﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا ومِمّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ فَأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ﴾ جُمْلَةُ (﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾) اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ أفادَ تَسْجِيلَ حِرْمانِ المُشْرِكِينَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِدَلائِلِ الِاهْتِداءِ الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ تَهْدِيَ مَن لَمْ يَطْبَعِ اللَّهُ عَلى قَلْبِهِ فاهْتَدى بِها المُؤْمِنُونَ.
وجِيءَ في هَذا التَّسْجِيلِ بِطَرِيقَةِ ضَرْبِ المَثَلِ بِحالَيْ فَرِيقَيْنِ في تَلَقِّي شَيْءٍ واحِدٍ انْتَفَعَ فَرِيقٌ بِما فِيهِ مِن مَنافِعَ وتَعَلَّقَ فَرِيقٌ بِما فِيهِ مِن مَضارَّ. وجِيءَ في ذَلِكَ التَّمْثِيلِ بِحالَةٍ فِيها دَلالَةٌ عَلى بَدِيعِ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعالى لِيَحْصُلَ التَّخَلُّصُ مِن ذِكْرِ دَلائِلِ القُدْرَةِ إلى ذِكْرِ عِبَرِ المَوْعِظَةِ، فالمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ﴾ إلَخْ.
(p-١١٧)شُبِّهَ إنْزالُ القُرْآنِ - الَّذِي بِهِ الهُدى - مِنَ السَّماءِ بِإنْزالِ الماءِ الَّذِي بِهِ النَّفْعُ والحَياةُ مِنَ السَّماءِ. وشُبِّهَ وُرُودُ القُرْآنِ عَلى أسْماعِ النّاسِ بِالسَّيْلِ يَمُرُّ عَلى مُخْتَلَفِ الجِهاتِ فَهو يَمُرُّ عَلى التِّلالِ والجِبالِ فَلا يَسْتَقِرُّ فِيها ولَكِنَّهُ يَمْضِي إلى الأوْدِيَةِ والوِهادِ فَيَأْخُذُ مِنهُ كُلٌّ بِقَدْرِ سَعَتِهِ. وتِلْكَ السُّيُولُ في حالِ نُزُولِها تَحْمِلُ في أعالِيها زَبَدًا، وهو رَغْوَةُ الماءِ الَّتِي تَرْبُو وتَطْفُو عَلى سَطْحِ الماءِ، فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ ويَبْقى الماءُ الخالِصُ الصّافِي يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ لِلشَّرابِ والسَّقْيِ.
ثُمَّ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ نُزُولِ الآياتِ وما تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِن إيقاظِ النَّظَرِ فِيها فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَن دَخَلَ الإيمانُ قُلُوبَهم عَلى مَقادِيرِ قُوَّةِ إيمانِهِمْ وعَمَلِهِمْ، ويَمُرُّ عَلى قُلُوبِ قَوْمٍ لا يَشْعُرُونَ بِهِ وهُمُ المُنْكِرُونَ المُعْرِضُونَ، ويُخالِطُ قُلُوبَ قَوْمٍ فَيَتَأمَّلُونَهُ فَيَأْخُذُونَ مِنهُ ما يُثِيرُ لَهم شُبُهاتٍ وإلْحادًا، كَقَوْلِهِمْ ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٧]، ومِنهُ الأخْذُ بِالمُتَشابِهِ قالَ تَعالى ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] .
شُبِّهَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَيْئَةِ نُزُولِ الماءِ فانْحِدارُهُ عَلى الجِبالِ والتِّلالِ وسَيَلانُهُ في الأوْدِيَةِ عَلى اخْتِلافِ مَقادِيرِها، ثُمَّ ما يَدْفَعُ مِن نَفْسِهِ زَبَدًا لا يُنْتَفَعُ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الزَّبَدُ أنْ ذَهَبَ وفَنِيَ والماءُ بَقِيَ في الأرْضِ لِلنَّفْعِ.
ولَمّا كانَ المَقْصُودُ التَّشْبِيهَ بِالهَيْئَةِ كُلِّها جِيءَ في حِكايَةِ ما تَرَتَّبَ عَلى إنْزالِ الماءِ بِالعَطْفِ بِفاءِ التَّفْرِيعِ في قَوْلِهِ (فَسالَتْ) وقَوْلِهِ (فاحْتَمَلَ) . فَهَذا تَمْثِيلٌ صالِحٌ لِتَجْزِئَةِ التَّشْبِيهاتِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنها وهو أبْلَغُ التَّمْثِيلِ.
وعَلى نَحْوِ هَذا التَّمْثِيلِ وتَفْسِيرِهِ جاءَ ما يُبَيِّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الَّذِي في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا فَكانَ مِنها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنها أجادَبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِها النّاسَ فَشَرِبُوا وسَقُوا (p-١١٨)وزَرَعُوا، وأصابَ مِنها طائِفَةً أُخْرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقِهَ في دِينِ اللَّهِ ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ولَمْ يَقْبَلْ هُدى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
والأوْدِيَةُ: جَمْعُ الوادِي، وهو الحَفِيرُ المُتَّسِعُ المُمْتَدُّ مِنَ الأرْضِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ السَّيْلُ. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ بَراءَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢١]) .
والقَدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ (بِقَدَرِها) في مَوْضِعِ الحالِ مِن (أوْدِيَةِ)، وذَكَرَهُ لِأنَّهُ مِن مَواضِعِ العِبْرَةِ، وهو أنْ كانَتْ أخادِيدُ الأوْدِيَةِ عَلى قَدْرِ ما تَحْتَمِلُهُ مِنَ السُّيُولِ بِحَيْثُ لا تَفِيضُ عَلَيْها وهو غالِبُ أحْوالِ الأوْدِيَةِ. وهَذا الحالُ مَقْصُودٌ في التَّمْثِيلِ لِأنَّهُ حالُ انْصِرافِ الماءِ لِنَفْعٍ لا ضُرَّ مَعَهُ؛ لِأنَّ مِنَ السُّيُولِ جَواحِفَ تَجْرُفُ الزَّرْعَ والبُيُوتَ والأنْعامَ.
وأيْضًا هو دالٌّ عَلى تَفاوُتِ الأوْدِيَةِ في مَقادِيرِ المِياهِ. ولِذَلِكَ حَظٌّ مِنَ التَّشْبِيهِ وهو اخْتِلافُ النّاسِ في قابِلِيَّةِ الِانْتِفاعِ بِما نَزَلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ كاخْتِلافِ الأوْدِيَةِ في قَبُولِ الماءِ عَلى حَسَبِ ما يَسِيلُ إلَيْها مِن مَصابِّ السُّيُولِ، وقَدْ تَمَّ التَّمْثِيلُ هُنا.
وجُمْلَةُ (﴿ومِمّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ (فاحْتَمَلَ) إلَخْ وجُمْلَةِ (فَأمّا الزَّبَدُ) إلَخَّ.
وهَذا تَمْثِيلٌ آخَرُ ورَدَ اسْتِطْرادًا عَقِبَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ يُفِيدُ تَقْرِيبَ التَّمْثِيلِ لِقَوْمٍ لَمْ يُشاهِدُوا سُيُولَ الأوْدِيَةِ مِن سُكّانِ القُرى مِثْلَ أهْلِ مَكَّةَ وهُمُ المَقْصُودُ، فَقَدْ كانَ لَهم في مَكَّةَ صَوّاغُونَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الإذْخِرِ، فَقَرَّبَ إلَيْهِمْ تَمْثِيلَ عَدَمِ انْتِفاعِهِمْ بِما انْتَفَعَ بِهِ غَيْرُهم بِمَثَلِ ما يُصْهَرُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ في البَواتِقِ فَإنَّهُ يَقْذِفُ زَبَدًا يَنْتَفِي عَنْهُ وهو الخَبَثُ وهو غَيْرُ صالِحٍ لِشَيْءٍ في حِينِ صَلاحِ مَعْدِنِهِ لِاتِّخاذِهِ حِلْيَةً أوْ مَتاعًا. وفي الحَدِيثِ: كَما يَنْفِي الكِيرُ (p-١١٩)خَبَثَ الحَدِيدِ. فالكَلامُ مِن قَبِيلِ تَعَدُّدِ التَّشْبِيهِ القَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] .
وأقْرَبُ إلى ما هُنا قَوْلُ لَبِيدٍ:
؎فَتَنازَعا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلالُهُ كَدُخانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرامُها
؎مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنابِتِ عَرْفَجِ ∗∗∗ كَدُخانِ نارٍ ساطِعٍ أسْنامُها
وأفادَ ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ (﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾) .
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ عَلى المَسْنَدِ إلَيْهِ في هَذِهِ الجُمْلَةِ لِلِاهْتِمامِ بِالمُسْنَدِ لِأنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِبارٍ أيْضًا بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى إذْ جَعَلَ الزَّبَدَ يَطْفُو عَلى أرَقِّ الأجْسامِ وهو الماءُ وعَلى أغْلَظِها وهو المَعْدِنُ فَهو نامُوسٌ مِن نَوامِيسِ الخِلْقَةِ، فَبِالتَّقْدِيمِ يَقَعُ تَشْوِيقُ السّامِعِ إلى تَرَقُّبِ المُسْنَدِ إلَيْهِ.
وهَذا الِاهْتِمامُ بِالتَّشْبِيهِ يُشْبِهُ الِاهْتِمامَ بِالِاسْتِفْهامِ في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ في وصْفِ جَهَنَّمَ: «فَإذا فِيها كَلالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدانِ» «.
وعَدَلَ عَنْ تَسْمِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ إلى المَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى» ﴿ومِمّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النّارِ﴾ لِأنَّها أخْصَرُ وأجْمَعُ، ولِأنَّ الغَرَضَ في ذِكْرِ الجُمْلَةِ المَجْعُولَةِ صِلَةً. فَلَوْ ذُكِرَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ صِلَةٍ كالوَصْفِيَّةِ مَثَلًا لَكانَتْ بِمَنزِلَةِ الفَضْلَةِ في الكَلامِ ولَطالَ الكَلامُ بِذِكْرِ اسْمِ المَعْدِنَيْنِ مَعَ ذِكْرِ الصِّلَةِ إذْ لا مَحِيدَ عَنْ ذِكْرِ الوَقُودِ لِأنَّهُ سَبَبُ الزَّبَدِ، فَكانَ الإتْيانُ بِالمَوْصُولِ قَضاءً لِحَقِّ ذِكْرِ الجُمْلَةِ مَعَ الِاخْتِصارِ البَدِيعِ.
ولِأنَّ في العُدُولِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ إعْراضًا يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ الِاكْتِراثِ بِهِما تَرَفُّعًا عَنْ ولَعِ النّاسِ بِهِما فَإنَّ اسْمَيْهِما قَدِ اقْتَرَنا بِالتَّعْظِيمِ في عُرْفِ النّاسِ.
و(مَن) في قَوْلِهِ (﴿ومِمّا تُوقِدُونَ﴾) ابْتِدائِيَّةٌ.
(p-١٢٠)و(ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ) مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ (تُوقِدُونَ) . ذُكِرَ لِإيضاحِ المُرادِ مِنَ الصِّلَةِ ولِإدْماجِ ما فِيهِ مِن مِنَّةِ تَسْخِيرِ ذَلِكَ لِلنّاسِ. لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِيهِما.
والحِلْيَةُ: ما يُتَحَلّى بِهِ، أيْ يُتَزَيَّنُ وهو المَصُوغُ. والمَتاعُ: ما يُتَمَتَّعُ بِهِ ويُنْتَفَعُ، وذَلِكَ المَسْكُوكُ الَّذِي يَتَعامَلُ بِهِ النّاسُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (تُوقِدُونَ) بِفَوْقِيَّةٍ في أوَّلِهِ عَلى الخِطابِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وخَلَفٌ بِتَحْتِيَّةٍ عَلى الغَيْبَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ. هي فَذْلَكَةُ التَّمْثِيلِ بِبَيانِ الغَرَضِ مِنهُ، أيْ مِثْلَ هَذِهِ الحالَةِ يَكُونُ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْحَقِّ والباطِلِ. فَمَعْنى يَضْرِبُ يُبَيِّنُ ويُمَثِّلُ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنًى يَضْرِبُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
فَحُذِفَ مُضافٌ في قَوْلِهِ (﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ﴾)، والتَّقْدِيرُ: يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الحَقِّ والباطِلِ، لِدَلالَةِ فِعْلِ يَضْرِبُ عَلى تَقْدِيرِ هَذا المُضافِ.
وحَذْفُ الجارِّ مِنَ الحَقِّ لِتَنْزِيلِ المُضافِ إلَيْهِ مَنزِلَةَ المُضافِ المَحْذُوفِ.
وقَدْ عُلِمَ أنَّ الزَّبَدَ مَثَلٌ لِلْباطِلِ وأنَّ الماءَ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فارْتَقى عِنْدَ ذَلِكَ إلى ما في المَثَلَيْنِ مِن صِفَتَيِ البَقاءِ والزَّوالِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلى البِشارَةِ والنِّذارَةِ لِأهْلِ الحَقِّ وأهْلِ الباطِلِ بِأنَّ الفَرِيقَ الأوَّلَ هو الباقِي الدّائِمُ، وأنَّ الفَرِيقَ الثّانِيَ زائِلٌ بائِدٌ، كَقَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] إنْ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ، فَصارَ التَّشْبِيهُ تَعْرِيضًا وكِنايَةً عَنِ البِشارَةِ والنِّذارَةِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنى والَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ [الرعد: ١٨] إلَخْ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا.
فَجُمْلَةُ (﴿فَأمّا الزَّبَدُ﴾) مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا﴾ مُفَرَّعَةٌ عَلى التَّمْثِيلِ. وافْتُتِحَتْ بِ (أمّا) لِلتَّوْكِيدِ وصَرْفِ ذِهْنِ السّامِعِ إلى الكَلامِ (p-١٢١)لِما فِيهِ مِن خَفِيِّ البِشارَةِ والنِّذارَةِ، ولِأنَّهُ تَمامُ التَّمْثِيلِ. والتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الزَّبَدُ جُفاءً ومَكَثَ ما يَنْفَعُ النّاسَ في الأرْضِ.
والجُفاءُ: الطَّرِيحُ المَرْمِيُّ. وهَذا وعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأنَّهم سَيَبِيدُونَ بِالقَتْلِ ويَبْقى المُؤْمِنُونَ.
وعُبِّرَ عَنِ الماءِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ وهو البَقاءُ في الأرْضِ تَعْرِيضًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأنْ يَعْرِضُوا أحْوالَهم عَلى مَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ لِيَعْلَمُوا أنَّهم لَيْسُوا مِمّا يَنْفَعُ النّاسَ، وهَذِهِ الصِّلَةُ مُوازِنَةٌ لِلْوَصْفِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] .
واكْتُفِيَ بِذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النّافِعِ بِالماءِ وغَيْرِ النّافِعِ بِالزَّبَدِ عَنْ ذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النّافِعِ بِالذَّهَبِ أوِ الفِضَّةِ وغَيْرِ النّافِعِ بِزَبَدِهِما اسْتِغْناءً عَنْهُ.
وجُمْلَةُ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ لِما في لَفْظِ الأمْثالِ مِنَ العُمُومِ. فَهو أعَمُّ مِن جُمْلَةِ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾ لِدَلالَتِها عَلى صِنْفٍ مِنَ المَثَلِ دُونَ جَمِيعِ أصْنافِهِ، فَلَمّا أُعْقِبَ بِمَثَلٍ آخَرَ وهو ﴿فَأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً﴾ جِيءَ بِالتَّنْبِيهِ إلى الفائِدَةِ العامَّةِ مِن ضَرْبِ الأمْثالِ. وحَصَلَ أيْضًا تَوْكِيدُ جُمْلَةِ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾؛ لِأنَّ العامَّ يَنْدَرِجُ فِيهِ الخاصُّ.
فَإشارَةُ كَذَلِكَ إلى التَّمْثِيلِ السّابِقِ في جُمْلَةِ ﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ أيْ مَثَلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ البَدِيعِ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ، وهو المَقْصُودُ بِهَذا التَّذْيِيلِ.
والإشارَةُ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ المَثَلِ وتَنْبِيهِ الأفْهامِ إلى حِكْمَتِهِ وحِكْمَةِ التَّمْثِيلِ، وما فِيهِ مِنَ المَواعِظِ والعِبَرِ، وما جَمَعَهُ مِنَ التَّمْثِيلِ والكِنايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ، وإلى بَلاغَةِ القُرْآنِ وإعْجازِهِ، وذَلِكَ تَبْهِيجٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وتَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ، ولِيُعْلَمَ أنَّ جُمْلَةَ ﴿فَأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً﴾ لَمْ يُؤْتَ بِها لِمُجَرَّدِ تَشْخِيصِ دَقائِقِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ والصُّنْعِ البَدِيعِ بَلْ ولِضَرْبِ المَثَلِ، فَيُعْلَمُ المُمَثَّلُ لَهُ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالمُشْرِكِينَ (p-١٢٢)والمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ﴾ كَما هو شَأْنُ التَّذْيِيلِ.
{"ayah":"أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَالَتۡ أَوۡدِیَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّیۡلُ زَبَدࣰا رَّابِیࣰاۖ وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیۡهِ فِی ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَاۤءَ حِلۡیَةٍ أَوۡ مَتَـٰعࣲ زَبَدࣱ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ"}