فقال: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ وهي جمع وادي، وهو كل مفرج بين جبال وآكام وتلال. يجتمع إليه ماء المطر فيسيل فيه، هذا قول عامة أهل اللغة [["تهذيب اللغة" (ودي) 4/ 3865، و"اللسان" (ودي) 8/ 4803.]] في معنى الوادي، وقال شمر [["تهذيب اللغة" (ودي) 4/ 3865.]]: ودي: إذا سال، قال: ومنه الوَدْي فيما أرى، لخروجه وسيلانه، ومنه الوادي، وعلى هذا الوادي اسم للماء السائل، كالسيل [[(كالسيل) ساقط من (ج).]]، والقول هو الأول.
قال أبو علي الفارسي [["الحجة" 2/ 340 (بتصرف).]]: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ اتساع، والمراد في: سال الوادي، وجرى النهر، ماؤهما، فحذف المضاف، قال: والأودية جمع نادر في فاعل، ولا يعلم فاعلًا جمع على أفعله، ويشبه أن يكون ذلك، ليتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد، كعالم وعليم، وشاهد وشهيد، ووال وولي، ألا ترى أنهم جمعوا فاعلًا أيضًا على فعلاء، كشاعر وشعراء، مثل فقيه وفقهاء، فجعلوا فاعلًا كفعيل في التكسير، كجريب وأجربة، وقالوا: يتيم وأيتام، وشريف وأشراف، كما قالوا: صاحب وأصحاب وطائر وأطيار، فلذلك جمع وادٍ على أودية [[إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 2/ 340 بتصرف.]].
وقال غيره: نظير واد وأودية، ناد وأندية للمجالس.
وقوله تعالى: ﴿بِقَدَرِ﴾ القَدَر والقَدْر، مبلغ الشيء يقال: كم قَدْر هذه الدراهم؟ وقدرها ومقدارها، أي: كم [[في (ب): (لم). ولعله خطأ.]] تبلغ من الوزن فيما يكون مساويًا لها من الوزن فهو قدرها، وذكرنا الكلام في القَدَر والقَدَر في قوله ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: 236] وفي مواضع.
قال مجاهد [[الطبري 13/ 136، وأبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي هاشم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 105، القرطبي 9/ 305.]]: بقدر مَلئْها.
وقال ابن جريج [[الطبري 13/ 137، وابن جريج عن ابن عباس، القرطبي 9/ 305، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" 4/ 103.]]: الصغير بقدره، والكبير بقدره.
وقال ابن الأنباري والزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145.]]: (بقدرها) بما قدر [[في: (أ)، (ج) ساقط (أن).]] يملأها، قالا: ويجوز بمقدار ما يملأها، وقد فُهم من قوله: القَدر هاهنا يجوز أن يكون مصدرًا فيكون المعنى: بما قدر لها من ملئها، ويجوز أن يكون المعنى: بقدر ملئها، وتلخيص معنى قوله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾، بقدرها من الماء، لأن القدر معناه الهنداز [[الهنداز: سبق التعريف به، وهو معرب، وأصله بالفارسية أنْدازاه، يقال: أعطاه بلا حساب ولا هنْداز.]]، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر.
قال أبو علي [["الحجة" 2/ 340.]]: المعنى بقدر مياهها، ألا ترى أن المعنى ليس على أن الأودية سالت بقدر أنفسها.
قال ابن عباس في رواية عطاء [[القرطبي 9/ 305.]] ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يريد قرآنًا، وهو مثل ضربه الله، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ قال: يريد بالأودية قلوب العباد، قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب؛ إذ الأودية يستكن فيه الماء كما يستكن الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، ونحو هذا قال الفراء [["معاني القرآن" 2/ 61.]]: يقول قبلته القلوب بأقدارها وأهوائها.
وقال صاحب النظم: الماء هاهنا إن شاء الله الإيمان والحق، فهؤلاء الذين سمينا جعلوا الماء مثلًا للإيمان والقرآن، والأودية مثلًا للقلوب.
والباقون من المفسرين وأهل المعاني سكتوا عن بيان الممثل والممثل به، وجعلوا ابتداء المثل من قوله: ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾، قال ابن عباس [[الطبري 13/ 135، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 103.]]: وهو الشك والكفر، قال الفراء [[لم أجده في مظانه، وانظر: "اللسان" (زبد) 3/ 1803.]]: يقال: أزبد الوادي إزبادًا، والزبد الاسم، (رابيًا) قال الزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145.]]: طافيًا عاليًا فوق الماء، وقال غيره [[أبو عبيدة "مجاز القرآن" 1/ 328.]] زابدًا بانتفاخه، ربا يربو، إذا زاد، وهذا هو الأصل، ثم إذا زاد وانتفخ صار عاليًا.
قال ابن عباس وغيره من المفسرين [[الطبري 13/ 134، والثعلبي 7/ 130 ب، و"زاد المسير" 4/ 322، والقرطبي 9/ 305، وابن كثير 2/ 557 - 558.]]: ثم ضرب مثلًا آخر فقال ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾، قرئ [[قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (توقدون) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (يوقدون) بالياء وروى علي بن نصر عن أبيه عن أبي عمرو بالتاء والباء والغالب التاء وانظر: "السبعة" ص 358، و"الإتحاف" 270، و"زاد المسير" 4/ 321، و"البحر المحيط" 5/ 381.]] بالتاء والياء. فمن قرأ [[من هنا يبدأ القتل عن "الحجة" 5/ 16 باختصار.]] بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ﴾، ويجوز أن يكون خطابًا عامًا يراد به الكافة، كأنه ومما توقدون عليه أيها الموقدون، ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تَقَدّم في قوله: [﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ ويجوز أن يراد به] [[في (ج): (أم جعلوا لله شركاء خلقوا، ويراد به).]] جميع [[في (ب): (جمع).]] الناس، ويقوي ذلك قوله: ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ فكما أن الناس يعم المؤمن والكافر، كذلك الضمير في يوقدون [[إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 5/ 16 باختصار.]]، وأراد بما يوقد عليه في النار الفلز [[الفِلْزُ والفِلَزُّ، والفُلُزُّ: نحاس أبيض تصنع منه القدور وغيرها، وقيل: هو جميع == جواهر الأرض من الذهب والفضة والنحاس وأشباه ذلك. انظر: "تهذيب اللغة" (فلز) 3/ 2828، و"اللسان" (فلز) 6/ 3460.]]، وهو ما يذاب من الجواهر كالذهب والفضة والصفر والحديد والنحاس، في قول جميع المفسرين [[الطبري 13/ 134، والثعلبي 7/ 131 أ، و"زاد المسير" 4/ 322، والقرطبي 9/ 305، وابن كثير 2/ 558، و"البحر المحيط" 5/ 381.]].
قال أبو علي [["الحجة" 5/ 16، و"البحر المحيط" 5/ 382.]]: وجعل الظرف الذي ﴿فىِ النَّارِ﴾ متعلقًا بتوقدون؛ لأنه قد يوقد على ما ليس في النار، كقوله: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ [القصص: 38] فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وإن كان يلحقه وهجها ولهيبها، يريد أن هذه الجواهر تدخل النار فيوقد عليها.
وقوله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ قال الزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145.]] وغيره: الذي يوقد عليه لابتغاء الحلية الذهب والفضة، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة، الحديد والصفر والنحاس والرصاص، يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، والمتاع كل ما يتمتع به [["تهذيب اللغة" (متع) 4/ 3334.]].
وقوله تعالى: ﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ كما ذكر من هذه الأشياء يضرب الله مثل الحق والباطل، قال صاحب النظم: هذا كلام فرّق به بين الكلام الأول وبين تمامه؛ لأن قوله: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ هو من الكلام الأول، ثم لما تم ذلك رجع إلى تمام قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾، فقال: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ والتأويل: كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل، فاختصر الكلام اختصارًا على ما سبق من ذكر الحق والباطل، اعتماداً على بيانه في آخر الآية، وهو قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾، وأنشد قول ذي الرمة [["ديوانه" 1465، وفيه (من الوحش) بدل (من الوهل). "خزانة الأدب" 9/ 5، و"الخصائص" 2/ 401، و"الدرر" 5/ 63.انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 207، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ص 233.]]:
فأضْحَتْ مَغَانِيها قِفَارًا رُسُومُها ... كأن لم سِوَى أهْلٍ من الوَهِل تؤهلُ
المعنى: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش، ففرق بين لم، وتؤهل، ومعنى قوله: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ الجفاء [["تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619، و"الزاهر" 2/ 89.]] ما جفاه الوادي، أي: رمى به، قال أبو زيد [["تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619.]]: يقال: جفأت الوادي الرجل، إذا صرعته، وأجفأت القدر بزبدها، إذا ألقت زبدها فيذهب جفاء. وقال الفراء [["معاني الفراء" 2/ 62 بنحوه، و"تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619.]]: الجفاء الرمي والاطراح، يقال: جفا الوادي غثاه جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض، بمنزلة الغثاء والقماش [[القماش: ما يجمع من هنا وهناك.]]، قال: والجفاء مصدر يكون في مذهب اسم، وكذلك مصدر اجتمع بعضه إلى بعض مثل القماش والحطام والدقاق [[الدقائق: فتات كل شيء.]]، كما كان العطاء اسم الإعطاء، وقال الزجاج [["فعلت وأفعلت" ص 8، ونقله في "التهذيب" 1/ 619 عن الفراء.]] في باب الوفاق: جفا الوادي يجفا جُفا أو أجفا، إذا رمى بغثائه، قال: وموضع (جفاءً) نصب على الحال.
وتلخيص معنى الآية على ما ذكره المفسرون وأهل المعاني [["زاد المسير" 4/ 322، القرطبي 9/ 305.]]: أن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو الماء، فيلقيه الماء عنه ويضمحل وكخبث هذه الجواهر يقذفه الكبير، فهذا مثل الباطل، وأما الذي ينفع الناس وينبت المرعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو [[في (أ)، (ج): (عن).]] من الفلز يبقى خالصًا لا شوب [[في (أ)، (ج): (الأشوب) بألف.]] فيه، فهو مثل الحق، هذا بيان ابن قتيبة [["مشكل القرآن وغريبه" ص 233.]] وكلامه.
وقال أبو إسحاق [["معاني القرآن وإعرابه " 3/ 145.]]: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان، كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض، وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر؛ لأنها كلها تبقى منتفعًا به، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل [[في (ج): بزيادة هذا: (وكمثل هذا خبث الحديد).]] خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي [[في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 146: (الذمي لا ينتفع به).]] ينتفع به.
{"ayah":"أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَالَتۡ أَوۡدِیَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّیۡلُ زَبَدࣰا رَّابِیࣰاۖ وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیۡهِ فِی ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَاۤءَ حِلۡیَةٍ أَوۡ مَتَـٰعࣲ زَبَدࣱ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ"}