(p-14)﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾ أيْ: مِن جِهَتِها.
﴿ماءً﴾ أيْ: كَثِيرًا، أوْ نَوْعًا مِنهُ؛ وهو ماءُ المَطَرِ.
﴿فَسالَتْ﴾ بِذَلِكَ ﴿أوْدِيَةٌ﴾ واقِعَةٌ في مَواقِعِهِ لا جَمِيعُ الأوْدِيَةِ. إذِ الأمْطارُ لا تَسْتَوْعِبُ الأقْطارَ، وهو جَمْعُ وادٍ، وهو مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبالٍ، أوْ تِلالٍ، أوْ آكامٍ عَلى الشُّذُوذِ، كَنادٍ وأنْدِيَةٍ، وناجٍ وأنْجِيَةٍ، قالُوا: وجْهُهُ أنَّ فاعِلًا يَجِيءُ بِمَعْنى فَعِيلٍ: كَناصِرٍ ونَصِيرٍ، وشاهِدٍ وشَهِيدٍ، وعالِمٍ وعَلِيمٍ، وحَيْثُ جُمِعَ فَعِيلٌ عَلى أفْعِلَةٍ: كَجَرِيبٍ وأجْرِبَةٍ، جُمِعَ فاعِلٌ أيْضًا عَلى أفْعِلَةٍ، فَإنْ أُرِيدَ بِها ما يَسِيلُ فِيها مَجازًا فَإسْنادُ السَّيَلانِ إلَيْها حَقِيقِيٌّ، وإنْ أُرِيدَ مَعْناها الحَقِيقِيُّ فالإسْنادُ مَجازِيٌّ، كَما في جَرى النَّهْرُ، وإيثارُ التَّمْثِيلِ بِها، عَلى الأنْهارِ المُسْتَمِرَّةِ الجَرَيانِ، لِوُضُوحِ المُماثَلَةِ بَيْنَ شَأْنِها وشَأْنِ ما مُثِّلَ بِها كَما أُشِيرَ إلَيْهِ ﴿بِقَدَرِها﴾ أيْ: سالَتْ مُلْتَبِسَةً بِمِقْدارِها الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعالى، واقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ في نَفْعِ النّاسِ، أوْ بِمِقْدارِها المُتَفاوِتِ قِلَّةً، وكَثْرَةً. بِحَسْبِ تَفاوُتِ مَحالِّها صِغَرًا، وكِبَرًا. لا بِكَوْنِها مالِئَةً لَها، مُنْطَبِقَةً عَلَيْها، بَلْ بِمُجَرَّدِ قِلَّتِها، بِصِغَرِها المُسْتَلْزِمِ لِقِلَّةِ مَوارِدِ الماءِ، وكَثْرَتِها بِكِبَرِها المُسْتَدْعِي لِكَثْرَةِ المَوارِدِ، فَإنَّ مَوْرِدَ السَّيْلِ الجارِي في الوادِي الصَّغِيرِ أقَلُّ مِن مَوْرِدِ السَّيْلِ الجارِي في الوادِي الكَبِيرِ. هَذا إنْ أُرِيدَ بِالأوْدِيَةِ ما يَسِيلُ فِيها، أمّا إنْ أُرِيدَ بِها مَعْناها الحَقِيقِيُّ، فالمَعْنى: سالَتْ مِياهُها بِقَدْرِ تِلْكَ الأوْدِيَةِ، عَلى نَحْوِ ما عَرَفْتَهُ آنِفًا، أوْ يُرادُ بِضَمِيرِها مِياهُها بِطَرِيقِ الِاسْتِخْدامِ، ويُرادُ بِقَدَرِها ما ذُكِرَ أوَّلًا مِنَ المَعْنَيَيْنِ ﴿فاحْتَمَلَ السَّيْلُ﴾ الجارِي في تِلْكَ الأوْدِيَةِ، أيْ: حَمَلَ مَعَهُ ﴿زَبَدًا﴾ أيْ: غُثاءً ورَغْوَةً، وإنَّما وُصِفَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿رابِيًا﴾ أيْ: عالِيًا مُنْتَفِخًا فَوْقَهُ بَيانًا لِما أُرِيدَ بِالِاحْتِمالِ المُحْتَمَلِ لِكَوْنِ الحَمِيلِ غَيْرَ طافٍ، كالأشْجارِ الثَّقِيلَةِ. وإنَّما لَمْ يُدْفَعْ ذَلِكَ الِاحْتِمالُ بِأنْ يُقالَ: فاحْتَمَلَ السَّيْلُ فَوْقَهُ لِلْإيذانِ بِأنَّ تِلْكَ الفَوْقِيَّةَ مُقْتَضى شَأْنِ الزَّبَدِ لا مِن جِهَةِ المُحْتَمَلِ تَحْقِيقًا لِلْماثَلَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما مُثِّلَ بِهِ مِنَ الباطِلِ الَّذِي شَأْنُهُ الظُّهُورُ في بادِي الرَّأْيِ مِن غَيْرِ مُداخَلَةٍ في الحَقِّ.
﴿وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النّارِ﴾ أيْ: يَفْعَلُونَ الإيقادَ عَلَيْهِ كائِنًا في النّارِ. والضَّمِيرُ لِلنّاسِ أُضْمِرَ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الذِّكْرِ لِظُهُورِهِ. وقُرِئَ: بِالخِطابِ.
﴿ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ﴾ أيْ: لِطَلَبِ اتِّخاذِ حِلْيَةٍ، وهي ما يُتَزَيَّنُ ويُتَجَمَّلُ بِهِ كالحُلِيِّ المُتَّخَذَةِ مِنَ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ. أوِ اتِّخاذِ مَتاعٍ وهو ما يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الأوانِي، والآلاتِ المُتَّخَذَةِ مِنَ الرَّصاصِ والحَدِيدِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفِلِزّاتِ.
﴿زَبَدٌ﴾ خَبَثٌ ﴿مِثْلُهُ﴾ مِثْلُ ما ذُكِرَ مِن زَبَدِ الماءِ في كَوْنِهِ رابِيًا فَوْقَهُ، فَقَوْلُهُ: زَبَدٌ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ الظَّرْفُ المُقَدَّمُ، ومِنِ ابْتِدائِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً، وناشِئًا مِنهُ "لا" تَبْعِيضِيَّةٌ مُعْرِبَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بَعْضًا مِنهُ. كَما قِيلَ: لِإخْلالِ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ وفي التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ بِالمَوْصُولِ، والتَّعَرُّضِ لِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِن إيقادِ النّارِ عَلَيْهِ جَرْيٌ عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ، بِإظْهارِ التَّهاوُنِ بِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلى الطِّينِ﴾ وإشارَةٌ إلى كَيْفِيَّةِ حُصُولِ الزَّبَدِ مِنهُ بِذَوَبانِهِ، وفي زِيادَةٍ في النّارِ إشْعارٌ بِالمُبالَغَةِ في الِاعْتِمالِ لِلْإذابَةِ، وحُصُولِ الزَّبَدِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ، وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لِإخْراجِهِ مِنَ (p-15)الأرْضِ لِعَدَمِ دَخْلِ ذَلِكَ العُنْوانِ في التَّمْثِيلِ، كَما أنَّ لِعُنْوانِ إنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ دَخْلًا فِيهِ، حَسْبَما فُصِّلَ فِيما سَلَفَ، بَلْ لَهُ إخْلالٌ بِذَلِكَ ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الضَّرْبِ البَدِيعِ المُشْتَمِلِ عَلى نُكَتٍ رائِقَةٍ ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾ أيْ: مَثَلَ الحَقِّ، ومَثَلَ الباطِلِ. والحَذْفُ لِلْإنْباءِ عَنْ كَمالِ التَّماثُلِ بَيْنَ المُمَثَّلِ والمُمَثَّلِ بِهِ، كَأنَّ المَثَلَ المَضْرُوبَ عَيْنُ الحَقِّ والباطِلِ، وبَعْدَ تَحْقِيقِ التَّمْثِيلِ مَعَ الإيماءِ في تَضاعِيفِ ذَلِكَ إلى وُجُوهِ المُماثَلَةِ عَلى أبْدَعِ وُجُوهٍ، وآنَقِها. حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ في مَواقِعِها بَيَّنَ عاقِبَةَ كُلٍّ مِنَ المُمَثَّلَيْنِ عَلى وجْهِ التَّمْثِيلِ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِبَعْضِ ما بِهِ المُماثِلَةُ مِنَ الذَّهابِ والبَقاءِ. تَتِمَّةً لِلْغَرَضِ مِنَ التَّمْثِيلِ، مِنَ الحَثِّ عَلى اتِّباعِ الحَقِّ الثّابِتِ، والرَّدْعِ عَنِ الباطِلِ الزّائِدِ. فَقِيلَ: ﴿فَأمّا الزَّبَدُ﴾ مِن كُلٍّ مِنهُما ﴿فَيَذْهَبُ جُفاءً﴾ أيْ: مَرْمِيًّا بِهِ. وقُرِئَ: (جُفالًا) والمَعْنى واحِدٌ ﴿وَأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ﴾ مِنهُما كالماءِ الصّافِي، والفِلِزِّ الخاصِّ ﴿فَيَمْكُثُ في الأرْضِ﴾ أمّا الماءُ: فَيَثْبُتُ بَعْضُهُ في مَنافِعِهِ، ويَسْلُكُ بَعْضُهُ في عُرُوقِ الأرْضِ إلى العُيُونِ، والقَنَواتِ، والآبارِ. وأمّا الفِلِزُّ: فَيُصاغُ مِن بَعْضِهِ أنْواعُ الحُلِيِّ، ويُتَّخَذُ مِن بَعْضِهِ أصْنافُ الآلاتِ، والأدَواتِ. فَيُنْتَفَعُ بِكُلٍّ مِن ذَلِكَ أنْواعَ الِانْتِفاعاتِ مُدَّةً طَوِيلَةً. فالمُرادُ بِالمُكْثِ في الأرْضِ: ما هو أعَمُّ مِنَ المُكْثِ في نَفْسِها، ومِنَ البَقاءِ في أيْدِي المُتَقَلِّبِينَ فِيها، وتَغْيِيرُ تَرْتِيبِ اللَّفِّ الواقِعِ في الفَذْلَكَةِ المُوافِقِ لِلتَّرْتِيبِ، الواقِعِ في التَّمْثِيلِ لِمُراعاةِ المُلاءَمَةِ بَيْنَ حالَتَيِ الذَّهابِ، والبَقاءِ. وبَيْنَ ذِكْرَيْهِما فَإنَّ المُعْتَبَرَ إنَّما هو بَقاءُ الباقِي بَعْدَ ذَهابِ الذّاهِبِ لا قَبْلَهُ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ﴾ أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ العَجِيبِ يُضْرَبُ ﴿الأمْثالَ﴾ في كُلِّ بابٍ إظْهارًا لِكَمالِ اللُّطْفِ، والعِنايَةِ في الإرْشادِ، والهِدايَةِ، وفِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ هَذا التَّمْثِيلِ وتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ. إمّا بِاعْتِبارِ ابْتِناءِ هَذا عَلى التَّمْثِيلِ الأوَّلِ. أوْ بِجَعْلِ ذَلِكَ إشارَةً إلَيْهِما جَمِيعًا. وبَعْدَ ما بَيَّنَ شَأْنَ كُلٍّ مِنَ الحَقِّ، والباطِلِ حالًا ومَآلًا أكْمَلَ بَيانٍ، شَرَعَ في بَيانِ حالِ أهْلِ كُلٍّ مِنهُما مَآلًا تَكْمِيلًا لِلدَّعْوَةِ تَرْغِيبًا، وتَرْهِيبًا فَقِيلَ:
{"ayah":"أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَالَتۡ أَوۡدِیَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّیۡلُ زَبَدࣰا رَّابِیࣰاۖ وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیۡهِ فِی ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَاۤءَ حِلۡیَةٍ أَوۡ مَتَـٰعࣲ زَبَدࣱ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ"}