِن أمْرِ المُوافاةِ عَلى دِينِ الإسْلامِ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَتَلَطَّفَ في تَحْصِيلِهِ، ولِذَلِكَ صَدَّرَ كَلامَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ﴾، وما اصْطَفاهُ اللَّهُ لا يَعْدِلُ عَنْهُ العاقِلُ. وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ والضَّحّاكُ: أنْ يا بَنِيَّ، فَيَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ أنْ هُنا تَفْسِيرِيَّةً بِمَعْنى أيْ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ انْسِباكُ مَصْدَرٍ مِنها ومِمّا بَعْدَها. ومَن لَمْ يُثْبِتْ مَعْنى التَّفْسِيرِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَها هُنا زائِدَةً، وهُمُ الكُوفِيُّونَ. ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ﴾، أيِ اسْتَخْلَصَهُ لَكم وتَخَيَّرَهُ لَكم صَفْوَةَ الأدْيانِ. والألِفُ واللّامُ في الدِّينِ لِلْعَهْدِ، لِأنَّهم كانُوا قَدْ عَرَفُوهُ، وهو دِينُ الإسْلامِ. ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: هَذا اسْتِثْناءٌ مِنَ الأحْوالِ، أيْ إلّا عَلى هَذِهِ الحالَةِ، والمَعْنى: الثُّبُوتُ عَلى الإسْلامِ، والنَّهْيِ في الحَقِيقَةِ إنَّما هو عَنْ كَوْنِهِمْ عَلى خِلافِ الإسْلامِ. إلّا أنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ المَوْتِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ في الأمْرِ: مُتْ وأنْتَ شَهِيدٌ، لا يَكُونُ أمْرًا بِالمَوْتِ، بَلْ أمْرٌ بِالشَّهادَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: لِتَسْتَشْهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وذِكْرُ المَوْتِ عَلى سَبِيلِ التَّوْطِئَةِ لِلشَّهادَةِ. وقَدْ تَضَمَّنَ هَذا الكَلامُ إيجازًا بَلِيغًا ووَعْظًا وتَذْكِيرًا، وذَلِكَ أنَّ الإنْسانَ يَتَيَقَّنُ بِالمَوْتِ ولا يَدْرِي مَتى يُفاجِئُهُ. فَإذا أُمِرَ بِالتِباسٍ بِحالَةٍ لا يَأْتِيهِ المَوْتُ إلّا عَلَيْها، كانَ مُتَذَكِّرًا لِلْمَوْتِ دائِمًا، إذْ هو مَأْمُورٌ بِتِلْكَ الحالَةِ دائِمًا، . وهَذا عَلى الحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ تَعاطِي الأشْياءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْمُوافاةِ عَلى غَيْرِ الإسْلامِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهم: لا أرَيَنَّكَ هُنا، لا يَنْهى نَفْسَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ، ولَكِنَّ المَعْنى عَلى النَّهْيِ عَنْ حُضُورِهِ في هَذا المَكانِ، فَيَكُونُ يَراهُ، فَكَأنَّهُ قالَ: اذْهَبْ عَنْ هَذا المَكانِ. ألا تَرى أنَّ المُخاطَبَ لَيْسَ لَهُ أنْ يَحْجُبَ إدْراكَ الآمِرِ عَنْهُ إلّا بِالذَّهابِ عَنْ ذَلِكَ المَكانِ، فَأتى بِالمَقْصُودِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلى الغَضَبِ والكَراهَةِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَنْهى إلّا عَنْ شَيْءٍ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ. وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى (p-٤٠٠)لَطائِفَ، مِنها: الوَصِيَّةُ، ولا تَكُونُ إلّا عِنْدَ خَوْفِ المَوْتِ. فَفي ذَلِكَ ما كانَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ مِنَ الِاهْتِمامِ بِأمْرِ الدِّينِ، حَتّى وصّى بِهِ مَن كانَ مُلْتَبِسًا بِهِ، إذْ كانَ بَنُوهُ عَلى دِينِ الإسْلامِ. ومِنها اخْتِصاصُهُ بِبَنِيهِ، ولا يَخْتَصُّهم إلّا بِما فِيهِ سَلامَةُ عاقِبَتِهِمْ. ومِنها أنَّهُ عَمَّمَ بَنِيهِ، ولَمْ يَخُصَّ أحَدًا مِنهم، كَما جاءَ في حَدِيثِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، حِينَ نَحَلَهُ أبُوهُ شَيْئًا، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”أتُحِبُّ أنْ يَكُونُوا لَكَ في البِرِّ سَواءً ؟“ ورَدَّ نَحْلَهُ إيّاهُ وقالَ: لا أشْهَدُ عَلى جَوْرٍ. ومِنها إطْلاقُ الوَصِيَّةِ، ولَمْ يُقَيِّدْها بِزَمانٍ ولا مَكانٍ. ثُمَّ خَتَمَها بِأبْلَغِ الزَّجْرِ أنْ يَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. ثُمَّ التَّوْطِئَةُ لِهَذا النَّهْيِ والزَّجْرِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى هو الَّذِي اخْتارَ لَكم دِينَ الإسْلامِ، فَلا تَخْرُجُوا عَمّا اخْتارَهُ اللَّهُ لَكم. قالَ المُؤَرِّخُونَ: نَقَلَ إبْراهِيمُ ولَدَهُ إسْماعِيلَ إلى مَكَّةَ وهو رَضِيعٌ، وقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وقِيلَ: ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ووُلِدَ قَبْلَ إسْحاقَ بِأرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وماتَ ولَهُ مِائَةٌ وثَلاثُونَ سَنَةً. وكانَ لِإسْماعِيلَ لَمّا ماتَ أبُوهُ إبْراهِيمُ تِسْعٌ وثَمانُونَ سَنَةً. وعاشَ إسْحاقُ مِائَةً وثَمانِينَ سَنَةً، وماتَ بِالأرْضِ المُقَدَّسَةِ، ودُفِنَ عِنْدَ أبِيهِ إبْراهِيمَ. وكانَ بَيْنَ وفاةِ أبِيهِ إبْراهِيمَ ومَوْلِدِ مُحَمَّدٍ ﷺ نَحْوٌ مِن ألْفَيْ سَنَةٍ وسِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، واليَهُودُ تَنْقُصُ مِن ذَلِكَ نَحْوًا مِن أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب