الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ لم يرد فأتوني استدعاء تمليك عين، ولكن تمليك المناولة بالأنفس؛ لأنه كلفهم المعونة على عمل السد بقوله: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ ولم يقل: الخرج الذي بذلوه، فلا يسألهم الحديد أيضًا [["المحرر الوجيز" 9/ 405، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 60، "البحر المحيط" 6/ 164.]]. وهذا معنى قول ابن عباس: (يريدا احملوا إلى زبر الحديد) [["زاد المسير" 5/ 192.]] ألا ترى أنه فسره بالحمل إليه لا بمعنى التمليك. قال الفراء: (معناه: آتوني) [["معاني القرآن" للفراء 2/ 160.]]. يريد: فلما ألقيت الباء زيدت ألف، كما تقول: قد أتيتك زيدًا، تريد: أتيتك يزيد، ويقوي هذا المعنى الذي ذكرناه قراءة من قرأ: ائتوني [[قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (ردما آتوني) بالمد. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (ردما آئتوني) بالقصر وكسر التنوين ووصل الألف. انظر: "السبعة" ص 400، "الحجة" 5/ 175، "التبصرة" ص 252، "المبسوط" ص 240.]]. موصولاً من الإتيان على معنى جيؤني، وهو هاهنا حسن لاختصاصه بالمعونة فقط دون أن يكون سؤال عينه. وعلى هذه القراءة انتصب زبر الحديد بحذف الحرف اتساعًا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني على حد: أمرتك الخير، والتقدير: ايتوني بزبر الحديد [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 175، "حجة القراءات" ص434، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 79.]]. وزبر الحديد: قطعه في قول الجميع. قال الليث: (زبرة الحديد: قطعة ضخمة منه) [["تهذيب اللغة" (زبر) 2/ 1506، "لسان العرب" (زبر) 3/ 1804.]]. وأصلها الاجتماع ومنه: زبرى الأسد، وهي: ما اجتمع من الشعر على كاهله، وزَبَرْت الكتاب: إذا كتبته؛ لأنك جمعت حروفه، وزبرة الحديد: جملة مجتمعة منه [[انظر: "تهذيب اللغة" (زبر) 2/ 1506، "مقاييس اللغة" (زبر) 3/ 44، "الصحاح" (زبر) 2/ 666 "لسان العرب" (زبر) 3/ 1804.]]. قال ابن عباس في تفسير ﴿زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾: (هي على قدر الحجارة التي يبنى بها قدر ما يحمل الرجل) [[ذكر نحوه الطبري في "جامع البيان" 16/ 24، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 313.]]. ومعنى الآية: أنه يأمرهم أن ينقلوا إليه زبر الحديد ليعمل بها الردم في وجوه يأجوج ومأجوج، فأتوه بها فبناه ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ قال الفراء: (ساوى وسوَّى بينهما: واحد) [["معاني القرآن" للفراء 2/ 160.]]. والمعنى: أنه جمع زبر الحديد ووضع بعضها على بعض بين الصدفين حتى سوى بينهما بالحديد. والصدفان: (الجبلان) في قول جميع المفسرين [["جامع البيان" 16/ 24، "المحرر الوجيز" 9/ 407، "معالم التنزيل" 5/ 205، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 61.]]. قال أبو عبيدة: (الصدفان جانبا الجبل) [["مجاز القرآن" 1/ 414.]]. ونحوه قال الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 311.]]. وقال الأزهري: (الصَّدف والصُّدْفة الجانب والناحية، يقال: لجانبي الجبل إذا تحاذا صدفان لتصادفهما أي: تلاقيهما، ومن هذا يقال: صادفت فلانا أي: لاقيته) [["تهذيب اللغة" (صدف) 2/ 1989.]]. ويقال للبناء العظيم المرتفع: صَدَف. شبه بجانب الجبل، ومنه الحديث: (إذا مر بصدف مائل أسرع المشي) [[أخرجه الإمام أحمد 2/ 356 عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأورده القرطبي 11/ 61، وأورده الأزهري في "تهذيب اللغة" (صدف) 12/ 146.]]. وفيه ثلاثة أوجه من القراءة: الصدفين بضم الصاد والدال، والصدفين بفتحهما، والصدفين بضم الصاد وتسكين الدال [[قرأ ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر: (الصدفين) بضم الصاد والدال. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (الصدفين) بفتح الصاد والدال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (الصدفين) بضم الصاد وتسكين الدال. انظر: "السبعة" ص 401، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 177، "العنوان في القراءات" ص 125، "التبصرة" ص 252، "النشر" 2/ 316.]]. وكلها لغات في هذه الكلمة فاشية. وقوله تعالى: ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾ قال ابن عباس: (يريد انفخوا على زبر الحديد بالكير) [[ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 313، "القرطبي" 11/ 62، "روح المعاني" 16/ 41.]]. قال الزجاج: (جعل بينهما الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾ والحديد إذا أُحمي بالفحم والمنفاخ صار كالنار) [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 311.]]. وقوله تعالى: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ قال ابن عباس: (أذاب النحاس، ثم أفرغه على زبر الحديد فاختلط ولصق بعضه ببعض، حتى صار جبلاً صلدًا من حديد ونحاس) [[ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 313، "معالم التنزيل" 5/ 205، "الكشاف" 2/ 402، "زاد المسير" 5/ 193، "القرطبي" 11/ 62.]]. قال قتادة: (وهو كالبُرْد المحبَّر طريقة سوداء، وطريقة حمراء) [["معالم التنزيل" 5/ 205، "زاد المسير" 5/ 193، "القرطبي" 11/ 62، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 116.]]. والقطر: النحاس الذائب، وأصله من القطر وذلك أنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء [[انظر: (قطر) في "تهذيب اللغة" 3/ 2990، "مقاييس اللغة" 5/ 105، "القاموس المحيط" ص 463، "الصحاح" 2/ 796، "المعجم الوسيط" 2/ 744.]]. ومضى الكلام في الإفراغ. وقرئ: ايتوني [[قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: (آتوني) ممدودا. وقرأ حمزة، وعاصم في رواية أبي بكر: (آئتوني) قصرا. انظر: "السبعة" ص 401، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 178، "الغاية في القراءات" (313)، "التبصرة" ص 253.]]، موصولاً من الإتيان على معني: جيؤوني به. واللفظ على اتصال الفعل إلى المفعول الثاني بالحرف، إلا أنه أعمل الفعل الثاني وهو الإفراغ، ولو أعمل الأول لكان أفرغه عليه، وقد وصل الفعل الأول هاهنا إلى المفعول الثاني بلا حرف، كما ذكرنا في قراءة من قرأ إيتوني بزبر الحديد، ومن قرأ آتوني أفرغ عليه فمعناه: ناولوني. كما ذكرنا في أول الآية [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 178، "حجة القراءات" (434)، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 79.]] قال ابن الأنباري: (يجوز أن يكون (قِطْرًا) معمول ﴿آتُونِي﴾ وأضمر لأفرغ مفعول على تقدير: أفرغه، وحذف لدلالة (قِطْرًا) عليه. ويجوز أن يكون معمول أفرغ وأضمر لآتوني مفعول على تقدير: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه) [[ذكر نحوه بلا نسبة "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 295، "إملاء ما من به الرحمن" (405)، "الكشاف" 2/ 398، "الدر المصون" 7/ 549.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب