الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿أنْزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فَسالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السَيْلُ زَبَدًا رابِيًا ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أو مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ فَأمّا الزَبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ﴾
صَدْرُ هَذِهِ الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَعالى وإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى الكَفَرَةِ بِهِ، ثُمَّ لَمّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِثالًا لِلْحَقِّ والباطِلِ، والإيمانِ والكُفْرِ والشَكِّ في الشَرْعِ واليَقِينِ بِهِ.
"ماءً": يُرِيدُ بِهِ المَطَرَ، و"الأودِيَةُ": ما بَيْنَ الجِبالِ مِنَ الِانْخِفاضِ والخَنادِقِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: "بِقَدَرِها" يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِما قَدَّرَ لَها مِنَ الماءِ ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ ما تَحْمِلُهُ عَلى قَدْرِ صِغَرِها وكِبَرِها وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "بِقَدَرِها" بِفَتْحِ الدالِّ، وقَرَأ الأشْهَبُ العَقِيلِيُّ بِسُكُونِها.
و"الزَبَدُ": ما يَحْمِلُهُ السَيْلُ مِن غُثاءٍ ونَحْوِهُ وما يَرْمِي بِهِ ضِفَّتَيْهِ مِنَ الحَبابِ المُلْتَبِكِ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثابِتٍ:
؎ والبَحْرُ حِينَ تَهُبُّ الرِيحُ شامِيَّةً ∗∗∗ فَباطِلٌ ويَرْمِي العِبْرَ بِالزَبَدِ
و"الرابِي": المُنْتَفِخُ الَّذِي قَدْ رَبا، ومِنهُ الرَبْوَةُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَمِمّا" خَبَرُ ابْتِداءٍ، والِابْتِداءُ قَوْلُهُ: "زَبَدٌ" و"مِثْلَهُ" نَعْتٌ لِـ "الزَبَدُ"، والمَعْنى: ومِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُوقِدُونَ عَلَيْها ابْتِغاءَ الحُلِيِّ -وَهِيَ الذَهَبُ والفِضَّةُ- ابْتِغاءَ الِاسْتِمْتاعِ بِما في المَرافِقِ -وَهِيَ الحَدِيدُ والرَصاصُ والنُحاسُ ونَحْوُها مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُوقِدُونَ عَلَيْها، فَأخْبَرَ تَعالى أنَّ مِن هَذِهِ أيْضًا -إذا أُحْمِي عَلَيْها- يَكُونُ زَبَدٌ مُماثِلٌ لِلزَّبَدِ الَّذِي يَحْمِلُهُ السَيْلُ، ثُمَّ ضَرَبَ تَعالى ذَلِكَ مِثالًا لِلْحَقِّ والباطِلِ، أيْ أنَّ الماءَ الَّذِي (p-١٩٧)تَشْرَبُهُ الأرْضُ فَيَقَعُ النَفْعُ بِهِ هو كالحَقِّ، والزَبَدَ الَّذِي يَجْفُو ويَنْفِشُ ويَذْهَبُ هو كالباطِلِ، وكَذَلِكَ ما يَخْلُصُ مِنَ الذَهَبِ والفِضَّةِ والحَدِيدِ ونَحْوِها هو كالحَقِّ، وما يَذْهَبُ في الدُخانِ هو كالباطِلِ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي النارِ﴾ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كائِنًا كَذا، قالَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ: ومَنَعُوا أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: "يُوقِدُونَ" لِأنَّهم زَعَمُوا أنَّهُ لَيْسَ يُوقَدُ عَلى شَيْءٍ إلّا وهو في النارِ، وتَعْلِيقُ حَرْفِ الجَرِّ بِـ "يُوقِدُونَ" يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ حالٍ مِن حالٍ أُخْرى. وذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ إلى تَعَلُّقِهِ بِـ "يُوقِدُونَ"، وقالَ: قَدْ يُوقَدُ عَلى شَيْءٍ ولَيْسَ في النارِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأوقِدْ لِي يا هامانُ عَلى الطِينِ﴾ [القصص: ٣٨] فَذَلِكَ البِناءُ الَّذِي أمَرَ بِهِ يُوقَدُ عَلَيْهِ ولَيْسَ في النارِ لَكِنْ يُصِيبُهُ لَهَبُها. وقَوْلُهُ: "جُفاءً" مَصْدَرٌ مِن قَوْلِكَ: "جَفَأتِ القِدْرُ" إذا غَلَتْ حَتّى خَرَجَ زَبَدُها وذَهَبَ. وقَرَأ رُؤْبَةُ: "جُفالًا" مِن قَوْلِهِمْ: "جَفَلَتِ الرِيحُ السَحابَ" إذا حَمَلَتْهُ وفَرَّقَتْهُ، قالَ أبُو حاتِمٍ: لا تُعْتَبَرُ قِراءَةُ الأعْرابِ في القُرْآنِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ما يَنْفَعُ الناسَ﴾ يُرِيدُ الخالِصَ مِنَ الماءِ ومِن تِلْكَ الأحْجارِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعُ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمُ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، والحَسَنُ: "تُوقِدُونَ" بِالتاءِ، أيْ أنْتُمْ أيُّها المُوقِدُونَ، وهي صِفَةٌ لِجَمِيعِ أنْواعِ الناسِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، ومُجاهِدٌ، وطَلْحَةُ، ويَحْيى، وأهْلُ الكُوفَةِ "يُوقِدُونَ" بِالياءِ، عَلى الإشارَةِ إلى الناسِ. و"جُفاءً" مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ السَماءِ﴾ يُرِيدُ بِهِ الشَرْعَ والدِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿فَسالَتْ أودِيَةٌ﴾ يُرِيدُ بِهِ القُلُوبَ، أيْ: أخَذَ النَبِيلُ بِحَظِّهِ والبَلِيدُ بِحَظِّهِ.
(p-١٩٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا قَوْلٌ لا يَصِحُّ واللهُ أعْلَمُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لِأنَّهُ يَنْحُو إلى أقْوالِ أصْحابِ الرُمُوزِ، وقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الغَزالِيُّ وأهْلُ ذَلِكَ الطَرِيقِ، ولا وجْهَ لِإخْراجِ اللَفْظِ عن مَفْهُومِ كَلامِ العَرَبِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ تَدْعُو إلى ذَلِكَ، واللهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ بِرَحْمَتِهِ، وإنَّ صَحَّ هَذا القَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَإنَّما قَصَدَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾ مَعْناهُ: الحَقُّ الَّذِي يَتَقَرَّرُ في القُلُوبِ، والباطِلُ: الَّذِي يَعْتَرِيها.
{"ayah":"أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَالَتۡ أَوۡدِیَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّیۡلُ زَبَدࣰا رَّابِیࣰاۖ وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیۡهِ فِی ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَاۤءَ حِلۡیَةٍ أَوۡ مَتَـٰعࣲ زَبَدࣱ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق