الباحث القرآني

﴿ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٩٢] ﴿حَتّى إذا بَلَغَ بَيْنَ السُّدَّيْنِ وجَدَ مِن دُونِهِما قَوْمًا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ ﴿قالُوا يا ذا القَرْنَيْنِ إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهم سُدًّا﴾ ﴿قالَ ما مَكِّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾ ﴿آتَوْنِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتّى إذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتّى إذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتَوْنِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ ﴿فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ ﴿قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي فَإذا جاءَ وعَدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا وكانَ وعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ . السُّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وفَتْحِها: الجَبَلُ. ويُطْلَقُ أيْضًا عَلى الجِدارِ الفاصِلِ، لِأنَّهُ يُسَدُّ بِهِ الفَضاءُ، وقِيلَ: الضَّمُّ في الجَبَلِ والفَتْحُ في الحاجِزِ. (p-٣١)وقَرَأهُ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ. وخَلَفٌ، ويَعْقُوبُ بِضَمِّ السِّينِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِفَتْحِ السِّينِ عَلى لُغَةِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ. والمُرادُ بِالسَّدَّيْنِ هُنا الجَبَلانِ، وبِالسَّدِّ المُفْرَدِ الجِدارُ الفاصِلُ، والقَرِينَةُ هي الَّتِي عَيَّنَتِ المُرادَ مِن هَذا اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ. وتَعْرِيفُ الدِّينِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيْ بَيْنِ سَدَّيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أيِ اتَّبَعَ طَرِيقًا آخَرَ في غَزْوَةٍ حَتّى بَلَغَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ. ويَظْهَرُ أنَّ هَذا السَّبَبَ اتَّجَهَ بِهِ إلى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَتَيِ المَغْرِبِ والمَشْرِقِ فَيُحْتَمَلُ أنَّها الشَّمالُ أوِ الجَنُوبُ. وعَيَّنَهُ المُفَسِّرُونَ أنَّهُ لِلشَّمالِ، وبَنَوْا عَلى أنَّ ذا القَرْنَيْنِ هو إسْكَنْدَرُ المَقْدُونِيُّ، فَقالُوا: إنَّ جِهَةَ السَّدَّيْنِ بَيْنَ أرْمِينِيا وأذْرَبِيجانَ. ونَحْنُ نَبْنِي عَلى ما عَيَّنّاهُ في المُلَقَّبِ بِذِي القَرْنَيْنِ، فَنَقُولُ: إنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ هو الشَّمالُ الغَرْبِيُّ لِصَحْراءِ قُوبِي الفاصِلَةِ بَيْنَ الصِّينِ وبِلادِ المَغُولِ شَمالَ الصِّينِ وجَنُوبِ مَنغُولْيا. وقَدْ وُجِدَ السَّدُّ هُنالِكَ ولَمْ تَزَلْ آثارُهُ إلى اليَوْمِ شاهَدَها الجُغْرافِيُّونَ والسّائِحُونَ وصُوِّرَتْ صُوَرًا شَمْسِيَّةً في كُتُبِ الجُغْرافِيا وكُتُبِ التّارِيخِ العَصْرِيَّةِ. ومَعْنى ﴿لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ أنَّهم لا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِن قَوْلِ غَيْرِهِمْ فَلُغَتُهم مُخالِفَةٌ لِلُغاتِ الأُمَمِ المَعْرُوفَةِ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُها تَراجِمَةُ ذِي القَرْنَيْنِ لِأنَّ شَأْنَ المُلُوكِ أنْ يَتَّخِذُوا تَراجِمَةً لِيُتَرْجِمُوا لُغاتِ الأُمَمِ الَّذِينَ يَحْتاجُونَ إلى مُخاطَبَتِهِمْ، فَهَؤُلاءِ القَوْمُ كانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ غَرِيبَةٍ لِانْقِطاعِ أصْقاعِهِمْ عَنِ الأصْقاعِ المَعْرُوفَةِ فَلا يُوجَدُ مَن يَسْتَطِيعُ إفْهامَهم مُرادَ المَلِكِ ولا هم يَسْتَطِيعُونَ الإفْهامَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهم قَوْمٌ مُتَوَغِّلُونَ في البَداوَةِ والبَلاهَةِ فَلا يَفْهَمُونَ ما يَقْصِدُهُ مَن يُخاطِبُهم. (p-٣٢)وقَرَأ الجُمْهُورُ يَفْقَهُونَ بِفَتْحِ الياءِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ القافِ أيْ لا يَفْهَمُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِىُّ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ القافِ أيْ لا يَسْتَطِيعُونَ إفْهامَ غَيْرِهِمْ قَوْلَهم. والمَعْنَيانِ مُتَلازِمانِ. وهَذا كَما في حَدِيثِ الإيمانِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ ولا نَفْهَمُ ما يَقُولُ. وهَؤُلاءِ القَوْمُ مُجاوِرُونَ ياجُوجَ وماجُوجَ. وكانُوا أضْعَفَ مِنهم فَسَألُوا ذا القَرْنَيْنِ أنْ يَقِيَهم مِن فَسادِ ياجُوجَ وماجُوجَ. ولَمْ يَذْكُرِ المُفَسِّرُونَ تَعْيِينَ هَؤُلاءِ القَوْمِ ولا أسْماءَ قَبِيلَتِهِمْ سِوى أنَّهم قالُوا: هم في مُنْقَطَعِ بِلادِ التُّرْكِ نَحْوَ المَشْرِقِ وكانُوا قَوْمًا صالِحِينَ فَلا شَكَّ أنَّهم مِن قَبائِلِ بِلادِ الصِّينِ الَّتِي تُتاخِمُ بِلادَ المَغُولِ والتَّتَرِ. وجُمْلَةُ قالُوا اسْتِئْنافٌ لِلْمُحاوَرَةِ. وقَدْ بَيَّنّا في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّ جُمَلَ حِكايَةِ القَوْلِ في المُحاوَراتِ لا تَقْتَرِنُ بِحَرْفِ العَطْفِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] الآيَةَ. فَعَلى أوَّلِ الِاحْتِمالَيْنِ في مَعْنى ﴿لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ أنَّهم لا يُدْرِكُونَ ما يُطْلَبُ مِنهم مَن طاعَةٍ ونِظامٍ ومَعَ ذَلِكَ يُعْرِبُونَ عَمّا في نُفُوسِهِمْ مِنَ الأغْراضِ مِثْلَ إعْرابِ الأطْفالِ. وعَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي أنَّهم أمْكَنَهم أنْ يُفْهَمَ مُرادُهم بَعْدَ لَأْيٍ. وافْتِتاحُهُمُ الكَلامَ بِالنِّداءِ أنَّهم نادَوْهُ نِداءَ المُسْتَغِيثِينَ المُضْطَرِّينَ. ونِداؤُهم إيّاهُ بِلَقَبِ ذِي القَرْنَيْنِ عَلى أنَّهُ مَشْهُورٌ بِمَعْنى ذَلِكَ اللَّقَبِ بَيْنَ الأُمَمِ المُتاخِمَةِ لِبِلادِهِ. وياجُوجُ وماجُوجُ أُمَّةٌ كَثِيرَةُ العَدَدِ فَيُحْتَمَلُ أنَّ الواوَ الواقِعَةَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ عَطْفٍ فَتَكُونُ أُمَّةً ذاتَ شَعْبَيْنِ. وهُمُ المَغُولُ وبَعْضُ أصْنافِ التَّتارِ. وهَذا هو المُناسِبُ لِأصْلِ رَسْمِ الكَلِمَةِ ولا سِيَّما عَلى القَوْلِ بِأنَّهُما اسْمانِ عَرَبِيّانِ كَما سَيَأْتِي فَقَدْ كانَ الصِّنْفانِ مُتَجاوِرَيْنِ. (p-٣٣)ووَقَعَ لِعُلَماءِ التّارِيخِ وعُلَماءِ الأنْسابِ اخْتِلافُ إطْلاقِ اسْمَيِ المَغُولِ والتَّتارِ كُلٌّ عَلى ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ الآخَرُ لِعُسْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المُتَقارِبَيْنِ مِنهُما. وقَدْ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ المَغُولَ هم ماجُوجُ بِالمِيمِ اسْمُ جَدٍّ لَهم يُقالُ أيْضًا سِكْيَشُوسُ. وكانَ الِاسْمُ العامُّ الَّذِي يَجْمَعُ القَبِيلَتَيْنِ ماجُوجَ ثُمَّ انْقَسَمَتِ الأُمَّةُ فَسُمِّيَتْ فُرُوعُها بِأسْماءٍ خاصَّةٍ، فَمِنها ماجُوجُ وياجُوجُ وتَتَرُ ثُمَّ التُّرْكُمانُ ثُمَّ التُّرْكُ. ويُحْتَمَلُ أنَّ الواوَ المَذْكُورَةَ لَيْسَتْ عاطِفَةً ولَكِنَّها جاءَتْ في صُورَةِ العاطِفَةِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ كَلِمَةً واحِدَةً مُرَكَّبَةً تَرْكِيبًا مَزْجِيًّا. فَيَتَكَوَّنُ اسْمًا لِأُمَّةٍ وهُمُ المَغُولُ. والَّذِي يَجِبُ اعْتِمادُهُ أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ هُمُ المَغُولُ والتَّتَرُ. وقَدْ ذَكَرَ أبُو الفِداءِ أنَّ ماجُوجَ هُمُ المَغُولُ فَيَكُونُ ياجُوجُ هُمُ التَّتَرُ. وقَدْ كَثُرَتِ التَّتَرُ عَلى المَغُولِ فانْدَمَجَ المَغُولُ في التَّتَرِ وغَلَبَ اسْمُ التَّتَرِ عَلى القَبِيلَتَيْنِ. وأوْضَحُ شاهِدٍ عَلى ذَلِكَ ما ورَدَ في حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ «أنَّ النَّبِيءَ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْها فَزِعًا يَقُولُ: لا إلْهَ إلّا اللَّهُ ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ. فُتِحَ اليَوْمَ مِن رَدْمِ ياجُوجَ وماجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ. وحَلَّقَ بِأُصْبُعَيْهِ الإبْهامِ والَّتِي تَلِيها» . وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. ولا يُعْرَفُ بِالضَّبْطِ وقْتُ انْطِلاقِهِمْ مِن بِلادِهِمْ ولا سَبَبُ ذَلِكَ. ويُقَدَّرُ أنَّ انْطِلاقَهم كانَ أواخِرَ القَرْنِ السّادِسِ الهِجْرِيِّ. وتَشَتَّتُ مُلْكِ العَرَبِ بِأيْدِي المَغُولِ والتَّتَرِ مِن خُرُوجِ جَنْكِيزْ خانَ المَغُولِيِّ واسْتِيلائِهِ عَلى بُخارى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وسِتِّمائَةٍ مِنَ الهِجْرَةِ ووَصَلُوا دِيارَ بَكْرٍ سَنَةَ ٦٢٨ هِجْرِيَّةً ثُمَّ ما كانَ مِن تَخْرِيبِ هُولاكُو بَغْدادَ عاصِمَةَ مُلْكِ العَرَبِ سَنَةَ ٦٦٠ هِجْرِيَّةً. ونَظِيرُ إطْلاقِ اسْمَيْنِ عَلى حَيٍّ مُؤْتَلِفٍ مِن قَبِيلَتَيْنِ إطْلاقُ طَسْمٍ وجَدِيسٍ عَلى أُمَّةٍ مِنَ العَرَبِ البائِدَةِ. وإطْلاقُ السَّكاسِكِ والسَّكَرَنِ في القَبائِلِ (p-٣٤)اليَمَنِيَّةِ، وإطْلاقُ هِلالٍ وزِغْبَةَ عَلى أعْرابِ إفْرِيقِيَّةَ الوارِدِينَ مِن صَعِيدِ مِصْرَ. وإطْلاقُ أوْلادِ يَحْيى عَلى حَيٍّ بِتُونِسَ بِالجَنُوبِ الغَرْبِيِّ. ومُرادَةُ وفَرْجانُ عَلى حَيٍّ مِن وطَنِ نابُلَ بِتُونِسَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ياجُوجَ وماجُوجَ) كِلْتَيْهِما بِألِفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ بِدُونِ هَمْزٍ. وقَرَأهُ عاصِمٌ بِالهَمْزِ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في أنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ أوْ مُعَرَّبٌ. وغالِبُ ظَنِّي أنَّهُ اسْمٌ وضَعَهُ القُرْآنُ حاكى بِهِ مَعْناهُ في لُغَةِ تِلْكَ الأُمَّةِ المُناسِبِ لِحالِ مُجْتَمَعِهِمْ فاشْتُقَّ لَهُما مِن مادَّةِ الأجِّ. وهو الخَلْطُ. إذْ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ تِلْكَ الأُمَّةَ كانَتْ أخْلاطًا مِن أصْنافٍ. والِاسْتِفْهامُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في العَرْضِ. والخَرْجُ: المالُ الَّذِي يُدْفَعُ لِلْمَلِكِ. وهو بِفَتْحِ الخاءِ المُعْجَمَةِ وسُكُونِ الرّاءِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ. ويُقالُ فِيهِ الخَراجُ بِألِفٍ بَعْدَ الرّاءِ. وكَذَلِكَ قَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (سُدًّا) بِضَمِّ السِّينِ وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِفَتْحِ السِّينِ. وقَوْلُهُ ﴿ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ أيْ ما آتانِي اللَّهُ مِنَ المالِ والقُوَّةِ خَيْرٌ مِنَ الخَراجِ الَّذِي عَرَضْتُمُوهُ مِنَ السَّدِّ الَّذِي سَألْتُمُوهُ. أيْ ما مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي يَأْتِي بِخَيْرٍ مِمّا سَألْتُمْ، فَإنَّهُ لاحَ لَهُ أنَّهُ إنْ سَدَّ عَلَيْهِمُ المُرُورَ مِن بَيْنِ الصَّدَفَيْنِ تَحَيَّلُوا فَتَسَلَّقُوا الجِبالَ ودَخَلُوا بِلادَ الصِّينِ، فَأرادَ أنْ يَبْنِيَ سُورًا مُمْتَدًّا عَلى الجِبالِ في طُولِ حُدُودِ البِلادِ حَتّى يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلُّقُ تِلْكَ الجِبالِ. ولِذَلِكَ سَمّاهُ رَدْمًا. (p-٣٥)والرَّدْمُ: البِناءُ المُرَدَّمُ. شُبِّهَ بِالثَّوْبِ المُرَدَّمِ المُؤْتَلِفِ مِن رِقاعٍ فَوْقَ رِقاعٍ. أيْ سُدًّا مُضاعَفًا. ولَعَلَّهُ بَنى جِدارَيْنِ مُتَباعِدَيْنِ ورَدَمَ الفَراغَ الَّذِي بَيْنَهُما بِالتُّرابِ المَخْلُوطِ لِيَتَعَذَّرَ نَقْبُهُ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي عَمَلَةً كَثِيرِينَ قالَ لَهم ﴿فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أيْ بِقُوَّةِ الأبْدانِ. أرادَ تَسْخِيرَهم لِلْعَمَلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهم. وقَدْ بَنى ذُو القَرْنَيْنِ وهو تِسِينْ شِي هُوانِقْ تِي سُلْطانُ الصِّينِ هَذا الرَّدْمَ بِناءً عَجِيبًا في القَرْنِ الثّالِثِ قَبْلَ المَسِيحِ وكانَ يَعْمَلُ فِيهِ مَلايِينُ مِنَ الخَدَمَةِ. فَجَعَلَ طُولَهُ ثَلاثَةَ آلافٍ وثَلاثَمِائَةِ كِيلُو مِتْرٍ. وبَعْضُهم يَقُولُ. ألْفًا ومِائَتَيْ مِيلٍ. بِحَسَبِ اخْتِلافِ الِاصْطِلاحِ في تَقْدِيرِ المِيلِ. وجَعَلَ مَبْدَأهُ عِنْدَ البَحْرِ أيِ البَحْرِ الأصْفَرِ شَرْقِيَّ مَدِينَةِ بِيكِنْغَ عاصِمَةِ الصِّينِ في خَطِّ اتِّجاهِ مَدِينَةِ مُكَدْنَ الشَّهِيرَةِ. وذَلِكَ عِنْدَ عَرْضِ ٤٠ . ٤ شَمالًا. وطُولِ ١٢ . ٠٢ شَرْقًا. وهو يُلاقِي النَّهْرَ الأصْفَرَ حَيْثُ الطُّولُ ٥٠، ١١١ شَرْقًا. والعَرْضُ ٥٠، ٣٩ شَمالًا. وأيْضًا في ٣٧ عَرْضِ شَمالِيٍّ. ومِن هُنالِكَ يَنْعَطِفُ إلى جِهَةِ الشَّمالِ الغَرْبِيِّ ويَنْتَهِي بِقُرْبِ ٩٩ طُولًا شَرْقِيًّا و٤٠ عَرْضًا شَمالِيًّا. وهُوَ مَبْنِيٌّ بِالحِجارَةِ والآجُرِّ وبَعْضُهُ مِنَ الطِّينِ فَقَطْ. وسُمْكُهُ عِنْدَ أسْفَلِهِ نَحْوَ ٢٥ قَدَمًا وعِنْدَ أعْلاهُ نَحْوَ ١٥ قَدَمًا وارْتِفاعُهُ يَتَراوَحُ بَيْنَ ١٥ إلى ٢٠ قَدَمًا. وعَلَيْهِ أبْراجٌ مَبْنِيَّةٌ مِنَ القَرامِيدِ ارْتِفاعُ بَعْضِها نَحْوَ ٤٠ قَدَمًا. وهُوَ الآنَ بِحالَةِ خَرابٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِبارٌ مِن جِهَةِ الدِّفاعِ. ولَكِنَّهُ بَقِيَ عَلامَةً عَلى الحَدِّ الفاصِلِ بَيْنَ المُقاطَعاتِ الأرْضِيَّةِ فَهو فاصِلٌ بَيْنَ الصِّينِ ومَنغُولْيا. ويَخْتَرِقُ جِبالَ بابِلُونِي الَّتِي هي حُدُودٌ طَبِيعِيَّةٌ بَيْنَ الصِّينِ وبِلادِ مَنغُولْيا فَمُنْتَهى طَرَفِهِ إلى الشَّمالِ الغَرْبِيِّ لِصَحْراءِ قُوبِي. (p-٣٦)وقَرَأ الجُمْهُورُ مَكَّنِّي بِنُونٍ مُدْغَمَةٍ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالفَكِّ عَلى الأصْلِ. وقَوْلُهُ ﴿آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ﴾ هو أمْرٌ لَهم بِمُناوَلَةِ زُبَرِ الحَدِيدِ. فالإيتاءُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَةِ مَعْناهُ وهو المُناوَلَةُ ولَيْسَ تَكْلِيفًا لِلْقَوْمِ بِأنْ يَجْلِبُوا لَهُ الحَدِيدَ مِن مَعادِنِهِ لِأنَّ ذَلِكَ يُنافِي قَوْلَهُ (﴿ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾) أيْ أنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ تَكْلِيفِهِمْ إنْفاقًا عَلى جَعْلِ السَّدِّ. وكانَ هَذا لِقَصْدِ إقامَةِ أبْوابٍ مِن حَدِيدٍ في مَداخِلِ الرَّدْمِ لِمُرُورِ سُيُولِ الماءِ في شُعَبِ الجَبَلِ حَتّى لا يَنْهَدِمَ البِناءُ بِأنْ جَعْلَ الأبْوابَ الحَدِيدِيَّةَ كالشَّبابِيكِ تَمْنُعُ مُرُورَ النّاسِ ولا تَمْنُعُ انْسِيابَ الماءِ مِن بَيْنِ قُضُبِها، وجَعَلَ قُضْبانَ الحَدِيدِ مَعْضُودَةً بِالنُّحاسِ المُذابِ المَصْبُوبِ عَلى الحَدِيدِ. والزُّبُرُ: جَمْعُ زُبْرَةٍ، وهي القِطْعَةُ الكَبِيرَةُ مِنَ الحَدِيدِ. والحَدِيدُ: مَعْدَنٌ مِن مَعادِنِ الأرْضِ يَكُونُ قِطَعًا كالحَصى ودُونَ ذَلِكَ يَكُونُ فِيها صَلابَةٌ. وهو يُصَنَّفُ ابْتِداءً إلى صِنْفَيْنِ: لَيِّنٍ، ويُقالُ لَهُ الحَدِيدُ الأُنْثى، وصُلْبٍ ويُقالُ لَهُ الذَّكَرُ. ثُمَّ يُصَنَّفُ إلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ صِنْفًا. ألْوانُهُ مُتَقارِبَةٌ وهي السِّنْجابِيُّ، مِنها ما هو إلى الحُمْرَةِ. ومِنها ما هو إلى البَياضِ. وهو إذا صُهِرَ بِنارٍ قَوِيَّةٍ في أتُونٍ مُغْلَقٍ التَأمَتْ أجْزاؤُهُ وتَجَمَّعَتْ في وسَطِ النّارِ كالإسْفِنْجَةِ واشْتَدَّتْ صَلابَتُهُ لِأنَّهُ بِالصِّهْرِ يَدْفَعُ ما فِيهِ مِنَ الأجْزاءِ التُّرابِيَّةِ وهي المُسَمّاةُ بِالصَّدَأِ والخَبَثِ، فَتَعْلُو تِلْكَ الأجْزاءُ عَلى سَطْحِهِ وهي الزَّبَدُ. وخَبَثُ الحَدِيدِ الوارِدُ في الحَدِيثِ «إنَّ المَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَها كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ» ولِذَلِكَ فَبِمِقْدارِ ما يَطْفُو مِن تِلْكَ الأجْزاءِ الغَرِيبَةِ الخَبِيثَةِ يَخْلُصُ الجُزْءُ الحَدِيدِيُّ ويَصْفُو ويَصِيرُ زُبَرًا. ومِن تِلْكَ الزُّبَرِ تُصْنَعُ الأشْياءُ الحَدِيدِيَّةُ مِن سُيُوفٍ وزُجاجٍ ودُرُوعٍ ولَأْماتٍ، ولا وسِيلَةَ لِصُنْعِهِ (p-٣٧)إلّا الصَّهْرُ أيْضًا بِالنّارِ بِحَيْثُ تَصِيرُ الزُّبْرَةُ كالجَمْرِ، فَحِينَئِذٍ تُشَكَّلُ بِالشَّكْلِ المَقْصُودِ بِواسِطَةِ المَطارِقِ الحَدِيدِيَّةِ. والعَصْرُ الذِي اهْتَدى فِيهِ البَشَرُ لِصِناعَةِ الحَدِيدِ يُسَمّى في التّارِيخِ العَصْرُ الحَدِيدِيُّ. وقَوْلُهُ ﴿حَتّى إذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ أشْعَرَتْ حَتّى بِشَيْءٍ مُغَيًّا قَبْلَها، وهو كَلامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَآتَوْهُ زُبَرَ الحَدِيدِ فَنَضَّدَها وبَناها حَتّى إذا جَعَلَ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ. وهَذا مِن إيجازِ الحَذْفِ. والمُساواةُ جَعْلُ الأشْياءِ مُتَساوِيَةً، أيْ مُتَماثِلَةً في مِقْدارٍ أوْ وصْفٍ. والصَّدَفانِ بِفَتْحِ الصّادِ وفَتْحِ الدّالِّ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وهو الأشْهَرُ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، ويَعْقُوبُ بِضَمِّ الصّادِ والدّالِ، وهو لُغَةٌ. وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِضَمِّ الصّادِ وسُكُونِ الدّالِ. والصَّدَفُ: جانِبُ الجَبَلِ، وهُما جانِبِا الجَبَلَيْنِ وهُما السَّدّانِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ والقَزْوِينِيُّ في الكَشْفِ: لا يُقالُ إلّا صَدَفانِ بِالتَّثْنِيَةِ، ولا يُقالُ لِأحَدِهِما صَدَفٌ لِأنَّ أحَدَهُما يُصادِفُ الآخَرُ، أيْ فالصَّدَفانِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الجانِبَيْنِ مِثْلُ المِقَصّانِ لِما يُقْطَعُ بِهِ الثَّوْبُ ونَحْوُهُ. وعَنْ أبِي عِيسى: الصَّدَفُ كُلُّ بِناءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ. والخِطابُ في قَوْلِهِ انْفُخُوا وقَوْلِهِ آتُونِي خِطابٌ لِلْعَمَلَةِ. وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ انْفُخُوا لِظُهُورِهِ مِن كَوْنِ العَمَلِ مِن صُنْعِ الحَدِيدِ. والتَّقْدِيرُ: انْفُخُوا في الكِيرانِ المَصْفُوفَةِ عَلى طُولِ ما بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ مِن زُبَرِ الحَدِيدِ. (p-٣٨)وقَرَأ الجُمْهُورُ آتُونِي مِثْلَ الأوَّلِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (ائْتُونِي) عَلى أنَّهُ أمْرٌ مِنَ الإتْيانِ. أيْ أمَرَهم أنْ يَحْضُرُوا لِلْعَمَلِ. والقِطْرُ بِكَسْرِ القافِ: النُّحاسُ المُذابُ. وضَمِيرُ اسْطاعُوا واسْتَطاعُوا لِيَأْجُوجَ وماجُوجَ. والظُّهُورُ: العُلُوُّ. والنَّقْبُ: كَسْرُ الرَّدْمِ، وعَدَمُ اسْتِطاعَتِهِمْ ذَلِكَ لِارْتِفاعِهِ وصَلابَتِهِ. واسْطاعُوا تَخْفِيفُ اسْتَطاعُوا. والجَمْعُ بَيْنَهُما تَفَنُّنٌ في فَصاحَةِ الكَلامِ كَراهِيَةَ إعادَةِ الكَلِمَةِ. وابْتُدِئَ بِالأخَفِّ مِنهُما لِأنَّهُ ولِيَهُ الهَمْزُ وهو حَرْفٌ ثَقِيلٌ لِكَوْنِهِ مِنَ الحَلْقِ، بِخِلافِ الثّانِي إذْ ولِيَهُ اللّامُ وهو خَفِيفٌ. ومُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُبْتَدَأ بِفِعْلِ اسْتَطاعُوا ويُثَنّى بِفِعْلِ اسْطاعُوا لِأنَّهُ يَثْقُلُ بِالتَّكْرِيرِ، كَما وقَعَ في قَوْلِهِ آنِفًا ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] . ومِن خَصائِصِ مُخالَفَةِ مُقْتَضى الظّاهِرِ هُنا إيثارُ فِعْلٍ ذِي زِيادَةٍ في المَبْنى بِمَوْقِعٍ فِيهِ زِيادَةُ المَعْنى لِأنَّ اسْتِطاعَةَ نَقْبِ السَّدِّ أقْوى مِنِ اسْتِطاعَةِ تَسَلُّقِهِ، فَهَذا مِن مَواضِعِ دَلالَةِ زِيادَةِ المَبْنى عَلى زِيادَةٍ في المَعْنى. وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ (فَما اسْطّاعُوا) الأوَّلَ بِتَشْدِيدِ الطّاءِ مُدْغَمًا فِيها التّاءُ. (p-٣٩)وجُمْلَةُ ﴿قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، لِأنَّهُ لَمّا آذَنَ الكَلامُ بِانْتِهاءِ حِكايَةِ وصْفِ الرَّدْمِ كانَ ذَلِكَ مُثِيرًا سُؤالَ مَن يَسْألُ: ماذا صَدَرَ مِن ذِي القَرْنَيْنِ حِينَ أتَمَّ هَذا العَمَلَ العَظِيمَ ؟ فَيُجابُ بِجُمْلَةِ قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي. والإشارَةُ بِهَذا إلى الرَّدْمِ. وهو رَحْمَةٌ لِلنّاسِ لِما فِيهِ مِن رَدِّ فَسادِ أُمَّةِ ياجُوجَ وماجُوجَ عَنْ أُمَّةٍ أُخْرى صالِحَةٍ. ومِنِ ابْتِدائِيَّةٌ. وجُعِلَتْ مِنَ اللَّهِ لِأنَّ اللَّهَ ألْهَمَهُ لِذَلِكَ ويَسَّرَ لَهُ ما هو صَعْبٌ. وفَرَّعَ عَلَيْهِ ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا﴾ نُطْقًا بِالحِكْمَةِ لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ كُلَّ حادِثٍ صائِرٌ إلى زَوالٍ. ولِأنَّهُ عَلِمَ أنَّ عَمَلًا عَظِيمًا مِثْلَ ذَلِكَ يَحْتاجُ إلى التَّعَهُّدِ والمُحافَظَةِ عَلَيْهِ مِنَ الِانْهِدامِ. وعَلِمَ أنَّ ذَلِكَ لا يَتَسَنّى في بَعْضِ أزْمانِ انْحِطاطِ المَمْلَكَةِ الَّذِي لا مَحِيصَ مِنهُ لِكُلِّ ذِي سُلْطانٍ. والوَعْدُ: هو الإخْبارُ بِأمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وأرادَ بِهِ ما في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الأجَلِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ دَوامُ ذَلِكَ الرَّدْمِ. فاسْتَعارَ لَهُ اسْمَ الوَعْدِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أوْحى إلَيْهِ إنْ كانَ نَبِيئًا أوْ ألْهَمَهُ إنْ كانَ صالِحًا أنَّ لِذَلِكَ الرَّدْمِ أجَلًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي إلَيْهِ. وقَدْ كانَ ابْتِداءُ ذَلِكَ الوَعْدِ يَوْمَ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «فُتِحَ اليَوْمَ مِن رَدْمِ ياجُوجَ هَكَذا. وعَقَدَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ الإبْهامِ والسَّبّابَةِ» كَما تَقَدَّمَ. والدَّكُّ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ لِلْمُبالَغَةِ، أيْ جَعَلَهُ مَدْكُوكًا، أيْ مُسَوًّى بِالأرْضِ بَعْدَ ارْتِفاعٍ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ جَعَلَهَ دَكّاءَ بِالمَدِّ. والدَّكّاءُ: اسْمٌ لِلنّاقَةِ الَّتِي لا سَنامَ لَها، وذَلِكَ عَلى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ. (p-٤٠)وجُمْلَةُ ﴿وكانَ وعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ تَذْيِيلٌ لِلْعِلْمِ بِأنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن أجَلٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعالى لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ أيْ وكانَ تَأْجِيلُ اللَّهِ الأشْياءَ حَقًّا ثابِتًا لا يَتَخَلَّفُ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ بِعُمُومِها وما فِيها مِن حِكْمَةٍ كانَتْ تَذْيِيلًا بَدِيعًا. ﴿وتَرَكْنا بَعْضَهم يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ﴾ [الكهف: ٩٩] التَّرْكُ: حَقِيقَتُهُ مُفارَقَةُ شَيْءٍ شَيْئًا كانَ بِقُرْبِهِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى جَعْلِ الشَّيْءِ بِحالَةٍ مُخالِفَةٍ لِحالَةٍ سابِقَةٍ تَمْثِيلًا لِحالِ إلْفائِهِ عَلى حالَةٍ، ثُمَّ تَغْيِيرِها بِحالِ مَن كانَ قُرْبَ شَيْءٍ ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهُ. وإنَّما يَكُونُ هَذا المَجازُ مُقَيَّدًا بِحالَةٍ كانَ عَلَيْها مَفْعُولُ تَرَكَ، فَيُفِيدُ أنَّ ذَلِكَ آخِرُ العَهْدِ، وذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ أنَّهُ يَدُومُ عَلى ذَلِكَ الحالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَلَيْها بِالقَرِينَةِ. والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿حَتّى إذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ . فَهَذِهِ الجُمْلَةُ لِذِكْرِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى في هَذِهِ القِصَّةِ الثّالِثَةِ مِن قَصَصِ ذِي القَرْنَيْنِ إذْ ألْهَمَهُ دَفْعَ فَسادِ ياجُوجَ وماجُوجَ. بِمَنزِلَةِ جُمْلَةِ ﴿قُلْنا يا ذا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذِّبَ﴾ [الكهف: ٨٦] في القِصَّةِ الأُولى، وجُمْلَةِ ﴿كَذَلِكَ وقَدْ أحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٩١] فَجاءَ أُسْلُوبُ حِكايَةِ هَذِهِ القَصَصِ الثَّلاثِ عَلى نَسَقٍ واحِدٍ. ويَوْمَئِذٍ هو يَوْمُ إتْمامِ بِناءِ السَّدِّ المُسْتَفادِ مِن قَوْلِهِ فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ، الآيَةَ. ويَمُوجُ يَضْطَرِبُ تَشْبِيهًا بِمَوْجِ البَحْرِ. وجُمْلَةُ يَمُوجُ حالٌ مِن بَعْضِهِمْ أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لِتَرَكْنا عَلى تَأْوِيلِهِ بِـ (جَعَلْنا) . أيْ جَعَلْنا ياجُوجَ وماجُوجَ يَوْمَئِذٍ مُضْطَرِبِينَ بَيْنَهم فَصارَ فَسادُهم قاصِرًا عَلَيْهِمْ ودُفِعَ عَنْ غَيْرِهِمْ. (p-٤١) ؎والنّارُ تَأْكُلُ نَفْسَها إنْ لَمْ تَجِدْ ما تَأْكُلُهْ لِأنَّهم إذا لَمْ يَجِدُوا ما اعْتادُوهُ مِن غَزْوِ الأُمَمِ المُجاوِرَةِ لَهم رَجَعَ قَوِيُّهم عَلى ضَعِيفِهِمْ بِالِاعْتِداءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب